بسم الله والحمد لله....
يقول ابن قدامه في أوضح ما نقل عنه دلالة على التفويض:
يقول ابن قدامة في((روضة الناظر)) (1/277):
(( وفي كتاب الله سبحانه محكم ومتشابه كما قال تعالى : ((هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات)).
قال القاضي المحكم المفسر والمتشابه المجمل لأن الله سبحانه سمى المحكمات أم الكتاب وأم الشيء الأصل الذي لم يتقدمه غيره فيجب أن يكون المحكم غير محتاج إلى غيره بل هو أصل بنفسه وليس إلا ما ذكرنا.
وقال ابن عقيل: المتشابه هو الذي يغمض علمه على غير العلماء والمحققين كالآيات التي ظاهرها التعارض كقوله تعالى : ((هذا يوم لا ينطقون وقال في أخرى قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا)) ونحو ذلك.
وقال آخرون : المتشابه الحروف المقطعة في أوائل السور والمحكم ما عداه
وقال آخرون : المحكم الوعد والوعيد والحرام والحلال والمتشابه القصص والأمثال
والصحيح أن المتشابه ما ورد في صفات الله سبحانه مما يجب الإيمان به ويحرم التعرض لتأويله كقوله تعالى: (( الرحمن على العرش استوى))،(( بل يداه مبسوطتان))،(( لما خلقت بيدي))،(( ويبقى وجه ربك))،(( تجري بأعيننا)). ونحوه فهذا اتفق السلف رحمهم الله على الإقرار به وإمراره على وجهه وترك تأويله فإن الله سبحانه ذم المبتغين لتأويله وقرنهم في الذم بالذين يبتغون الفتنة وسماهم أهل زيغ .
وليس في طلب تأويل ما ذكروه من المجمل وغيره ما يذم به صاحبه بل يمدح عليه إذ هو طريق إلى معرفة الأحكام وتمييز الحلال من الحرام ولأن في الآية قرائن تدل على أن الله سبحانه منفرد بعلم تأويل المتشابه وأن الوقف الصحيح عند قوله تعالى: (( وما يعلم تأويله إلا الله)). لفظا ومعنى أما اللفظ لو أراد عطف الراسخين لقال ويقولون آمنا به بالواو وأما المعنى فلأنه ذم مبتغي التأويل ولو كان ذلك للراسخين معلوما لكان مبتغيه ممدوحا لا مذموما ولأن قولهم آمنا به يدل على نوع تفويض وتسليم لشيء لم يقفوا على معناه سيما إذا اتبعوه بقولهم ((كل من عند ربنا)) فذكرهم ربهم ها هنا يعطي الثقة به والتسليم لأمره وأنه صدر منه وجاء من عنده كما جاء من عنده المحكم ولأن لفظه أما لتفصيل الجمل فذكره لها في الذين في قلوبهم زيغ من وصفه إياهم لابتغاء المتشابه وابتغاء تأويله يدل على قسم آخر يخالفهم في هذه الصفة وهم الراسخون ولو كانوا يعلمون تأويله لم يخالفوا القسم الأول في ابتغاء التأويل وإذ قد ثبت أنه غير معلوم التأويل لأحد فلا يجوز حمله على غير ما ذكرناه لأن ما ذكر من الوجوه لا يعلم تأويله كثير من الناس
فإن قيل فكيف يخاطب الله الخلق بما لا يعقلونه أم كيف ينزل على رسوله ما لا يطلع على تأويله
قلنا يجوز أن يكلفهم الإيمان بما لا يطلعون على تأويله ليختبر طاعتهم كما قال تعالى : ((ولنبلونكم حتى تعلم المجاهدين منكم والصابرين وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم)) الآية ((وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس)) وكما اختبرهم بالإيمان بالحروف المقطعة مع أنه لا يعلم معناها والله أعلم)).
والذي استقر عليه نظري بعد تأمل طويل في هذا النص ونصوص الإثبات الأخرى الواردة عن ابن قدامة هو الآتي:
1- يجب مراعاة الوضوح التام الذي يصل إلى درجة النص في عبارات الإمام في طرفيها=أعني أنَّ عباراته في الإثبات واضحة تماماً...
وعباراته في التفويض واضحة تماماً خاصة تلك التي يقول فيها إن الله خاطبنا بنصوص لامعنى لها=لمحض الابتلاء،وهو نص كلام المفوضة.
2- يجب مراعاة أن جوانب الإثبات عند ابن قدامة تفوق نظائرها عند مفوضة الحنابلة.
3- في رسالته ((ذم التأويل)) نقل ابن قدامة عن الأشاعرة أن للسلف قولان وطريقتان في الصفات ...
ثم قال:إذن أنتم توافقوننا على أن مذهب السلف هو الإمرار والتسليم إلخ..
ومن المعلوم أن مذهب السلف الذي ينسبه لهم الأشاعرة هو عين التفويض ومع ذلك لم يلحظ ابن قدامة الفرق...
4- ظهر لي تماماً مراد الشيخ فيصل وكلامه صحيح فلو كانت آية الاستواء من المتشابه المحض فكيف استنبط منها بدلالة التضمن بل واللزوم =العلو.
5- عند شرح ابن قدامة لمعنى قول مالك: ((الاستواء معلوم)) قال: أي معلوم الوجود.وهو أحد تفسيرات المفوضة التي يعمدون إليها لتقويض دلالة الأثر عند أهل السنة...
ونصل بذلك إلى الرأي الذي يحتاج إلى رأيكم في صحته:
الذي أراه والله أعلم أن ابن قدامة في نصوصه التي فيها دلالة التفويض كان يتكلم عن الصفة إذا ماأشكلت على الواحد من الأمة ...
أي أنه كان يتكلم عن التشابه الخاص أو النسبي...
ولكن طرف النسبية عند ابن قدامة ليس هو فهم المكلف وتفاوته وإنما هو وضوح النص ودلالته..
فابن قدامة -ومعه مفوضة الحنابلة- لايمنع أن يأتي النص واضح الدلالة فيثبتون الصفة التي أثبتها النص اثباتاً على طريقة أهل السنة...
ولكنه كذلك لايمنع أن يأتي النص غير واضح الدلالة (لأجل تركيب النص نفسه) لا لأن الناظر لم يفهم مع احتمال أن غيره يفهم...
وهذا النص غير الواضح يستعملون معه التفويض فيقولون: أن النص متشابه وأنه له معنى لايعلمه إلا الله وانه جاء للابتلاء ....
فليسوا مفوضة محضة وليسوا مثبتة محضة...
ولنطبق ذلك على نص الاستواء الذي أشكل به أخونا فيصل: لقد كان النص واضح الدلالة عند ابن قدامة في إثبات العلو فالعرش في السماء والله عليه...
ولكن غير الواضح: هو بقية معاني الاستواء التي يثبتها أهل السنة ؛لذلك جعل النص من المتشابهات..
وهذه هي طريقة من يفوض تارة ويثبت تارة ...ولو جعلنا الإثبات قاضٍ على التفويض لأبطلنا هذا القسم من أقوال المتكلمين في الصفات وقد أثبته شيخ الإسلام...
وقس على ذلك...
والحمد لله على توفيقه...