قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة ( 1/253) :
" ويحكى أن بعض أصحاب الماشية كان يشوب اللبن ويبيعه على أنه خالص ، فارسل الله عليه سيلاً فذهب بالغنم فجعل يعجب ، فأتى في منامه فقيل له : اتعجب من أخذ السيل غنمك إنه تلك القطرات التي شبت بها اللبن اجتمعت وصارت سيلاً .
فقس على هذه الحكاية ما تراه في نفسك وفي غيرك تعلم حينئذ أن الله قائم بالقسط ، وأنه قائم على كل نفس بما كسبت ، وأنه لا يظلم مثقال ذرة ، والأثر الإسرائيلي معروف أن رجلاً كان يشوب الخمر ويبيعه على أنه خالص ، فجمع من ذلك كيس ذهب ، وسافر به فركب البحر ومعه قرد له فلما نام أخذ القرد الكيس وصعد به إلى أعلى المركب ثم فتحه فجعل يلقيه ديناراً في الماء وديناراً في المركب كأنه يقول له بلسان الحال : ثمن الماء صار الى الماء ولم يظلمك .
وتأمل حكمة الله ـ عز وجل ـ في حبس الغيث عن عباده وابتلائهم بالقحط إذا منعو الزكاة ، وحرموا المساكين ، كيف جوزوا على منع ما للمساكين قبلهم من القوت بمنع الله مادة القوت والرزق وحبسها عنهم ، فقال لهم بلسان الحال : منعتم الحق فمنعتم الغيث فهلا استنزلتموه ببذل ما لله قبلكم .
وتأمل حكمة الله تعالى في صرفه الهدى والإيمان عن قلوب الذين يصرفون الناس عنه فصدهم عنه كما صدوا عباده صداً بصد ومنعاً بمنع .
وتأمل حكمته تعالى في محق أموال المرابين ، وتسليط المتلفات عليها كما فعلوا بأموال الناس ومحقوها عليهم وأتلفوها بالربا جوزوا اتلافاً بإتلاف ، فقل أن ترى مرابياً إلا وآخرته إلى محق وقلة وحاجة .
وتأمل حكمته تعالى في تسليط العدو على العباد إذا جار قويهم على ضعيفهم ولم يؤخذ للمظلوم حقه من ظالمه كيف يسلط عليهم من يفعل بهم كفعلهم برعاياهم وضعفائهم سواء .
وهذه سنة الله تعالى منذ قامت الدنيا إلى أن تطوى الأرض ويعيدها كما بدأها .
وتأمل حكمته تعالى في أن جعل ملوك العباد وأمراءهم وولاتهم من جنس أعمالهم بل كأن أعمالهم ظهرت في صور ولاتهم وملوكهم ، فإن استقاموا استقامت ملوكهم ، وإن عدلوا عدلت عليهم ، وإن جاروا جارت ملوكهم وولاتهم ، وإن ظهر فيهم المكر والخديعة فولاتهم كذلك ، وإن منعوا حقوق الله لديهم وبخلوا بها منعت ملوكهم وولاتهم ما لهم عندهم من الحق ونحلوا بها عليهم ، وإن أخذوا ممن يستضعفونه مالاً يستحقونه في معاملتهم أخذت منهم الملوك مالاً يستحقونه وضربت عليهم المكوس والوظائف وكلما يستخرجونه من الضعيف يستخرجه الملوك منهم بالقوة ، فعمالهم ظهرت في صور أعمالهم ، وليس في الحكمة الإلهية أن يولى على الأشرار الفجار إلا من يكون من جنسهم ولما كان الصدر الأول خيار " .