تساؤلات مشروعة
قبل أن أخوض في مناقشة الأستاذ حول مواضيع كتابه أود حقيقة أن أطرح بين يديه بعض الأسئلة المشروعة،والتي أود بكل شوق معرفة رأيه فيها،لأنني أرى أن فحوى هذه التساؤلات هي حقيقة الخلاف بين دعاة الإسلام ودعاة العلمانية وإذا فهم موقف دعاة الإسلام من هذه القضايا سهل تحليل مواقفهم ودعواتهم، هذا طبعاً بعد التجرد،وإبعاد تهم الاستبداد والتسلط،والثقة في ذلك وعدم التشكك، وإن مما دعاني إلى طرح هذه التساؤلات بين يدي المناقشة هو ما لاحظته في كتاب الأستاذ عصيد من قوة في التحليل،ودقة في فهم الآخر في كثير من المواضع، ومع ذلك فقد غفل عن طرح هذه القضايا مع أنها لب الخلاف وأسه،بل هي السبب الرئيسي في هذه الهوة والفجوة بين دعاة الإسلام ودعاة العلمانية إذ أن قضايا(الديمقراط ة) أو(المشروع الإسلامي) أو(العمل السياسي) أو(المرأة) أو(حقوق الإنسان) ليست هي أساس الخلاف بين "الإسلاميين" و"العلمانيين"، بل إن في بعضها خلافا حتى عند الإسلاميين فيما بينهم،إلا أن القضايا التي لا يختلف فيها "الإسلاميون" جميعاً ، والتي يجتمعون حولها رغم اختلافهم في بعض التفاصيل،هذه القضايا هي أساس الخلاف بين "الإسلاميين"و"ال لمانيين"،فقضايا العبودية والحكمية والقدسية واتباع الكتاب والسنة قضايا أساسية،لا يمكن مناقشة أي إسلامي دون التعريج عليها، إذ هي عصب تفكيره، وقاعدة منهجه ،على اختلاف في مدى التمسك والتطبيق ،وكان بودي لو أن الأستاذ ناقش موقف الإسلاميين من هذه القضايا، ووددت لو قرأت له رداً على عشرات الأدلة التي نستدل بها حين نطرح هذه المواضيع،خصوصاً وأني رأيت أن الأستاذ يحاول أن يكون موضوعيا ومنطقياً في كتاباته،وقد اعتمدت على هذا وأنا أطرح بين يديه هذه التساؤلات ،كما أنني اعتمدت على كونه يُِِِلزم"الإسلا يين" بخضوعهم للنص الشرعي،وإن كان هو طبعاً لا يلتزم بذلك ،من بابا إلزام المناظر خصمه بما لا يلتزم به،ولهذا سأبين له أن كثيراً من مواقف الإسلاميين ليست مبنية على رغبة في التسلط أو الاستبداد السياسي،وليس خدمة لأهواء مكبوتة، ورغبات دفينة ، على الأقل بالنسبة لدعاة الإسلام الصادقين،وما أكثرهم،وإنما هذه المواقف ببساطة هي خضوع للنص الإلهي، الذي لا يسعنا مخالفته،وعلى الأستاذ أن يبين لنا إذا كانت هذه النصوص بهذه الكثرة والصراحة كما سيرى بعد قليل، فكيف التنصل منها،إلا إذا تمردنا على النص،أو حرفنا دلالته،أو تعسفنا في تأويله كما يفعل العلمانيون،فهذا موضوع آخر ليس هو حديثنا الآن.
العبودية والحرية، الإسلام والدين والطاعة
إن مفهوم(العبودية) و(الحرية) عند المسلم من المفاهيم التي تميزه عن غيره ذلك أن الإسلام حقاً هو دين الحرية،بل إن الحرية هي المقصد الأساس من هذا الدين،وذاك ما عبر عنه كثير من الصحابة إذاً سئلوا عن حقيقة دعوة النبي الذي بعث في مكة،وتمرد على تقاليد قريش وعاداتهم ومؤلفاتهم،حيث يجيبون:هذا الرجل جاء ليخرجنا من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد،وإنها حقيقة الإسلام وكنهه، دعوة إلى التحرر من سائر أشكال التسلط،دعوة إلى التحرر من الخضوع لأي مخلوق، دعوة إلى التمرد على أولائك الطغاة الذين كانوا يستعبدون رعاياهم فيقتلون أبناءهم ويستحيون نساءهم، دعوة إلى التمرد على أولائك الكهان والرهبان الذين كانوا يستعبدون الناس باسم الدين،فيحلون ويحرمون ويشرعون حسب ما تقتضي أهواؤهم ورغباتهم،دعوة إلى التمرد على هذه الأصنام والأوثان التي اتخذت آلهة مع أنها مخلوقات جامدة لا تجلب نفعاً ولا تدفع ضراً،فالإسلام إذن دعوة للانعتاق والتحرر من كل الأغلال والقيود الأرضية والمبنية على الشهوات والأهواء والرغبات،فلا يحل الخضوع لأن مخلوق ولا ذبح القرابين له،ولا الركوع ولا السجود ولا الخشية ولا الدعاء ولا التوكل ولا.....
وباختصار لا يحل ولا يجوز صرف أي نوع من أنواع العبودية لأ مخلوق أياً كان هذا المخلوق،حتى لو كان ملكاً مقرباً،أو نبياً مرسلا.
فهذه هي الحرية التي بنيت عليها دعوة الإسلام،إلا أن الفرق الأساسي بين هذه الحرية والحرية التي يدعو إليها العلمانيون هي أن الحرية التي نادى بها الإسلام،بل أسس عليها،هي فيما يخص العلاقة بين مخلوق ومخلوق،فالإسلام لا يبيح خضوع مخلوق لمخلوق،ويساوي بين الجميع أمام الله تعالى،وهذا ما أراد أن يبلغه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وأمته وهو يناديهم يوم الجمع الأعظم،(أيها الناس،إن ربكم واحد،وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم،وليس لعربي على عجمي،ولا لعجمي على عربي،ولا لأحمر على أبيض إلا بالتقوى).
إذن هذه الحرية هي كما قلت فيما يعنى بالعلاقة بين مخلوق ومخلوق،أما إذا تعلق الأمر بالعلاقة بين المخلوق والخالق فلا حرية، وليس هناك إلا العبودية،والعبو دية المطلقة،وهذا هو أساس الخلاف.
إن الإسلام حين حرر البشر من الخضوع لسائر أنواع المتسلطين في الأرض،أصناماً كانوا أو أحبار وكهانا أو حكاماً وضع منهاجاً يحمي البشر من الوقوع في براثن هذه العبودية المذمومة، ويمنعهم من الوقوع في براثن عبودية مألوه آخر،يعبده كثير من الناس ويدينون له بالطاعة والولاء،وهو الهوى والشهوة(أفرأيت من اتخذ إلاهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا)،وهذا المنهج هو ما يسميه المسلمون"التوحيد" أي صرف كل أنواع العبادة وأشكالها لله سبحانه وتعالى،والإسلام حين منع الخضوع لأي مخلوق،فذلك حتى يكون الخضوع التام والكامل لله سبحانه وتعالى،ولم يترك للإنسان الحرية المطلقة في أن يفعل ما يشاء ، ويتصرف كيف شاء، ويعبد من شاء، بل كل النصوص التي تمنع من صرف أي نوع من أنواع العبودية لغير الله توجه المتلقي إلى صرف ذلك النوع من العبادة لله تعالى(اعبدوا الله مالكم من إلاه غيره) (فلا تجعلوا لله أنداد وأنتم تعلمون) (أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) (من ذبح لغير الله فقد أشرك) (من حلف بغير الله فقد أشرك)....وعشرات النصوص التي تحرر المسلم من الخضوع لأي مخلوق،لكنها تجعله عبد الله سبحانه وتعالى.
إنني لا أدري هل الأستاذ يقر بعبوديته لله تعالى أو لا يقر بذلك،إلا أنني سأحسن الظن به، خاصة وهو يؤكد أن العلمانية لا تعني الإلحاد بأي حال من الأحوال،وهذا أمر أوافقه عليه وسأتعرض له فيما بعد،المقصود أن كونه علمانياً لا ينفي إيمانه بوجود الله تعالى وبكوننا عباداً لله تعالى،إلا أنني أسأله سؤالاً: ما معنى كوني عبداً لله؟ إن العبودية تقتضي تمام الطاعة والانقياد والالتزام بالأوامر والتعليمات والخوف من الخروج عن ذلك والزيغ عنه،إن معنى العبودية المسارعة إلى الإرضاء،أي إرضاء المعبود والتقرب منه،والإتيان بما يحبه ويطلبه،وبالمقاب ل البعد عن كل ما يغضبه ويسخطه،ولو كان إتيان ذلك موافقا للهوى والشهوة،والعبود ية تقتضي حب الجائزة والأجر والثواب من السيد،وبالمقابل الخوف من عقابه وحسابه،هذا هو معنى العبودية،إذن فلا يعقل أن يدعي أننا عباد لله، أي هو معبودنا وإلا هنا،وقلوبنا لا تخضع له حباً وتعظيماً وتوكلاً وخوفاً وخشية،لا يمكن أن نكون عباداً لله ونحن لا نرفع بأوامره ونواهيه رأساً،لا يمكن أن ندعى العبودية نحن لا نحتكم إلى معبودنا ومولانا في كل شؤون حياتنا،لأنه مالكنا وخالقنا،إن معنى كوننا عبيداً لله طاعتنا له سبحانه وتعالى،وخضوعنا التام والكامل له وامتثالنا لكل ما شرعه لنا (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه)،بل أكثر من هذا،إننا لا نعتبر العبودية واجباً وأمراً لازماً فقط،بل إن نظرتنا لمعنى العبودية تتجاوز ذلك إلى اعتبارها الغاية العظمى من هذه الحياة،والغاية من الخلق،فالله عز وجل فد استخلفنا في هذه الأرض (واستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون)واستعمرن فيها (واستعمركم فيها)،لكن هل العمارة والاستخلاف هما غاية الخلق والإيجاد؟
ما هو الهدف من وجودنا على هذه البسيطة؟ ألمجرد الطعام والشراب والنكاح؟ بل ألمجرد تطوير طرق العيش وتأسيس هذه الحضارات الإنسانية التي نتغنى بها؟ أهذا هو الهدف؟ إن الذي يحدد هدف أي شيء والغاية منه هو موجود ذلك الشيء وخالقه،والله عز وجل موجدنا وخالقنا ـــ وأنا دائماً أناقش العلمانيين غير الملحدين ـــ فهو من يدلنا على الغاية من إيجادنا وخلقنا،وقد دلنا سبحانه وتعالى على ذلك حيث قال: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)،ولا يخفى على كل متعلم لمبادئ اللغة العربية أن (إلا) تفيد الحصر،أي أن الغاية الوحيدة التي خلق من أجلها الإنسان هي العبودية،وقد أكد سبحانه وتعالى ذلك حيث قال: (هو الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا)، فالغاية من الحياة والموت هو تمايز المخلوقين في مدى تحقيقهم لمقتضيات العبودية، فأين هذا المعنى وهذه الغاية التي نص عليها القرآن صراحة من نظرة العلمانيين للعبادة،وتصويره م لها ببعض الممارسات الروحية التي إن شاء الفرد مارسها وإن شاء تركها، وهي على كل حال لا أثر لها في تطور الحياة البشرية وتقدمها،أين هذا من ذاك؟هكذا نظرتنا إلى العبودية،فهي الغاية والهدف الذي نسعى إليه، أن نكون عباد الله حقاً،وألا نكون آبقين متمردين مستحقين لغضب مولانا وسخطه، وإذا كان تقدم الحياة البشرية،وتطور الحضارة الإنسانية يستدعي منا التمرد والخروج عن الطاعة،فتباَ لهذا التقدم،وسحقاَ لهذه الحضارة،لأن القلب إذا كان عابداً،وعمر بمعرفة الله تعالى وعظمته وجه قوى النفس إلى الخير والبر،ومنعها من الإثم والعدوان، فالعبادة هي أهم ركن في بناء الشخصية الكاملة السوية،والتي تنتج المجتمع الراقي الصالح.
العبودية إذن هدف الحياة والغاية منها،ثم هي حق من حقوق الله تعالى الذي خلقنا ورعانا وأطعمنا وسقانا وشفانا،فهو أمدنا بالحياة،وأمدنا بما يحفظها ويرعاها،ويقابل ذلك له سبحانه وتعالى منا العبودية والطاعة (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذين جعل لكم الأرض فرشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم،فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون)، و الند قد يكون صنماً وقد يكون حاكماً وقد يكون راهباً وقد يكون هوى وشهوة،عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا معاذ،أتدري ما حق الله على العباد أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا،وحق العباد على الله عز وجل أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا).