بسم الله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد, فهذا بحث عزيز اجتهدت في جمعه وتأليفه لينتفع به في الدراسات اللغوية, خدمة لكتاب إمام النحاة, ولا أراني أهلا لما أقدمت عليه, غير أني هممت وعزمت وكان قدر الله قدرا مقدورا, فإن كان من صواب فمن الله وحده, وما كان من خطأ فمن نفسي, راجيا النصح والإرشاد, والله الموفق.
![]()
![]()
![]()
![]()
اهتم كثير من الباحثين بكتاب سيبويه اهتماما خاصا؛ لكونه أول كتاب نحوي وصل إلينا, مع اشتماله على مباحث النحو الكلية والجزئية, وكانت مسألة استدلال سيبويه بالحديث النبوي من القضايا التي شغلت الباحثين قديما وحديثا, من أجل الوقوف على حقيقة مذهب سيبويه من الحديث النبوي لأنه بلا شك سيكون له أثر كبير فيمن يأتي بعده من النحاة.
نبدأ هذه المسيرة بالنظر في جهود النحاة والباحثين في استخراج الأحاديث من كتاب سيبويه رحمه الله, وأول ما يجبهنا في هذه الرحلة عبارات ابن الضائع وأبي حيان عن ترك سيبويه الاستدلال بالحديث النبوي إذ قال أبو الحسن ابن الضائع: "تجويز الرواية بالمعنى هو السبب عندي في ترك الأئمة كسيبويه وغيره الاستشهاد على إثبات اللغة بالحديث، واعتمدوا في ذلك على القرآن وصريح النقل عن العرب. ولولا تصريح العلماء بجواز النقل بالمعنى في الحديث لكان الأولى في إثبات فصيح اللغة كلام النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه أفصح العرب"([1]).
وقال أبو حيان الأندلسي: "" قد أكثر هذا المصنف من الاستدلال بما وقع في الأحاديث على إثبات القواعد الكلية في لسان العرب, وما رأيت أحداً من المتقدمين والمتأخرين سلك هذه الطريقة غيره. على أن الواضعين الأولين لعلم النحو، المستقرئين للأحكام من لسان العرب كأبي عمرو بن العلاء, وعيسى بن عمر, والخليل, وسيبويه من أئمة البصريين، والكسائي, والفراء, وعلي بن المبارك الأحمر, وهشام الضرير, من أئمة الكوفيين - لم يفعلوا ذلك ..."([2])
كانت هذه الكلمات هي الأصل الذي بنى عليه كثير من المعاصرين رأيهم في استدلال سيبويه بالحديث النبوي, وساعدهم على ذلك الفهم أن سيبويه –رحمه الله- لم يصرح بالحديث على غير العادة, وذلك إن قلنا بوجود الحديث في طيات الكتاب, فذهبت طائفة من الباحثين إلى أنه لم يستدل سيبويه بالحديث للأسباب التي ذكرها المانعون, ومن هؤلاء : د.عبد الجواد الطيب الذي رأى أنه:"لم يجنح إلى الاستدلال بالحديث شأنه شأن أسلافه ومعاصريه..."([3]) ، والدكتور علي أبو المكارم حين ذهب إلى أنه:"لم يكن ثمة خلاف في الاحتجاج بالحديث في المرحلة الأولى للقياس, فقد سكت علماء تلك المرحلة عن الاستدلال به, لم يشذ منهم أحد"([4]). أما الدكتور حسن عون فيؤكد أنه :"ليس في الكتاب كله حديث من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم "([5])، وممن أيد هذا الرأي الشيخ محمد الطنطاوي([6]) ، والدكتور محمد بدري عبد الجليل.([7])
وقريب منه كلام الدكتور محمد عيد الذي يرى أن كتاب سيبويه "لا يوجد فيه -كما يقول أحد الدارسين- غير حديث واحد فقط ورد على سبيل التوكيد لغيره من النصوص لا الاحتجاج"([8]).
غير أن بعض الباحثين لم يقنعوا بهذه الآراء التي لم تُبْنَ على أساس من البحث والتدقيق في عبارات سيبويه, فتركوا النظرة العجلى وأخذوا يتأملون هذه العبارات بحثا عن الحديث النبوي في لجة الكتاب. ومن هؤلاء الدكتور عثمان فكي بابكر الذي ذكر ثلاثة أحاديث استدل بها سيبويه, وهذه الأحاديث هي:
1-كل مولود يولد على الفطرة، حتى يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه أو ينصّرانه
2- ما من أيام أحب إلى الله فيها الصوم منه في عشر ذي الحجة
3-ونخلع ونترك من يفجرك([9])
وقد ذهب الدكتور محمود حسني والدكتورة خديجة الحديثي إلى أنه" لم ينتبه أحد قبل عثمان فكي إلى احتجاج سيبويه بالحديث النبوي "([10])
وأظن أن أسبقية الدكتور عثمان فكي مخصصة بالعصر الحديث ؛لأن من النحاة السابقين من أشار إلى استدلال سيبويه بالحديث كأمثال السهيلي, وابن الصائغ الحنفي, والبغدادي:
أما السهيلي فقد ذكر حديث(بينتك أو يمينه)ثم قال: فهذا اللفظ بعينه مسطور في كتاب سيبويه وذكر فيه النصب بإضمار فعل, كأنه قال:أحضر بينتك...."([11])، ولكني لم أهتدِ لهذه اللفظة في الكتاب, وكذا الدكتورة خديجة الحديثي([12]) .
كما ذكر السهيلي أيضا عبارة أخرى مما جاءت بها لغةُ الحديث النبوي حيث قال: وأما قول عامر بن الطفيل (أغدة كغدة البعير وموتا في بيت سلولية)...."([13]) والسهيلي يتعامل مع اللفظة على أنها من الحديث النبوي لأنه يشرح الكلمات المشكلة الإعراب في الحديث النبوي([14]).
أما ابن الصائغ الحنفي(ت786هـ) فقد قال:"...ما ذكره سيبويه من الحديث: "ما من أيام أحب إلى الله فيها الصوم منه في عشر ذي الحجة"....والمروي في الصحيح(ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله العمل من هذه الأيام العشر" ولا شاهد فيه"([15]).
وأما البغدادي فقال في تخريجه لأحاديث شرح الرضي: "حديث(الناس مجزيون بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر" رواه ابن جرير في تفسيره عن ابن عباس موقوفا ....وهو من أمثلة النحويين، وأول من مثل به سيبويه قال في أوائل كتابه..."([16]).
فهذه النقولات تثبت أن من النحاة السابقين من تنبه لاستدلال سيبويه بالحديث قبل الفكي بابكر والله تعالى أعلم.
ثم جاء بعد ذلك الأستاذ أحمد راتب النفاخ فأضاف حديثين آخرين للثلاثة السابقة وهما:
4-إني عبد الله آكل كما تأكل العبيد
5-سبوحا قدوسا رب الملائكة والروح([17])
ثم جاء عبد السلام هارون رحمه الله وزاد عدد الأحاديث في الكتاب إلى ثمانية أحاديث([18]) وهي:
6-إن الله ينهاكم عن قيل وقال
7- سبوحٌ قدوس ربُّ الملائكة والروح([19])
8- فبها ونعمت
ثم جاءت المحاولات بعد ذلك تترى, فكانت محاولات الدكتور محمود حسني محمود([20]) والدكتورة خديجة الحديثي([21]) والدكتور السيد رزق الطويل([22]) والدكتور محمد أحمد العمروسي([23]) وغير ذلك, وآخر ما وقفت عليه من البحوث بحث الدكتور إسماعيل فهمي عبد الله([24]) والذي أوصل الأحاديث في الكتاب إلى خمسة وثلاثين حديثا.
([1])الاقتراح في أصول النحو للسيوطي ، صـ57 .
([2]) الاقتراح في أصول النحو للسيوطي صـ57
([3]) في محيط الدراسات اللغوية/ط أولى1409هـ 1988م حقوق الطبع محفوظة للمؤلف، صـ46
([4])أصول التفكير النحوي صـ135وانظر: صـ38 أيضا
([5]) تطور الدرس النحوي د.حسن عون/معهد البحوث والدراسات العربية يالقاهرة1970م، صـ45
([6]) نشأة النحو صـ50
([7]) تاج الدين الأسفراييني ومنهجه في درس النحو/دار النهضة العربية /بيروت 1404هـ، صـ62
([8]) الرواية والاستشهاد باللغة صـ130
([9]) انظر: الاستشهاد في النحو العربي صـ 157 وما بعدها
([10]) انظر: احتجاج النحويين بالحديث/مجلة مجمع اللغة الأردني العدد المزدوج3 ,4صـ46, وموقف النحاة من الاحتجاج بالحديث صـ53
([11]) أمالي السهيلي صـ107, 108.
([12]) موقف النحاة ص73
([13]) أمالي السهيلي 120-122 وانظر: الكتاب 1/338
([14]) انظر: موقف النحاة ص74
([15]) الوضع الباهر في رفع أفعل الظاهر ص33,34
([16]) انظر: (الحديث النبوي في النحو العربي)ص293 هامش2, نقلا عن: (تخريج أحاديث شرح الرضي)
([17]) فهرس شواهد سيبويه صـ57,58 دار الإرشاد والأمانة ط أولى/ بيروت 1389هـ 1970م.
([18]) فهارس كتاب سيبويه 5/ 29.
([19]) فرَّقّ بين رواية النصب ورواية الرفع وعد كل رواية حديثا . انظر: فهارس كتاب سيبويه 5/ 29.
([20]) انظر: مقال (احتجاج النحويين بالحديث)ص46 وما بعدها.
([21]) موقف النحاة من الاحتجاج بالحديث صـ50 وما بعدها.
([22]) انظر: مقال (إمام النحاة وقضية الاستشهاد بالحديث) مجلة الأزهر في سبعة أعداد متتالية من عدد شوال1408هـ إلى عدد جمادى الأولى1409هـ.
([23]) دور الحديث في التقعيد النحوي ص154-157.
([24]) الحديث النبوي في كتاب سيبويه/ مجلة كلية الآداب بسوهاج العدد الثاني والعشرون مارس 1999, وأنا لا أسلم له بكل ما ذكره من الأحاديث وسيأتي بيان ذلك بإذن الله تعالى.
![]()
![]()
![]()
يتبع في وقت لاحق إن شاء الله تعالى