باسم الله الرحمان الرحيم.
تشكراتي القلبية
دب العياء في جسم الفتى وألح عليه النوم الذي ظل يداعب أجفانه منذ وطأت قدماه درجالحافلة. استوى على المقعد الخلفي جهة اليمين مما يلي النافذة، ودس رأسه بين ذراعيهالمتشابكتين معتمدا على ظهر المقعد أمامه. بدا وكأنه في سبات عميق من دون أن يأبهلأزيز المحرك المتواصل ولا لهذه الحرارة المفرطة التي تكاد تخنق الأنفاس، أنفاس كتلمن البشر أضناهم طول الرحلة فأخذ منهم التعب كل مأخذ، وغسل صبيب العرق وجوههموأعناقهم. ساد المكان صمت رهيب كصمت المقابر كسره صوت محتد ندَ عن رضيع في حضنامرأة، ما فتئت رغم سطوة الحر تهدهده في رفق وتلقمه حلمة ثديها محاولة تهدئتهوإجبار خاطره. لم يجد ذلك فتيلا، توالى صياح الرضيع دون انقطاع حتى ضج منه شيخ قابعفي مقعد خلف المرأة يسار الحافلة. بدا الانزعاج مرسوما على جبهته المربدة، انتفض منمكانه مستشيطا غضبا معتمدا على كتف شاب يجاوره فسدد إلى ظهر المرأة لكزة مدوية ثمطفق يلوح بيمناه في عصبية لاغطا بلهجة مغربية ملتوية: "أطبقي بكفك على فمه أو القيبه من النافذة فتريحينا من صخبه المزعج!" كذلك قصف المرأة بنيران لسانه البغيضواستوي على مقعده وفرائصه ترتجف من هرم لائكا بصوت مبحوح: "الويل لهذا المغربالسائب.. سبع وثلاثون سنة من عمر هذه الحضارة التي ما فتئت تطرق أبوابهم بلا جدوى.. وحوش قذرون.." طن هذا القذف في أذن الفتى طنينا كاد يمزق طبلتها ويخترق جدارها. كانفي ذروة أحلامه محلقا في أجواء تلك الربوع التي ودعها بجسمه دون روحه، وكيف لا وقدنسج على بساطها أحلى لياليه، وفضاؤها الذي يعبق بأريج الذكريات لا يزال يداعبخواطره ويستفز جوارحه. فمن معين تلك الربوع نهل ومن زلال منابعها ابتلت عروقه، ولمتكن المتاعب التي تقاذفته رياحها الهوجاء لتثنيه عن عزمه أو تفل من شعاع ضميره، بلظل صامدا قوي الشكيمة جلدا صلب العزيمة. ما يزال يجتر ذكرياته بتلذذ لولا زعيق هذاالخنزير الأجلف الذي آذى منه السمع على حين غرة لينكأ بتوجهه العنصري البغيض جراحالم تندمل. لقد فطن لمصدر الصوت وصاحبه وأدرك بما جبل عليه من سرعة بديهة وسلامة حسما يرمي إليه ذلك الشيخ الناقم الذي حقن المرأة بسم لسانه. رفع الفتى رأسه من بينذراعيه وأداره يسرة صوب الرجل فرمقه بنظرات وشت بما يعتمل في صدره من حيرة وغضب. طرق خاطره فصل من حديث الذكريات مع ميسيو ريز أستاذ الرياضيات بثانوية المولى إدريسحيث درس الفتى . وعلى الرغم من سلاطة لسان المدرس لم يكن الفتى الوسيم يتوانى فياستفزازه بشجاعة استفزازا جر عليه جملة من متاعب.. راح يجتر جانبا من هذه الخواطربقلب حسير ونفس جريحة وعيناه الطافحتان بشرارة الغضب لم تبرحا الشيخ الغاضب ولالسانه كف عن تأنيبه في صمت: "أنت وميسيو ريز من فصيلة واحدة.. كلاكما فرع من شجرةخبيثة، ولئن شق اجتثاثها من تحت الأرض فمناشيرنا جاهزة في درب صفيفح بفاس وحومةسيدي بوكيل بقصبة تادلة لفصلها من الساق" ثم التفت صوب أم الرضيع: لا عليك أيتهاالمسكينة، فلن تغفر وداعتك وضعفك لهذا الوحش جبروته وركوب رأسه. ثم ابتلع ريقه ومدد رأسه إلى خلف متنهدا في أسف عميق. كان الشاب الجالس يمين الشيخيتابع حركات الفتى ويتفرس في عينيه الشاخصتين بكثير من الاهتمام وكأنه يستطلع ماتنطق به حالهما من انفعال يتأجج في النفس كاللظى. لقد ظل يساير أطوار الحادث الذياستهدف المرأة ولم يحرك ساكنا ولا أبدى امتعاضا حين رأى الحمامة تذل وتهان بغيرجريرة. كان جل همه أن يجيل بصره بين المرأة المنكل بها وبين الفتى يتجرع زعاف ماعاين وسمع، وأكثر ما هاله من أمره ذلك التنهد الصاعد من الأعماق كحمم بركان، وسرعانما افتر فوه عن ابتسامة تحمل أكثر من معنى حين رآه يستسلم لغفوة ألمت به. وبعدهنيهة انفرجت عينا الفتى على إيقاع يد تربت على كتفه فارتسم على وجهه بعض الانفعالوهو يحملق في الرجل المنتصب أمامه كالسارية، وكانت الحافلة قد توقفت عند مشارفمدينة خنيفرة لطارئ. قال الرجل وقد اعتمد بيمناه على ركيزة من حديد:
ـ معذرةسيدي إذا كنت قد عكرت عليك الصفو بالإجهاز على أحلامك وإيقاف لذيذ نومك..
لميطمئن الفتى للرجل يختال في بزة زرقاء ازدانت بأزرار ونياشين نحاسية، ومن حزامهالجلدي يتدلى مسدس لف في غشاء. كان في حدود الثلاثين من عمره، طويلا في غير إفراط،ذا جسم ضامر تضيء في وجهه عينان خضراوان. لم يعرف الفتى أي تيار جارف ألقى به فيغياهب عالم من الأوهام، ولكن سرعان ما جنح بخياله هاتكا حجب تلك الأوهام، محلقا فيأجواء أنفس الذكريات، فراح يستعيد أطوار آخر نشاط له في جامع القرويين توج به زادانفيسا ما يزال مختزنا في وجدانه، تذكر مشاركته بالأمس في التجمع الاحتجاجي الذينظمه أساتذة القرويين وطلبتهم إحياء للذكرى السادسة لإبعاد ثلة من رموز الوطنيةوإجلائهم عن وطنهم.وتذكر كيف كان في مقدمة السيل العارم مرفوعا على سواعد المحتجينالذين ارتفعت حناجرهم بالتهليل والتكبير. والحق إن اليوم كان مشهودا جسد فيه حضورهكل مقومات الشخصية الفذة التي صقلت مواهبها في رحاب ثانوية مولى إدريس وجامعةالقرويين. انتابه هاجس سرى في جسمه كالتيار لما استحضر جملة من الشعارات المناوئةلسلطة الحماية القائمة، وكان لا يتورع في ترديدها غير مبال بالعيون المنبثة هنالك،بيد أن ما جبل عليه من جرأة وتحد وما عهد فيه من رباطة جأش، كل ذلك أملى عليه أنيتمالك نفسه في مثل هذه الظروف الحساسة. نفض عن كاهله غبار الأوهام وما أوحت به منمعاناة في الأقبية المعتمة ومكاتب الاستنطاق، واستبعد أن يكون مستهدفا فرد علىموقظه ومزعج أحلامه:
ـ كيف يتسنى للنوم أن يطيب والأحلام أن تلذ داخل هذا الحمامالساخن؟ أما أحرجك العرق يغسل وجهك وسائر بدنك؟
صدرت عن الرجل ابتسامة تمج سخريةوتقطر استعلاء، إذ لمس في كلام الفتى بعض التحدي لسلطته والتطاول على شخصه، لكنه لميجد من عزاء يعيد إليه اعتباره سوى أن رد في لهجة مستخفة تضمر سخطا وتبرما:
ـعلى أي فهذه بلادكم وأنت مواليها.. حرارة ملهبة صيفا وبرد قارص شتاء..
تعمدالفتى أن يجاريه فأجاب على التو مصعدا من لهجته:
ـ ومن أرغمكم على البقاء فيهايا هذا؟ نحن هنا وأنتم هنالك فيما وراء البحر! أليس البحر يحجز بيننا وبينكم؟
لميستطب الضابط هذه الجرأة الموسومة بالتحدي لأنها روعت نفسه كالصاعقة، ورام التظاهربشيء من الهدوء تخالطه استهانة فطلب منه ما يثبت هويته من وثائق...
كان الفتى فيشغل شاغل غير عابئ بالضابط يتفحص الوثيقتين، إذ سرعان ما سرح ببصره عبر زجاجالنافذة يتملى في رحاب هذا العالم الرحب الذي لا تحده العين؛ فهذه النجود تجللهاأشجار البلوط ونبات الحلفاء والسدر، وهذه الوهاد المحصنة بعواتي الصخور انبثت فيهاالآجام التي اتخذت منها الأسد عرانين تأوي إليها، وجعلت منها الذئاب والثعالب جحوراتهرع إليها. سكنت الحركة وساد منطق الهدوء حتى الطيور التي كانت تصدح في أول النهاراحتمت في أوكارها اتقاء حمَارة القيظ، ولم يعد يسمع من الأصوات إلا أزيز بعضالحشرات الذي يزداد حدة كلما احتد الهجير. ظل الفتى في أوج التملي بروعة ها المشهديغمر سائر وجدانه حين بادر الضابط مستفسرا عما يعنيه الاسم المثبت على ظهر بطاقةالتعريف! أدار الفتى رأسه على مهل صوب الرجل في استهانة دلت عليها حركات عينيهالشاخصتين المستفسرتين في رزانة كأنما يقول له: لم أفهم قصدك! ثم خاطبهمتسائلا:
ـ لم تجشم نفسك عناء البحث عن طبيعة الاسم؟
أجاب ساخرا
ـ لأنه بدا لي غريبا وغير مألوف في أوساطكم كأحمد والعربي!
أبدى الفتى انشراحا ورد مستنكرا:
ـ وما وجه الغرابة في "بدر" ألا يعني ذلك الكوكب الذي يشع بنوره في هذه الأرجاء فيبدد ظلمات الليالي الداجية؟ (وهو يشير ببنانه إلى ما وراء النافذة)
قال الدركي وهو يلامس شاربه الكث:
ـ اسمك يعني القمر إذن؟ (ثم واصل وعيناه تجوسان في الوثيقة الثانية) لو تفضلت بفك هذه الرموز المستعصية!
أجاب بدر من دون مبالاة بالرجل يعيد إليه الوثيقة:
ـ إنها شهادة تقدير من إدارة القرويين!
ندت عن الضابط ابتسامة باهتة لم تنفرج لها شفتاه وقال:
ـ وما شأنك أنت والقرويين؟ ألست طالبا بثانوية مولاي إدريس كما هو مثبت على ظهر بطاقتك؟ على أي لم تتعب نفسك وتحملها ما لا يطاق؟
ـ كيف ينال مني التعب في تلك الأجواء التي تسخو وتجود؟
وتساءل الضابط باستغراب:
ـ تسخو وتجود؟ بماذا؟