بسم الله الرحمن الرحيم
رب اشرح لي صدري ويسر لي امري

يقول المولى تبارك وتعالى في محكم تنزيله الكريم في سورة البقرة 189

واذا سألكَ عبادي عنّي فانّي قريبٌ أُجيبُ دَعوةَ الداعِ اذا دعانِ, فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهُمْ يَرشدون


وعلى ضوء هذه الآية الكريمة نستطيع القول بأنّ أركان الدعاء ثلاثة: ايمان بالله, واستجابة لله أي طاعته, وينبثق منهما ركن ثالث ألا وهو: الاخلاص في العبادة من منطلق قوله تعالى في آية عظيمة ختم بها المولى عزوجل سورة الكهف

فمن كان يرجو لقاء ربّهِ فليعملْ عملاً صالحاً ولا يُشركُ بعبادةِ ربّهِ أحدا

لماذا؟ لأنّ كل عمل يُبتغى به غير وجه الله لا ثواب له, وليس هذا فحسب, بل يعتبر فاعله من المشركين بالله شركاً أصغراً, وهذا هو الشرك الذي أطلق النبي صلى الله عليه وسلم: الشرك الأصغر أو الرياء أو الشرك الخفي.


ولعلّ سائل يسأل فيقول: ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة.
فنقول للسائل: رحمك الله يا أخي, وهل هذا المعنى يخرج عن الشروط الثلاثة قيد أُنملة؟ أليس تناول الحلال ينبع من الايمان بالله عزوجل أولا, ومن طاعته ثانيا, ومن الاخلاص في عبادته ثالثا؟ً

ولنعلم جميعا أنه لا يتحقق ثواب ذكر الله عزوجل الا باستحضار القلب لذكره سبحانه وتعالى وبمراقبة الله عزوجل, فالذكر انما هو ذكر القلب والجوارح كلها كالأيدي والأرجل والأذنين , لا ذكر اللسان فقط, فذكر اليدين الكف عن البطش بهما , وذكرالرجلين الكف عن المشي فيهما في طرق الحرام, وذكر الأذنين عدم الاستماع بهما لما حرّم الله, وهناك لكل عضو من أعضاء جسمنا له مذكر يتناسب معه, يجب أن نستحضر عظمة الخالق سبحانه وتعالى بالذكر والدعاء ,استجابة لقوله تعالى في سورة البقرة 152: فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون

ولنعد الى آية الدعاء التي بدأنا فيها حديثنا, واذا سألك عبادي عني فاني قريب, انّ سبب نزول هذه الآية الكريمة كان سؤال قد سأله أعرابيا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله! أقريبٌ ربّنا ففناجيه, أم بعيدٌ فنناديه؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت, وعن الحسن البصري رحمه الله قال: سأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلمأين ربنا؟ فنزلت, وقال عطاء بن واصل رحمه الله: لما نزل قوله تعالى وقال ربكم ادعوني أستجب لكم, قال الناس: لو نعلم أي ساعة ندعو؟ فنزل قوله تعالى: واذا سألك عبادي عني فاني قريب أجيب دعوة الداع اذا دعان

وروى الامام احمد من أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: أنا مع عبدي ماذكرني وتحركت بي شفتاه
وقوله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام: اني معكما أسمع وأرى

والمراد من كل هذا أنّ الله عزوجل لا يردُّ دعاء داعٍ يدعوه ما يدعُ باثم أو قطيعة رحم, وروى الامام احمد من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:انّ الله ليستحْيِيِ أن يبسط العبد اليه يديه يسأله فيهما خيرا فيردهما خائبتين, وروى الامام احمد ايضا من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من مسلم يدعو الله عزوجل بدعوة ليس فيها اثم ولا قطيعة رحم, الا أعطاه الله بها احدى ثلاث خصال: اما أن يعجل له دعوته, واما أن يدخرها له في الأخرى (أي في الآخرة), واما أن يصرف عنه من السوء مثلها.. قالوا: اذن نُكثرُ, فقال عليه الصلاة والسلام: الله أكثر.

وروى الامام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يزال يُستجابُ للعبد ما لم يدعُ باثمٍ أو قطيعةَ رحْمٍ ما لم يستعجلْ, قيل: يا رسول الله! وما الاستعجال؟ فقال عليه الصلاة والسلام: يقول قدْ دعوتُ وقد دعوتُ فلم أرَ يُستجابُ لي , يُستجابُ عند ذلك ويدَعْ الدعاء.

وروى الامام احمد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: القلوبُ أوعية, وبعضها أوْعى من بعض, فاذا سألتم الله أيها الناس فاسألوهُ وأنتم موقنون بالاجابة فانّ الله لا يستجيبُ لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل

وكما نلاحظ من سياق هذه الآية الكريمة أنها مرتبطة الى حد ما بشهر الصيام رمضان, ذلك أنها أتت بعد سرد آيات الصيام مباشرة وتبيان أحكام أحكام الصيام, ولعل الحكمة في ذلك أنّ الدعاء مستجاب عند فطر الصائم لما رواه ابن ماجة من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما كان يقول عند فطره: اللهم اني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي, ولما رواه الامام احمد أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاثة لا تُردُّ دعوتهم: الامام العادل, والصائم حتى يفطر, ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة يفتح لها أبواب الجنة ويقول: بعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين.

ولعل أجمل شرح لهذه الآية الكريمة وجدته لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي حفظه الله , يستوعبه القاريء دون تكليف, أنقله اليكم كما هو فيقول

يشكو المسلم أحياناً أنه مستضعف ، أو أنه ضعيف فعلاً ، لكن فاته أن الدعاء الذي هو مخ العبادة يجعله أقوى إنسانٍ ، تصور أن أقل رتبة في الجيش مجند غر ، فلو أن قائد الجيش قال له : اطلب ما تريد ، ألا يبدو هذا المجند الغر أقوى عنصر في الجيش ؟ لأن القائد الأعلى قال له : اطلب ما تريد .
فالمؤمن بالدعاء يغدو أقوى إنسانٍ ، لكن فاته أن هذا الدعاء له شروط ، قيل : لله رجال إذا أرادوا أراد ،" يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة أطب مطعمك ، أي ليكن طعامك طيباً .

لكنْ ليكن ثمن طعامك حلالاً ، يعني لتكن مستقيماً في كسب المال ، فإذا كنت مستقيماً في كسب المال ، وكان مالك حلالاً ، فإذا اشتريت به طعاماً ، كان طعامك طيباً ، وإذا دعوة الله عز وجل استجاب لك .
ورد في القرآن الكريم ما يزيد عن أربعة عشر آية بهذه الصيغة ؛ تبدأ بكلمة يسألونك ، أو يسألك, وفي سورة البقرة وحدها وردت في خمس مواضع, الأول 217 قوله تعالى : يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه. والثاني 219 قوله تعالى : يسألونك ماذا ينفقون قل العفو.
والثالث 222: ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض .
والرابع 219: يسألونك عن الخمر والميسر قل فيها أثم كبير ومنافع للناس
والخامس 189: يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج

إلا هذه الآية اليتيمة ليس فيها كلمة: قل : وإذا سألك عبادي عني , خالية مِن كلمة قل ، بل جاءت عبارة فإني قريب ... مباشرة ، وهذا يعني كما استنبط العلماء أنه ليس بين العبد وربه حجاب ، وليس بين العبد وربه واسطة .
فإذا قلت يا رب : قال الله لبيك يا عبدي ، وإذا قال العبد يا رب وهو راكع: يا رب ، قال الله : لبيك يا عبدي ، وإذا قال العبد يا رب وهو ساجد ، قال الله : لبيك يا عبدي ، فإذا قال العبد يا رب وهو عاصٍ قال الله عز وجل : لبيك .. ثم لبيك .. ثم لبيك .
و إذا رجع العبد العاصي إلى الله ، نادى منادٍ في السماوات والأرض ، أيتها الخلائق هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله ، كيف لا ؟ واللهُ أفرح بتوبة عبده من الضال الواجد .
.
فإذا قرأ هذه الآية يقشعر جلده ... قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً
هذه أرجى آية في القرآن الكريم ، والصلحة بلمحة ، ولا يعرف طعمة التوبة إلا من قبلت منه توبته ، يشعر كأن جبالاً أزيحت عن كاهله ، يشعر بأنه خفيف ، يشعر أنّ خالق الكون يحبه ، فبادروا بالتوبة قال سبحانه : وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان
من أجل أن أجيب دعوتهم .. فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي ... إن آمنت بالله ، من خلال الكون ، ومن خلال القرآن ، ومن خلال أفعال الله عز وجل ، ثم عرفت منهجه وطبقت منهجه .. فليستجيبوا لي ، ولن يستجيبوا لي حتى يؤمنوا بي ، هنا تسلسل عكسي فليستجيبوا لي ، ولن يستجيبوا لي حتى يؤمنوا بي ، فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ؛ إلى الدعاء المستجاب ، وبعد ، فأكثر الكتب والأدعية مكتوب فيها : الدعاء المستجاب ، والدعاء المستجاب لن يتحقق الا إذا آمنت بالله وإذا طبقت أمره ، عندئذٍ فقط تكون مستجاب الدعوة ، وفي الآية شئ آخر : وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان
أحياناً الإنسان يدعو في حكم العادة ، فبعد كل صلاة هناك دعاء ، لكن الدعاء الصادق هو الذي يخرج من قلب المؤمن : أجيب دعوة الداع إذا دعان ، إذاً ! لن تكون مستجاب الدعوة الا بعد أن تؤمن بالله خالقاً ورباً ومُسيراً ، وأن تؤمن بالله موجوداً وواحداً وكاملاً ، وأن تؤمن بمنهجه أنه المنهج القويم والصراط المستقيم ، وأن تحمل نفسك على منهجه وعلى طاعته ، وأن تدعوه مُ ، اذا تحقق هذه الشروط في أي عبد, عندئذٍ فقط يكون مستجاب الدعوة ، وأنت بالدعاء المستجاب تكون أقوى إنسان حقًّا ، أقوى إنسان على وجه الأرض ، فلا تقل : إني ضعيف ، ولا تقل : إني مستضعف ، ولا تقل : المسلمون ضعفاء في هذه الأيام ، لا ، أنت بالدعاء أقوى إنسان، وكل ما في الكون ، ومَن في الكون بيد الله عز وجل ، والله عز وجل ما أمرك أن تعبده إلا بعد أن طمأنك أن الأمر كله إليه ، فلو أن الأمر بيد زيد أو عبيد ، وقال لك : يا عبدي اعبدني ، تقول عندئذٍ : كيف أعبدك وحدك وأمري بيد فلان ، لكنه عزوجل قال لك : لا ، إليه يرجع الأمر كله ، كله ؛ في صحتك، في قلبك ، في كليتيك ، في كبدك ، في دماغك ، في زواجك ، في تجارتك ، في كسب المال ، في وظيفتك ، عند مَن هم فوقك، وعند مَن هم تحتك ، إليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه .
فيا إخواننا ؛ لا تنسوا هذه الآية الكريمة : وإذا سألك عبادي عني ، يمكن أن تدعوه في سرك دون أن تحرك شفتيك ، كما في دعاء زكريا عليه السلام فس سورة مريم: إذ نادى ربه نداء خفياً .
فإذا دخلت إلى مكان تهابه وإذا أقدمت على عمل ، أو على تأسيس مشروع ، أو على زواج أو على سفر ، أو دخلت بيتك ، وفي كل أحوالك فقل: يا ربّ إني تبرأتُ من حولي وقوتي ، والتجأتُ إلى حولك وقوتك ، يا ذا القوة المتين .

فمثلاً إذا دخل الإنسان بيته فَسَلَّمَ ، قال الشيطان لإخوانه : لا مقام لكم في هذا البيت ، وغادره الشيطان ومَن معه ، فقل : السلام عليكم عند دخول البيت دائما ، فإذا جلس الإنسان إلى الطعام وسمَّى الله ، قال الشيطان : ولا مبيت لكم في هذا البيت ، فارتحلوا إلى غيره .
قال : فإذا دخل الرجل إلى بيته ولم يسلم ، ولم يسمِّ ، قال الشيطان لإخوانه : أدركتم المبيت والعشاء ، طول الليل خلافات ، وطول الليل مشاكل فيما بينه و بين أهله .
فإذا أردت أن يكون بيتك سليماً كأنه قطعة من الجنة ، فإذا دخلت فسلم ، وإذا خرجت من البيت فقل : اللهم إني أعوذ بك من أن أضل أو أُضل أو أزل أو أُزل أو أَجهل أو يجهل عليّ .
إذًا هناك دعاء للدخول .. ودعاء للخروج . ودعاء لدخول المسجد.. اللهم افتح أبواب رحمتك ، اخشع بالصلاة ، تتلقى من الله تجليات بالصلاة ، فإذا خرجتَ من المسجد فقل: اللهم افتح لي أبواب فضلك ، ليكن لي عمل صالح أتقرب به إليك ، فأنت بين بيت الله وخارج بيت الله ، في بيت الله اسأل الله الرحمة ، وخارج بيت الله اسأله التوفيق لأعمال صالحة تقربك إليه .
كان عليه الصلاة والسلام إذ جلس إلى المائدة قال : الحمد لله الذي أذاقني لذته ، أنت إنْ أكلت صحن فول ، أو أي طعام كان ، فاصولية ، أو تفاحة ، أو قطعة حلو ، فقل الحمد لله الذي أذاقني لذته ، وأبقى فيّ قوته فصحتي كلها جيِّدة والحمد لله ، فالإنسان إذا دخل الخلاء ، ثم خرج منه ، دخل بيته أو خرج منه ، أو قارب زوجته مثلاً ، أو دخل محله التجاري فادعُ الله ، وإنْ نويت خدمة المسلمين فقل : اللهم إني أعوذ بك من يمينٍ فاجرة ، وصفقةٍ خاسرة ، أتورط فيها ، هناك دعاء بالعمل التجاري ، دعاء لدخول المسجد ، دعاء لدخول البيت ، دعاء في أثناء المرض ، أنت بالدعاء أقوى إنسان ، أقوى إنسان على وجه الأرض ، لله رجال إذا أرادوا أراد الله.

الدعاء يحتاج إلى إيمان بالله أولاً ... وإلى طاعته ثانياً ... وإلى إخلاصٍ في الدعاء ثالثاً ... فإذا توافر الإيمان والعمل الصالح والإخلاص كنتَ مستجاب الدعوى ، وإذا كنت مستجاب الدعوى كنت أقوى إنسان ، فلا تقل : أنا مستضعف وضعيف ، فالله معك ، وإذا كان الله معك فمن عليك ، وإذا كان الله عليك فمن معك ؟ لا أحد .

كان شخص لا يعرف الله عز وجل ، وهو ذو اختصاص نادر بالطب ، والقصة من خمسين سنة ، والحادثة قديمة ، ما يدخل بيت مريض إلا بسيارة تنقله وليرة ذهب يتقاضاها ، طبعاً اختصاص نادر ؛ طبيب نسائي ، وامرأة عندها ولادةٌ عسرةٌ على وشك الموت، فقد باع أهلُها الفراش من تحت المريضة ، ليعطوا الليرةَ الذهبية للطبيب قبل أن يتحرك إلى بيت المريضة .
فلما تقدمت به السن ، أصيب بمرض عضال ، بعد أربعة أيام زوجته قررت أن تجعله بالقبو ، وقد عَمِّرَ بناية من أفخر العمارات ، بينما كان يسكن في الطابق الثالث ، فوضعته زوجتُه بالقبو ، ولا تأتيه بل تبعث إليه الخادمة ، هذا ما آل إليه الطبيب المشهور الذي لم يرحم الناس ، فأقرب الناس إليه ، بالغت في إهانته ، ثم تفاقم مرضه ، وأصبحت له رائحة كريهة ، فاستأجرت له قبوًا بعيداً عن البناء ، وبقي في القبو الآخر ثماني سنوات ثم توفي .
إذا كان الله معك فمن عليك؟ فإن عدوك قد يخدمك !! وإذا كان الله عليك فإنَّ زوجتك تهينك ! وابنك قد يضربك ! .
وإذا كان الله معك فمن عليك ، وإذا كان الله عليك فمن معك ؟ فيا ربي ماذا فقد من وجدك ، واللهِ ما فقد شيئًا ، وماذا وجد من فقدك ؟ ما وجد شيئًا ، فاعتبروا يا أولي الألباب


سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله
رب العالمين