التصحيف والتحريف من الأمور الطارئة الَّتِيْ تقع في الْحَدِيْث سنداً أو متناً عِنْدَ بعض الرُّوَاة ، وَهُوَ من الأمور المؤدية إلى الاختلاف في الْحَدِيْث الذي هو رأس علم العلل . فيحصل لبعض الرُّوَاة أوهام تقع في السند أَوْ في الْمَتْن بتغيير النقط أو الشكل أو الحروف .
وهذا النوع من الخطأ يسمى عِنْدَ الْمُحَدِّثِيْن َ بـ ( التصحيف والتحريف ) .
والتصحيف هُوَ : تغيير في نقط الحروف أو حركاتها مع بقاء صورة الخط (1) .
والتحريف : هُوَ العدول بالشيء عن جهته ، وحرَّف الكلام تحريفاً عدل بِهِ عن جهته ، وَقَدْ يَكُوْن بالزيادة فِيْهِ ، أو النقص مِنْهُ ، وَقَدْ يَكُوْن بتبديل بعض كلماته ، وَقَدْ يَكُوْن بجعله عَلَى غَيْر المراد مِنْهُ ؛ فالتحريف أعم من التصحيف (2) .
ولابد من الإشارة إلى أن المتقدمين كانوا يطلقون المصحف والمحرف جميعاً عَلَى شيء واحد ، ولكن الحافظ ابن حجر جعلهما شيئين وخالف بينهما ، فَقَدْ قَالَ : (( إن كانت المخالفة بتغيير حرف أو حروف مع بقاء صورة الخط في السياق فإن كَانَ ذَلِكَ بالنسبة إلى النقط فالمصحف ، وإن كَانَ بالنسبة إلى الشكل فالمحرّف )) (3) .
وعلى هَذَا فالتصحيف هُوَ الَّذِيْ يَكُوْن في النقط ؛ أي في الحروف المتشابهة الَّتِيْ تختلف في قراءتها مثل : الباء والتاء والثاء ، والجيم والحاء المهملة والخاء المعجمة ، والدال المهملة والذال المعجمة ، والراء والزاي .
ومعرفة هَذَا الفن من فنون علم الْحَدِيْث لَهُ أهمية كبيرة (4) ؛ وذلك لما فِيْهِ من
تنقية الأحاديث النبوية مِمَّا شابها في بعض الألفاظ سواء كَانَ في متونها أم في رجال أسانيدها .
وعندما كثر التصحيف والتحريف بَيْنَ الناس شرع الحفاظ من أهل الْحَدِيْث بتصنيف كتب : ( التصحيف والتحريف ) وكتب ( المؤتلف والمختلف ) (5)، وهذا الفن فن جليل لما يحتاج إِلَيْهِ من الدقة والفهم واليقظة ، وَلَمْ ينهض بِهِ إلا الحفاظ الحاذقون قَالَ ابن الصَّلاَحِ : (( هَذَا فن جليل إنما ينهض بأعبائه الحذاق من الحفاظ )) (6) .
والسبب في وقوع التصحيف والإكثار مِنْهُ إنما يحصل غالباً للآخذ من الصحف وبطون الكتب ، دون تلق للحديث عن أستاذ من ذوي الاختصاص ؛ لِذَلِكَ حذر أئمة الْحَدِيْث من عمل هَذَا شأنه ، قَالَ سعيد بن عَبْد العزيز التنوخي (7) : (( لا تحملوا العلم عن صحفي ، ولا تأخذوا القرآن من مصحفي )) (8).
أقسام التصحيف
للتصحيف بحسب وجوده وتفرعه أقسام . ينقسم إِلَيْهَا وَهِيَ ستة أنواع :
القسم الأول : التصحيف في الإسناد :
مثاله : حَدِيْث شعبة ، عن العوام بن مراجم (9)، عن أبي عثمان النهدي (10)، عن عثمان بن عفان، قَالَ: قَالَ رَسُوْل الله صلى الله عليه وسلم: (( لتؤدنَّ الحقوق إلى أهلها…الْحَدِي ث ))(11).
وَقَدْ صحف فِيْهِ يحيى بن معين ، فَقَالَ : (( ابن مزاحم )) – بالزاي والحاء – وصوابه : (( ابن مراجم )) – بالراء المهملة والجيم – (12).
ومنه ما رواه الإمام أحمد (13) ، من طريق شعبة ، قَالَ : حَدَّثَنَا مالك بن عرفطة – قَالَ (14) : وإنما هُوَ خالد بن علقمة – قَالَ : سَمِعْتُ عَبْد خير يحدّث ، عن عائشة ، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم : (( أنه نهى عن : الدباء (15) ، والحنتم (16) ، والمزفت (17) )) .
وَقَدْ أخطأ الإمام شعبة بن الحجاج فصحف في هَذَا الاسم فَقَالَ : (( مالك بن عرفطة )) ، وصوابه: (( خالد بن علقمة )) كَمَا نبه عَلَى ذَلِكَ الإمام أحمد –كَمَا سبق–(18) وَقَدْ رَوَاهُ أبو عوانة ، عن شعبة ، فأخطأ فِيْهِ كذلك فِيْمَا أخرجه الْخَطِيْب في موضح أوهام الجمع والتفريق (19).
ثُمَّ رجع إلى الصواب فِيْمَا أخرجه عَنْهُ الْخَطِيْب في " تاريخ بغداد " (20) وَقَالَ : (( عن شعبة ، عن خالد بن علقمة ، عن عَبْد خير ، بِهِ )) .
القسم الثاني : التصحيف في الْمَتْن :
ومثاله حَدِيْث أنس مرفوعاً: (( ثُمَّ يخرج من النار من قَالَ : لا إله إلا الله ، وَكَانَ في قلبه من الخير ما يزن ذرة )) (21).
قَالَ ابن الصَّلاَحِ : (( قَالَ فِيْهِ شعبة : (( ذُرَةً )) – بالضم والتخفيف – ونسب فِيْهِ إلى التصحيف )) (22)
ومثّل ابن الصَّلاَحِ لتصحيف الْمَتْن بمثال آخر فَقَالَ : (( وفي حَدِيْث أبي ذر : (( تعين الصانع )) ، قَالَ فِيْهِ هشام بن عروة – بالضاء المعجمة – وَهُوَ تصحيفٌ ، والصواب ما رواه الزهري: (( الصانع )) – بالصاد المهملة – (23) ضد الأخرق (24) )) (25).
القسم الثالث : تصحيف البصر :
وَهُوَ سوء القراءة بسبب تشابه الحروف والكلمات وهذا يحصل في الأعم لِمَنْ يأخذ من الصحف دون تلقٍ .
مثاله: ما رواه ابن لهيعة عن كتاب موسى بن عقبة إِلَيْهِ بإسناده عن زيد بن ثابت: (( أن رَسُوْل الله صلى الله عليه وسلم احتجم في المسجد )) قَالَ ابن الصَّلاَحِ: (( إنما هُوَ بالراء: (( احتجر في المسجد بخص أو حصير حجرة يصلي فِيْهَا )) (26) فصحّفه ابن لهيعة ؛ لكونه أخذه من كتاب بغير سَمَاع )) (27).
وَقَالَ الإمام مُسْلِم : (( هَذِهِ رِوَايَة فاسدة من كُلّ جهة . فاحشٌ خطؤها في الْمَتْن والإسناد ، وابن لهيعة المصحف في متنه ، المغفل في إسناده )) (28).
وَقَدْ وصف السخاوي تصحيف البصر بأنه الأكثر (29).
القسم الرابع : تصحيف السمع :
ويحدث بسبب تشابه مخارج الكلمات في النطق فيختلط الأمر عَلَى السامع فيقع في التصحيف أَوْ التحريف .
نحو حَدِيْث لـ : (( عاصم الأحول )) ، رَوَاهُ بعضهم فَقَالَ : (( عن واصل الأحدب )) وَقَدْ ذَكَرَ الإمام الدَّارَقُطْنِي ّ أنَّهُ من تصحيف السمع لا من تصحيف البصر قَالَ ابن الصَّلاَحِ : (( كأنه ذهب – والله أعلم – إلى أن ذَلِكَ مِمَّا لا يشتبه من حَيْثُ الكتابة ، وإنما أخطأ فِيْهِ سمع من رَوَاهُ )) (30) .
القسم الخامس : تصحيف اللفظ
ومثاله ما ورد عن الدَّارَقُطْنِي ّ : أن أبا بكر الصولي (31) أملى في الجامع حَدِيْث أبي أيوب : (( من صام رمضان وأتبعه ستّاً من شوال )) (32) ، فَقَالَ فِيْهِ : (( شيئاً )) – بالشين والياء – (33) .
قَالَ ابن الصَّلاَحِ : (( تصحيف اللفظ وَهُوَ الأكثر )) (34) .
القسم السادس : تصحيف المعنى دون اللفظ :
مثاله: قَوْل مُحَمَّد بن المثنى (35): (( نحن قوم لنا شرف، نحن من عَنَزة )) (36) قَالَ ابن الصَّلاَحِ : (( يريد ما روي : (( أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم صلى إلى عنـزة )) (37) فتوهم أنه صلى إلى قبيلتهم ، وإنما العنـزة هاهنا حربة نصبت بَيْنَ يديه فصلى إليها )) (38) .