من دلالة قوله تعالى {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ…}
محمد أبوبكر المصلح
في ختام تفسير الإمام ابن عاشور للآية ٩٤ من سورة النساء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}؛ تعمق الإمام في الدلالة الإشارية والفائدة التربوية المستفادة من قوله تعالى {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ…}، فقال:
“وزاد في التوبيخ قوله {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} أي كنتم كفارًا فدخلتم الإسلام بكلمة الإسلام، فلو أن أحدًا أبى أن يصدقكم في إسلامكم أكان يرضيكم ذلك. وهذه تربية عظيمة، وهي أن يستشعر الإنسان عند مؤاخذته غيره أحوالًا كان هو عليها تساوي أحوال من يؤاخذه، كمؤاخذة المعلم التلميذ بسوء إذا لم يقصر في إعمال جهده.
وكذلك هي عظة لمن يمتحنون طلبة العلم فيعتادون التشديد عليهم وتطلب عثراتهم، وكذلك ولاة الأمور وكبار الموظفين في معاملة من لنظرهم من صغار الموظفين، وكذلك الآباء مع أبنائهم إذا بلغت بهم الحماقة أن ينتهروهم على اللعب المعتاد أو على الضجر من الآلام.
وقد دلت الآية على حكمة عظيمة في حفظ الجامعة الدينية، وهي بث الثقة والأمان بين أفراد الأمة، وطرح ما من شأنه إدخال الشك لأنه إذا فتح هذا الباب عسر سده، وكما يتهم المتهم غيره فللغير أن يتهم من اتهمه، وبذلك ترتفع الثقة، ويسهل على ضعفاء الإيمان المروق، إذ قد أصبحت التهمة تطل الصادق والمنافق، وانظر معاملة النبيء – صلى الله عليه وسلم – المنافقين معاملة المسلمين.
على أن هذا الدين سريع السريان في القلوب فيكتفي أهله بدخول الداخلين فيه من غير مناقشة، إذ لا يلبثون أن يألفوه، وتخالط بشاشته قلوبهم، فهم يقتحمونه على شك وتردد فيصير إيمانًا راسخًا، ومما يعين على ذلك ثقة السابقين فيه باللاحقين بهم.
ومن أجل ذلك أعاد الله الأمر فقال {فَتَبَيَّنُوا} تأكيدًا لـ {تَبَيَّنُوا} المذكور قبله، وذيلّه بقوله {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} وهو يجمع وعيدًا ووعدًا”.