الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد
فقد بين الله تعالى في كتابه صفات أهل الخير وصفات أهل الشر وقال: ( وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ).
والخطاب هنا وإن كان موجها للنبي صلى الله عليه وسلم فهو لأمته أيضاً.
قال القرطبي في تفسيره 6 / 436: ( فإن قيل: فقد كان النبي عليه السلام يستبينها ؟ فالجواب عند الزجاج - أن الخطاب للنبي عليه السلام خطاب لامته، فالمعنى: ولتستبينوا سبيل المجرمين.
فإن قيل: فلمْ لم يذكر سبيل المؤمنين ؟
ففي هذا جوابان:
أحدهما - أن يكون مثل قوله: " سرابيل تقيكم الحر " فالمعنى، وتقيكم البرد ثم حذف، وكذلك يكون هذا المعنى ولتستبين سبيل المؤمنين ثم حذف.
والجواب الآخر - أن يقال: استبان الشئ واستبنته، وإذا بان سبيل المجرمين فقد بان سبيل المؤمنين ).
وقال البقاعي في نظم الدرر: ( وخص هذا بالذكر وإن كان يلزم منه بيان الأول ، لأن دفع المفاسد أهم ).
المقصود هنا أن ينظر كل واحد منا في أي السُبل سالك وبأي الصفات متلبس، كما هو دأب السلف ، فقد ذكر الحافظ محمد بن نصر المروزي رحمه الله تعال في جزء قيام الليل عن الأحنف بن قيس أنه كان جالسا يوما فعرضت له هذه الآية :
( لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) .
فانتبه، فقال : عليَّ بالمصحف لألتمس ذكري اليوم، حتى أعلم مع من أنا ومن أُشبه !!
فنشر المصحف فمر بقوم:
( كانوا قليلا من الليل ما يهجعون ، وبالأسحار هم يستغفرون ، وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ).
ومر بقوم :
( تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون ) .
ومر بقوم :
( يبيتون لربهم سجدا وقياما ).
ومر بقوم :
( ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ) .
ومر بقوم :
( يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ).
ومر بقوم :
( يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون ، والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون ) .
فوقف الأحنف ثم قال :
اللهم لست أعرف نفسي ههنا !!
ثم أخذ في السبيل الآخر .
فمر في المصحف بقوم :
( إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون ).
ومر بقوم :
( إذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون ).
ومر بقوم يقال لهم:
( ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين ).
قال فوقف ثم قال :
اللهم إني أبرأ إليك من هؤلاء!!
قال : فما زال يقلب الورق ويلتمس ذكره وفي أي الطبقات هو حتى وقع على هذه الآية :
( وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم )
فقال : اللهم هؤلاء ).
فانظر يا أخي موضع نفسك من كتاب الله واعرض أعمالك وسيرتك وهديك على آياته يتبين لك من أي القوم أنت.
واحذر أن تكون ممن تنطبق عليهم صفات المنافقين أو الفاسقين أو المجرمين أو ... عياذا بالله.
ــــــــــــــ
تنبيه: قوله تعالى ( فِيهِ ذِكْرُكُمْ ).فيه أقوال:
قال القرطبي 11 / 273: ( والمراد بالذكر هنا الشرف، أي فيه شرفكم، ...
وقيل: فيه ذكركم أي ذكر أمر دينكم، وأحكام شرعكم وما تصيرون إليه من ثواب وعقاب، أفلا تعقلون هذه الاشياء التي ذكرناها ؟ ! وقال مجاهد: " فيه ذكركم " أي حديثكم.
وقيل: مكارم أخلاقكم، ومحاسن أعمالكم.
وقال سهل بن عبد الله: العمل بما فيه حياتكم.
قلت: وهذه الاقوال بمعنى، والاول يعمها، إذ هي شرف كلها، والكتاب شرف لنبينا صلى الله عليه وسلم، لانه معجزته، وهو شرف لنا إن عملنا بما فيه، دليله قوله عليه السلام: (القرآن حجة لك أو عليك) ). ا.هـ