قال الشيخ / عبدالعزيز بن إبراهيم الخضير في كتابه فضل التبكير:
- فضل التبكير إلى الجمعة
في سنن النسائي والترمذي والدارمي ومسند أحمد من طريق يحيى بن الحارث عن أبي الأشعث الصنعاني عن أَوْسُ بْنُ أَوْسٍ الثَّقَفِيُّt قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَقُولُ:" مَنْ غَسَّلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْتَسَلَ ثُمَّ بَكَّرَ وَابْتَكَرَ وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ وَدَنَا مِنْ الْإِمَامِ فَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ عَمَلُ سَنَةٍ أَجْرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا".
أخرجه النسائي (3/95) ، والترمذي (496) ، والدارمي (1/1511)، وأحمد في "مسنده" (4/8).
ورواه أيضاً أبو داود (345)، وابن ماجه (1087)، وأحمد في مسنده (4/8) من طريق الأوزاعي عن حسان بن عطية عن أبي الأشعث الصنعاني عن أوس بن أوس الثقفي .
قلت : وقد صححه الأوزاعي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وابن السكن وعبد الحق الإشبيلي والألباني, ورجاله كلهم ثقات، رجال مسلم؛ غير محمد بن حاتم الجرجرائي وهو ثقة, وأبو الأشعث الصنعاني: اسمه شراحيل بن آدَةَ، وهو ثقة كما في"التقريب " وثقه العجلي وابن حبان، واحتج به مسلم، وأخرج له البخاري في"الأدب المفرد".
وحسنه الترمذي والطبراني والبغوي والعراقي وابن المنذر والعلوان.
وفي المرقاة قال الإمام النووي : إسناده جيد نقله ميرك . وقال بعض الأئمة : لم نسمع في
الشريعة حديثاً صحيحاً مشتملاً على مثل هذا الثواب, انتهى .
([1]) انظر : زاد المعاد (1/385).
شرح هذا الحديث:
قوله : ( غسل واغتسل ) : قال الإمام ابن القيم ([1]): قال الإمام أحمد : غسل ، بالتشديد، جامع أهله، وكذلك فسره وكيع . وقيل غسل رأسه وخصه بالغاية، ثم غسل سائر جسده، وهذا أصح ما قيل عند العلماء، في معنى الحديث.
قوله : (وبكر وابتكر) : أي سارع في الذهاب والتقدم وذهب مبكراً جداً.
قوله : (وابتكر) : هذا تأكيد للمبادرة إلى المسجد.
قوله : ( ومشى ولم يركب) : حيث لو مشى بعضاً وركب بعضاً لم يحصل له الأجر ، لابد أن يذهب راجلاً وإن كان المسجد بعيداً، وإن رجع راكباً فلا يمنع هذا حصول الأجر.
قوله : (ودنا من الإمام) : أي لو أتى مبكراً وتعمد الجلوس في مؤخرة الصفوف بلا عذر لربما فاته هذا الأجر العظيم .
قوله : ( ولم يلغُ ) : قال الأزهري : معناه استمع الخطبة ولم يشتغل بغيرها . وقال النووي : معناه لم يتكلم ، لأن الكلام حال الخطبة لغو .
قوله : ( واستمع ) : أي الخطبة .
قوله : ( وأنصت ) : أي فرغ قلبه عن الشواغل فاعتنى بما يقوله الإمام.
قوله : ( بكل خطوة ) : بفتح الخاء وتضم ، أي بكل موضع قدم يخطو به إلى المسجد.
قوله : ( صيامها وقيامها ) : الضمير في ذلك عائد على السَّنَة، والتقدير أي له أجر صيام وقيام سنة كاملة، ذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء .
تنبيه :
تكلم في هذا الحديث بعض العلماء من جهة متنه باعتبار أنه ثواب كبير في عمل قليل ، وهذا في الحقيقة ليس علة من كل وجه فالجواب على ذلك منوجهين :
الوجه الأول : أن هذا العمل ليس قليلاً بل هو عمل كبير والدليل على هذا واقع الناس أنهم لا يعملون به دل على أنه عمل كبير وليس بقليل.
الوجه الثاني : أن الأحاديث لا تضعف من مناط كون الثواب كبيراً والعمل قليلاً لأن فيه أقل من هذا العمل وأكثر ثواباً منه ، كما في صحيح مسلم من حديث كريب عن ابن عباس عن جويرية أن النبي خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال: ما زلت على الحال التي فارقتك عليها قالت: نعم ، قال النبي : " لقد قلت بعدكِ أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلتِ منذ اليوم لوزنتهن : سبحان اللَّه وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته ".
أخرجه مسلم (4905)، والنسائي (1335) ، وأبو داود (1285)، والترمذي (3478) وقال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح.
**وقد حكى عن بعض السلف أنه قال : " هذا الذكر " فرأى الملائكة في المنام بعد بضع عشرة سنة، فقالت: له الملائكة لا زلنا نكتب حسناتك منذ ذلك اليوم. لأنه قُبل عمله ، وتأمل سيكتبون إلى أن تقوم الساعة لأنه قال: " ومداد كلماته" هل لكلمات اللَّه منتهى؟!
قال الله تعالى: )قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي
وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً [الكهف / 109]. الآية.
* ومما يستفاد من هذا الوقت :
1 - المسارعة إلى الطاعات ، قال تعالى: ) وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ( [طه : 84].
2 - احتساب الوقت والخطى عند اللَّه تعالى .
3 - انتظار الصلاة .
4 - أداء النوافل .
5 - تلاوة القرآن .
6 - الذكر .
إلى غير ذلك من أعمال البر التي يمكن أن يقوم بها العبد في مثل هذا الوقت الطويل.
متى يبدأ الذهاب إلى الجمعة
في الصحيحين من طريق مالك عن سمى مولى أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي صالح عن أبي هريرة t أن رسول اللَّه r قال : " من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ، ثم راح [في الساعة الأولى ] ([2]) فكأنما قرب بدنه ، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر"([3]).
وعند النسائي وأبي داود من طريق ابن وهب عن عمرو ابن الحارث عن الجُلاح أن أبا سلمة بن عبد الرحمن حدثه عن جابر t قال: قال r : "يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة ، لا يوجد فيها عبد مسلم يسأل اللَّه شيئاً إلا آتاه إياه، فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر" ([4])
وقال الإمام الدارقطني : عن الجلاح لا بأس به وقال يزيد بن أبي حبيب: كان رضى وذكره ابن حبان في الثقات ، وقال ابن عبدالبر: الجلاح أبو كثير يقال : أنه مولى عمر بن عبدالعزيز ، وهو مصري تابعي ثقة ، توفي سنة 120هـ . انظر : تهذيب التهذيب 2/126.
قال السيوطي في شرح الحديث: " الساعة فيه محمولة على الساعة النجومية قطعاً ، وعلى هذا فوقت خروج الإمام يكون في الساعة السادسة (شاذة).. إلخ"([5]) ([6]) .
ونقل الأمام القرطبي عن سائر العلماء: أنها الساعات الزمانية الإثني عشرة ساعة المستوية أو المختلفة بحسب زيادة النهار ونقصانه([7]) :
قال ابن العربي : وهو أصح ، لحديث ابن عمر : ما كانوا يقيلون ولا يتغدون إلا بعد الجمعة لكثرة البكور إليها، ولكن إذا أردنا أن نحسب اليوم الذي هو اثنتا عشرة ساعة ، فهل يبدأ من طلوع الفجر ، أم طلوع الشمس؟
وقال ابن السكيت: "وأول النهار من طلوع الشمس ولا يعد ما قبل ذلك من النهار " .
وقال الخليل : " من الفجر إلى غروب الشمس " ([8]) .
وهذا ما يؤيده الزمخشري في تفسيره نقلاً عن الإمام البغوي : " إن الطرقات في أيام السلف وقت السحر وبعد الفجر مغتصة بالمبكرين إلى الجمعة يمشون بالسرج"([9]) .
قال الإمام النووي رحمه اللَّه اتفق أصحابنا - أي الشافعية - وغيرهم على استحباب التبكير إلى الجمعة في الساعة الأولى للحديث السابق، وفيما يعتبر منه الساعات ثلاثة أوجه :
الأول : الصحيح عند المصنف والأكثرين من طلوع الفجر.
الثاني : من طلوع الشمس ، وبه قطع المصنف في التنبيه.
الثالث : أن الساعات هنا لحظات لطيفة بعد الزوال ، واختاره القاضي حسين وإمام الحرمين وغيرهما من الخراسانيين، وهو مذهب مالك " .
ثم قال : " .. والصواب أن الساعات من أول النهار وأنه يستحب التبكير من أول النهار ، وبهذا قال جمهور العلماء ، وحكاه القاضي عياض عن الشافعي ... وأكثر العلماء ودليله أن النبي r أخبر أن الملائكة يكتبون من جاء في الساعة الأولى والثانية والثالثة والرابعة والخامسة، فإذا خرج الإمام طووا الصحف ولا يكتبون بعد ذلك أحداً، ومعلوم أن النبي r كان يخرج إلى الجمعة متصلاً بالزوال وكذلك جميع الأئمة في جميع الأمصار ، وذلك بعد انقضاء الساعة الخامسة، فدل على أنه لا شيء من الهدى والفضيلة لمن جاء بعد الزوال ولا يكتب له شيء أصلاً، لأنه جاء بعد طي الصحف " ا.هـ.
([1]) انظر : زاد المعاد (1/385).
([2]) عند مالك في "الموطأ" (209)، وعند مسلم والنسائي "مثل المهجِّر".
([3]) أخرجه البخاري (الفتح) 2/366 ، ومسلم (85) ، ومالك 1/101.
([4]) أخرجه النسائي 3/99، وأبو داود (1048).
([5]) انظر : شرح سنن النسائي 3/99.
([6]) الحديث جاء في الصحيحين بدون ذكر الساعة السادسة، فهي شاذة.
([7]) انظر : تفسير القرطبي 18/86.
([8]) انظر : طرح التثريب 3/171.
([9]) انظر : الكشاف للزمخشري 4/104.