
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو قتيبة الدمجدي
وهنا فائدة ذكرها الشيخ ابن عثيمين
أن

ظلام

لا يجوز أن تكون صيغة مبالغة ؛ لأنه بذلك يصير المنفي كثرة الظلم دون قليله و ذلك لاينبغي في حق الله سبحانه و تعالى .
ذكر ذلك في شرحه على " المنتقى "
و نبه أن ذلك يغيب على الكثيرين من طلبة العلم .
هذا وجه في المسألة..
وفيها أوجه أخرى مبسوطة في كتب التفسير، وهذا بحيث صغير فيها مستل من رسالتي في الماجستير، ووضعه بين أيديكم فرصة لأنتفع بآرائكم واستدراكاتكم، فأنا بعيد عهد بالمسألة، وقد قصصت وألصقت النص كما هو:
نفي الأبلغ لا يقتضي نفي الذي دونه، فإذا عُدل عن الأصل، ونُفي الأبلغ مع انتفاء الأصل، فثمة أسرار وراء هذا الأسلوب، الذي ظاهره العدول عن مقتضى ظاهر الكلام، لكنه باستجلاء هذه الأسرار، وكشف خفيّها، يعود العدول عين البلاغة، ومقتضاها، وبدونه يفقد النص دلالاتٍ، لاغنى للمقام عنها، ومن أشهر شواهد ما نُفي مقيداً بصيغة المبالغة، مع أن أصله منفيٌ بلا شك: نفي الظلم- بصيغة المبالغة- عن الله تعالى، مع أنه سبحانه لا يظلم الناس شيئاً، بل قد نفى عن نفسه ظُلمَ مثقال الذرة، وهذا مما لا يحتاج إلى تقرير، فأي شيء وراء هذه المبالغة في الظلم المنفي عنه جلّ اسمه، يقول الله تعالى فيمن استحق عذابه)ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ( في موضعين([1]).ويقول جل شأنه)لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيق. ِذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ(([2]) ويقول )مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ(([3])ويقول)قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ. مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ(.([4])
وإذا ما تأملنا الآيات السابقة متصلةً بسياقها القرآني، نجدها تتفق جميعاً في أنها جاءت عقب ذكر العذاب، أو التهديد به. فآية آل عمران جاءت تعقيباً على التهديد الذي ذُيلت به مقالة اليهود الشنعاء في حق الله تعالى )لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ(وآية الأنفال جاءت عقب تهديد الكفار- حال احتضارهم- بما ينتظرهم من عذاب الحريق )وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ(وبقية الآيات كذلك، إلاّ آية فُصِّلت، فإنها جاءت في سياق تحميل العباد تبعات أعمالهم، وثمرات سعيهم خيراً أو شراً، فالسياقات متشابهةٌ بالعموم، متفقةٌ من جهات كان عليها مدار كلام المفسرين، حتى إنهم لربما لم يتكلموا في المسألة إلاّ في أحد المواضع واختصروه أو تجاوزوه في غيره، على أن تفصيل المقام قد يختلف، كما يتبين في كلام بعضهم لكنه اختلاف لا ينبني عليه كبير فرق فيما ذكروه من توجيهات والله أعلم.
والذي يُستشكل ظاهره في الآية هو أن "الظلاّم مبالغةٌ في الظالم، ويلزم من إثباته إثبات أصل الظلم، فإذا قال القائل هو كذّاب يلزم أن يكون كاذباً كَثُر كذبه، ولا يلزم من نفيه نفيُ أصل الكذب، لجواز أن يقال فلانٌ ليس بكذّاب كثيرِ الكذب؛ لكنه يكذب أحياناً، ففي قوله تعالى )وما أنا بظلاّم( لا يفهم منه نفي أصل الظلم فما الوجه فيه؟"([5]).
أو كما يقول ابن المنير "نفي الأدنى أبلغ من نفي الأعلى، فلم عُدل عن الأبلغ والمراد تنزيه الله تعالى، وهو جدير بالمبالغة"([6])، وعبارة الحلبي "لا يلزم منه نفيُ أصل الظلم، فإن نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم"([7]).
وعلى أن الطاهر ذكر بعض النكات في الآية، إلاّ أنه يستبعد الإشكال بقوله "ونفي ظلاّم – بصيغة المبالغة – لا يفيد إثبات ظُلمٍ غير قوي؛ لأن الصيغ لا مفاهيم لها، وجرت عادة العلماء أن يجيبوا..."([8]) ولكنه في موضع آخر يُصرح أن ظاهر الآية يوهم ما استُشكل، يقول " ... وليس هو مثل قوله تعالى )وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ(الموهم أن نفي قوّةِ الظلم لا يقتضي نفي قليل الظلم"([9]).
وحتى لو لم يفد السياق إثبات ظلم غير قوي، فإنه لا يُعدل عن نفي ما يستغرق كل أنواع الظلم إلى ما يَسكت عن بعضها؛ إلاّ لنكتة، بل نكات وأسرار، يفيض بها هذا السياق المحكم.
وقد أجاب الزمخشري([10]) عن هذا الإشكال بجوابين:
الأول: أنها للتكثير لأجل العبيد، من قولك هو ظالم لعبده، وظلام لعبيده. واختار هذا الوجه البيضاوي ولم يذكر غيره، وذكره كثيرٌ من العلماء وجهاً فيها. واستحسنه هو والذي يليه ابنُ المنير، وبه بدأ أبو حيان ونقله عنه الحلبي ([11]).
ولعل من قبيل هذا التوجيه قول امرئ القيس([12]):
وقد عَلِمتْ سلمى وإن كان بعلَها بأنَّ الفتى يهذِي وليس بفعّالِ
فإنه كثّر الفعل، ليناسب كثرة كلامه، وأنه يقول ما مقتضاه كثرة الفعل وتكراره، ولكنه لا يفعل، ولو حمل على نفي المبالغة دون الفعل، لذهب لذع التهكم منه.
والثاني: أنه إنما جيء بالمبالغة، لأن العذاب من العِظَم بحيث لولا الاستحقاق لكان المعذِبُ بمثله ظلاّماً، بليغ الظلم متفاقمه، وهذا القول نقله عنه الخويى وأوضحه بمزيد تفصيل لما اقتضاه سياق آية (ق) فقال "كأنه تعالى يقول: لو ظلمتُ عبدي الضعيف، الذي هو محل الرحمة، لكان ذلك غاية الظلم، وما أنا بذلك. فيلزم من نفي كونه ظلاّماً نفي كونه ظالماً، ويحقق هذا الوجه، إظهارُ لفظ العبيد، حيث يقول ما أنا بظلام للعبيد. أي في ذلك اليوم الذي امتلأت جهنم، مع سعتها، حتى تصيح وتقول: لم يبق لي طاقة بهم، ولم يبق فيّ موضع لهم، فهل من مزيد؟ استفهام استكثار، فذلك اليوم مع أني ألقي فيها عددا لا حصر له، لا أكون بسبب كثرة التعذيب، كثير الظلم، وهذا مناسبٌ، وذلك لأنه تعالى خصص النفي بالزمان، حيث قال: ما أنا بظلام يوم نقول... أي: وما أنا بظلام في جميع الأزمان أيضاً. وخصص بالعبيد حيث قال: وما أنا بظلام للعبيد. ولم يطلق فكذلك خصص النفي بنوع من أنواع الظلم، ولم يطلق، فلم يلزم منه أن يكون ظالماً في غير ذلك الوقت، وفي حق غير العبيد، وإن خصص، والفائدة في التخصيص، أنه أقرب إلى التصديق من التعميم"([13]).
ويضيف الآلوسي فائدةً في هذا الوجه، وهي أن هذا العذاب- الذي هو غاية الظلم إذا لم يتعلق بمستحقه- إذا صدر ممن هو أعدل العادلين، دلَّ على أنه استحق أشد العذاب؛ لأنه أشد المسيئين. قال في الكشف([14]): وهذا أوفق للطائف. اﻫ.([15]) فهو إشارةٌ بنفي المبالغة في الظلم- التي تناسب المبالغة في العذاب- إلى المبالغة في الإساءة، التي لأجلها كان استحقاقه لشدة العذاب غايةً في العدل والحكمة منه سبحانه.
وهذا الوجه استحسنه الشنقيطي، إذ المراد أن هذا العذاب فظيع هائل، لا يُقادر قدره، فلو وقع منه تعالى ظلماً، لكان مبالِغاً في غاية الظلم مبالَغةً عظيمة.([16])
ويستدل الآلوسي([17]) لهذا الوجه بالعطف قبله، ودخول )وَأَنّ اللهَ لَيسَ بِظَلاّمٍ لِلعَبِيدِ( تحت حكم باء السببية، وسببيته للعذاب من حيث أن نفي الظلم، يستلزم العدل المقتضى إثابة المحسن ومعاقبة المسيء([18])، قال: وإليه ذهب الفحول من المفسرين. وتعقبه مولانا شيخ الإسلام([19]) بأن ترك تعذيب مَن يستحق العذاب، ليس بظلم شرعاً ولا عقلاً، حتى ينتهض نفي الظلم سبباً للتعذيب. اﻫ.
وللخويى في المسألة وجهٌ ثالث، وهو أن "الظلام بمعنى الظالم، كالتمار بمعنى التامر، وحينئذ تكون اللام في قوله للعبيد لتحقيق النسبة، لأن الفعال حينئذ بمعنى ذي ظلم" ([20]). وهذا الوجه ثلَّث به ابنُ المنير وجهي الآية عند الزمخشري([21])، وذكره الحلبي فجعل الصيغة للنسب لا للمبالغة، كبزّار وعطّار وهو أحسن الأقوال عنده في المسألة ([22]).
وعليه اعتمد البقاعي في أكثر من موضع ([23])، وجعله الأصل في رفع ما يتوهم من إشكال في الآية، مع أنه لم يستبعد غيره من النكات المتقدمة، يقول بعد أن ذكر إحدى النكات في الآية "... هذا مع أن التعبير بها لا يضر، لأنها موضوعةٌ أيضاً للنسبة إلى أصل المعنى مطلقاً، ولأن نفي مطلق الظلم مصرحٌ به في آيات أخرى"([24]).
ومن هذا الوجه قول امرئ القيس([25]):
وليس بِذِي رُمْحٍ فيَطْعنَني به وليس بِذِي سَيْفٍ وليس بِنَبَّالِ
قال سيبويه "يريد وليس بذي نبل"([26]).
ولابن المنير وجهٌ رابع وهو "أن المنسوب في المعتاد إلى الملوك من الظلم تحت ملكهم، إن عظيماً فعظيم، وإن قليلاً فقليل، فلما كان ملك الله تعالى على كل شيء مَلكَه، قدس ذاته عن الظلم تحت شمول كل موجود"([27]).
وعليه يحمل ما نقله الآلوسي من "أن كل صفة له تعالى في أكمل المراتب، فلو كان تعالى ظالماً سبحانه، لكان ظلاّماً، فنفى اللازمَ لنفي الملزوم. واعترض بأنه لا يلزم من كونِ صفاته تعالى في أقصى مراتب الكمال، كون المفروض ثبوته كذلك، بل الأصل في صفات النقص على تقدير ثبوتها، أن تكون ناقصة، وأجيب بأنه إذا فرض ثبوت صفة له تعالى تفرض بما يلزمها من الكمال"([28]).
ويمكن أن يُجاب عمّا ذُكر من اعتراض بالتفريق بين صفات النقص، فمثل الظلم يصدق فيه ما قيل، لأنه وجوده يستلزم القوة والقهر والملك، وإنما انتفى لمخالفته العدل والرحمة والحكمة، فكان فرض الكمال فيه، لأجل كمال لوازمه، فلو وجد لكان هكذا. أما مثل النوم، فليس يحسن فيه مثل هذا، لأنه لا تتأتى معه الدلالة على كمالٍ آخر. والنسيان إنما حسنت المبالغة فيه منفياً، كما سيأتي، لتعلقه بالمعلوم كثرةً وقلة، فتحصل منه الإشارة إلى سعة العلم، لامتناع النسيان، مع كثرة متعلقاته لو وُجد. وهذا الوجه، قريب جداً من الوجه الأول، إلاَّ أن الأول أخص منه، لصرف المبالغة إلى الكثرة العددية، التي هي جزءٌ مما يشير إليه هذا الوجه، والله أعلم.
ويزيد أبو حيان وجهين([29]):
أولهما وهو خامس الأوجه في المسألة: أن (فعالاً) قد لا يراد به التكثيركقول طرفة([30]):
ولستُ بحلاّل التلاع لبيته ولكن متى يَسترفد القوم أَرفدِ
لا يريد هنا أنه قد يحل التلاع قليلاً، لأن ذلك يدفعه آخر البيت، الذي يدل على نفي البخل على كل حال، وأيضاً تمام المدح لا يحصل بإرادة الكثرة. وأحسب أن هذا الوجه والوجه الثالث متقاربان، وقد فرق بينهما الحلبي([31])، والمهم أنهما في حاجةٍ بعد تقريرهما، إلى بحثٍ عن الغرض الذي لأجله عُدل إلى هذه الصياغة، التي تحمل زيادة في المعنى.
أما الوجه السادس فهو: أنه إذا نفى الظلم الكثير انتفى القليل ضرورةً لأن الذي يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم. اﻫ.
ويضيف الآلوسي وجهاً غير ما تقدم: وهو السابع في المسألة: أن تعتبر المبالغة بعد النفي فيكون ذلك مبالغة في النفي لا نفياً للمبالغة. قال "واعترض بأن القيد في الآية، ليس مثل القيد المنفصل، الذي يجوز اعتبار تأخره وتقدمه، كما قالوه في القيود الواقعة مع النفي، وجعلُه قيداً في التقدير، وأنه بمعنى: ليس بذي ظلم عظيم، أو كثير، تكلفٌ لا نظير له"([32]).
وعلى أن الآلوسي لم يدفع هذا الاعتراض، إلا أنه اعتمد هذا القول في موضع آخر؛ ففي قوله تعالى )وَمَا كَانَ هَـذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ(([33])يقول "والظاهر عندي: أن المبالغة حينئذ راجعة إلى النفي، نظير ما قيل في قوله تعالى )وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ( لا أن النفي راجع إلى المبالغة كما لا يخفى"([34]).
وهذا الوجه جعله الطاهر مرةً مما جرت عادة العلماء أن يجيبوا به ([35])، وأخرى مما اعتاد جمع من المتأخرين. ثم عقّب بقوله "وهو بعيد" ([36]).
ولكن الطاهر قال به في غير هذا الموضع([37])، ولعل مرادهما منه حين أثبتاه، أن المبالغة حصلت مما أفاده نفي القيد مع انتفاء الأصل على اعتبار لزومه له، فصار كأنه نفيٌ مع البرهان، وهذا الوجه أظهر ما يكون في نفي الشيء بنفي ملزومه.
الثامن: قال البقاعي "ولعل حكمة التعبير بصيغة المبالغة، الإشارة إلى أنه لو تَرك الحُكْم، والأخذ للمظلوم من الظالم، لكان بليغ الظلم، من جهة ترك الحكمة التي هي وضع الأشياء في أتقن محالها، ثم من جهة وضع الشيء وهو العفو عن المسيء وترك الانتصار للمظلوم في غير موضعه، ومن جهة التسوية بين المحسن والمسيء، وذلك أشدُّ في تهديد الظالم، لأن الحكيم لا يخالف الحكمة، فكيف إذا كانت المخالفة في غاية البعد عنها"([38]). لكن هذا الوجه فيه شَبَهٌ من قول المعتزلة بإيجاب الثواب والعقاب على الله تعالى اللهُ عن ذلك علواً كبيراً.
وقد ذكر الطاهر وجهاً هو التاسع في المسألة وهو أن الظلم من حيث هو ظلم أمر شديد، فصيغت له زنة المبالغة، وكذلك التُزمت في ذكره حيثما وقع في القرآن اﻫ.([39])ومطلق الظلم لم يقتصر على زنة المبالغة، بل جاء على اسم الفاعل (ظالم) ومثلُ هذا لا يخفى على الطاهر، وعليه فلا نشك أنه أراد الظلم المنفي عن الله، وأنه لم يَرِد إلاّ هكذا، فيلحق هذا الوجه بالإشارة إلى شدة العذاب من جهة، وبالتناسب مع الملك والقهر من جهةٍ أخرى.
وهذه التوجيهات لا تستلزم الترجيح بينها، لأن النكات لا تتزاحم، لكنها تتفاوت قوةً واطراداً في القيد غيرِ المخصص، ولعله يغلبُ اطراد نكتتين منها في كثيرٍ من الشواهد:
الأولى: وضع القيد موضع اللازم للمقيد، حتى إن انتفاء القيد يستلزم انتفاء المقيد، وثبوته يستلزم ثبوته، وعلى هذا جعلُ الظلم متناسباً مع الملك قوةً وضعفاً، أو التكثير لأجل العبيد، أو أن جواز قليله مستلزم لبلوغ غايته فنفي الكثير مقتضٍ نفي أصله، فكلُّ هذا يجعل القيد لازماً للمقيد نفياً وإثباتاً، أو غالباً بحيث لا يُتصور بدونه فلذلك يُنزل منزلة اللازم.
الثانية: التعريض بمعنى غيرِ مصرّحٍ به، كالتعريض بما يقابله من الإثبات، وهو هنا تعريضٌ بشدة العذاب الذي لولا استحقاقه لكان إيقاعه غايةً في الظلم، وكذلك التعريض بمبالغة هذا المعذّب في الإساءة حتى أوهم جزاؤُه غايةَ الظلم.
وقد يكون التعريض بالمخاطب وهو ما يخرجه بعض المفسرين على اعتبار واقع المخاطب حال الخطاب، تشنيعاً لما كان منه، أو لما قد يقع، أو لخصوص الواقعة التي نزلت لأجلها الآية، ومجيء هذا في النهي كثيرٌ.
وهاتان النكتتان تتكرران مع القيد غيرِ المخصص، وقد تكون دلالة القيد في سياقٍ على واحدةٍ منهما فقط، كما أنه قد ترد معهما نكاتٌ أخرى، يحملها السياق كما مرّ في هذا الشاهد.
ومما نفي على المبالغة مع انتفاء أصله عن الله عز وجل: النسيان، يقول تعالى)وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا(([40])
جمهور المفسرين([41]) على أن سبب نزول الآية هو ما أخرجه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله r لجبريل: ما يمنعك أنتزورنا أكثر مما تزورنا فنزلت)وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ(([42]).
يقول الطاهر "(نسيا) صيغة مبالغة من نَسِيَ، أي كثير النسيان أو شديده، وقد فسروه هنا بتارك، أي ما كان ربك تاركاً".
وقد وجّه البقاعي([43]) المبالغة هنا ثلاثة توجيهات:
أولها: أن معناه أي ذا نسيان لشيء من الأشياء.
والثاني: أن يقال في التعبير بصيغة فعيل، أنه لا يتمكن العبد من الغيبة عن السيد بغير إذنه، إلا إن كان بحيث يمكن أن يغفل؛ وأن تطول غفلته وتعظم، لكونه مجبولاً عليها، فيكون نسياً.
والثالث: أنه لما استلبث الوحي في أمر أسئلة اليهود -الروح وما معها- فكان ذلك موهماً أنه نسيان، وكان مثل ذلك لا يفعله إلا كثير النسيان، نفى هذا الوهم بما اقتضاه من الصيغة ونفى قليلَ ذلكوكثيرَه في السورة التي بعدها، بقوله)لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى(([44]).
وهذا الوجه الأخير عبّر عنه الطاهر بأنالمبالغة منصرفة إلى طول مدة النسيان.
ثم ذكر الطاهر وجهاً آخر في المبالغة فقال "وفُسر بمعنى شديد النسيان، فيتعين صرف المبالغة إلى جانب نسبة نفي النسيان عن الله، أي تحقيق نفي النسيان، مثل المبالغة في قوله )وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ(فهو هنا كناية عن إحاطة علم الله" ([45]).
ولعله يصحُّ أن يقال في الآية مثل الذي قيل في قوله )وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ(من أن المعنى لو لم يكن المعاقب مستحقاً للعقوبة، لما كان المتوَعَد به ظلما بل غاية في الظلم، إما لشدته أو لاعتبار التَنَزُّهِ عنه في حق من لا يجوز عليه أبداً؛ وهنا كذلك لو لم ينزه سبحانه عن النسيان لكان نسياً، لتعلق علمه بالأشياءكلها، دقيقها وجليلها، فلا يخفى عليه شيء منها ولو دق، فسعة علمه لولم يمتنع معها أدنى النسيان للزم أبلغه، فلما نفى الأبلغ مع تقرر نفي الأدنى علم أنهما في حقه سواء من حيث الامتناع.
([1]) سورة آل عمران : 182، سورة الأنفال : 51 .
([2]) سورة الحج : 10 .
([3]) سورة فصلت : 46 .
([4]) سورة ق : 29 .
([5]) التفسير الكبير 28/147 .
([6]) الانتصاف 4/288 .
([7]) الدر المصون 3/516، 8/237، وينظر: أضواء البيان 5/43 .
([8]) التحرير و التنوير 10/42 .
([9]) المصدر السابق 17/272 .
([10]) الكشاف2/229، 4/288 .
([11]) ينظر: أنوار التنزيل 1/398، 2/86، البحر المحيط 3/131 ، الدر المصون 3/516 .
([12]) ديوانه ص34 .
([13]) التفسير الكبير 28/147 .
([14]) كثيراً ما يستعمل الآلوسي عبارة "قال في الكشف" أو "صاحب الكشف" ويكون للكلام المسوق بعدها علاقةٌ بكلام الزمخشري في الكشاف (ينظر: من روح المعاني: 2/133، 5/73، 142، 7/239، 9/79 وهي أكثر من أن تحصر) وللإمام عمر بن عبد الرحمن الفارسي القزويني المتوفى سنة 745ﻫ حاشيةٌ على الكشاف واسمها (الكشف) (كشف الظنون 2/1480، الأعلام 5/49) ومما يؤكد أنها هي: قول الآلوسي (9/32) بعد أن نقل كلام الزمخشري "وقال صاحب الكشف ... وفيه تعريض بشيخه الطيبي" . وقوله (14/92) "وقال في الكشف ... إشارة إلى الاعتراض على شيخه العلامة الطيبي" فإن عمر القزويني الفارسي من طلاب الطيبي، ولا يُعرف من طلابه غيره هو والخطيب التبريزي صاحب المشكاة، كما ذكره محقق فتوح الغيب في مقدمته (ص18). والزركليُّ في (الأعلام 5/196) كما يميّزُ محمد القزويني بصاحب التلخيص يميّز عمر القزويني بصاحب الكشف .
([15]) روح المعاني 10/18 .
([16]) العذب النمير 5/2008 .
([17]) روح المعاني 4/142 .
([18]) إيجاب ثواب المحسن وعقاب المسيء على الله تعالى، واعتبارُ تركِ تعذيب مستحق العذاب ظلماً؛ مذهبٌ فاسدٌ قالت به المعتزلة، وهو الأصل الثالث من أصولهم، ويسمونه: الوعد والوعيد. (ينظر: العتزلة وأصولهم الخمسة ص218) .
([19]) هو أبو السعود المفسر المتوفى سنة 951ﻫ ، والمنقول عنه في تفسيره (2/122). وكثيراً ما ينقل الآلوسي عنه بقوله "شيخ الإسلام" أو "مولانا شيخ الإسلام" وقد صرح به في مواضع (22/56، 26/99) أما التي لم يصرح فيها فقد راجعتُ بعضها وقارنتها بما في إرشاد العقل السليم فاتفق كلامه مع الذي نقله الآلوسي، وعليه فالذي يظهر لي أنه إذا أطلق هذا اللقب فالمراد أبو السعود، وإذا أراد به غيرَ أبي السعود نصّ على المقصود كما في المواضع (12/173، 15/320، 24/39، 18/192،23/194، 27/180) .
([20]) التفسير الكبير 28/148 .
([21]) الانتصاف 4/388 .
([22]) الدر المصون 3/516، 8/237 .
([23]) نظم الدرر 5/141، 8/302،13/16 .
([24])المصدر السابق 17/210 .
([25]) ديوانه ص33 .
([26]) الكتاب 3/383 .
([27]) الكشاف 4/288 .
([28]) روح المعاني 4/144 .
([29]) البحر المحيط 3/131 .
([30]) ديوانه ص28، والبيت من معلقته، وروايته في الديوان "ولست بمحلال" وفي الكتاب 3/78 "بحَلاَّلِ". والتلاع: مجاري الماء ينصبُّ في الوادي، تستر من نزل فيها، يقول: لا أنزلها مخافة أن يراني ابنُ السبيل والضيف، ولكنني أنزل الفضاء، وأرفد من يسترفدني (شرح القصائد السبع الطوال ص186) .
([31])الدر المصون 3/516 .
([32]) روح المعاني 17/123 .
([33]) سورة يونس : 37 .
([34]) روح المعاني 11/117 .
([35]) التحرير و التنوير 10/42 وممن وقفت على قوله بهذا التوجيه، في غير هذه الآية أبو السعود، ينظر: تفسيره: 6/108 .
([36]) التحرير و التنوير 17/210 .
([37]) التحرير و التنوير 16/140، 17/36 .
([38]) نظم الدرر 17/210 .
([39]) التحرير و التنوير 17/210 .
([40]) مريم : 64 .
([41]) التحرير و التنوير 16/140 .
([42]) صحيح البخاري برقم (4731) وينظر: أسباب النزول للواحدي ص347 ، والصحيح المسند من أسباب النزول للوادعي ص149 .
([43]) نظم الدرر 12/230 .
([44]) سورة طه : 52 .
([45]) التحرير و التنوير 16/140 .