الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده..
سلام الله تعالى على الإخوة جميعاً ورحمة الله وبركاته، وتحية طيبة للجميع..
هذه محاولة متواضعة لتبيين ما قرره أهل العلم حول هذه المسألة _ زيادة الثقة في المتن _ بما يوضح الأمر إن شاء الله تعالى ويزيل اللبس.. وسيكون بإذن الله تعالى على وجه الاختصار والإيجاز، ومن أراد توضيح أمرٍ وارد فيه _ لم يقبله عقله _ فلا يتررد في ذلك في تعيينه وطلب توضيحه وبيانه.
قد اختلف العلماء من المحدثين والفقهاء _ وإن شئت فقل: اختلف أهل العلم _ في هذه المسألة اختلافاً ليس بالهين ولا باليسير في الحكم على الحديث الذي وردت فيه هذه الزيادة قبولاً وردا.
فالقول الأول: قبول زيادة الثقة مطلقاً بلا استثناء.
وهذا مذهب الأكثر منهم، وهو الذي مشى عليه بعضهم في مصنفاته.
ومن أدلتهم التي استدلوا بها:
1) اتفاق أهل العلم على أنه لو انفرد الثقة بنقل حديث لم ينقله غيره لوجب قبوله، فإن ترك الرواة نقله فلا يكون هذا قادحاً في عدالة هذا الراوي، كما لا تكون مبطلة لحديثه.. فكذلك إذا انفرد الثقة بالزيادة.
2) كون الثقة العدل يصرح بالتحديث والسماع والحفظ لأمر لم يسمعه ولم يحفظه الباقون وينفون سماعه وحفظه منهم؛ ليس هذا من باب تكذيبهم، غايته أنه إخبار عن عدم علمهم بما علمه هو، والمثبت مقدم على النافي.
3) القياس على الشهادة، فكما أن الشهادة بالإقرار بالزيادة تُثبت الزيادة؛ فكذلك في الخبر، فإن كان ذلك لا يقدح بالشهادة مع أنها ترد بالتهم؛ فالروايات من باب أولى.
وقد أُعترض على الدليل الأول بما يلي:
- أنه ليس كل حديث تفرد به الثقة يكون مقبولا.
- أن هناك فرقاً بين تفرد الراوي بالحديث عموماً، وبين تفرده بالزيادة فيه، وذلك لأن تفرده بالحديث لا يلزم منه تطرق السهو والغلط إليه، لأنه لا مخالفة لهم في روايته، بخلاف تفرده بالزيادة؛ فإنه يخالف غيره ممن هو أوثق منه وأضبط.
- أن نسبة الوهم لمن روى الزيادة أولى ممن لم يروها، وذلك لوحدته وتفرده، فوجب رده.
وأجيب عن هذه الاعتراضات بما يلي:
- المراد بالثقة هنا = العدل الضابط، وليس كل زيادة ثقة مقبولة، بل تقبل ممن يكون حافظاً متقناً.. وأما إذا كانت من غير حافظ ولا متقن فلا يلتفت إليها.
- أن إنفراده بالزيادة لا يضره لعدة أسباب محتملة:
1) أن يكون الراوي قد حدث بالحديث في وقتين، وذكر الزيادة في أحدهما ولم يذكرها في الآخر.
2) أن يكون الراوي قد كرر الحديث؛ فرواه أولاً بالزيادة فسمعه منه هذا الواحد، ثم رواه أخرى إعادة بغيرها.
3) أن يكون قد ذكر الزيادة في أصل الحديث في أوله، ثم دخل من تحمل الحديث بعد ذلك ولم يسمع أوله والذي يمكن أن الزيادة فيه، فنقل منه ما سمعه، فكان الأول مدركاً للحديث بتمامه.
4) أن يعتري بعض جماعة السماع ما يشغله عن سماع الحديث من نوم، أو خاطر نفس وفكر قلب، أو أي أمر آخر، فيفوته بعض السماع.
- أن راوي الزيادة أبعد من السهو، لأن ذهول الإنسان عما سمعه أكثر من توهمه ما لم يسمعه أنه سمعه.
القول الثاني: لا تقبل زيادة الثقة مطلقاً.
قالوا: لأن ترك الحفاظ لنقلها وذهابهم عن معرفتها يوهنها ويضعف أمرها، ويكون معارضاً لها.
وهذا قال به بعض أهل العلم.. ولا يفهم من التبعيض التحقير. فتنبه
وحقيقة الردود المحققة الرزينة على هذا القول وإبطاله كثيرة جداً، يقصر هذا الموجز عن عرضها.
ومن أدلتهم التي استدلوا بها:
- أن ضبط الراوي إنما يعرف بموافقة المعروفين بالضبط، فإذا لم يوافقوه عليها لم يعرف ضبطه.
- أنهم مشتركون في السماع؛ فلو كانت الزيادة صحيحة لاشتركا فيها.
- أنه لو فرض وجود جماعة في مجلس ونقلوا عن صاحب هذا المجلس كلاماً؛ ثم انفرد واحد منهم بزيادة عن الباقين مع كثرتهم وشدة تحفظهم؛ لطرحوا تلك الزيادة ولما قبلوها.
- أن ما اتفق عليه الرواة يقين، والزيادة مشكوك فيها، فلا يترك اليقين بالشك.
- أنه قد جرت عادة الرواة بتفسير الحديث وإدراج ذلك في عموم الخبر، وعليه: فلا يؤمن أن تكون تلك الزيادة من هذا القبيل، فيظنها البعض من قول النبي صلى الله عليه وسلم فيرويها وليست من قوله.
- إذا خالف واحدٌ فانفرد عن الجماعة بزيادة فقد خالف إجماع أهل العصر، فيكون كالواحد إذا خالف الإجماع.
- أنه لو قوم اثنان نصاب السرقة أو المتلف بقيمة ما، وقومهما آخران بأكثر من ذلك؛ قدم قول من قوم بالنقصان، وكذلك الخبر.
وأجيب عن هذه الأدلة بما يلي:
1) أما عن الأول: بأنه لو لم يعرف ضبط الراوي إلا بموافقة ضابط آخر له لأدى ذلك إلى ما لا نهاية له، ولما عرف ضبط أحد، لأن كل راوٍ يحتاج إلى موافقة ضابطين له.
2) أما عن الثاني: بأنه يجوز سماع البعض دون البعض، كما يجوز أن يشتركا في الجميع وينسى أحدهما بعضه، فإذا ورد هذا الاحتمال لم يجز رد الزيادة.
3) أما عن الثالث: بأن ذلك ليس مما نحن فيه، وذلك لأنا بينّا أن الجماعة إذا تركت الزيادة كانت روايتها أولى من الواحد على وجه.. ومن سلّم ذلك قال: يجوز أنهم كانوا ناسين أو ساهين.
4) أما عن الرابع: بأننا لا نسلم أن الزيادة مشكوك فيها، بل هي ثابتة على مقتضى الظاهر، لأنه ثقة، فلو لم يسمع لما ذكرها. كما يلزم من هذا القول إبطال ما تفرد به الراوي بخبر لم يروه الآخر.
5) أما عن الخامس: فما دام الراوي قد أسند الزيادة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فالظاهر أن الجميع من قوله. ولو قلنا بهذا القول في الزيادة لوجب أن نقول ذلك في كل خبر، ولكان هذا طريقاً لرد الأخبار.
6) أما عن السادس: بأن بينهما فرق، ففي مسألة الإجماع أهل الاجتهاد أجمعوا على خطئه، وأما هنا في مسألتنا فإنهم لم يقطعوا بإبطال الزيادة، فوجب الأخذ بها.. ثم هو ما خالف ما نقلوا؛ بل نقل ما نقلوه، ولو خالف ما نقلوا لرجحنا بكثرة الرواة.
7) أما عن السابع: بأننا لا نسلم ذلك، فإن كان فقد حصل التعارض، لأنهم قد اتفقوا على صفة المتلف واختلفوا في قدر القيمة بالسعر القائم في السوق؛ فتعارضا في النفي والإثبات، بخلاف الخبر؛ فإن راوي الزيادة لم يعارضه قول من روى النقصان، فافترقا.
القول الثالث: أنه لا يحكم على الزيادة بحكم مطرد من القبول أو الرد، بل يعتبر فيها الترجيح بالقرائن فيما يتعلق بالزيادة وغيرها.
وهذا منقول عن أئمة الحديث المتقدمين، واختاره بعض المتأخرين.. وهو الصحيح الصواب إن شاء الله تعالى.
وسيأتي توضيح أكثر بعد.
القول الرابع: أن الزيادة إن كانت في مجلسين مختلفين فهي مقبولة اتفاقاً، أما إذا اتحد المجلس ولم يتصور غفلة من فيه؛ فإن الزيادة لا تقبل.
وهذا قول لبعض الفقهاء والأصوليين.. ويمكن إرجاع هذا القول للقول الثالث.
وعند العرض على الميزان يتضح أن القبول مطلقاً، أو الرد مطلقاً لزيادة الثقة فيه نظر، وقصور في التطبيق.
قال الحافظ ابن حجر: (واشتهر عن جمع من العلماء القول بقبول الزيادة مطلقا من غير تفصيل، ولا يتأتىذلك على طريق المحدثين الذين يشترطون في الصحيح أن لا يكون شاذا، ثم يفسرون الشذوذبمخالفة الثقة من هو أوثق منه، والعجب ممن أغفل ذلك منهم مع اعترافه باشتراطانتفاء الشذوذ في حد الحديث الصحيح وكذا الحسن).
وهذا الذي قرره المحقق المحرر المدقق البحر العلائي من أن الذي يجري على قواعد المحدثين أنهم لا يحكمون عليه بحكم مطرد من القبول والرد، بل يرجحون بالقرائن.
قال الحافظ ابن رجب: (فالذي يدل عليه كلام الإمام أحمد في الباب أن زيادة الثقة للفظة في حديث من بين الثقات إن لم يكن مبرزاً في الحفظ والتثبت على غيره ممن لم يذكر الزيادة ولم يتابع عليها فلا يقبل تفرده).
قال الزيلعي: (فمن الناس من يقبل زيادة الثقة مطلقاً، ومنهم من لا يقبلها، والصحيح التفصيل: وهو أنها تقبل في موضع دون موضع، فتُقبل إذا كان الراوي الذي رواها ثقة حافظاً ثبتاً، والذي لم يذكرها مثله، أو دونه في الثقة، كما قبل الناس زيادة مالك بن أنس، قوله: «من المسلمين» في صدقة الفطر، واحتج بها أكثر العلماء، وتقبل في موضع آخر لقرائن تخصها، ومن حكم في ذلك حكماً عاماً فقد غلط، بل كل زيادة لها حكم يخصها، ففي موضع يجزم بصحتها، وفي موضع يغلب على الظن صحتها، وفي موضع يجزم بخطأ الزيادة، وفي موضع يغلب على الظن خطأها، وفي موضع يتوقف عن الزيادة).
وحقيقة عند النظر في زيادة (زائدة) هنا، نجدها من هذا النوع الأخير، فردها وطرحها لا يقبل على إطلاقه أبداً، وكذا قبولها على إطلاقها لا يقبل أبداً.. فكان التوفيق والتأويل والتنزيل هو المقدم هنا، فيكون (زائدة) رحمه الله قد وافق الجماعة على الرواية لكنه خالفهم في التعبير لمعنى الفعل، وإلا هو ما أراد إلا ما أرادوه، وما روى إلا ما رووه.. وهذا الذي جرى عليه من روى الزيادة وقبلها ولم يتعرض لطعن فيها.. وهو الأولى والصواب إن شاء الله تعالى.