( علم العروض ) للشيخ اللغويّ : عصام البشير المراكشي –حفظه الله- .
(مبادِئُ علمِ العَرُوض)
هذا العلم من العلومِ التي هجرها طلاّب العلمِ, لظنّهم أنها من العلومِ الصعبةِ, وهو سهلٌ على من سهّل الله عليهِ, وهذا العلم لا يحتاج إليه إلا بداية –كممارسةٍ- ثم بعد ذلك تكون سليقةً لا صعبَ فيها ولا تكلّف. وهذا العلم مقترنٌ بـ "علم القوافي" إذ كل منهما مكمّل للآخرِ.
ومن هنا, فقبل الكلام عن "علم العروض" وأضربه نبدأ بتعريفه على حد "المبادئ العشرة" قال الناظم:
إنّ مبادي كلّ فنّ عشرة *** الحد والموضوع ثم الثمرة
ونسبةٌ وفضلٌه والواضعُ *** والاسم والاستمداد حكم الشارع .
مسائل والبعض بالبعض اكتفى *** ومن درى الجميع حاز الشرفا .
الحد: "العلمُ بالقواعد التي يتميز بها صحيح أوزانِ الشعر العربي من فاسدها " فنتعرف فيه على قواعد, ومن ذلك معرفة اصطلاحاتِ هذا الفنّ .
العروض: لفظة مؤنّثة, قال بعضهم : هي من أسماءِ مكَّة, لأن الخليل وضع هذا العلمَ بها. وقيل: بمعنى الناحية لأنها ناحية من العلوم العربية وآدبها. وقال الجوهري: سمي به لأنه به يظهر المتزن من المنكسر عند المعارضة. وهو أرجح الأقوال. وقيل: لأنه علم صعب كالعروض والعروض الناقة شديدة المراص التي تذلل .
فخرج بقولنا "الشعر" النثر, ولو كان مسجوعاً .
وخرج بقولنا "العربي" الشعرغير العربي, فليس من موضوعه .
وقولنا "صحيح الأوزان" خرج بذلك الشعر العربي من غير هذه الحيثية وهي (الوزن) فلو تكلمنا عنه من (جهةِ نقدِه) أو من جهة (بلاغته كالاستعارة) فلا يتعرّض له علم العروض.
موضوعه: الشعر العربي من حيث صحّة وزنه وسقمه.
مالفرقُ بين الشعرِ والنظم والنثر ؟
الشعر: قال ابن خلدون في مقدمته: الشعر هو الكلام البليغ المبني على الاستعارة والوصف, المفصّل بأجزاء متسقة في الوزن والروي, مستقل كل جزءٍ منها في غرضِه ومقصده عما قبله وبعده, الجاري على أساليب العربية المخصوصةِ به. وهذا وأحسنُ وأجمعُ ما قيلَ في تعريفِ الشعر.
مثاله –قول الشاعر في رثاءِ ولده- :
جاورتُ أعدائي وجاور ربه *** شتان بين جواره وجواري
فهذا موزون على قافية, تجد فيهِ ألما وعاطفة قالها القلب من خالصِ فؤادِه, يتبيّن لك حقيقةَ الشعر.
النظم: ما تحقق فيه شرط الوزن والقافيةِ فقط, لكن ليس فيه عاطفة جيّاش ولا خيال جامع ولا استعارة ولا وصف.
مثاله –ما هو نظم العلوم الإسلامية-:
قالون بين السورتين بسملة *** وورش الوجهان عنه نقلا
فهذا تجده منظوم موزون بقافية, ليس فيه عاطفةٌ ولا أيّ شيء من ذلك, بل هو علم محض, وقد تكونُ متمكّنا للنظم غير مستطيعاً للشعرِ, وهو كثيرٌ عند الفقهاء, وعلى هذا الباب يقولون: يروي الشعرَ على طريقةِ الفقهاءِ .
ذكر ابن خلدون في "مقدمته" قصّةً لطيفةً بين بن رضوان والعباس في شعر ابن النحوي:
أخبرني صاحبنا الفاضل أبو القاسم بن رضوان كاتب العلامة بالدولة المرينية قال: ذاكرت يوماً صاحبنا أبا العباس بن شعيب كاتب السلطان أبي الحسن، وكان المقدم في البصرة باللسان لعهده, فأنشدته مطلع قصيدة ابن النحوي ولم أنسبها له وهو هذا:
لم أدر حين وقفت بالأطلال ... ما الفرق بين جديدها والبالي
فقال لي على البديهة: هذا شعر فقيه، فقلت له ومن أين لك ذلك؟ قال من قوله: ما الفرق؟ إذ هي من عبارات الفقهاء، وليست من أساليب كلام العرب، فقلت له: لله أبوك، إنه ابن النحوي.
فالمتمرس بصناعةِ الشعر, الذي يطّلع على دواوين الشعر, فإنه يمتلك دربة بتلك الألفاظ, فيمّيّز ما هو شعر من قبيل النظم وما هو من قبيل الشعر الحقيقي.
النثر: ما ليس بموزنٍ ولا على قافيةٍ أصلا, وإن اتّزنَ بالسجعِ. كقولِ الحريري: وهو يطبع الأسجاع بجواهر لفظه, ويقرعُ الأسماع بزواجر وعظه.
- وقد اتفق أهل الفن على أن حفظ النظم أيسر من حفظ النثر - إلا ما يسر الله حفظه في الصدور، وهو كلام اللطيف الخبير - ، ومن المعلوم أن من لا معرفة له بقواعد الوزن، فالنظم عنده والنثر سيان.
ثمرته: التعرّف على أوزانِ الشعر, فيتميّز الصحيح من المبتور, وكذلك في استحضارِ أبياتِ الشعر, -وقد عرف من جرّب- فالوزنُ يعينُ على معرفةِ ما نسيتَه من البيتِ, وحمايةِ دواوين الشعر من التحريف والتصفيح, فإنّه فيه شواهد النحوِ والصرفِ, وبذلك يتمّ فهمُ كتابِ الله وسنَّة رسوله, لأن الدين جاء بلغةِ العرب الأصيلة .
والتمييز الشعر من غير الشعر, كأنْ تعلمَ أنَّ القرآن ليسَ بشعرٍ. ونظمُ متونِ العلمِ –وهذا فنّ محدَث استخدمه المتأخرون- فنظموا في الفقهِ كنظم الزبد والحديثِ كألفيةِ السيوطي واللغةِ كألفية ابن مالك والقراءات كالشاطبية.
والتمييز في مفرداتِ الكلمات, وتحقيق الأسماء, مثاله: ما ذكره الزركلي في أعلامه في ترجمة "المَقّري" قال في مطلع منظومةِ المقري "إضاءة الدجنة في العقيدة الأشعرية" :
يقول أحمد الفقير المَقري *** ..................
قال الزركلي: وهذا حجة في ضبط المقري لأنَّ الوزنَ لا يتم إلا بـ "المَقّري" لا المُقري .
نسبته: إلى علم اللغة العربية, وبعضهم يذكر أنَّه اثنا عشرَ علماً, والمشهور منها (النحو, الصرف, البديع والمعاني, والإنشاء, وقرض الشعر, والمحاضرات, والعروض والقوافي....إلى آخر ما يذكرونه .
فضله: فيما يتعلّق بِه, وهو "اللغة العربية" فلو أردتَ أن تنظرَ إلى بعض فضله, فانظر إلى المنظومات العلمية, فإنما أوتي هذا بمعرفةِ هذا العلمِ. إلى غير ذلك من الفضائل التي سبق ذكرها.
واضعه: هو الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي البصري (100هـ-175هـ) أحد عباقرةِ الدنيا, وكانَ ذا آيةٍ في الذكاء, وصاحبُ علمٍ في الكتابِ والسنة, واشتُهرَ بزهدِه, واجتمع فيه أشياءٌ لم تجتمع في غيره:
1- وضعُه علماً كاملاً لم يستدركْ عليه فيهِ أحدٌ إلاّ ما جاءَ متأخراً من الأخفشِ, فوضع (15 بحراً) على حسبِ ما استقرأه من كلامِ الشعراءِ, فوجد لأشعارهم تفعيلات متعددة لا تخرجُ عما ذكرها.
2- أول من ألف معجما عربيا وهو "معجم العين" وإن لم يكن قد اتمّه ولم يهذّبه, إلاّ أنه مرجعاً أساسياً .
3- أول من وضع "النقطَ والشكل" على ما قيل .
4- عليه اعتماد سيبويهِ في كتابه, فإنّ سيبويه قد جمع زبدةَ كلامه من كلام شيخه العلامة الفراهيدي ولا يخفى على أحد عظمَ وأهميّةَ كتاب "سيبويه" .
- ومن لطيفِ ما ذُكر عن الخليل بن أحمد الفراهيدي ما رواه ابن خلكان في "وفيات الأعيان" :
أنَّ الخليل كان له ولد مختلف، فدخل على أبيه يوماً فوجده يقطع بيت شعر بأوزان العروض، فخرج إلى الناس وقال: إن أبي قد جن، فدخلوا عليه وأخبروه بما قال ابنه، فقال مخاطباً له:
لو كنت تعلم ما أقول عذرتني *** أو كنت تعلم ما تقول عذلتكا
لـكن جهلت مقالتي فعذلتني *** وعلمت أنك جاهل فـعذرتكـا
جاءَ الأخفش وهو أحد ما يلقب "بالأخفش" وهذا الأوسط, فزاد بحراً وهو "المتدارك" .
( الكتب التي تتعلّق بهذا الفنّ)
وكثير من العلماءِ يذكر فوائد ودرر تتعلق بهذا العلمِ في غير مظنّتها, فتجده في كتبِ الأدبِ والصرفِ والنحوِ والمعاجم كـ"لسان العرب" لابن المنظور, وكتاب "مفتاح العلوم" المشهور بـ"التلخيصِ" للسكاكي –وهو كتابٌ فذٌ يغفلُ عنه طلبةُ العلم وقد نظمَه السيوطي في كتابه "عقد الجمان"- . وبعضهم أفردَ القولَ والتأليف في العروض: ككتاب "القسطاس " للزمخشري –وهو مختصر إلا أنه مفيد- وكتاب "الوافي في العروض والقوافي" للخطيب التبريزي. ثم تبع العلماء بعد ذلك بنظمِه, أشهرها كنظم "الكافي" لأبي العباس الخوّاص, وعليه شروح منها "الإرشاد الشافي على متن الكافي" للدمنهوري. ومتن "الخرجية" للخزرجى, وهي من البحر الطويل, وأشهر شروحها "العيون الغامزة" للدمانيني. ومتن "الكافية الشافية في العروض والقافية" المهورة بالصبان لمحمد بن علي وهو من القرن الثالث عشر, وهي لامية على البحرِ الطويل. ثم تتابع المعاصرون في تأليف هذا العلم, وأكثره تكرار وأفضل ما ألّف "ميزان الذهب في صناعة الشعر العرب" للسيد هاشمي –رحمه الله- فهو قيّم مفيد, وهو من أوائل كتبِ العلمِ الشرعيّ التي درستها منذ الصبا. وكتاب "أهدى السبيل إلى علمي الخليل" للأستاذ محمود مصطفى, وهو قيّم جيّد. ومن أراد ضبطه فكتب المعاصرين له مفيدٌ جداً. فيقتصرُ إلى كتابي "ميزان الذهب" و"أهدى السبيل" إلاَّ من أرادَ التبحّر في هذا العلم .
اسمه: يسمى "علم العروض" أو "علم أوزان الشعر" .
استمداده: من أشعارِ العربِ والبحثُ فيها, وكان العربُ ينظمونَ على السليقةِ, فلا يعرف امرئ القيسِ مثلا ميزان قوله:
قفا نبكي من ذكرى حبيبةٍ ومنزلِ *** بسقطِ اللوى بين الدَّخولِ فحوملِ
ولذلك : ولمّا نظم أبو العتاهية شعراً. قالَ له البعض: لقد خرجت عن عروضالخليل .فقال: لقد سبقت عروض الخليل بشعري .
ولا شكّ أن الخليل قد استفاد من الإيقاعِ الموسيقيّ, وقيل: إن الذي أوحى له هذا الفن أمر عجيب، وهو دق مطارق أصحاب الطسوت، فإنه مر يوماعلى الحدادين فسمع دق المطارق فأوحى ذلك له بعلم العروض . وهذا يلاحظ في البحور السهلةِ كـ "المتدارك" (فعلن فعلن فعلن فعلن) والرجز (مفاعلين مفاعيلن مفاعيل) لكن ما يقع فيه بعض الناس من ظنهم استطاعتهم التخلي عن هذا العلم, بمجرّد الإيقاعِ الموسيقي, غير صحيح, وغير شرعي, من جهتين:
1- لِما في سماعِ الموسيقى من ذريعةٍ إلى سماع الموسيقى والدخول إلى المحاذير الشرعية.
2- أنه لا يناسب المبتدي البتةَ بدايةً, فيصبحُ أنّ هذا العلمَ دندنةٌ صوتية, لكن من كان ذا شاعريّة قويّة, فإن هذا الفعلَ له لا يؤثّر عليه .
حكمه: فرض كفاية, لأنّ به تعرف منظوماتِ العلمِ, وهو ناشئ من الكتاب والسنّة في أنه من علم العربية .
مسائله: من التقطيع العروضي والتفاعيل ومن اصطلاحاتهم في البيت الشرعي وأجزاء التفعيلة ومن العلل التي تدخل على البيت الشعري. وبحور الشعور وأضربه والبحور المحدثة. والضروريات الشعرية وغيرها.
انتهى الدرس الأول ......