{ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين}.
الأخ الفاضل الحبيب / أبو المظفر.
حقيقة الأمر أنني على سفر وليس لدي كتب ولا وقت للمراجعة عند الكتابة، لكن من خلال إنكارك للقياس الذي تقول به جماهير العلماء، ونقلك لما نقلت عن عامر الشعبي رحمه الله ورضي عنه ، قام شبه يقين في نفسي أنه لا فائدة معك من النقاش في هذه القضية التي سرت فيها على ضرب الإمام أبي محمد بن حزم رحمه الله.
لكن يا أبا المظفر هب أن هذا الكلام من أبي محمد ومن قبله من الإمام الشعبي مغمور في بحور حسناتهما ومن كان على شاكلتهما، فما دفاعك أنت عن نفسك، أمام رب العالمين.
يا أخانا لم نخطئك في بيان خطأ من ذكرت وإنما خطأناك في جرأتك على أهل العلم ونسبتهم للغفلة - وليس للخطأ - في أمر كهذا، وكما أسلفتُ الكلام لا أرى فائدة من إدارة رحى الكلام معك في هذه النقطة فيبدو أنك فيها على مذهب الإمام العلم ابن حزم وليس تقليدك إياه وتلمسك خطاه في أمرٍ نعاه عليه جماهير علماء المسلمين بل نَفَر منه عامتُهم قبل الخاصة بنافعك شيئًا عند الله ، والله يتجاوز عنا وعنك وعن جميع المسلمين.
وأما المثال الذي نقلته أنا عن تفسير أبي الفداء ابن كثير فأنا علي يقين منه لكثرة مصاحبتي لهذا الكتاب وأنت تعلم أن أخاك ممن عالج العمل في تحقيقه ونشره فيما صدر عن مكتبة أولاد الشيخ بمصر منذ أعوام، وهذا أمر واضح بالاستقراء لمن له أدنى معرفة بطريقة ابن كثير رحمه الله في العزو في تفسيره، فلا أطيل فيه لوضوحه، وزيادة بيانه بالنسبة لك لا يحتاج منك إلى أكثر من تقليب عدة صفحات من هذا التفسير مع استصحاب ما ذكرته لك.
فسبب جزمي أن الحافظ ابن كثير رحمه الله نقل هذا من "تفسير الطبري" وليس من كتب الطيالسي إنما هو استقراء صنيعه رحمه الله في "تفسيره"، ولست أستبعد أن يكون للطيالسي كتب خرج فيها هذا الحديث ووقف عليها ابن كثير ، لكن هذا ظن مرجوح عندي بل يقارب عندي اليقين الذي لا شك فيه.
وأما بخصوص كلامك الأخير وهو أهم ما في الموضوع ، فأقول:
المشكلة الحقيقية أن بعض طلبة العلم ممن لم يزاحم العلماء ولم يتعلم من دلهم وسمتهم قبل منطقهم ومقالهم ويأخذ من أدبهم، بمجرد أن يجد الخطأ الصغير المحتمل عن إمام من الأئمة صاح به ورفع عقيرته واتهمه بالغفلة وعدم اليقظة وقلة الانتباه وأنه لم يكن مدققًا ولم يكن محررًا، وما ذلك إلا لصحفيته ونشأته على ما في كتب أبي محمد ابن حزم رحمه الله وعفا عنه، وما استن به فيه بعض طلبة العلم.
ولو أن هذه الشاكلة من طلبة العلم يسر الله لهم الإقامة مع عالم رباني لتعلم من سمته ودله وعرف لأهل العلم الكبار حرمتهم ومكانتهم.
والعزاء الوحيد للإنسان في هذا المضمار أن الأمر كما يقال دَيْنٌ، فمن اتخذ العلماء غرضًا ولو بقليل اللفظ والعبارة التي لا يلقي لها بالا ، يوشك أن يكون غرضًا فإن الجزاء من جنس العمل؛ فمن سمع سمَّع الله به، ومن هتك ستر أهل العلم هتك الله ستره، وفي الإشارة ما يغني، اللهم لا تجعلنا من الذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون.
وفي كلامك :
ولكن: لـمَّا استحكمت محبة الناس الزائدة - يعني العلماء - وأقوالهم ومنازلهم في صدور البعض، عزّ عليهم أن يبصروا أخطائهم منشورة مسطورة، فحرَّكتهم تلك المحبة الزائدة على أن لا يروا في الناقض عليهم إلا حاسدًا ! ولا في المتعقب لهم إلا مبغضًا ! ولا في المناقش لأقوالهم إلا طاعنًا ! ولا في الكاشف لأخطائهم إلا غير متأدب معهم !
كأنَّ تمام الأدب عند هؤلاء لا يتم إلا بغضِّ الطرف عن هفوات الغالطين في شريعة الله !
ليس حديثنا من هذا الباب – علم الله – ولكن كما قيل: ((سارت مشرقةً وسرت مغربًا *** شتان بين مشرقٍ ومغربٍ)).
يا أخانا كلامنا في طريقة الرد وليس في الرد نفسه، أحسن الله إليك.
وحتى لا أطيل على أحد أقول: كل من رأى في كلامي كلمة جاوزتُ بها حدود الأدب مع علمائنا المشهود لهم بالعلم والفضل ! فيأتنا بها فورًا؛ ريثما أُوقِفَه على عشراتٍ أمثالها - بل أشد منها وأغلظ - من كلمات كبار العلماء عند النقض على غيرهم في بعض القضايا !
ولا يتحذلق متحذلق فيقول: هذا كلام العلماء وأنت ليس بعالم !
لأن النظر ينبغي أن يكون إلى القول وليس إلى القائل !
لم نقل هذا يا أبا المظفر والحق يقبل منك ومن غيرك حتى وإن كان صغير السن ولم يشهد له أحد بأنه أحد الأئمة أو بأنه من العلماء العاملين الذين يعتبر كلامهم، فقط ندعو إخواننا من طلبة العلم إلى تحسين العبارة والتزام ما أخبرنا به مشايخنا أنه أدب مع العلماء.
وإلا فوالذي نفسي بيده : لولا تعكير مُحَيَّا كثير من العلمار الكبار الذين غيَّب الثرى وجوه محاسنهم، لسطرت من كلامهم في هذا الصدد ما تنبو عنه أسماع السامعين !
يكفي أنك وصفته بأنه تنبو عنه أسماع السامعين ، وما حقه هذا الوصف هل يقلد فيه أو يتمسك به أصلح الله حالك ، وكيف يتخذ طالب العلم من سقطات العلماء دليلا ويتخذ لنفسه بها مبررًا لفعل يخرجه كثير من العقلاء عن حيز الأدب ، فوالله الذي لا إله غيره لو قلت لأبيك في شيء قاله: ((هذه غفلة منك وقلة انتباه)) لعلاك بنعله فكيف تبحث لصنيع كهذا عن مبرر في صنيع أحدٍ من خلق الله والفطرة مجبولة على رده وعدم قبوله، بل إن هذا الأسلوب خصوصًا كثيرًا ما يكون وسيلة لصد العوام عن دين الله عز وجل، يقول - في نفسه - هذه طريقة العلماء وطلبة العلم في رد بعضهم على بعض فأنى يكون الخير لديهم. فتدبر هذا جيدًا.
ومع هذا : فلم يتجرَّأ أحد على أن يرميهم بقلة احترامهم لمن يشدُّون عليهم أحزمة النقد في كلامهم !
هذا لأن خطأهم مغمور في بحر إصابتهم ولو تعامل الناس معهم تعاملك مع من ذكرتهم لهبروهم بألسنتهم ، فتدبر رزقني الله وإياك حسن التدبر.
وإنما جريرتي بحق : هي ما قال الأوَّل ( مزمار الحيِّ لا يُطْرِب ) !
سبحان الله أوصار لك مزمار يا أبا المظفر؟!!! (ابتسامة من القلب والله)
والله المستعان لا رب سواه.
سبحانه ولا حول ولا قوة إلا به.