بسم الله الرحمن الرحيم
الاجتهاد في الوقف :
ذكر أهل العلم في فن التجويد أن علم الوقف والابتداء اجتهادي لا توقيفي لأدلة ليس الموضع موضع بسطها وبيانها ،ولكن نشير هنا إشارات يستدل بها الحاذق البصير على ما سواه فنقول وبالله التوفيق :
اهتمام العلماء بعلم الوقف والابتداء :
المؤلفات والكتب المدونة في علم الوقف والابتداء كثيرة لا حصر لها ،والغالب منها مطبوع ولله والمنة ،منها على سبيل المثال لا الحصر
إيضاح الوقف والابتدا لابن الانباري ،والمكتفى في الوقف والابتدا في كتاب الله ،والوقف والابتداء في كتاب الله لأبي جعفر الكوفي ،وممن ألف فيه من المعاصرين الشيخ الحصري في كتابه معالم الاهتداء في معرفة الوقف والابتداء ،ومن يطالع هذه الكتب يجد عددا من الأمثلة تدل على ترابط هذا الفن الجليل بالتعليلات النحوية وبعلوم أخرى والتي يستنبط منها معاني جليلة ،وأسرار بليغة من كتاب الله ،مما يدل وبلا شك على اهتمام العلماء - بمختلف مشاربهم ومذاهبهم -بعلم الوقف والابتداء حتى قال أبو جعفر النحاس نقلا عن أبي بكر بن مجاهد :لا يقوم بالتمام ألا نحوي ،عالم بالقراءات ،عالم بالتفسير ،عالم بالقصص ،عالم باللغة التي نزل بها القران ) (القطع والائتناف 1-18)،ومما يدل على إن هذا العلم اجتهادي :
1-اختلافهم في تدقيق المصاحف وفي تحديد أماكن الوقف، وما ذاك إلا دليل على الأمر_ولكل من القولين رأيه وأدلته _وهو يرجع إلى أهل النظر والتقدير ،وممن له دراية بأوجه الإعراب ودلالاتها، وإلا فعند عدم ذلك يؤدي بالقارئ إلى الوقوع في معنى فاسد.
2- إن ممن نقل عنهم مثل هذه الاجتهادات في الوقف والابتداء لم يعب عليهم أحدا فيرد عليهم اجتهادهم هذا، أو يقول الوقف هنا ليس صحيحا ونحو ذلك .
ومن خلال المطالعة والبحث تبين أن من له الاجتهاد في الوقف والابتدا هم من توفرت فيهم الشروط التالية :
1-أن يكون من أهل النظر والتقدير،ومن بلغ من العلم غايته ،وقد ذكرنا كلام النحاس ففيه الغنية كما اشرنا .
2- أن يكون على دراية تامة بالنحو والإعراب، قال أبو بكر الانباري (اعلم انه لا يتم الوقف على المضاف دون ما أضيف إليه ،ولا على المنعوت دون النعت ،ولا على الرافع دون المرفوع ......) (إيضاح الوقف والابتداء 1-116) ،يقول الحصري رحمه الله بعد ان قسم الوقف أربعة أقسام ،ثم ذكر القسم الرابع وهو الوقف الاختياري( وهو الذي يغمد القارئ إليه بمحض اختياره وإرادته لملاحظة معنى الآيات وارتباط الجمل وموقع الكلمات ...)أحكام قراءة القران ص235.
3- أن يريد القارئ توضيح معنى أخذه عن شيخه وسمعه منه، وقد سمعت شيخي المقرئ محسن الطاروطي يقول :سمعت الشيخ الحصري يقرءا من سورة يوسف قوله تعالى (قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ (51)وقف في هذا الموضع ثم استأنف الكلام (الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) وكما تلاحظ فقد أفاد الوقف والاجتهاد فيه معنى جديدا، وهو مرتبط بعلم أعراب القران وسيأتي بيان الأمثلة على ذلك .
ضابط مهم :
وهذا ضابط ذكره العلماء وهو: أن لا يخرج هذا الاجتهاد عن رسم المصحف، وإلا فهو مردود ،ولو احتمالا ،جاء في مفتاح السعادة ما نصه : ( أن يراعى – المعرب –الرسم :ومن ثم خطئ من قال في ذلك سلسبيلا إنها جملة أمرية :إي سل طريقا موصلة إليها لأنها لو كانت كذالك كتبت مفصولة )مفتاح السعادة (2-419-420).وكذا قول من يقول أن قوله تعالى (‏‏إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ)ال اء اسم (إن )و(ذان لساحران) جملة خبر لان ،ولا تحتاج لرابط لأنها تفسيرية، والمعنى عنده واسروا النجوى قالوا: أنها إي: نجوانا هذان لساحران إي :قولنا :هذان لساحران، تثبيطا للناس عن إتباعهما)قال السيوطي في الرد على هذا التفسير وهو باطل برسم إن منفصلة وهذان متصلة )نفح الطيب (4-146).
الهامات الصوفية لا يحتج بها في هذا الباب :
ومن ذلك قوله تعالى (....وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( وقد شاع في لسان العامة أن قوله (اتقوا الله ويعلمكم الله) من الباب الأول حيث يستدلون بذلك على أن التقوى سبب تعليم الله و أكثر الفضلاء يطعنون في هذه الدلالة لأنه لم يربط الفعل الثاني بالأول ربط الجزاء بالشرط فلم يقل و اتقوا الله ويعلمكم ، ولا قال فيعلمكم وإنما أتى بواو العطف وليس من العطف ما يقتضي أن الأول سبب الثاني وقد يقال العطف قد يتضمن معنى الاقتران والتلازم كما يقال : زرني وأزورك ، و سلم علينا ونسلم عليك، و نحو ذلك مما يقتضي اقتران الفعلين و التفاوض من الطرفين كما لو قال لسيده : اعتقني ولك على ألف ، أو قالت المرأة لزوجها طلقني ولك ألف أو أخلعني ولك ألف فإن ذلك بمنزلة قولها بألف أو على ألف ، وكذلك أيضا لو قال أنت حر وعليك ألف ، أو أنت طالق وعليك ألف ، فإنه كقوله علي ألف أو بألف عند جمهور الفقهاء ، و الفرق بينهما قول شاذ ، ويقول أحد المتعاوضين للآخر : أعطيك هذا وآخذ هذا ونحو ذلك من العبارات فيقول الآخر نعم ، و إن لم يكن أحدهما هو السبب للآخر دون العكس فقوله ( واتقوا الله و يعلمكم الله) قد يكون من هذا الباب فكل من تعليم الرب وتقوى العبد يقارب الآخر ويلازمه و يقتضه ، فمتى علمه الله العلم النافع اقترن به التقوى بحسب ذلك ، و متى اتقاه زاده من العلم ، و هلم جرا ) المجموع18 لابن تيمية /177- 178.
وقال ابن القيم رحمه الله أيضا موافقا لشيخه رحمه الله ( وأما قوله تعالى(واتقوا الله ويعلمكم الله ) فليس من هذا البابِ بل هما جملتان مستقلتان طلبية وهي الأمر بالتقوى وخبرية وهي قوله تعالى (ويعلمكم الله) أي والله يعلمكم ما تتقون وليست جوابا للأمر بالتقوى ولو أريد بها الجزاء لأتى بها مجزومة مجردة عن الواو فكان يقول واتقوا الله يعلمكم أو إن تتقوه يعلمكم كما قال (إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ) فتدبره ).مفتاح دار السعادة 1/172-.


ومما بجدر الانتباه اليه في هذا القسم أن إشارات الصوفية وتفسيرهم للقران لا يعتمد قال في البرهان (أما قول الصوفية في القران فليس بتفسير )وقال بعضهم في حقائق التفسير لأبي عبد الرحمن السلمي (فيه كل شئ إلا التفسير ) البرهان للزركشي (2- 170)لان تفسيرهم لا ينبني على القواعد المقررة ،والأصول المعتبرة ،مثل الاعتماد على ما تقتضيه اللغة ومعانيها ،وما ينقل من التفسير بالمأثور عن السلف رضوان الله عليهم .


اثر النحو في تحديد مواضع الوقف :
كتب التجويد مليئة بمعلومات هامة عن باب الوقف وأنواعه ودرجاته وما إلى ذلك ،ألا إن علماء النحو والإعراب لهم باع أطول في باب الوقف والابتداء،حسب دلالة المعنى وتعدد وجوه الإعراب التي تأتي في سياق الآيات والسبب يرجع إلى :
1- كون كتاب الله هو المرجع في أبواب النحو فهو نزل بلسان العرب الفصحاء .
2- وأيضا شغفهم في تخريج الكثير من الوجوه الإعرابية -عند الاختلاف بين المدارس النحوية- من الآيات القرآنية للوصول إلى القول الراجح في مسائل النحو والإعراب ،واعتمادهم كثيرا ما يكون على كتاب الله ،بل قيل إن علم إعراب القران من مستمدات علم الوقوف ،وانه كما يتوقف إعراب القران على المعنى، وان المعنى يتوقف على الإعراب، فكذا إعراب القران يتوقف على علم الوقوف والابتداء ،ومن يطالع كتب القوم يجد الترابط الشديد بين الوقف والتعليلات النحوية كما اشرنا في البداية ،وغالبها جاء عن اجتهاد وإعمال النظر اللهم إلا الوقوف على رؤوس الآي فقد قالوا انه سنة سمعية على جهة العموم ،وبالجملة المقرئ والمفسر والنحوي لهم اجتهادات في هذا الفن، ولم يكن احدهم ليعيب على الأخر فيقول الوقف هنا توقيفي ،وهذه بعض الأمثلة في الاجتهاد في الوقف والابتدا منقولة من كتب أئمة النحو والتفسير :
- من الأمثلة الواضحة في تعليل الوقوف بالحكم النحوي قوله تعالى (...فلا رفثُُ ولا فسوقُ )بالرفع والتنوين فيهما :ابن كثير وأبو عمرو .والباقون :بفتح الثاء والقاف من غير تنوين )وأوضح الداني التعليل بقوله :فلا رفث ولا فسوق )كاف لمن قرائهما بالرفع والتنوين على معنى :وليس ونصب (ولا جدال )على التبرئة على معنى :ولاشك في الحج انه واجب في ذي الحجة ،وخبر ليس في الأولين مضمر بتقدير (فليس رفث ولا فسوق في الحج )ثم يكون (ولاجدال في الحج )مستأنفا في موضع رفع بالابتداء وخبره في المجرور)المكتفى ص182 .
ومن نصب الأسماء الثلاثة(فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ) لم يقف على ذلك لتعلق بعضه ببعض بالعطف (ولا جدال في الحج كاف على القراءتين )المصدر السابق.
- ومن الأمثلة قوله تعالى (ما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم ) فمن جعله منصوبا على الإغراء أو الاختصاص أو بفعل محذوف وقف على ما قبله وهو من حرج والتقدير ألزموا ملة أو اعني بالدين وملة أو اتبعوا ملة ومن جعله معمولا لما قبله منصوبا بمضمون الجملة قبله لم يقف على من حرج والتقدير وسع دينكم توسعة ملة أبيكم ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه )الإتقان 1-242.


اقتراح :
في كتب النحو مثل كتاب( مغني اللبيب)و(شرح ابن عقيل) ،وفي كتب التفسير مثل تفسير ابن كثير والقرطبي وغيره عشرات الأمثلة،فلو قام احد الباحثين ممن له اهتمام وتخصص في علوم القران بجمع اجتهادات علماء النحو والتفسير وغيرهم في باب الوقف والابتداء في كتاب مستقل لتحصل لنا جزءا كبيرا، يشتمل على ما دونه العلماء من أمثلة لينتفع منه من يعنيه الأمر ،يضاف إلى رصيد المكتبة الإسلامية ،ليكون مرجعا هاما في ذلك الباب، والبحث يحتاج إلى مزيد من التفصيل والتحقيق،ومن الله نستمد العون والسداد،ونعوذ به من كل خلل أو فساد، واليه المرجع يوم التناد ،اللهم من علينا من فضلك وجودك ياأكرم الأكرمين ....
البحث نشرته في بعض المنتديات القرانية ،والمرجو من وجد فيه الخلل ان لا يبخل عنا بنصحه ومشورته ،وليدخل الى نفوسنا بلطف ورفق ،فالنفس مجبولة على محبة هواها، وما كان الرفق في شئ الا زانه ،وفقني واياكم لما يحبه الله من الاقوال والاعمال الصالحة ظاهرا وباطنا .