الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ،
أما بعد :
فإن كتاب [ فقه الجهاد دراسة مقارنة لأحكامه وفلسفته في ضوء القرآن والسنة ] تأليف الشيخ الدكتور : يوسف بن عبدالله القرضاوي ، جاء حافلًا بكثير من مسائل الجهاد قديمها وحديثها ، التي اصطبغت بنزعة الشيخ في عامة كتبه حيث إنه ينفض الغبار عن كثير من الأقوال التي دفنت بموت أصحابها ، ولم يبق لها ذكر في العالمين ، أو زبر في سطور المؤلفين ، اعتمادا منه على كلام لبعض أهل العلم في جواز الأخذ بفتاوى الصحابة والتابعين مطلقا بعد دروس عهدهم وانقضاء عصرهم ، ومجيء عصر التدوين المذهبي للمسائل تأصيلًا وتفريعًا وتخريجًا وتقعيدًا ونقلًا وإحالةً .
ومن المقرر عند من له دراية بمذاهب العلماء أن مجرد الاعتماد على أقوال الصحابة والتابعين في الفتيا سبيل وعر وطريق خطر لا يحسنه إلا من أحاط بأحوالهم وعرف قرائن أحكامهم ، وهذا محال في العصور الغابرة والقرون المتأخرة ، ومن رام تسهيل ذلك المعترك - بالاعتماد على المصنفات كمصنف عبد الرزاق الصنعاني ومصنف ابن أبي شيبة أو أمهات الفقه كالتمهيد والمحلى والمغني والمجموع – فقد يسرا عسيرا وجوز ممتنعا .
ولقد أكثر الأئمة ذمًا لمن خرج عن الأئمة الأربعة ، كما في رسالة الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة للعلامة المحقق والفهامة المدقق ابن رجب الحنبلي ، وكلامهم في ابن حزم – رحمه الله - مشهور حتى قال سليل أئمة التاريخ العلامة ابن خلدون في مقدمته الشهيرة (ص 256) : " وربما يعكف كثير من الطالبين، ممن تكلف بانتحال مذهبهم، على تلك الكتب، يروم أخذ فقههم منها ومذهبهم، فلا يحلو بطائل، ويصير إلى مخالفة الجمهور وإنكارهم عليه. وربما عد بهذه النحلة من أهل البدع بتلقيه العلم من الكتب، من غير مفتاح المعلمين.
وقد فعل ذلك ابن حزم بالأندلس، على علو رتبته في حفظ الحديث، وصار إلى مذهب أهل الظاهر، ومهر فيه، باجتهاد زعمه في أقوالهم. وخالف إمامهم داود وتعرض للكثير من أئمة المسلمين، فنقم الناس ذلك عليه، وأوسعوا مذهبه استهجاناً وإنكاراً، وتلقوا كتبه بالإغفال والترك، حتى إنها يحظر بيعها بالأسواق، وربما تمزق في بعض الأحيان ".
ولست أرمي من خلال هذا الكلم إلى الخلود للتقليد والركون عليه ؛ وذلك أنه – تقريري - في مقام التعامل مع الأقوال المنقولة عن أئمة الفقه والفتيا ، ولا يطرد هذا مع ثبوت دليل سالم من المعارضة لمتأخر على متقدم – مع ندرته – فإنه يسوغ العمل به عند طائفة من أهل الحديث ، وإن كانت هذه الأخيرة قد تأتي بالعجائب والغرائب ..
وإنما أردت أن أبين خطر طائفة من المشتغلين بالفقه في زماننا في تعرضهم لمذاهب العلماء السابقين لعصر التدوين دون تمحيص أو تدقيق أو تحرير ، وإنما ليوافق بعضًا من مقاصدهم وشيئًا من طريقتهم في التجديد والاجتهاد الحادثين.
، ومن خلال قراءتي لهذا السفر العظيم الذي بلغ عدد صفحاته ستا وأربعين ومئتين بعد الألف – خلا فهارسه وكشافاته – بدا لي أن أقوم بدراسة لحظية دقيقة لمسائل الكتاب ، خاصةً وأنني رأيت الشيخ قد وقع في جملة من الأخطاء العلمية التي يجب بيانها ، فخشيت أن تمرر على كثير من المثقفين والدارسين لما للشيخ من ثقة علمية أعمت أبصارهم عن المثول إلا عن قوله والصدور إلا عن رأيه .
ولعل أول ملاحظة لحظتها على هذا الكتاب دون غيره أن المؤلف وسم فيها بـ ( الإمام ) ، وهذه سابقة – لم أرها – موسومة إلا على هذا الكتاب ، وهذا يثير فضول الكثير في معرفة سبب اختصاص الكتاب بهذا اللقب دون غيره ، ولا يستريب عاقل بأن الإمامة في الدين مرتبة عظيمة ومنقبة سامية ، وهي مع ذلك صيغة مدح لم يعرف عن أحد من العلماء أنه تسمى بها من قبل نفسه !!
بل رأيت الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله – يستكثر ذا اللقب على علماء عاملين ما لو قرنوا بعلماء الوقت لكانوا عالة عليهم ، حيث قال متعقبًا الحجاوي في قوله الإمام الموفق – يقصد ابن قدامة -:" قوله: «الإمام» ، هذا من باب التَّساهل بعض الشيءِ، لأن الموفَّق ليس كالإِمام أحمد، أو الشَّافعي، أو مالك، أو أبي حنيفة، لكنه إِمام مقيَّد، له مَنْ يَنْصُرُ أقوالَه ويأخذُ بها، فيكون إِماماً بهذا الاعتبار، أما الإِمامةُ التي مثل إِمامة الإِمام أحمد ومَنْ أشْبَهَهُ فإِنَّه لم يصلْ إلى دَرجتها.
وقد كَثُر في الوقت الأخير إطلاق الإمام عند النَّاس؛ حتى إِنه يكون الملقَّب بها من أدنى أهل العلم، وهذا أمرٌ لو كان لا يتعدَّى اللفظَ لكان هيِّناً، لكنه يتعدَّى إلى المعنى؛ لأنَّ الإِنسان إِذا رأى هذا يُوصفُ بالإِمام تكون أقوالُه عنده قدوة؛ مع أنَّه لا يستحِقُّ. وهذا كقولهم الآن لكل مَنْ قُتِلَ في معركة: إِنَّه شهيد. وهذا حرام، فلا يجوز أن يُشْهَدَ لكل شخصٍ بعينه بالشَّهادة، وقد بَوَّبَ البخاريُّ رحمه الله على هذه المسألة بقوله: (بابٌ: لا يقول: فلانٌ شهيدٌ، وقال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «واللَّهُ أعلمُ بمن يُجاهدُ في سبيله، والله أعلم بمن يُكْلَمُ في سبيله» .
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه نهى عن ذلك .
نعم يقال: من قُتِل في سبيل الله فهو شهيد، ومن قُتِل بهدمٍ، أو غرق فهو شهيد، لكن لا يُشْهَدُ لرَجُلٍ بعينه.
ولو أنَّنَا سوَّغنا لأنفسنا هذا الأمر؛ لساغَ لنا أن نشهد للرَّجُلِ المعيَّن الذي مات على الإِيمان أنَّه في الجنَّة؛ لأنَّه مؤمنٌ، وهذا لا يجوز". [ الشرح الممتع ج1 ص11 ]
يتبع إن شاء الله
[ مناقشة القرضاوي في اعتراضه على ابن النحاس في رده على من قال بسنية الجهاد]