تصحيحُ معلومة تاريخية...
حول (الدعوة السلفيّة)-في الأردن-
-علي بن حسن الحلبي الأثري-
قرأتُ مقالاً صحفياً لبعض كُتَّابنا المرموقين في إحدى صحفنا المحلِّية السيّارة؛ تطرّق فيه كاتبُهُ إلى موضوع مُتشابك ودقيق؛ وهو موضوع: (الصوفيّة)، و(السلفيّة)، وما يتّصل بشأنهما مِن أفكار، وتَبِعاتٍ وآثار!
ولئن كان هذا الموضوع جديراً بالدراسة والبحث، ولا يكفي فيه -بداهةً- مقالٌ أو مقالاتٌ!! فإنّني أحببتُ أن أُعجِّلَ بالخيرِ -تعقيباً عليه-؛ وتصحيحاً لمعلومةٍ ذكرها الأُستاذ الكاتبُ -وفقه الله- في (مقاله) بغير دليل، ودونما بيِّنة، وهي زعمُهُ أنّ بلادنا الأردنيّة المباركة لم تعرفِ الدّعوة السلفيّة إلا في حِقْبة الثمانينات!
وبنى عليه -بالتَّبَع- أن الصوفيّة (!) هي الدعوة المتجذّرة في بلادنا!!
وكلا القولين -أصلاً وفصلاً- خطأٌ علمي، وغَلَطٌ تاريخيٌّ!
ولن أُكثر مِن القولِ في الردِّ -إنشاءً وتَعْبيراً-؛ وإنّما سأكتفي بإيراد بعضٍ مِن الأسانيد التاريخيّة العلميّة ، التي تكشفُ للقُرَّاءِ الصواب، وتُريحني (الآن) من عَناءِ التوسُّعِ في الجواب:
أولاً- قال أَقْضَى قُضَاةِ الأُردُنّ ( سَنَةَ 1962 - 1963 ، وَسَنَةَ 1977-1984 ) سَمَاَحَةُ الأُسْتَاذِ الشَّيخِ إِبْرَاهِيم القَطَّان - رَحِمَهُ الله - فِي « مُذَكَّرَاتِهِ » ( ص169 - طَبْع وِزَارَةِ الثَّقَافَةِ/ عَمَّان - 2007 ) ؛ واصِفاً ( عَمَّان ) فِي الثَّلاثِينَاتِ - لَمَّا غَزَاهَا (الفِكْرُ الصُّوفِيُّ) التِّيجَانِيُّ-، بِأَنَّها:
(... لَيْسَ فِيهَا زَوَايَا ، وَلاَ طُرُقٌ ، وَلاَ أَوْلِيَاءٌ ، أَوْ أَضْرِحَةٌ ، أَوْ تَقَاليدُ قِدِيمَةٌ -وَمَا شَابَهَ ذَلِكَ- ) !
ثانياً- وقال الدَّكْتُور مُوسَى زَيْد الكِيلاَنِيّ -يُؤَكِّدُ هَذَا المَعْنَى - ذَاتَهُ - فِي كِتَابِهِ الوثائقيِّ « الحَرَكات الإِسْلاَمِيَّة فِي الأُرْدُنّ » (ص 190) عِنْدَمَا تَكَلَّمَ عَن تارِيخِ الدَّعْوَةِ السَّلَفِيَّةِ في الأُرْدُنّ- قَائِلاً-:
« يَعْتَقِدُ البَعْضُ أَنَّ الحَرَكَةَ السَّلَفِيَّةَ فِي الأُرْدُنِّ نَبْتَةٌ وَافِدَةٌ وَصَلَتْ إِلَى هِذِهِ البِلاَدِ بَعْدَ تَزَايُدِ النُّفُوذِ السُّعُودِيِّ فِي المَنْطِقَةِ إِثْرَ الفَوْرَةِ النِّفْطِيَّةِ ! أَو بَعْدَ قُدُومِ العَدِيدِ مِنَ المُغْتَرِبينَ الأُردُنِيِّين الفِلَسْطِينِّي ين الَّذِينَ عَمِلُوا فِي أَجْواءِ دُوَلِ الخَلِيجِ وَالسُّعُودِيَّ ة بَعْدَ نَكْبَةِ 1948 ، وَتَأَثَّرُوا بَالجَوِّ السَّائِدِ العَامِّ فِي تِلْكَ المَنَاطِقِ ، وَعَادُوا يَحْمِلُونَ مَعَهُم مُدَّخَرَاتِهِم المَالِيَّةَ وَأَفْكَارَهُم السَّلَفِيَّةَ!!
وَالحَقِيقَةُ َغَيْرُ ذَلِكَ !
فَقَدْ وُجِدَت السَّلَفِيَّةُ فِي الأُرْدُنِّ مُنْذُ أَيَّامِ الإِمَارَةِ ، بِتأَثِيرٍ مُبَاشِرٍ مِنْ بَعْضِ رُمُوزِ السَّلَفِيَّةِ مِنْ عُلَمَاءِ دِمَشْقَ وَحَمَاة ... » .
بَل قَالَ الدَّكْتُور الكِيلاَنِيّ في كتابه المذكور ( ص 192 ) - أَيْضاً - : « ... وَهُنَا أَمْرٌ غَرِيبٌ ، حَدَّثَنِي بِهِ أَحَدُ المُطَّلِعِينَ، فَقَالَ :
إِنَّ الفِكْرَةَ السَّلَفِيَّةَ لَم تَكُنْ فِي الجَزِيرَةِ وَقْفًا عَلَى السُّعُودِيّين، بَلْ إِنَّ السَّلَفِيَّةَ كَانَتْ عِنْدَ بَعْضِ أَشْرَافِ مَكَّةَ ، وَرِجَالاَتِ الحِجَازِ، وَإِنَّ الشَّرِيفَ عَوْن - عَمَّ الشَّرِيفِ حُسَينِ بْنِ عَليٍّ - كَانَ مِنْ دُعَاةِ السَّلَفِيَّةِ، وَلَمْ يُؤْثَرْ عَن الشَّرِيفِ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ أَيُّ مَظْهَرٍ مِنْ مَظَاهِرِ المُخَالَفَاتِ الَّتِي يُحَارِبُهَا السَّلَفِيُّون .
وَلِذَلِكَ نَجِدُ الدِّعَايَةَ السُّعُودِيَةَ -فِي أَوَّلِ أَمْرِهَا- لَمْ تُوَجِّه أَيَّ نَقْدٍ لِشَخْصِ الشَّرِيفِ حُسَيْن مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ ، وَكَانَ العَدِيدُ مِنْ رِجَالاَتِ الشَّرِيفِ حُسَيْنٍ مِنْ رِجَالِ السَّلَفِيَّةِ وَدُعَاتِهَا، أَمْثَالُ: الوَجِيهِ الحِجَازِيِّ الكَبِيرِ الشَّيْخِ مُحَمَّد نَاصِيف، وَالدَّاعِيَةِ الإِسْلاَمِيِّ الوَاعِي الشَّيْخِ كَامِل القَصَّاب، وَالعَلاَّمَةِ السَّيِّدِ مُحَمَّد رَشِيد رِضَا ، وَالَّذِينَ جَاؤوا إِلَيْهِ إِلَى عَمَّانَ -مِثْلُ آلِ الشِّنْقِيطِيِّ -وَعَلَى رَأْسِهِم: الشَّيْخُ مُحَمَّد الخَضِر الشِّنْقِيطِيّ - كَانُوا - أَيْضًا - عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي العَقَائِدِ وَالصِّفَاتِ، بَلْ وَمُحَارَبَةِ التَّصَوُّفِ ».
ثالثاً- وقال سَمَاحَةُ الشَّيْخ القَطَّان فِي « مُذَكَّرَاتِهِ » ( ص 21) -أيضاً- تَحْتَ عِنْوَانِ ( فِتْنَة ) ؛ وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ خَبَرَ تَسَرُّبِ (الفِكْرِ الصُّوفِيِّ) التِّيجَانِيِّ إِلَى ( عَمَّان ) - قَائِلاً - :
« ...طَلَبْتُ مِنَ القَاهِرَةِ بَعْضَ كُتُبِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ ، فَجَاءَنِي كِتَابٌ ضَخْمٌ اسْمُهُ : « جَوَاهِرُ المَعَانِي » ، وَهُوَ أَقْوَالٌ وَتَعَالِيمُ ، وَشَطَحَاتٌ مِنْ فَيْضِ الشَّيْخِ أَحْمَد التِّجَانِيِّ !
وَكِتَابٌ ثَانٍ اسْمُهُ : « بُغْيَةُ المُسْتَفِيدِ » ؛ فَأخَذْتُ أُقَلِّبَ الطَّرْفَ فِي هَذَينِ الكِتَابَيْنِ .
وَبَعْدَ قَرَاءَتِهِمَا جَمَعْتُ بَعْضَ الأَقْوَالِ الَّتِي عَثَرْتُ عَلَيْهَا -وَظَاهِرُهَا يُخَالِفُ الدِّينَ الإِسلاَمِيّ-، وَعَلَّقْتُ عَلَيْهَا بَعْضَ التَّعْلِيقَاتِ المُوْجَزَةِ ، وَنَشَرْتُ ذَلِكَ بِرِسَالَةٍ مُوْجَزَةٍ .
وَانْتَشَرَتْ هَذِهِ الرِّسَالَةُ بَيْنَ أَيْدِي النَّاس ، وَكَأَنَّهَا كَانَتْ نَارًا أَكَلَتْ كُلَّ تِلْكَ الفِتْنَةِ ، وَانْتَهَتْ».
رابعاً- وقد أورد سماحةُ الشَّيْخ عَبْد الله القَلْقِيلي -رحمه الله- المُفْتِي الأَسْبَق لِلمَمْلَكَة الأُرْدُنِيَّة الهاشِمِيَّة- فِي «فتاويه» (ص22-38-المَجْمُوع الأَوَّل -سَنَةَ 1954): رُدوداً قَوِيَّةً عَلى أَفْكارِ (الصُّوفِيَّةِ) المُتَعَلِّقَةِ بابْنِ عَرَبِي، وَوَحْدَةِ الوُجُود، وَتَقْسِيمِ الدِّينِ إِلى حَقِيقَةٍ وَشَرِيعَة، وَعِلم باطِن وَعِلْم ظاهِر!!
ناقِضاً لها مِن جذورها، ورادًّا عليها مِن أُسِّها...
خامساً- وفِي «مُذَكَّراتِ سَماحَةِ الشَّيْخ القَطَّان» (ص190-191) -أيضاً-: رَدٌّ مِنْهُ -رَحِمَهُ الله- عَلى رَدّ يُوسف النَّبْهانِي (الصُّوفِي) عَلى العالِـمَيْنِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ وابْنِ القَيِّم -السَّلَفِيَّيْن-...
وَفِيه (ص414): رَدٌّ عَلى أَمِير خسرو -الصُّوفِيّ-...
وَفِيه (ص176): بَيانُ أَنَّهُ كانَت تُقامُ -في القاهرة- أيّامَ دراستهِ الأزهريّة- حَفلاتٌ وَأَعْيادٌ يَشْتَرِكُ فِيها جَمْعٌ غَفِيرٌ مِنَ الطُّرُقِ الصُّوفِيَّة، وتُنْصَبُ سُرادِقَات، لِكُلِّ طَرِيقَةٍ صُوفِيَّةٍ سُرادِقٌ ، وَتُقامُ حَلَقاتُ الذِّكْر، وَتُقَدَّمُ الشرابات، « وَكَانَ يَتَخَلَّلُ ذَلِكَ إِجْرامٌ كَبِير، وَأَشْياءُ مُنْكَرَةً لاَ يَرْضاهَا العَقْلُ وَالدِّين » .
وَفِيه (ص151): مَدْحٌ لِلشَّيْخ مُحَمَّد بَهْجَت البيطَار السَّلَفِيِّ الدِّمَشْقِيّ -المَشْهُور-، وَمَنْهَجِهِ فِي إِبْعادِ النَّاسِ عَنِ الخُرافَات، وَالبِدَع، وَالضَّلاَلاَت.. .
وَفِيه (ص189 و191): بَيانُ رُدودِ بَعْضِ مَشَايِخِ الأُرْدُنِّ (الصُّوفِيِّين) ضِدَّ ابْنِ تَيْمِيَّةَ وَابْنِ القَيِّم ( السَّلَفِيَّيْن ِ)، وَأَنَّ كَثِيراً مِن أَقْوالِهِم فِيهِما: غَيْرُ صَحِيحَة.
ناهِيكَ عَنْ مَدْحِهِ الشَّدِيد - هُنَا - لِشَيْخِ الإِسْلاَمِ ابْنِ تَيْمِيَّة؛ المعروفةِ مكانتُهُ في الدعوة السلفيّة -قديماً وحديثاً-.
وَفِيه (ص176): بَيانُ أَنَّ مُعْظَمَ الطُّرُقِ الصُّوفِيَّةِ لَيْسَت مِن العِلْمِ فِي شَيْء، «وَمَا هِيَ إِلاَّ وَسِيلَةٌ وَشَبَكَةٌ لِصَيْدِ الرِّزْق»!!
سادساً- وما أجملَ -أخيراً- قَوْلَ الدَّكْتُور مُوسَى زَيْد الكِيلاَنِيّ فِي كِتَابِهِ « الحَرَكاتُ الإِسْلاَمِيَّة ُ فِي الأُرْدُنِّ » (ص192) :
« وَبَعْدَ الحَرْبِ العَالَمِيَّةِ الأُولَى أَخَذَتِ الأَفْكَارُ السَّلَفِيَّةُ تَنْتَشِرُ، وَتَتَرَكَّزُ، وَتُعْلِنُ عَنْ نَفْسِهَا .. فِي الأُرْدُنّ .. »، وقولَه (ص 191) - مِن كتابه-: «فَكَانَت الحَرَكَةُ السَّلَفِيَّةُ تَقُومُ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى التَّجْدِيدِ وَالإِصْلاَحِ، وَلَمْ تَكُنْ مُرْتَبِطَةً - بِوَجْهِ مِنَ الوُجُوهِ - مَعْ حَرَكَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّد بْنِ عَبْدِ الوَّهَّابِ فِي نَجْدٍ.
وَكَانَ مِنْ أَعْلاَمِهَا: الشَّيْخُ جَمالُ الدِّينِ القَاسِميّ، وَالشَّيْخُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ البَيْطَار، وَالشَّيْخُ طَاهِرُ بْنُ صَالِحٍ الجَزَائِرِيّ... .
سابعاً- ومِن ذلكَ: قولُ الشَّيْخِ عَبْدِ اللهِ القَلْقيلِيِّ فِي «فَتاوِيه» (1/22-23) -مُشيراً إِلى بعضِ خِلافٍ عِلْمِيٍّ وَقَعَ بَيْنَ كَاتِبَيْن-:
«أَمَّا مَثَارُ هَذا النِّزَاعِ ، وَالنِّضَالِ، وَمَدَارُ الحَرْبِ وَالنِّزَال ؛ فَهُوَ : الشَّيْخ مُحْييِ الدِّين بْنُ عَرَبِي ، وَ«فُتوحَاتُه» ، وَمَذْهَبُهُ ، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ بِقَوْلِهِ مِنَ المُتَصَوِّفَةِ الَّذِينَ نَبَتُوا بَعْدَ المائَةِ الرَّابِعَةِ الهِجْرِيَّة !
أَمَّا الصُّوفِيَّةُ الَّذِينَ سَبَقُوا : فَكانَ أَكْثَرُهُم مِمَّن سَارَ عَلى نَهْجِ سَلَفِ الأُمَّةِ ، المُسْتَمْسِكين َ بِالكِتابِ وَالسُّنَّة ، وَإِنَّمَا كَانَ يُمَيِّزُهُم انْقَطاعٌ، وَزُهْدٌ، وَاعْتِزَالٌ لِلنَّاسِ ، وَكَثْرَةُ نُسُكٍ، وَعِبادةٌ، وَإِعْراضٌ عَنِ الدُّنْيَا وَلذائِذِهَا وَطَيِّباتِهَا.
وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَسْلَمُوا مِنْ إِنْكَارِ بَعْضِ الأَئِمَّةِ مِمَّن يَرْفَعُ رايَةَ السُّنَّةِ»..
.... هذا آخِرُ ما أعانني اللهُ -تعالى- (الآن) عليه مِن النقول الموثَّقة عن هذه الشخصيات الأُردنيّة العلميّة (الحِياديّة) الكبيرة، والّتي تُمَثِّلُ –بمجموعها- تأريخاً حيّاً صادقاً؛ تنقطعُ أمامَه كُلُّ الدعاوى المختلفةِ، وسائرُ الادّعاءات المُخالفة؛ لتجتمعَ الأمّةُ –جميعاً- في مواجهةِ الأفكارِ المتطرفةِ، والآراءِ المنحرفةِ –بالعلْمِ، والحقِّ، والمعرفةِ الصحيحةِ-؛ نقضاً لِطروحاتِ (التّكفيريين) الغوغائيين، و(الشيعة) المتربصين؛ حمايةً لإيمان الأمّة، وأمانِها، وأمنها...