حـد الْجملـة والكلام ، وخلاف العلماء في ترادفهما من عدمه .
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
اعلم ـ أيها النجيب ـ أنّ العلماء قاطبة على أن الكلام في اصطلاح النحاة : هو القول الْـمفيد فائدة يِحسن السكـوت عليها ، وعباراتهم فـي حد ذلك متقاربة يفسر بعضها بعضاً، ولا يُعتد بمن خالف ذلك ؛ لأنه حَدَّه على مذهب اللغويين لا على مذهب النحاة ([1])، وأدلة إبطال ذلك مبثوثة في كتب الخلاف .
أما حد الجملة فللعلماء فيه مذهبان:
المذهب الأول : أن الجملة ما وُجِد فيه التركيب الإسنادي ([2]) أفاد أم لم يُفد ، وهو مذهب جماهير العلماء من المتقدمين والمتأخرين ([3])
فمثال التركيب الإسنادي المفيد قوله à : {تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ }([4]) ، وقوله : {ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِين }([5])، ومثال التركيب الإسنادي غير المفيد ([6]) جـملة : { إَن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ} الشرطية في قوله Œ :{يَـٰۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إَن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } ([7]) .
المذهب الثاني :أن الجملة مرادفة للكلام ، وهو ظاهر مذهب عثمان ابْن جِنِّي([8]) في اللمع حيث قال : « وأما الجملة فهي كل كلام مفيد مستقل بنفسه ـ»([9])، ومثله مَحمود بن عمرالزَّمَخْشَر ِي([10]) فـي كتابه الْمفصل فإنه قال فيه :« والكلام هو المركب من كلمتين أسندت إحداهما إلى الأخرى وذاك لا يتأتى إلا في اسمين ، كقولك : زيد أخوك وبشر صاحبك ، أو في فعل واسم نحو قولك : ضرب زيد ، وانطلق بكر ، وتسمى الجملة ـ»([11]).
وعلى ذلك عبدالله بن الحسين أبوالبقاء العكبري([12]) ـ أيضاً ـ فقد قال في كتابه اللباب في علل الإعراب والبناء : « والجملة هي الكلام الذي تحصل منه فائدة تامة ـ»([13]).
الراجح ـ والله أعلم ـ مـن هذين الْمذهبين مذهب الْجمهـور لعدة أوجه :
الوجـه الأول : أن مَـن تأمــل اشتقـاق الْـجملــة والكـلام بان لـه تغايرهـما فــي اللغة ؛ لأن اشتقـاق الْجـملـــة مِـن «مـن أجـْمـلت الشيء إذا جـمـعـته ـ » ([14]) ، والشيء الْمجـمـوع لا تُشترط فيه الإفادة والتأثير ، أما الكلام فهو مشتق من « الكَلْمِ ، وهو الجرح ، والجرح مؤثر في نفس الْمجروح فليزم أن يكون الكلام مؤثرا في نفس السامع .ـ»([15])، ولا يكون مؤثراً في نفس السامع إلا إذا كان مفيداً فائدة يحسن السكوت عليها .
الوجـه الثاني : أن العلماء يسمون صلة الْموصول ، والشرط ، والْجواب جـملة في نحو قول الله تعالى :{تَبَارَكَ ٱلَّذِى بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ }([16]) ، وقوله : {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ، }([17]) مع إقرارهم بعدم إفادة كلٍ منهما معنىً يصح عليه السكوت ؛ لأن صلة الموصول معناها لا يتم إلا بموصولها ، والشرط لا معنى له إلا بجوابه .
وقل نحو هذا في الجمل الواقعة خبراً ، وحالا ، وصفة ؛ لأنّه لا مشاحّة في أن النحاة يسمونها جملاً ؛ لوجود التركيب الإسنادي فيه ؛ لا لصحة استقلالها بالمعنى في سياقها ، هذا من وجهٍ .
ومِن وجــهٍ آخــــر هي واقعة موقع الْمفرد ، كوقوع جـملة الحال ( يَبْكُونَ) موقع ( باكين ) في نحو قول الله تعالى : {وَجَآءُوۤا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ }([18]) ، ولا قائلَ بدلالة المفرد على معنىً يفيد فائدة الكلام في اصطلاح النحاة .
الـوجه الثالث : قول الزمخشري في كتابه المفصل في حديثه عن الشرط : « إن ولو يدخلان على جملتين فيجعلان الأولى شرطا والثانية جزاء كقولك : إن تضربني أضربك ، ولو جئتني لأكرمتك ـ»([19])، وقوله في حديثه عن أنواع الخبر : «والجملة على أربعة أضرب : فعلية واسمية وشرطية وظرفية ، وذلك نحو : زيد ذهب أخوه ، وعمرو أبوه منطلق ، وبكر إن تعطه يشكرك وخالد في الدار ـ»([20]) .
لو تأملته جيداً لأينقتَ أنه لا يريد به حتما مرادفـة ( الجملة ) لـ( الكلام ) التي فُهِمت من قوله ـ الآنف الذكر ـ في مقدمة كتابه ؛ لأن جملة الشرط لا تدل على معنى تام إلا بجملة الجواب ، والخبر الواقع شرطاً في قوله : « وبكر إن تعطه يشكرك وخالد في الدار ـ»وإن سماه جملة شرطية إلا أنه لا معنى له إلا بالمبتدأ .
ثم إنه مرة عبر عن الشرط وجوابه بـ( الجملتين ) في حديثه عن الشرط، ومرة عبر عنهما بـ( الجملة ) في حديثه عن أنواع الخبر.
ففُهِم مِن ذلك أن الجملة لا تُرادِفُ الكلامَ عنده على ما تقتضيه إطلاقاته في كتابه ، وإن سماه جملة عند حده لـ( الكلام ) في أول كتابه .
الوجـه الرابع : ما نُسِب إلى محمد بن يوسف ناظر الجيش([21]) من أنه قال في شرح التسهيل: « وأما إطلاق الجملة على ما ذكر من الواقعة شرطا أو جوابا أو صلة فإطلاق مجازي ؛ لأن كلا منها كان جملة قبل فأطلقت الجملة عليه باعتبار ما كان كإطلاق اليتامى على البالغين نظرا إلى أنهم كانوا كذلك ـ»([22])، يرِدُ عليه أنّ إطلاق الجملة على الشرط ، وجوابه ، والصلة ما زال إطلاقاً حقيقياً ؛ لأن التركيب الإسنادي المشروط في تسمية الْمركب جـملةً لا يزول عن الْجملة أينما وقعت ، سواءً كان لَها معنى يَحسن السكوت عليه فتسمى كلاماً ، وجـملة ؛ لوجود التركيب الإسنادي ، أم لا فتسمى جـملة فقط ؛ لأن الإسناد ملازم لها.
الوجـه الخامس : قول الزمـخشري فـي كتابه الْمفصل :« والكلام هو الْمركب من كلمتين أسندت إحداهـما إلى الأخرى ، وذاك لا يتأتى إلا فـي اسْمين ، كقولك : زيد أخوك ، وبشر صاحبك ، أو في فعـل واسم نحو قـولك : ضرب زيد ، وانطلق بكر ، وتسمى الجملة ـ»([23])، فهمت منه أمــــراً غير الْـمشهــور عنه ـ والله à أعلــــم ـ ، وهـو أنه يريد أن يُخبِرَ أن الـكـلام لا يكون إلا بإسناد كلمـة إلـى أخـرى ، وهو الْمُسَمَّى بـ( الْجُملــة ) ، أي الإسناد ، لا أنه يُرادِف بين ( الْجملة ) و( الكلام ) ، وصنيعه فـي كتابه يدل على ذلك ـ والله أعلـم ـ إذ كيف يقول الزمَخشري : « إن ولو يدخـلان عـلى جــملتين فيجعــلان الأولى شرطاً ، والثانية جــــــزاء كقــــولك : إن تضربني أضربك ، ولو جئتني لأكرمتك ـ» ([24]) مع أنه فُهـم من كلامه ِمـرادفة ( الْجملة ) لـ( الكلام ) ، وهو ـ هنا ـ صـرح بأنَّ الشرطَ جـمــــلتان : ( الأولى تسمى شرطــاً ، والثانية تسمى جـــــــزاءً ) ، ولا مــعنى لإطــــلاق مُسَمّى ( الكلام ) على أحد الجملتين دون الأخرى في اصطلاح النحاة .
ومحصل الأمر أن ( الجملة ) و( الكلام ) يشتركان في اشتراط التركيب الإسنادي في كل منهما ، ويفترقان في اشترط الإفادة في ( الكلام ) دون ( الجملة ) ، وهذا معنى قول ابن هشام الأنصاري في المغني : « وبهذا يظهر لك أنهما ليسا مترادفين كما يتوهمه كثير من الناس … والصواب أنها أعم منه إذ شرطه الإفادة بخلافها ـ» ([25]) أي ليسا مترادفين فـي اشتراط الإفـادة ؛ لأن جـمهور النحاة اشترطـوا الإفـادة فـي ( الكلام ) دون ( الجملة ) .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
([1]) ـ ينظر : مسائل خلافية في النحو:35 .
([2]) ـ وهو لا يتأتى إلا في اسم وخبر ، أو فعل وفاعل .
([3]) ـ ينظر : همع الهوامع:1/55 .
([4]) ـ سورة المسد :1/1.
([5]) ـ سورة الفاتحة :1/2.
([6]) ـ الإفادة ـ هنا ـ مقيدة بما يحسن السكوت عليه ، ودليل هذا قول خالد بن عبدالله الأزهري في موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب :31 :« ونعني ـ معشر النحاة ـ بالمفيد حيث أطلقناه في بحث الكلام ما يحسن من المتكلم السكوت عليه بحيث لا يصير السامع منتظرا لشيء آخر ـ » ، والمتأمل لجملة : { إَن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ} الشرطية يجد أنه لا يُحسن السكوت عليها لتوقف معناها على جواب الشرط { يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا} .
([7]) ـ سورة الأنفال :8/29.
([8]) ـ هو أبوالفتح عثمان بن جني الموصلي ( 327 هـ ـ 392 هـ ) ، تتلمذ على أبي علي الفارسي وغيره ، من تصانيفه : اللمع ، وسر صناعة الإعـراب . يُنظر : الفهرست :128، وتاريخ بغـداد:11/311.
([9]) ـ اللمع :26 .
([10]) ـ هو جارالله أبوالقاسم محمود بن عمر بن محمد الزمخشري الخوارزمي المعتزلي الحنفي ( 467 هـ ـ 538 هـ) ، من تصانيفه : الكشاف ، وأساس البلاغة . يُنظر : المنتظم في تاريخ الملوك والأمم :10/112، ومعجم الأدباء :5/489 .
([11]) ـ المفصل :23 .
([12]) ـ هو أبوالبقاء عبدالله بن الحسين العُكْبَرِيُّ البَغْدادِيُّ الضَّريرُ النَّحويُّ الحَنبليُّ ( 538 هـ ـ 616 هـ ) ، من شيوخه : ابن الخشاب ، من كتبه : التبيان في إعراب القرآن ، والْمُتَّبَع في شرح اللمع . ينظر : وفيات الأعيان :3/100، وسير أعلام النبلاء:22/92.
([13]) ـ اللباب :138.
([14]) ـ ينظر : لسان العرب مادة ( جمل ) :11/ 128 .
([15]) ـ اللباب :1/41.
([16]) ـ سورة التحريم :66/67 .
([17]) ـ سورة البقرة :2/197.
([18]) سورة يوسف :12/16 .
([19]) ـ المفصل :439.
([20]) ـ المفصل :44.
([21]) ـ هو محب الدين محمد بن يوسف التيمي الحلبي الأصل المصري الشافعي (697 ـ 779 هـ ) ناظر الجيوش المنصورة بالديار المصرية ، من شيوخه : أبي حيان ، وتقي الدين السبكي ، من تصانيفه : شرح التسهيل ، وشرح التلخيص . ينظر : الدرر الكامنة :6/45، وبغية الوعاة :1/275 .
([22]) ـ همع الهوامع :1/56.
([23]) ـ المفصل :23.
([24]) ـ المفصل :439.
([25]) ـ مغني اللبيب :490.