المقدمة بعد إصلاحها من الأخطاء في الضبط
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
أحْمَدُهُ جَلَّ وعَلا على تَوالي نِعَمِهِ، وجَمِيْلِ ألطَافِهِ، وكَثْرَةِ آلَائِهِ، وأسْألُهُ المَزِيدَ مِنْ فَضْلِهِ .
وأصَلِّي وأسْلِّمُ على صَفْوتِهِ مِنْ خَلْقِهِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وعلى آلِهِ، وصَحْبِهِ، أمَّا بَعْدُ :
فَقَدْ اطَّلَعْتُ على كِتَابِ : «ظَاهِرَةِ الفِكْرِ التَّرْبَوِي في القَرْنِ الخَامِسَ عَشَرَ، دِرَاسَةٌ شَرْعِيَّةٌ لِبَعْضٍ المَنَاهِجِ والأفْكَارِ الدَّعْوِيِّةِ» .
للشَّيْخِ : ذِيَابِ بِنِ سَعْدٍ آلِ حَمْدَانَ الغَامِدِيِّ وَفَّقَهُ الله تَعَالى .
فَألفَيْتُهُ كِتَابًا نَفِيْسًا في بَابِهِ، فَرِيْدًا في مَعْنَاهُ، وقَدْ أجَادَ مُؤلِّفُهُ وَفَّقَهُ الله تَعَالى في بَيَانِ الطَّرِيْقِ الشَّرْعِي الَّذِي يَجِبُ على كُلِّ مُسْلِمٍ أنْ يَسْلُكَهُ : وهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ رَبُّنَا عَزَّ وجَلَّ في كِتَابِهِ، ونَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى الله عَلَيْهِ وسَلَّمَ في سُنَّتِهِ، والَّذِي لَا يَجُوْزُ لِأحَدٍ أنْ يَخْرُجَ عَنْهُ بِأيِّ حَالٍ مِنَ الأحْوالِ، كَمَا قَالَ تَعَالى : «وَأنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُم عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ» (الأنعام: 153)، وهَذِهِ الآيَةُ الكَرِيْمَةُ الَّتِي فِيْهَا الأمْرُ مِنَ الله تَعَالى بِاتِّبَاعِ طَرِيْقِهِ الَّذِي شَرَعَهُ لِعِبَادِهِ، والنَّهْيُ عَنْ كُلِّ طَرِيْقٍ سِوَاهُ.
كَمَا قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ وَصَايَا عَظِيْمَةٌ، قَدْ بَلَغْتْ عَشْرَةَ وَصَايَا افْتَتَحَهَا رَبُّنَا بالنَّهْي عَنِ الشِرْكِ، وهُوَ أعْظَمُ الذُّنُوبِ، واخْتَتَمَهَا بالأمْرِ بالوفَاءِ بِعَهْدِ الله، وقَدْ حُكِيَ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ الله عَنْهُ أنَّهُ قَالَ : «مَنَ أرَادَ أنْ يَنْظُرَ إلى وصِيَّةِ النَّبي مُحَمَّدٍ صلَّى الله عَلَيْهِ وسَلَّمَ الَّتي عَلَيْهَا خَاتَمُهُ فَلْيَقْرَأ : «قُلْ تَعَالَوْا أتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُم عَلَيْكُمْ» إلى قَوْلِهِ : «وأنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيِمًا فَاتَّبِعُوْهُ ولَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُم عَنْ سَبِيِلِهِ ذَلِكُم وصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَتَّقُوْنَ» أخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ والطَّبَرَانِيّ ُ، وفِيْهِ ضَعْفٌ .
فالَحِكْمَةُ مِنْ مَجِيء هَذِهِ الآيَةِ بَعْدَ الآيَاتِ المَذْكُوْرَةِ ـ والعِلْمُ عِنْدَ الله ـ حَتَّى تَكُوْنَ جَامِعَةً لِمَا تَقَدَّمَ، فَجَمِيْعُ الأوامِرِ المُتَقَدِّمَةِ لا تَتَحَقَّقُ إلَّا بِالاسْتِقَامَة ِ على طَاعَةِ الله تَعَالى .
ومِثْلُهَا مَا جَاءَ في سُوْرَةِ هُوْدٍ فَبَعْدَ أنْ قَصَّ الله عَلَيْنَا قِصَصَ جَمَاعَةٍ مِنَ الأنْبِيَاءِ عَلَيْهِم الصَّلاةُ والسَّلامُ مَعَ أقْوامِهِم، قَالَ : «وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّه ُم رَبُّكَ أعْمَالَهُم إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِم كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (هود: 111ـ 112)، فَأمَرَهُ تَعَالى بِأمْرَيْنِ :
1ـ أنْ يَسْتَقِيْمَ .
2ـ أنْ تَكُوْنَ هَذِهِ الاسْتِقَامَةُ كَمَا أمَرَهُ الله تَعَالى، ولَنْ تَكُوْنَ اسْتِقَامَةً؛ حَتَّى تَكُوْنَ وُفْقَ أمْرِهِ .
قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ السَّعْدِي : «ثُمَّ لَمَّا أخْبَرَ بِعَدَمِ اسْتِقَامَتِهِم الَّتِي أوْجَبَتْ اخْتِلَافَهُم وافْتِرَاقَهُم أمَرَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى الله عَلَيْهِ وسَلَّمَ ومَنْ مَعَهُ مِنَ المُؤْمِنِيْنَ أنْ يَسْتَقِيْمُوْا كَمَا أُمِرُوا، فَيَسْلُكُوا مَا شَرَعَهُ الله مِنَ الشَّرَائِعِ، ويُعْتَقَدُوا مَا أخْبَرَ الله بِهِ مِنَ العَقَائِدِ الصَّحِيْحَةِ، ولَا يَزِيْغُ عَنْ ذَلِكَ يَمْنَةً ولا يَسْرَةً، ويَدُوْمُوا على ذَلِكَ، ولَا يَطْغَوْا بِأنْ يَتَجَاوزُوْا مَا حَدَّهُ الله لَهُم مِنَ الاسْتِقَامَةِ . وقَوْلُهُ : «إنَّهُ بِمَا تَعْمَلُوْنَ بَصِيْرٌ» أيْ : لا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أعْمَالِكِم شَيء، وسَيُجَازِيْكُم عَلَيْهَا فَفِيْهِ تَرْغِيْبٌ لِسُلُوكِ الاسْتِقَامَةِ وتَرْهِيبٌ مِنْ ضِدِّهَا ... أ.هـ مِنْ «تَيْسِيْرِ الكَرِيْمِ المَنَّانِ» صَ (391) .
فَمَهْمَا عَمِلَ الشَّخْصُ واجْتَهَدَ إذَا لَم يَكُنْ ذَلِكَ وُفْقَ الشَّرْعِ وإلَّا فَإنَّ عَمَلَهُ مَرْدُوْدٌ عَلَيْهِ كَمَا جَاءَ في الصَّحِيْحَيْنِ (خَ 2697، ومُسْلِمٌ 1718)، مِنْ طَرِيْقِ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيْمَ عَنِ القَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ : «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»، وهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ .
وتَأْكِيْدًا لِهَذَا الأمْرِ وتَوْضِيْحًا لأهَمِّيَّتِهِ كَانَ رَسُوْلُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَفْتَتِحُ خُطَبَهُ بِهِ، فَقَدْ أخْرَجَ مُسْلِمٍ (867)، وأحْمَدُ (14984)، واللَّفْظُ لَهُ مِنْ طَرِيْقِ وكِيْعٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أبِيْهِ جَابِرٍ قَالَ : كَانَ رَسُوْلُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَقُوْمُ فَيَخْطُبُ فَيَحْمَدُ الله ويُثْنِيَ عَلَيْهِ بِمَا هُو أهْلُهُ ويَقُوْلُ : «مِنْ يَهْدِيْهِ الله فَلَا مُضِلَّ لَهُ ومَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، إنَّ خَيْرَ الحَدِيْثِ كِتَابُ الله، وخَيْرَ الهَدْي هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وشَرَِ الأمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، ولِهَذَا قَالَ تَعَالى : «إنَّ أرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا ومُبَشِّرا و نَذِيرًا . ودَاعِيًا إلى الله بِإِذْنِهِ وسِرَاجًا مُنِيْرًا» (الأحْزَابُ: 45 ـ 46) . فَهُوَ دَاعِي إلى الله بِإذْنِ الله لا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ .
وكَمَا قَالَ تَعَالى : «قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةٍ أنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (يوسف: 108)، فَطَرِيْقَةُ الرَّسُوْلِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وسَلَّمَ الدَّعْوةُ إلى الله على عِلْمٍ مِنْهُ عَزَّ وجَلَّ بِمَا أوْحَاهُ إلَيْهِ .
ومِثْلُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الآي قَوْلُهُ تَعَالى : «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أنْ أقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أهْوَاءَهُمْ وَقُلْ أمَنْتُ بِمَا أنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أعْمَالُنَا وَلَكُمْ أعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ» (الشورى: 13ـ 15)، فَبَعْدَ أنْ بَيَّنَ الله تَعَالى أنَّهُ شَرَعَ لِعِبَادِهِ مِنَ الدِّيْنِ مَا وصَّى بِهِ أوْلُوْا العَزْمِ مِنَ رُسُلِهِ، وهُو تَوْحِيْدُهُ وإفْرَادُهُ بِالعِبَادَةِ، والاجْتِمَاعُ على ذَلِكَ وتَرْكُ التَّفَرُّقِ الَّذِي هُو دِيْنُ المُشْرِكِيْنَ، أمْرَ نَبِيَّهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنْ يَدْعُوَ لِهَذَا الدِّيْنِ القَوِيمِ والصِّرَاطِ المُسْتَقِيْمِ الَّذِي أنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ وأرْسَلَ رُسُلَهُ، وأنْ يَسْتَقِيْمَ على ذَلِكَ اسْتِقَامَةً لَا تَفْرِيْطَ فِيْهَا ولا إفْرَاطَ، بَلْ مُوَافَقَةٌ لِأمْرِهِ تَعَالى، وبِهَذَا يَبْتَعِدُ عَنْ دِيَنِ المُشْرِكِيْنَ وأهْوائِهِم، ومِثْلُ هَذَا المَعْنَى مَا جَاءَ في قَوْلِهِ بَعْدَ ذِكْرِ عَدَدٍ مِنَ الأنْبِيَاءِ عَلَيْهِم الصَّلاةُ والسَّلامُ : «أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ أجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ» (الأنعام: 90)، بَلْ وفَرَضَ الله على عِبَادِهِ أنْ يَسْألُوْهُ الهِدَايَةَ إلى صِرَاطِهِ المُسْتَقِيْمِ، كَمَا قَالَ تَعَالى : «اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيْمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِم غَيْرِ المَغْضُوْبِ عَلَيْهِم ولَا الضَّالِّيْنَ» (الفاتحة: 6-7)، وأيْضًا قَوْلُهُ تَعَالى : «وَأتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» (الجاثية: 17ـ20) .
وقَوْلُهُ تَعَالى : «اتَّبِعُوْا مَا أنْزِلَ إلَيْكُم مِنْ ربِّكُم ولا تَتَّبِعُوا مِنْ دُوْنِهِ أوْلِيَاءَ قَلِيْلًا مَّا تَذَكَّرُوْنَ» (الأعْرَافِ: 3) .
وهَذَا المَعْنَى كَمَا جَاءَ في القُرْآنِ الكَرِيْمِ جَاءَ في السُّنَّةِ المُتَمِّمَةِ لِلْقُرْآنِ والمَفَصْلِّةِ لَهُ، قَالَ العِرْبَاضُ بْنُ سَارِيَةَ السُّلمِي رَضِيَ الله عَنْهُ : وَعَضَنَا رَسُوْلُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وسَلَّمَ مَوْعِظَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا العُيُوْنُ ووَجِلَتْ مِنْهَا القُلُوْبُ، قُلْنَا يَا رَسُوْلَ الله : كَأنَّهَا مَوْعِظَةُ مُودِّعٍ فَأوْصِنَا! قَالَ : «أوْصِيْكُم بِتَقْوى الله والسَّمْعِ والطَّاعَةِ وإنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا فَإنَّهُ مَنْ يَعِشْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيْرًا فَعَلَيْكُم بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِيْنَ المَهْدِيِّيْنَ وعَضُّوْا عَلَيْهَا بِالنَّواجِذِ، وإِيِّاكُم ومُحْدَثَاتِ الأمُورِ؛ فَإنَّ كُلَّ مُحَدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» . في هَذَا الحَدِيْثِ أوْصَى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ : بِتَقْوى الله تَعَالى وبِالسَّمْعِ والطَّاعَةِ لِمَنْ ثَبَتَتْ وِلَايَتُهُ شَرْعًا .
وعِنْدَ الاخْتِلَافِ أوْصَى بِأمْرَيْنِ :
1ـ بالتِزَامِ سُنَّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ .
2ـ وسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِيْنَ، والعَضِّ على ذَلِكَ بِالنَّواجِذِ، وهُو كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ التَمَسُكِ بِذَلِكَ، وعَدَمِ الخُرُوْجِ عَنْ ذَلِكَ قَيْدَ أُنْمُلَةٍ، قَالَ أبُو سُلَيْمَانَ الخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ الله في «شَرْحِ السُنَنِ» (7/12) : «وإنَّمَا أرَادَ بِذَلِكَ الجَدَّ في لُزُوْمِ السُّنَّةِ فِعْلَ مَنْ أمْسَكَ الشَيء بَيْنَ أضْرَاسِهِ وعَضَّ عَلَيْهِ مَنَعًا لَهُ أنْ يُنْتَزَعَ، وذَلِكَ أشَدُّ مَا يَكُوْنُ مِنَ التَّمَسُّكِ بِالشَّيءِ إذَا كَانَ مَا يُمْسِكُهُ بِمَقَادِيْمِ فَمِهِ أقْرَبُ تَنَاوُلًا وأسْهَلَ انْتِزَاعًا ...» أ.هِـ .
ومِثْلُ هَذَا المَعْنَى في الحَدِيْثِ مِنَ التَّمَسُّكِ بِالسُّنَّةِ والعَضِّ عَلَيْهَا مَا جَاءَ في قَوْلِهِ تَعَالى : «وَلَوْلَا أنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا» (الإسراء: 74ـ75)، ويُؤَكِّدُ هَذَا ـ ومَا جَاءَ في الأمْرِ الثَّاني ـ مِنْ تَحْذِيْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لأمَّتِهِ مِنْ مُحْدَثَاتِ الأمُوْرِ مِنَ الأشْيَاءِ الَّتِي تُجْعَلُ دِيْنًا وهِيَ لَيْسَتْ مِنْهُ، ولِذَا قَالَ تَعَالى : «يَا أيُّهَا الَّذِينَ أمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً فَألَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» (آل عمران: 102ـ 103) . فَأمَرَ الله تَعَالى عِبَادَهُ بِتَقْوَاهُ حَقَّ تُقَاتِهِ وألَّا يَمُوْتُوْا إلَّا وهُم مُسْلِمُوْنَ، وهَذَا لَا يَكُوْنُ إلَّا بِالاعْتِصَامِ الكَامِلِ بِحَبْلِ الله تَعَالى، وعَدَمِ التَّفَرُّقِ، ومَعْرِفَةِ عَظَمِ نِعْمَةِ الإسْلَامِ الَّذِي هَدَاهُم إلَيْهِ، ولِذَا أمَرَ الله تَعَالى نَبِيَّهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِالحُكْمِ بِمَا أنْزِلَ إلَيْهِ كَمَا نَهَاهُ عَنِ التَّنَازُلِ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ قَالَ الله تَعَالى : «وَأنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا أتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» (المائدة: 48ـ 50) . وكَمَا قَالَ الله تَعَالى أيْضًا : «يَا أيُّهَا الَّذِينَ أمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً» (البقرة: 208)، والسِّلُمُ : هُو الإسْلَامُ .
وكَمَا قَالَ تَعَالى أيْضًا : «أفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» (البقرة: 85)، بَلْ لا يَكْفي هَذَا حَتَّى يَرْضَى بِحُكْمِ الله تَعَالى ولا يَجِدُ في نَفْسِهِ حَرَجًا ويُسَلِّمُ لَهُ تَسْلِيْمًا كَامِلًا ... كَمَا قَالَ الله تَعَالى : «فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا» (النساء: 65)
كَمَا نَهَاهُ الله عَزَّ وجَلَّ عَنِ الرُّكُونِ إلى الكُفَّارِ ولَوْ شَيْئًا قَلِيْلًا، كَمَا قَالَ الله تَعَالى : «وَلَوْلَا أنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا» (الإسراء: 74ـ75)، وكَمَا قَالَ تَعَالى : «ولَا تَرْكَنُوا إلى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ومَا لَكُم مِّنَ دُوْنِ الله أوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُوْنَ» (هُوْد: 113) .
بَلْ ونَهَاهُ الله تَعَالى عَنْ مُدَاهَنَةِ الكُفَّارِ، فَقَالَ تَعَالى : «فَلَا تُطِعِ المُكَذِّبِيْنَ ودُّو لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُوْنَ ولَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مُهِيْنٍ» (القْلَمُ: 8 ـ10) . قَالَ أبُو الفِدَاءِ ابْنُ كَثِيْرٍ (8 /190) : «كَمَا أنْعَمْنَا عَلَيْكَ وأعْطَيْنَاكَ الشَّرْعَ المُسْتَقِيْمَ والخُلُقَ العَظِيْمَ : «فَلَا تُطِعِ المُكَذِّبِيْنَ ودُّو لَوْ تُدْهِنُ فَتَدْهِنُونَ»، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لو تُرَخِّصُ لهم فَيُرَخِّصُوْنَ ، وقَالَ مُجَاهِدٌ : ودُّو لَوْ تَرَكْنُ إلى ألِهَتِهِم وتَنْزِلُ عَمَّا أنْتَ عَلَيْهِ مِنَ الحَقِّ» أ.هِـ . وقَالَ غَيْرُهُمَا : أيْ : تَوافِقُهُم على بَعْضِ مَا هُم عَلَيْهِ إمَّا بِالقَوْلِ أوْ بِالفِعْلِ أوْ بِالسُّكُوْتِ عَمَّا يَتَعَيَّنُ الكَلَامُ فِيْهِ فَيُدْهِنُوْنَ، ولَكِنْ أصْدَعْ بِأمْرِ الله وأظْهِرْ دِيَنَ الإِسْلَامِ فَإنَّ تَمَامَ إظْهَارِهِ بِنَقْضِ مَا يُضَادُّهُ وعَيْبَ مَا يُنَاقِضُهُ أ.هِـ . مِنْ «تَيْسِيْرِ الكَرِيْمِ الرَّحْمَنِ» صَ (879) .
فَانْتَظَمَتْ هَذِهِ النُّصُوصُ الشَّرِيْفَةُ عَشْرَةَ أمُوْرٍ عَظِيْمَةٍ هِيَ :
1ـ الأمْرُ بِالاسْتِقَامَة ِ .
2ـ أنْ تَكُوْنَ هَذِهِ الاسْتِقَامَةُ وُفْقَ شَرَعِ الله، وذَلِكَ بِاتِّبَاعِ سَبِيلِهِ وتَرَكِ مَا سِواهُ .
3ـ العَضُّ على ذَلِكَ بِالنَّواجِذِ .
4ـ الاعْتِصَامُ بِذَلِكَ .
5ـ وذَلِكَ بِالحُكْمِ بِمَا أنْزِلَ الله، وعَدَمِ الحُكْمِ بِغَيْرِهِ، حَتَّى لَو كَانَ شَيْئًا يَسِيْرًا.
6ـ الرِّضَا بِذَلِكَ .
7ـ عَدَمُ التَّنَازُلِ عَنْ شَيءٍ مِنَ الشَّرْعِ .
8ـ التَّحْذِيْرُ مِنْ مُحْدَثَاتِ الأمُورِ والبِدَعِ، وأنَّهَا ضَلَالَةٌ وكُلَّهَا في النَّارِ.
9ـ عَدَمُ الرُّكُونِ إلى الكُفَّارِ ولَوْ كَانَ شَيْئًا قَلِيْلًا، وعَدَمُ مُدَاهَنَتِهِم في ذَلِكَ .
10ـ سُؤَالُ الله تَعَالى الهِدَايَةَ، وأنَّ هَذَا فَرْضٌ على كُلِّ شَخْصٍ، وأنْ يُدِيْمَ ذَلِكَ ويُكَرِّرَهُ حَتَّى المَوْتِ .
وهَذِهِ القَواعِدُ هِي أعْظَمُ قَواعِدِ الشَرِيعَةِ، بَلْ هِي الدِّيْنُ كُلُّهُ لأنَّ القَصْدَ مِنَ الدِّيْنِ تَحْقِيْقُ العُبُوْدِيَّةِ لله تَعَالى بِإفْرَادِهِ بِالعِبَادَةِ، وإثْبَاتِ مَا أثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ مِنْ صِفَاتِ الكَمَالِ ونُعُوْتِ الجَلَالِ، وطَاعَتِهِ فِيْمَا أمَرَ والانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَى عَنْهُ وزَجَرَ، وهَذَا مَعْنَى شَهَادِةِ أنَّ لا إلَهَ إلَّا الله وأنَّ مُحَمَّدًا رَسُوْلُ الله، وعلى هَذَا سَارَ الخُلَفَاءُ الرَّاشِدُوْنَ والصَّحَابَةُ المَرْضِيُّوْنَ والتَّابِعُوْنَ لَهُم بِإحْسَانٍ، حَتَّى قَالَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ الله عَنْهُ : «والله لَوْ مَنَعُوْنِي عِقَالًا كَانُوْا يُؤَدُّوْنَهُ إلى رَسُوْلِ الله لَقَاتَلْتُهُم على مَنْعِهِ»، فَقَالَ عُمَرُ : فَو الله مَا هُوَ إلَّا أنْ رَأيْتُ الله عَزَّ وجَلَّ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ فَعَرَفْتُ أنَّهُ الحَقُّ» أخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيْثِ الزُّهْرِي عَنْ عُبَيْدِ الله عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُتْبَةَ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ بِهِ .
فَلَم يَتَنَازَلِ الصِّدِّيْقُ رَضِي الله عَنْهُ عَنْ شَيءٍ كَانَ عَلَيْهِ رَسُوْلُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وسَلَّمَ حَتَّى ولَوْ كَانَ عِقَالًا، وهُوَ الحَبْلُ الَّذِي يُرْبَطُ بِهِ البَعِيْرُ!
ومَثَلُ مَوْقِفِهِ هَذَا عِنْدَمَا أمْرَ بإنْفَاذِ جَيْشِ أسَامَةَ، وقَدْ ارْتَدَّ مَنِ ارْتَدَّ مِنَ العَرَبِ عِنَدَمَا تُوُفيَ رَسُوْلُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وسَلَّمَ، ومَعَ هَذَا كُلِّهِ أمْرَ بإنَفَاذِ جَيْشَ أسَامَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ .
قَالَ أبُو الفِدَاءِ ابْنُ كَثِيْرٍ : «والمَقْصُوْدُ أنَّهُ لَمَّا وَقَعَتْ هَذِهِ الأمُوْرُ أشَارَ كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ على الصِّدِّيقِ أنْ لا يُنْفِذَ جَيْشَ أسَامَةَ لاحْتِيَاجِهِ إلَيْهِ فِيْمَا هُوَ أهُمُّ الآنَ مِمَّا جُهِّزَ بِسَبَبِهِ حَالَ السَّلَامَةِ، وكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أشَارَ بِذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ فَامْتَنَعَ الصِّدِّيقُ مِنْ ذَلِكَ وأبَى أشَدَّ الإبَاءِ إلَّا أنْ يُنْفِذَ جَيْشَ أسَامَةَ، وقَالَ : والله لا أُحِلُّ عُقْدَةً عَقَدَهَا رَسُوْلُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وسَلَّم ...» أ.هِـ . مِنَ «البَدَايَةِ والنِّهَايَةِ» (9/421) .
وقَدْ بَنَى المُؤَلِّفُ وَفَّقَهُ الله تَعَالى كِتَابَهُ على هَذَا الأمْرِ : وهُوَ التِزَامُ الكِتَابِ والسُّنَّةِ في كُلِّ أمْرٍ، ومُحَاكَمَةُ كُلِّ شَيءٍ إلَيْهِمَا فَانْتَقَدَ بَعْضَ المُصْطَلَحَاتِ والمَنَاهِجِ والجَمَاعَاتِ .
وتَكَلَّمَ أيْضًا على مُصْطَلَحِ (التَّرْبِيَةِ)، و(الفِكْرِ التَّرْبَوِي)، ومَا بُنِيَ على ذَلِكَ مِنْ مِنَاهِجَ وقَواعِدَ، ومَا وقَعَ فِيْهِ مِنْ مُبَالَغَةٍ!
قَالَ المُؤَلِّفُ وَفَّقَهُ الله : «إنَّنِي تَتَبَّعْتُ أسْمَاءَ (الفِكْرِ التَّرْبَوِي) ومُشْتَقَّاتِهَ ا ومَا حَامَ في فَلَكِهَا مَنْطُوقًا ومَفْهُومًا وعُنْوانًا ومَضْمُونًا مَا بَيْنَ كِتَابٍ وكُتَيِّبٍ ورِسَالَةٍ ومُحَاضَرَةٍ ونَدْوَةٍ ومَقَالٍ؛ فَوَجَدْتُهَا تَزِيْدُ على خَمْسَةِ آلَافِ، وهِي لَم تَزَلْ في مَزِيْدٍ فَهَذَا يَحْمِلُنَا إلى مُحَاسَبَةِ ومُرَاجَعَةِ (الفِكْرِ التَّرْبَوِي) في بِدَايَتِهِ وطَرَائِقِهِ وتَسَلُّلِهِ، وكَذَا مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنْ أخْطَاءَ دَعْوِيَّةٍ وأحْزَابٍ فِكْرِيَّةٍ»!
قُلْتُ : ومِنْ مَفَاسِدِ هَذِه الظَّاهِرَةِ : أوَّلًا : اسْتِبْدَالُ العِلْمِ الشَّرْعِي بِالعِلْمِ التَّرْبَوِيِ، وجَعْلُ المُفَكِّرَ بَدَلَ العَالمِ، وجَعْلُ بَدَلَ التَّفَقُّهِ بِالكِتَابِ والسُّنَّةِ ودِرَاسَةِ الكُتُبِ الشَّرْعِيَّةِ دِرَاسَةَ الكُتُبِ التَّرْبَوِيَّة ِ، ولا تَخْفَى الخُطُورَةُ البَالِغَةُ الَّتِي تَنْتُجُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وآثَارُهُ المُدَمِّرَةُ على الأمَّةِ كُلِّهَا .
ومَنِ المَعْلُوْمِ أنَّ بَعْضَ هَذِهِ الكُتُبِ هِي كُتُبٌ هَزِيْلَةٌ لَا تُسْمِنُ ولَا تُغْنِي مِنْ جُوْعٍ .
ثَانِيًا : أنَّ مَا يُسَمَّى بِالفِكْرِ التَّرْبَوِي بَعْضُهُ أوْ كَثِيْرٌ مِنْهُ مَبْنِيٌّ على التَّجَارُبِ، ولَا يَخْفَى أنَّ مَا كَانَ كَذَالِكَ لا يَجُوْزُ تَعْمِيْمُهُ وتَطْبِيْقُهُ على الأمَّةِ، ويَجْعَلُ مِنْ هَذِهِ التَّجَارُبِ والأفْكَارِ مَنْهَجًا يَسِيْرُوْنَ عَلَيْهِ، وتَقَدَّمَ لَنَا فِيْمَا سَبَقَ أنَّ الله عَزَّ وجَلَّ أمَرَ بِاتِّبَاعِ شَرْعِهِ، وبِالاسْتِقَامَ ةِ عَلَيْهِ، وتَرَكِ مَا سِواهُ، ولَا يُمْكِنُ الأمْرُ بِذَلِكَ إلَّا وقَدْ تَبَيَّنَ لَنَا الطَّرِيْقُ الَّذِي يُتَّبَعُ، ولِذَا قَالَ تَعَالى : «لَقَدْ كَانَ لَكُم في رَسُوْلِ الله أسْوةٌ حَسَنَةٌ» (الأحزاب: 21) . وقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسَّلَامُ : «عَلَيْكُم بِسُنَّتِي ...» .
فَمَا بَقِيَ عَلَيْنَا إلَّا أنْ نَسِيْرَ وِفْقَ هَدْيِهِ، وأنْ نَسْلُكَ طَرِيْقَتَهُ، وقَدْ ذَمَّ الصَّحَابَةُ والسَّلَفُ الصَّالِحُ الرَّأيَ المُجَرَّدَ، والتَّوسَّعَ في القِيَاسِ، فَفي صَحِيْحِ البُخَارِي كِتَابِ المَغَازِي بَابِ : غَزْوةُ الحُدَيْبَةِ مِنْ طَرِيْقِ أبي وَائِلٍ قَالَ لمَّا قَدِمَ سَهْلُ ابْنُ حُنَيْفٍ مِنْ صِفِّيْنَ أتَيْنَاهُ نَسْتَخْبِرُهُ قَالَ فَقَالَ : اتَّهِمُوْا الرَّأيَ على الدِّيْنِ فَلَقَدْ رَأيْتُنِي يَوْمَ أبي جَنْدَلٍ لَوْ أسْتَطِيَعُ أنْ أرُدَّ على رَسُوْلِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وسَلَّمَ أمَرَهُ لَرَدَدْتُهُ، والله ورَسُوْلُهُ أعْلَمُ .
وفي سُنَنِ أبِيْ دَاوُدَ في الطَّهَارَةِ بَابِ : كَيْفَ المَسْحُ مِنْ حَدِيْثِ أبِيْ إسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ : «لَوْ كَانَ الدِّيْنُ بِالرَّأي لَكَانَ بَاطِنُ الخُفَّيْنِ أحَقَّ بِالمَسْحِ مِنْ ظَاهِرِهِمَا، ولَكِنْ رَأيْتُ رَسُوْلَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَمْسَحُ على ظَاهِرِهِمَا» .
وأخْرَجَ البَيْهَقِيُّ في (المَدْخَلِ) (220) مِنْ حَدِيْثِ ابْنِ سِيْرِيْنَ يَقُوْلُ : سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُوْلُ : «لَا يَزَالُ النَّاسُ على الطَّرِيْقِ مَا اتَّبَعُوا الأثَرَ»، وأخْرَجَ أيْضًا (222) مِنْ طَرِيْقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوةَ عَنْ أبِيْهِ قَالَ : «لَم يَزَلْ أمْرُ بَنِي إسْرَائِيْلَ مُعْتَدِلًا حَتَّى ظَهَرَ فِيْهِم المُولَّدُونَ أبْنَاءُ سَبَايَا الأمَمِ، فَقَالُوا فِيْهِم الرَّأْيَ فَضَلُّوْا وأضَلُّوْا» .
ومَسْألَةُ تَنشِئَةِ الأجْيَالِ وتَرْبِيَةِ الأوْلادِ مِنَ الدِّيْنِ، فَهِي لَيْسَتْ دُنْيَوِيَّةً أوْ مِنَ العُلُومِ التَجْرِيْبِيَّ ةِ كَالطِّبِّ فَيُؤْخَذَ فِيْهَا بِالتَّجَارُبِ أوْ مِنَ العُلُومِ العَقْلِيَّةِ البَحْتَةِ كَالرِّيَاضِيَّ اتِ فَيَأْخُذَ فِيْهَا بِالعَقِلِ المُجَرَّدِ، وإنَّمَا يُؤْخَذُ بِهَا بِالاتِّبَاعِ!
وقَدْ بَيَّنَ المُؤَلِّفُ وَفَّقَهُ الله ذَلِكَ كُلَّهُ؛ فَأفَادَ وأجَادَ وأتَى بِالمُرَادِ، فَجَزَاهُ الله تَعَالى خَيْرًا .
وكَتبَهُ
عَبْدُ الله بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ألُ سَعْدٍ
(15/4/1431هـ )