الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد
فقد اطلعت على فتوى للشيخ فريد الأنصاري _تغمده الله بواسع رحمته_ بخصوص التأمين الصحي حيث قال بجوازه مستدلا بحديث الأشعريين الذي رواه البخاري رحمه الله في صحيحه، لكن في المقابل قرأت كلاما نفيسا للدكتور سعد بن حمدان اللحياني يبين من خلاله أن الحديث لا يمكن نصبه دليلا على الجواز لوجود فوارق بين الحالتين ( حالة الأشعريين والتأمين الذي نحن بصدده )
والمسألة كماهو معلوم خلافية لكن القائلين بعدم الجواز حجتهم أقوى في ذلك باعتبار أن عنصر الغرر أصيل فيه.
أنقل هنا لحضارتكم كلام الدكتور سعد بن حمدان اللحياني ثم أدعوا مشايخنا الكرام وإخواننا طلاب العلم خصوصا الذين لهم عناية و اهتمام بالاقتصاد الإسلامي لإثراء هذا الموضوع من خلال نقولهم وتوجيهاتم .
جامعة الملك عبدالعزيز كلية الاقتصاد والإدارة
مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي
ندوة حوار الأربعاء بعنوان :
هل يصلح دليلاً لجواز التأمين ؟
يعرضه: د. سعد بن حمدان اللحياني
جامعة أم القرى– مكة المكرمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين. وبعد..
من المعلوم أن من جملة ما استدل به المجيزون للتأمين التعاوني حديث الأشعريين وأحاديث أخرى تدور في معنى حديث الأشعريين، ورأوا أن صورة التعاون في حديث الأشعريين تماثل صورة التعاون في التأمين المعاصر. وهذه الورقة محاولة لمناقشة مدى صحة الاستدلال بحديث الأشعريين على جواز التأمين التعاوني، انطلاقا من فرضية منطقية معلومة أنه إذا كان هناك فوارق مؤثرة بين صورة التأمين التعاوني وصورة حديث الأشعريين فإن الاستدلال بهذا الحديث يظل محل نظر، أما إذا لم يكن هناك فوارق، أو إذا كانت الفوارق الموجودة غير مؤثرة فيمكن القول بصحة الاستدلال بهذا الحديث لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الأشعريين في تصرفهم بل امتدحهم وأثنى عليهم.
وحديث الأشعريين رواه أبو موسى قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم ". رواه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الشركة، باب الشركة في الطعام والنِّهد والعُروض، ورواه أيضا الإمام مسلم باللفظ نفسه في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل الأشعريين رضي الله عنهم. ومن الأحاديث المتصلة بهذا الحديث حديث أبي عبيدة، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا قِبَل الساحل، فأمَّر عليهم أبا عبيدة بن الجراح، وهم ثلاثمائة، وأنا فيهم، فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد، فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش فجُمع ذلك كله فكان مِزودي تمر، فكان يقوتنا كل يوم قليلا قليلا حتى فني، فلم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة، فقلت: وما يغني تمرة ؟ قال: لقد وجدنا فقدها حين فنيت. قال: ثم انتهينا إلى البحر فإذا حوت مثل الظَّرِب، فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة.... الحديث. رواه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الشركة، باب الشركة في الطعام والنِّهد والعُروض، ورواه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الصيد، باب إباحة ميتات البحر.
قال ابن حجر: قوله: [(إذا أرملوا) أي فني زادهم , وأصله من الرمل كأنهم لصقوا بالرمل من القلة كما قيل في (ذا متربة). قوله: (فهم مني وأنا منهم) أي هم متصلون بي ,... وقيل: المراد فعلوا فعلي في هذه المواساة. وقال النووي: معناه المبالغة في اتحاد طريقهما واتفاقهما في طاعة الله تعالى. وفي الحديث فضيلة عظيمة للأشعريين قبيلة أبي موسى , وتحديث الرجل بمناقبه، وجواز هبة المجهول, وفضيلة الإيثار والمواساة , واستحباب خلط الزاد في السفر وفي الإقامة أيضا. والله أعلم.] . وقال النووي: (في هذا الحديث فضيلة الأشعريين , وفضيلة الإيثار والمواساة , وفضيلة خلط الأزواد في السفر , وفضيلة جمعها في شيء عند قلتها في الحضر , ثم يقسم , وليس المراد بهذا القسمة المعروفة في كتب الفقه بشروطها , ومنعها في الربويات , واشتراط المواساة وغيرها , وإنما المراد هنا إباحة بعضهم بعضا ومواساتهم بالموجود). وقال الإمام أبو العباس أحمد بن عمر القرطبي: (هذا الحديث يدل على أن الغالب على الأشعريين الإيثار والمواساة عند الحاجة). وقال القاضي عياض: (في هذا الحديث فضل المواساة والسماحة وأنها كانت خلق نبينا صلى الله عليه وسلم وخلق صدر هذه الأمة وأشراف الناس).
وجوه الشبه والاختلاف بين التأمين وقصة الأشعريين
يعرف التأمين بأنه (عقد يلتزم المؤمن بمقتضاه أن يؤدي إلى المؤمن له أو إلى المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه مبلغا من المال أو إيرادا مرتبا أو أي عوض مالي آخر في حالة وقوع الحادث أو تحقق الخطر المبيَّن في العقد وذلك في نظير قسط أو أية دفعة مالية أخرى يؤديها المؤمن له للمؤمن). ومن أبرز شروط الخطر المؤمَّن منه أن يكون احتماليا غير محقق الوقوع إما مطلقا أو خلال فترة معينة (أي إما أن ذات الوقوع غير محقق أو أن وقت الوقوع غير محقق وإن كان الخطر محقق الوقوع في ذاته). ومن لوازم احتمالية الخطر أن لا يكون الخطر متعلقا بمحض إرادة أحد الطرفين إذ لو كان كذلك لفقد صفة الاحتمالية. وعادة ما يميز – كما هو معلوم - بين التأمين التجاري من جهة، وهو الذي يكون فيه شخصية المؤمِّن غير شخصية المستأمن (المؤمَّن له)، حيث يكون المؤمِّن شركة أو مؤسسة تجارية تهدف إلى تحقيق الربح من خلال كونها هي المؤمِّن لمجموعة أشخاص لا تربطهم علاقة ببعضهم، والتأمين التعاوني من جهة أخرى، وهو الذي يكون فيه المؤمِّنون هم المستأمنون (المؤمَّن لهم) ولا يهدفون إلى تحقيق ربح بل يهدفون إلى تعويض من يصيبه الخطر منهم. فيدفع كل منهم قسطا (اشتراكا) وتخصص حصيلة الاشتراكات لتعويض من يصيبه الخطر منهم، وما يزيد عن الاشتراكات يعاد للأعضاء وما ينقص يطالبون به أو تنقص التعويضات بقدر العجز. فالتأمين التجاري أغلب العلماء على تحريمه وأجازه البعض، أما التأمين التعاوني فالأغلب على جوازه وحرمه البعض. ولقد استدل – كما قد سبق - كثير ممن أجاز التأمين التعاوني بحديث الأشعريين السابق، فما وجوه الشبه والافتراق بين صورة قصة الأشعرين وصورة التأمين التعاوني.
إن وجه الشبه الذي قد يقال أنه في كلتا الصورتين يدفع الشخص شيئا ولا يعلم ما يعود عليه، ففي التأمين التعاوني يدفع الشخص الأقساط ولا يعلم هل يحصل على تعويض أو لا يحصل لأن ذلك مرتبط بحصول خطر احتمالي، قد يقع وقد لا يقع، وكذلك في قصة الأشعريين يأتي الشخص بما عنده ولا يعلم مقدار ما يأتي به الآخرون ويحصل على متوسط القسمة الذي قد يكون أكثر أو أقل أو مساويا لما جاء به. لكن هناك فروقا بين قصة الأشعريين والتأمين التعاوني تحتاج إلى مناقشة هل هي فروق مؤثرة تجعل الاستدلال بقصة الأشعريين غير صحيح أم ليست فروقا مؤثرة ؟
فمن أوجه الاختلاف التي يمكن أن تذكر أن قصة الأشعريين حالة خاصة استثنائية مرتبطة بوقت الشدة وقلة الطعام أو السفر (إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة). وهذا مختلف عن إقرار التأمين كحالة عامة في جميع الحالات والظروف.
ومن أوجه الاختلاف التي يمكن أن تذكر أن الفرق بين ما يدفع الشخص وما يأخذه شيء يسير في العادة وهو مما يتسامح فيه، ولذلك علل البهوتي في كشاف القناع جواز المناهدة بجريان العادة بالمسامحة في ذلك، حيث قال: (ولا بأس بالنِّهدة بكسر النون وهو المناهدة في السفر فعله الصالحون كان الحسن إذا سافر ألقى معهم ويزيد أيضا بعدما يلقي وفيه أيضا رفق، ومعناه أي النهد أن يخرج كل واحد من الرفقة شيئا من النفقة يدفعونه إلى رجل منهم ينفق عليهم ويأكلون منه جميعا ولو أكل بعضهم أكثر من بعض لجريان العادة بالمسامحة في مثل ذلك). وهذا يختلف عن حالات التأمين التي قد يصل الفرق بين ما يدفعه الشخص وما يأخذه إلى ملايين الريالات.
ومن أوجه الاختلاف أن كل شخص في قصة الأشعريين سيأخذ متوسط المجموع (اقتسموه بينهم في أناء واحد بالسوية) حتى من لم يكن لديه شيء يأتي به (لم يشارك)، فالقسمة في حديث الأشعريين بالسوية، وهذا يعني أن كل شخص سيحصل على المتوسط، وهذا يختلف عن التأمين الذي يرتبط حصول الشخص على التعويض بحدوث الخطر الذي هو احتمالي قد يحدث وقد لا يحدث، وهذا يجعل التأمين يختلف عن قصة الأشعريين، فالتأمين فيه صورة المعاوضة (أعوضك في حالة حصول الخطر لك بجزء من مالي بشرط أن تعوضني إذا حصل لي الخطر بجزء من مالك)، وكل شخص في عقد التأمين لا تطيب نفسه بالأقساط التي دفعها أو بجزء منها لأي أحد إلا مقابل احتمال حصوله على تعويض من الآخرين في حال تعرضه للخطر المؤمن منه، ولو قيل لأي شخص في عقد التأمين أن ما دفعته هو تبرع لمن يصيبه الخطر من الآخرين بدون مقابل لك لما رضي، بل إذا حصل له الخطر ولم يعوض فإنه يقيم الدعوى على شركة التأمين، أما في قصة الأشعريين فليس هناك معاوضة بل هناك تبرع واضح ممن لديه الكثير لمن لديه القليل، فكل شخص يريد أن يتبرع بفضل زاده حتى لا يبقى لأحد على أحد فضل زاد (يتساوون). إن قصة الأشعريين فيها تبرع محض، وما جمع الأزواد وقسمتها إلا طريقة لتيسير المواساة لا أكثر، ولا يمكن أن تكون قصة الأشعرين معاوضة أو مبادلة، لأنه لو كان فيها معاوضة (والمعاوضة قائمة على المشاحة) لما أتى كل شخص إلا بأقل القليل (بل ربما لا يأتي أحد بشيء) ليحصل على المتوسط بأقل كلفة (أو بلا كلفة)، ولظهر ما يشبه ما يعرف في المالية العامة بالمنتفع المجاني الذي يريد الحصول على الخدمة العامة دون أن يشارك في تمويلها فلا يُفصح عن رغبته فيها. إن حصول القسمة بالسوية يجعل الأمر تبرعا محضا من صاحب الفضل لغيره، ولذلك ذكر شراح الحديث كما سبق أن قصة الأشعريين تدل على فضيلة الإيثار والمواساة (لأن كل شخص جاء طائعا بما لديه ليعطى الفضل - إن كان في ماله فضل – لغيره)، وهذا خلاف التأمين الذي يرتبط فيه حصول مبلغ التأمين بحدوث خطر احتمالي قد يحدث وقد لا يحدث، أي إنه بالنظر لعموم المستأمنين فإن بعضهم (من يحصل له الخطر الاحتمالي) فقط سيحصل على التعويض.
إن الفروق السابقة تبدو فروقا مؤثرة تجعل الاستدلال بحديث الأشعريين على جواز التأمين التعاوني محل نظر، والله أعلم.
الأربعاء 18/5/1427هـ د. سعد بن حمدان اللحياني 14/6/2006م