إثبات الصفات لله تعالى التي جاءت بها الكتاب والسنة على ما يليق بالله جل وعلا، ليس تشبيهاً ولا تكييفاً ولا يستلزم شيئاً من ذلك، كما سبق تقريره في الفصل السابق، وإنما التشبيه عند السلف: هو إثبات الصفات لله وادعاء مماثلتها لصفة المخلوق، وهذا هو قول المشبهة الذين يجعلون صفات الله كصفات خلقه، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.بيان حقيقة التشبيه المنفي في صفات الله عند السلف
قال تعالى: {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء} المائدة64.
فبين الله في هذه الآية أن اليهود شبهوا صفة الله بصفة خلقه، فوصفوا يده بالنقص والعيب الذي تتصف به يد المخلوق، ثم نزه نفسه عن ذلك، وبين كماله جل وعلا وأن يديه مبسوطتان بالعطاء والخير. ولم ينف الله جل وعلا عن نفسه صفة اليد، وإنما بين كمال صفته في مقابل نقص صفة المخلوق.
وإليك بعض نصوص أئمة السنة في بيان حقيقة التشبيه المنفي عن الله:
~ الإمام الحافظ ابن راهويه إسحاق بن إبراهيم الحنظلي (238 هـ)
روى الترمذي في سننه حديث النبي r: "إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره حتى أن اللقمة لتصير مثل أحد وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل :{ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات} التوبة104، و{يمحق الله الربا ويربي الصدقات} البقرة276".
ثم قال: (هذا حديث حسن صحيح، وقد رُوي عن عائشة عن النبي r نحو هذا. وقد قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبه هذا من الروايات من الصفات، ونزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، قالوا: قد تثبت الروايات في هذا ويُؤمن بها، ولا يتوهم، ولا يقال كيف؟ هكذا رُوي عن مالك وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك أنهم قالوا في هذه الأحاديث: أمروها بلا كيف، وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة، وأما الجهمية فأنكرت هذه الروايات، وقالوا: هذا تشبيه، وقد ذكر الله عز وجل في غير موضع من كتابه اليد والسمع والبصر، فتأولت الجهمية هذه الآيات ففسروها على غير ما فسر أهل العلم، وقالوا إن الله لم يخلق آدم بيده، وقالوا إن معنى اليد ها هنا القوة، وقال إسحاق بن إبراهيم: إنما يكون التشبيه إذا قال يد كيد أو مثل يد، أو سمع كسمع أو مثل سمع، فإذا قال سمع كسمع أو مثل سمع فهذا التشبيه، وأما إذا قال كما قال الله تعالى يد وسمع وبصر، ولا يقول كيف؟ ولا يقول مثل سمع ولا كسمع فهذا لا يكون تشبيهاً، وهو كما قال الله تعالى في كتابه: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} الشورى11)[1] اهـ.
~ إمام أهل السنة أحمد بن حنبل (241 هـ)
قال حنبل: سمعت أبا عبد الله يقول: (نعبد الله بصفاته كما وصف به نفسه، قد أجمل الصفة لنفسه، ولا نتعدى القرآن والحديث، فنقول كما قال ونصفه كما وصف نفسه، ولا نتعدى ذلك.
نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه، ولا نزيل عنه تعالى ذكره صفة من صفاته شناعة شنعت، ولا نزيل ما وصف به نفسه من كلام، ونزول، وخلوه بعبده يوم القيامة، ووضع كنفه عليه، هذا كله يدل على أن الله يُرى في الآخرة، والتحديد في هذا بدعة، والتسليم لله بأمره، ولم يزل الله متكلماً عالماً غفوراً، عالم الغيب والشهادة، عالم الغيوب، فهذه صفات الله وصف بها نفسه لا تُدفع ولا تُرد.
وقال: {لا إله إلا هو الحي والقيوم} البقرة255، {لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر} الحشر23، هذه صفات الله وأسماؤه، وهو على العرش بلا حد.
وقال: {ثم استوى على العرش} الأعراف54، كيف شاء، المشيئة إليه والاستطاعة.
{ليس كمثله شيء} كما وصف نفسه سميع بصير بلا حد ولا تقدير.
قلت لأبي عبد الله: والمشبهة ما يقولون؟
قال: بصر كبصري، ويد كيدي، وقدم كقدمي، فقد شبه الله بخلقه، وهذا كلام سوء، والكلام في هذا لا أحبه.)[2] اهـ.
وهذا كما ترى صريح في أن إثبات الصفات لله ليس تشبيهاً، وإنما التشبيه قياسها بالمخلوق. وفيه إثبات أيضاً إثبات اتصاف الله تعالى بالقَدَم واليد، وأن هذا لا يستلزم تشبيهاً.
~ أبو زرعة الرازي عبيد الله بن عبد الكريم القرشى المخزومى (264 هـ)
سئل أبو زرعة الرازي عن قول الله عز وجل: {تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك} المائدة116؟
قال: (لا يقال نفس كنفس لأنه كفر، وقال: {لما خلقت بيدي} ص75، أن الله عز وجل خلق آدم بيده، ولا يقال: يد مثل يد ولا يد كيد لأنه كفر، ولكن نؤمن بهذا كله. وسئل أبو زرعة: أيجوز أن يقال للرب عز وجل يدين ورجلين، قال: يقال كما جاء في الخبر وهكذا ما جاء في الأخبار مثل هذا. وسئل عن حديث ابن عباس (الكرسي موضع القدمين) فقال: صحيح، ولا نفسر، نقول كما جاء وكما هو في الحديث..)[3] اهـ.
~ إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة (311 هـ)
قال في بيان جهل المعطلة بمعنى التشبيه: (الجهمية المعطلة جاهلون بالتشبيه نحن نقول: لله جل وعلا يدان كما أعلمنا الخالق البارئ في محكم تنزيله، وعلى لسان نبيه المصطفى r، ونقول: كلتا يدي ربنا عز وجل يمين، على ما أخبر النبي r، ونقول: إن الله عز وجل يقبض الأرض جميعاً بإحدى يديه، ويطوي السماء بيده الأخرى، وكلتا يديه يمين، لا شمال فيهما، ونقول: من كان من بني آدم سليم الأعضاء والأركان، مستوي التركيب، لا نقص في يديه، أقوى بني آدم، وأشدهم بطشاً له يدان عاجز عن أن يقبض على قدر أقل من شعرة واحدة، من جزء من أجزاء كثيرة، على أرض واحدة من سبع أرضين .... – إلى أن قال: فكيف يكون - يا ذوي الحجا - من وصف يد خالقه بما بينا من القوة والأيدي، ووصف يد المخلوقين بالضعف والعجز مشبهاً يد الخالق بيد المخلوقين؟..)[4] اهـ.
~ إبراهيم بن أحمد بن عمر أبو إسحاق بن شاقلا الحنبلي (369 هـ)
قال في مناظرته في مسائل الصفات مع أبي سليمان الدمشقي الذي كان على مذهب ابن كلاب: (فقال لي: أنتم المشبهة. فقلت: حاشا لله، المشبه الذي يقول: وجه كوجهي، ويد كيدي، فأما نحن فنقول: له وجه كما أثبت لنفسه وجهاً، وله يد كما أثبت لنفسه يداً، وليس كمثله شئ وهو السميع البصير ومن قال هذا فقد سلم.)[5] اهـ.
خلاصة الفصل:
أولاً: أن إثبات الصفات على ظاهرها ليس تشبيهاً عند السلف، وإنما التشبيه أن تُجعل صفة الله كصفة المخلوق، فيُقال: وجه الله كوجه المخلوق، أو على صفة كذا، ونزول الله كنزول المخلوق، أو على صفة كذا وكذا، ونحو ذلك.
ثانياً: أن من علامات المعطلة والمعتزلة ومن نحا نحوهم تسمية كل من أثبت الصفات لله تعالى على ظاهرها مع نفي مماثلتها لصفة المخلوق، أنهم مشبهة.
ثالثاً: تبين جهل الأشعريّيْن بمذهب السلف، وبطلان ما ادعياه وافترياه حيث زعما: أن من أثبت الصفات لله تعالى مع نفي التشبيه والمماثلة، هو في حقيقته مشبه ولكنه يدلس.
فقد قالا مستدلين بكلام أبي القاسم القشيري (ص174): (وقال الإمام أبو القاسم القشيري رحمه الله تعالى: ..... وسر الأمر أن هؤلاء الذين يمتنعون عن التأويل – أي تأويل صفات الله – معتقدون حقيقة التشبيه غير أنهم يدلسون ويقولون: له يد لا كالأيدي، وقدم لا كالأقدام، واستواء بالذات لا كما نعقل فيما بيننا ....) اهـ.
وهذا كلام غاية في الخطورة والمجازفة، إذ أنه يستلزم أن جميع السلف مشبهة في الحقيقة، ولكنهم يدلسون!!! نعوذ بالله من الخذلان.
وقالا (ص192): (إلا أنهم يجهلون أن إثبات الحقائق اللغوية المعهودة والظاهر المتبادرة من المتشابه يستلزم إثبات ما قد نفوه وأجمعت الأمة على نفيه وعلى تنزيه الله تعالى عنه وهو الحد والتحيز والجسمية ونحوها، وكونهم لا يقرون بهذه اللوازم أمرٌ لا يُقضى منه العجب، لأن إثبات الملزوم وهو المعنى الظاهر هنا ثم نفي اللازم وهو الجسمية ونحوها لا يُعقل لأنه لازم لا ينفك) اهـ.
من كتاب الأشاعرة في ميزان أهل السنة للشيخ فيصل بن قزار الجاسم
[1]سنن الترمذي (3/50).
[2]الإبانة لابن بطة (3/326).
[3]التوحيد (3/309).
[4]كتاب التوحيد (83-85).
[5]طبقات الحنابلة (2/135).