يا قارئي أنت صديقي ...
فدعني أرق على يديك هذه العبرات الباقية !
هذا ولدي ، رُزقتُه على حال عابسة كاليأس ، وكهولة باقية كالهرم ، وحياة باردة كالموت ،
فأشرق في نفسي إشراق الأمل ، وأورق في عودي إيراق الربيع ، وولد في حياتي العقيمة معاني الجدة والاستمرار والخلود !
كنت في طريق الحياة كالشارد الهيمان ، أنشد الراحة ولا أجد الظل ، وأفيض الحب ولا أجد الحبيب ، وألبس الناس ولا أجد الأنس ، وأكسب المال ولا أجد السعادة ، وأعالج العيش ولا أدري الغاية !!
كنت كالصوت الأصم لا يرجعه صدى ، والروح الحائر لا يقره هدى ، والمعنى المبهم لا يحدده خاطر !!
كنت كالآلة نتجتها آلة واستهلكها عمل ، فهي تخدم غيرها بالتسخير ، وتميت نفسها بالدءوب ، ولا تحفظ نوعها بالولادة ،
فكان يصلني بالماضي أبي ، ويمسكني بالحاضر أجلي ، ثم لا يربطني بالمستقبل رابط من أمل أو ولد .
فلما جاءني ( رجاء ) وجدتني أولد فيه من جديد ، فأنا أنظر إلى الدنيا بعين الخيال ، وأبسم إلى الوجود بثغر الأطفال ، وأضطرب في الحياة اضطراب الحي الكامل يدفعه من ورائه طمع ، ويجذبه من أمامه طموح !
شعرت بالدم الحار يتدفق نشيطاً في جسمي ، وبالأمل القوي ينبعث جديداً في نفسي ، وبالمرح الفتي يضج لاهياً في حياتي ، وبالعيش الكئيب تتراقص على حواشيه الخضر عرائس المنى !
فأنا ألعب مع رجاء بلعبه ، وأتحدث إلى رجاء بلغته ، وأتبع عقلي هوى رجاء ...
فأدخل معه دخول البراءة في كل ملهى ، وأطير به طيران الفراشة في كل روض ،
ثم لم يعد العمل الذي أعمله جديراً بعزمي ، ولا الجهد الذي أبذله كفاء لغايتي ، فضاعفت السعي ، وتجاهلت النصب ، وتناسيت المرض ، وطلبت النجاح في كل وجه !
ذلك لأن الصبي الذكي الجميل أطال حياتي بحياته ، ووسع وجودي بوجوده ، فكان عمري يغوص في طوايا العدم قليلاً قليلاً ليمده عمره بالبقاء ، كما يغوص أصل الشجرة في الأرض ليمد فروعها بالغذاء .
شغل رجاء فراغي كله ، وملأ وجودي كله ، حتى أصبح شغلي ووجودي ! فهو صغيراً أنا ، وأنا كبيراً هو ، يأكل فأشبع ويشرب فأرتوي ، وينام فأستريح ، ويحلم فتسبح روحي وروحه في إشراق سماوي من الغبطة لا يوصف ولا يحد !!
ما هذا الضياء الذي يشع في نظراتي ؟ ما هذا الرجاء الذي يشيع في بسماتي ؟ ما هذا الرضا الذي يغمر نفسي ؟ ما هذا النعيم الذي يملأ شعوري ؟ ذلك كله انعكاس حياة على حياة ، وتدفق روح في روح ، وتأثير ولد في والد !!
ثم انقضت تلك السنوات الأربع ! فصوحت الواحة وأوحش الفقر ، وانطفأت الومضة وأغطش الليل ، وتبدد الحلم وتهجم الواقع ، وأخفق الطب ومات رجاء !!
يا جبار السماوات والأرض رحماك !!
أفي مثل خفقة الوسنان تبدل الدنيا غير الدنيا ، فيعود النعيم شقاء والملاء خلاء والأمل ذكرى ؟!
أفي مثل تحية العجلان يصمت الروض الغرد ، ويسكن البيت اللاعب ، ويقبح الوجود الجميل !!
حنانيك يا لطيف !
ما هذا اللهيب الغريب الذي يهب على غشاء الصدر ومراق البطن فيرمض الحشا ويذيب لفائف القلب ؟
اللهم هذا القضاء فأين اللطف ؟
وهذا البلاء فأين الصبر ؟
وهذا العدل فأين الرحمة ؟
إن قلبي ينزف من عيني عبرات بعضها صامت وبعض معول !
فهل لبيان الدمع ترجمان ،
وهل لعويل الثاكل ألحان ؟
إن اللغة كون محدود فهل تترجم اللانهاية ؟
وإن الآلة عصب مكدود فهل تعزف الضرم الواري ؟
إن من يعرف حالي قبل رجاء وحالي معه يعرف حالي بعده !
أشهد لقد جزعت عليه جزعاً لم يغن فيه عزاء ولا عظة ! كنت أنفر ممن يعزيني عنه لأنه يهينه ، وأسكن إلى من يباكيني عليه لأنه يكبره ، وأستريح إلى النادبات يندبن الكبد الذي مات والأمل الذي فات والملك الذي رفع !
لم يكن رجاء طفلاً عادياً حتى أملك الصبر عنه وأطيع السلوان فيه ،
إنما كان صورة الخيال الشاعر ورغبة القلب المشوق !
كان هو في سنه التي تراها يعرف أوضاع الأدب ، ويدرك أسرار الجمال ، ويفهم شؤون الأسرة ، ويؤلف لي ( الحواديت ) كلما ضمني إياه مجلس السمر !
كان يجعل نفسه دائماً بطل ( الحدوتة ) فهو يصرع الأسود التي هاجمت الناس من حديقة الحيوانات ، ويدفع ( العساكر ) عن التلاميذ في أيام المظاهرات ، ويجمع مساكين الحي في فناء الدار ليوزع عليهم ما صاده ببندقيته الصغيرة من مختلف الطير !
والهف نفسي عليه يوم تسلل إليه الحمام الراصد في وعكة قال الطبيب إنها البرد ، ثم أعلن بعد ثلاثة أيام انها ( الدفتيريا ) ! لقد عبث الداء الوبيل بجسمه النضر كما تعبث الريح السموم بالزهرة الغضة ! ولكن ذكاءه وجماله ولطفه ما برحت قوية ناصعة ، تصارع العدم بحيوية الطفولة ، وتحاج القدر في حكمة الحياة والموت !!
والهف نفسي عليه ساعة أخذته غصة الموت ، وأدركته شهقة الروح ، فصاح بملء فمه الجميل : ( بابا ! بابا ! ) كأنما ظن أباه يدفع عنه مالا يدفع عن نفسه !
لنا الله من قبلك ومن بعدك يا رجاء ، وللذين تطولوا بالمواساة فيك السلامة والبقاء !

يتبع ...