تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 41

الموضوع: أصول وفروع متفرقه في مسألة تقوية الحديث بمجموع طرقه

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jun 2007
    المشاركات
    132

    افتراضي أصول وفروع متفرقه في مسألة تقوية الحديث بمجموع طرقه

    الحمد لله عالم الغيب والشهادة ، يعلم السر وأخفى ، فلا تخفى عليه خافية ، وصلى الله صلاة زاكية باقية على من خصه الله بالرتبة العالية في هذه الدار وفي الدار الثانية خير الورى نبينا محمد ، وعلى صحبه الكرام صدور الرواة العالية وبدور الثقات المتلالية ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وسلم تسليما ، وبعد .
    فلا يخفى على ذي فهم وإتقان وإنصاف من طلبة علم الحديث في هذا العصر أن أكثر وأكبر توسع وتسهُّلٍ وقع فيه المتأخرون والمعاصرون في نقد الحديث إنما كان في باب تقوية الأحاديث الضعيفة والواهية ، بمجموع طرقها ؛ وأن الدراسات التي كتبت في تأصيل علم هذا الباب وتفصيل قواعده وبيان ضوابطه لا ترتقي - بجملتها - إلى قدر الحاجة ، ولا تفي بالمطلوب ؛ وليس بخافٍ على هذا الصنف المشار إليه من الطلبة أن هذا الباب من علم النقد الحديثي (أعني باب التقوية بكثرة الطرق) يعدُّ واحداً من أصعب أبوابه وأخطرها أثراً .
    ولما وجدت في هذا المنتدى المبارك ثلة طيبة من طلبة العلم النابهين وأهله المحققين رأيت أن من المناسب جداً أن أطرح عليهم هنا - شيئاً فشيئاً - ما جمعته في هذا الباب ، وأنا أعلم أنه لا جديد عندي في هذا الموضوع ، اللهم إلا أن يكون ذلك هو جمع أصول وفروع هذا العلم في موضع واحد - على قدر الإمكان والطاقة - معروضةً على هؤلاء المحققين الفضلاء ليحققوا كل ما أكتبه ، ويضيفوا كل ما أُغْفله ، ويردوا إلى الصواب كل ما شطح فيه القلم ، ويُبطلوا بالحق كل ما اصطنعه الوَهَم ، وكفى بهذا المطلب غاية ومقصدا .
    وأنتظر من إخواني في هذا الموضوع الاعتناء الذي يستحقه - بسبب خطورته - ، وأرجو من الله أن يسددنا ويوفقنا إلى الحق في كل ما نسطره هنا وفي أي موضوع آخر ، وما توفيقنا إلا بالله .
    وهذا موضع الشروع بالمقصود ، فأقول سائلاً الله التسديد والقبول :
    التنبيه الأول
    افتقار منهج أكثر المتأخرين والمعاصرين إلى تأصيل مسألة التقوية تأصيلاً دقيقاً كافياً
    إن من طريقة أئمة الحديث وجهابذة علم العلل أنهم يقوون أحياناً حديث الراوي الضعيف إذا ورد من طرق وتدبروا تلك الطرق وفحصوها بثاقب نظرهم وعميق خبرتهم وواسع اطلاعهم وشديد فطنتهم، ثم علموا بذلك أن تلك الطرق ليست راجعة إلى أصل واحد، وليس تعددها ناشئاً عن وهم بعض الضعفاء، وليس فيها ما يمنع من تقوية الحديث بمجموعها، بل فيها ما يقتضي التقوية.
    وهذا كما ترى أمر يعجز عنه الناس كل الناس إلا من وهبه الله علماً غاية في السعة والدقة والإتقان، وفطنة نهاية في الحذق والنباهة وقوة الملاحظة.
    وهذا الأمر إنما هو في الحقيقة اختصاص علماء العلل؛ فإن لوظيفتهم مجالين ولفروسيتهم ميدانين؛ وكلاهما خروج عن الأصل العام العريض والقاعدة الأولية الواسعة، لقواعد تقتضي ذلك الخروج وقرائن توجبه.
    أما أول الميدانين فتضعيف حديث الثقة، لمعرفة أنه واهم فيه.
    وأما ثانيهما فتقوية حديث الضعيف لاكتشاف أنه حفظه.
    ولكن ما الذي حصل في الأعصر المتأخرة في مرويات الضعفاء؟ أو ما الذي صنعه المتساهلون من المتأخرين فيها؟
    الذي حصل هو تساهل في تقوية الحديث الضعيف بمجموع طرقه، وجرأة في الحكم على الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وانتحال لمقام ومنصب أئمة الحديث وكبار علماء العلل؛ وتكلف في الارتقاء إلى مقام رفيع بعيد.
    ولقد كاد الأمر أن يكون سهلاً وأوشك الخطب أن يكون يسيراً، لو كان لهؤلاء ضوابط معلومة وقواعد مقررة، في هذا الباب؛ أعني باب التقوية بكثرة الطرق؛ سواء كانت هذه القواعد والضوابط على طريقة المتأخرين، أو على منهج المتقدمين؛ فالمهم أن يكون هناك قواعد تضبط المسألة حتى لو كان في هذه القواعد نظر !.
    ولكن الغريب أن ترى كثرة من يتجشم عناء هذا الأمر فيقوي بكثرة الطرق بلا قواعد محررة عنده، لا من اجتهاده ، ولا من تقليده لغيره ؛ أليست هذه جرأة عجيبة أو غفلة غريبة؟!
    المطالع لأكثر التخريجات اليوم يقرأ تخريجاً مطولاً للحديث، فيتابع الكاتب في تخريج ذلك الحديث فيراه منضبطاً في أكثر ما يقوله ، ولو على طريقة المتأخرين ، في الأقل ؛ ثم يستمر الأمر على هذه الوتيرة المشتملة على قدر طيب من الانضباط العلمي - بل العزْويّ! - إلى أن يصل إلى مقصد الأمر وغايته وثمرته ونهايته ، ويدنو من أخطر مرحلة في البحث ، وهي مرحلة الحكم على الحديث ، فتراه هنا – وهذا موطن الاستغراب – يتحلل من قيوده السابقة ويتخلص من ضوابطه المتقدمة ، إلا قليلاً مما لا يكاد يذكر ، فيقفز ويقول بكل جرأة : فالحديث حسن بمجموع طرقه على أقل أحواله ؛ أو يقول : فالحديث صحيح بمجموع طرقه ، أو نحو ذلك من عبارات تثبيت الحديث بمجموع أسانيده ؛ فلا هو يذكر دليلاً للتقوية ولا هو يحيل على قاعدة أو قواعد لهذا الأمر الخطير ؛ ولا هو يبين كيف توصل إلى هذا الحكم؟!
    ترى لو قال بدلاً من عبارة التقوية المذكورة : (فالحديث ضعيف ولا تصلح طرقه المذكورة لتقويته، كما يظهر لمن تدبرها من أهل هذا الفن)، أقول لو قال هذا الكلام وذهب هذا المذهب فهل سيختلف الأمر عند القارئ المقلد شيئاً؟
    إن ذلك القارئ يقرأ في الحالتين حكماً لا يدري كيف تم التوصل إليه ! .
    بل لو حوقق مثل ذلك المخرِّج نفسه - فضلاً عن ذلك القارئ - واستُفسِر عن كيفية توصله إلى ذلك الحكم فإنه يندر أن يوجد عنده من علم تفاصيل هذا الباب ما فيه مقنع ! ، والله المستعان .
    يــُـتــبع بـغـيره بإذن الله وتــوفــيــقه--------------

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    1,699

    افتراضي رد: أصول وفروع متفرقه في مسألة تقوية الحديث بمجموع طرقه

    ما شاء الله
    نحن بشوق إلى الباقي .

  3. #3

    افتراضي رد: أصول وفروع متفرقه في مسألة تقوية الحديث بمجموع طرقه

    شكرا لك ... بارك الله فيك ... ولسوف ادخر التعليق إلى أن تأتينا بالتالي .

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    May 2007
    المشاركات
    1,901

    افتراضي رد: أصول وفروع متفرقه في مسألة تقوية الحديث بمجموع طرقه

    كلام طيب وجميل , لعلك تكمل فنحن بانتظاركم
    قل للذي لايخلص لايُتعب نفسهُ

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jun 2007
    المشاركات
    132

    افتراضي رد: أصول وفروع متفرقه في مسألة تقوية الحديث بمجموع طرقه

    بارك الله فيكم وشكر الله لكم ؛ وجزى الله خير الجزاء المشرفين الأفاضل على تثبيتهم الموضوع .

    التنبيه الثاني
    غلبة التساهل على المتأخرين في هذا الباب

    يدل على هذا الأمر أمران :
    أما الأول منهما : فكثرة مخالفة المتأخرين - في الجملة - للمتقدمين ، أو لعلماء العلل ، فهؤلاء المتأخرون صححوا - وأعني بالتصحيح في مثل هذا المقام التثبيت الذي يشمل التحسين الاحتجاجي أيضاً - أحاديث كثيرة قد ضعفها المتقدمون ، ولا أريد أن أطيل بذكر الأمثلة على هذا ، فالأمر أظهر - عند طلبة الحديث الجادّين - من أن يحتاج إلى تمثيل ، وما تعقبات المتأخرين على مثل ابن الجوزي في (موضوعاته) منهم ببعيدة ، ولا مخالفاتهم في تقوية الأحاديث لأحمد بن حنبل والبخاري والرازيين وغيرهم عليهم بخافية .
    وفي الجملة فهذا الأمر إنما يتضح ويَبين باستقراء جملة كافية من أحكام المتأخرين ثم موازنتها بأحكام المتقدمين ، أعني أئمة علم العلل .
    وأما ثانيهما فهو مقتضى الأمر السابق ، وهذا شرح هذه العبارة :
    من المعلوم عند المتخصصين بعلم الحديث أن أكثر أحكام علماء الجرح والتعديل على الرواة كانت مبنية على استقراء أحاديث الراوي، ثم النظر فيها؛ فيوثقونه إذا وجدوا الغالب عليه في أحاديثه موافقة الثقات الذين استقر الحكم عليهم من قَبْلُ بالتوثيق، والذين صاروا كأنهم ميزان لغيرهم من الرواة من مثل هذا الراوي الذي لا تعرف حاله إلا بمثل تلك المقارنة، ولكن ذلك التوثيق لا يقع منهم إلا بشرط أن لا يعلموا من حاله أو يجدوا في ترجمته أو في كلام النقاد عليه ما قد يدل على قدح في عدالته، فيمنعهم ذلك القدح من توثيقه.
    وأما إذا وافق الراوي الثقات أحياناً وخالفهم أحياناً أخرى، ولم تكن المخالفة فاحشة دالة على أنه مغفل وبعيد من الضبط، ولا كانت كثيرة دالة على سوء الحفظ، فإنهم حينئذ يصفونه بكلمة (لا بأس به) أو نحوها.
    وأما إذا كان الغالب عليه المخالفة للثقات وكان خطؤه مقارباً في مقداره لصوابه، أو زائداً عليه بقدر غير فاحش ، ولم يظهر لهم من حاله ما يُطعن به في عدالته فيتهمونه، فإنهم حينئذ يصفونه بالضعف ، فيطلقون في حقه كلمة (ضعيف) أو ما يقوم مقامها أو يقاربها من الكلمات والعبارات .
    فإذن معنى وصف الراوي بالضعف عند علماء الجرح والتعديل (وهم علماء العلل أنفسهم) هو أن أحاديثه المردودة - التي خالف فيها الثقات ولا يمكن قبولها وتصحيحها بحال - قريبة في عددها من أحاديثه المقبولة ؛ وأنه يستبعد أن تفوق أحاديثه الصحيحة أحاديثه المردودة بزيادة تستحق الذكر .
    إذا فُهم هذا وأُقِرَّ ثم رحنا ننظر في صنيع المتأخرين في تقوية أحاديث الضعفاء، فماذا يتبين لنا من ذلك؟
    يتبين منه أمرٌ عجبٌ وهو أن نجد أن ذلك الراوي الضعيف قد صحح المتأخرون - وأعني بالمتأخرين هنا ما يشمل المعاصرين - كثيراً من أحاديثه التي لم يقوها المتقدمون ، صححها المتأخرون بمجموع طرقها ، أي بمتابعاتها وشواهدها .
    فلو تدبرنا الأمر بعد ذلك وجدنا أننا لو أضفنا هذه الأحاديث التي تابعه فيها الضعفاء فهي حسنة أو صحيحة عند المتأخرين بمجموع طرقها، إلى أحاديثه التي وافق فيها الثقات فهي صحيحة بأسانيدها الصحيحة ، أصلاً ، لنتج من مجموع النوعين قدَرٌ يزيد كثيراً عن شطر مروياته ؛ وهذا معناه أن هذا الراوي الضعيف - عند المتقدمين والمتأخرين! - لا بستحق التضعيف، بل هو صدوق حسن الحديث في أسوأ الأحوال ، وهذا تناقض من المتأخرين فضلاً عن كونه مخالفة للمتقدمين الذين هم أهل هذا العلم وأصله وأساسه وميزانه ومقياسه .
    ويــتــبـع أيــضـاً بـإذن الله تعــــــــــــا لى ------ .
    ومن أراد تعليقاً فليفعل ، لأن البحث سيطول كثيراً إن شاء الله تعالى والله الهادي إلى سواء السبيل .

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jun 2007
    المشاركات
    132

    افتراضي رد: أصول وفروع متفرقه في مسألة تقوية الحديث بمجموع طرقه

    التنبيه الثالث
    عدم إدراك أكثر المتأخرين صعوبة هذا الأمر وخطورته

    قد تقدمت الإشارة إلى هذا الأمر ، ولكني متيقن أن بنا حاجة إلى مزيد من تقريره وتوكيده وتفصيله ، فقد بلغ التهاون في الحكم على الأحاديث تصحيحاً وتضعيفاً - وأخص منها التقوية بالطرق - مبلغاً بعيداً عن الحق ، فأقول :
    إن لكل علم رجاله الذين لا يُحسنه سواهم ولا يصح أن يستند فيه إلى غيرهم ؛ قال تعالى (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ )[1] ؛ ومن هذه العلوم علم الحديث ؛ فهو أولى العلوم بالتسليم لأهله والرجوع به إلى أصله ، وأحراها أن يحذر المرء أن يخوض فيه بعقله ؛ لأنه عِلم لا يشبهه في نقله ولا نقدِه علمٌ آخرُ غيرُه .
    أما نقْلُه فمبنيٌّ على الحفظ الواسع العجيب والضبط التامِّ المتقَن ، والأمانة التي لا يتطرّق إليها شكٌّ ، والتعب الذي لا تخففه راحة ، والتقوى والورع والاحتساب ؛ ومَن يَقدرُ على مِثل ما قدر عليه حفاظ الحديث وحملتُه ؟!
    وأما نقده فمبني على الاطلاع الواسع ، بل الشامل ، والحذقِ التامِّ ، والفطنة الكاملة ، والتدقيق المتناهي في دراسة القرائن وفحصِها ، واستكشاف معانيها وتجميع دلالاتها ، والرسوخ في استنباط ما كمُن وراء العبارات واستخفى تحت الإشارات، وعلى أمورٍ أخرى غيرِ قليلة من ملَكاتٍ وصفاتٍ وأحوالٍ وأفعال .
    وما أحسن ما قاله فقيه النقد الحديثي في هذا العصر العلامة المعلمي اليماني رحمه الله تعالى إذ قال : (ليس نقدُ الرواةِ[2] بالأمر الهيِّنِ ، فإنَّ الناقدَ لا بدَّ أن يكون واسع الاطلاع على الأخبار المروية، عارفاً بأحوال الرواة السابقين وطرق الرواية ، خبيراً بعوائد الرواة ومقاصدهم وأغراضهم ، وبالأسباب الداعية إلى التساهل والكذب ، والموقعة في الخطأ والغلط ، ثم يحتاج إلى أن يعرفَ أحوالَ الراوي : متى وُلد ؟ وبأيِّ بلد ؟ وكيف هو في الدين والأمانة والعقل والمروءة والتحفُّظ ؟ ومتى شَرَع في الطلب ؟ ومتى سَمِع ؟ وكيف سَمِع ؟ ومع من سمع ؟ وكيف كتابُه ؟ ؛ ثم يعرف أحوال الشيوخ الذين يحدث عنهم ، وبلدانَهم ، ووفَيَاتِهم ، وأوقاتَ تحديثِهم ، وعادتهم في التحديث ؛ ثم يعرف مروياتِ الناس عنهم ، ويعرض عليها مروياتِ هذا الراوي ويعتبرها بها ، إلى غير ذلك مما يطول شرحُه ؛ ويكون مع ذلك متيقظاً ، مُرْهَفَ الفهم ، دقيق الفطنة ، مالكاً لنفسه ، لا يستميله الهوى ، ولا يستفزّه الغضب ، ولا يستخفّه بادرُ ظنٍّ حتى يستوفيَ النظرَ ويبْلُغَ المَقَرّ ، ثم يُحْسن التطبيق في حُكمه ، فلا يجاوز ولا يقصِّر .
    وهذه المرتبة بعيدة المرام عزيزة المنال ، لم يبلغْها إلا الأفذاذ ؛ وقد كان مِن أكابر المحدثين وأجلَّتِهم من يتكلم في الرواة فلا يُعَوَّل عليه ولا يُلتفت إليه ؛ قال الإمام علي بن المديني ، وهو من أئمة هذا الشأن : << أبو نعيم وعفان صدوقان لا أقبل كلامهما في الرجال ، هؤلاء لا يدعون أحداً إلا وقعوا فيه >> ؛ وأبو نعيم وعفان من الأجلة ، والكلمة المذكورة تدل على كثرة كلامهما في الرجال ، ومع ذلك لا تكاد تجد في كتب الفن نقلَ شيءٍ من كلامهما )[3] .
    انتهى كلام العلامة المعلمي ، ولقد سبقه إلى مقصد هذا الكلام في الجملة الأئمة، كالذهبي فقد قال في ترجمة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه من (تذكرة الحفاظ) ، وهي أول تراجم الكتاب : (ومِن مراسيل ابن أبي مليكة أن الصديق جمع الناس بعد وفاة نبيهم ، فقال : إنكم تُحدِّثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم أشدُّ اختلافاً ، فلا تحدِّثوا عن رسول الله شيئاً ، فمن سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتابُ الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه .
    فهذا المرسل يدلك أن مراد الصديق التثبُّت في الأخبار والتحري ، لا سدُّ بابِ الروايةِ ، ألا تراه لمّا نزل به أمرُ الجَدَّة ولم يجده في الكتاب ، كيف سأل عنه في السنَّة ، فلما أخبره الثقةُ ما اكتفى حتى استظهر بثقةٍ آخر ؛ ولم يقل : << حسبنا كتاب الله >> ، كما تقوله الخوارج .
    وحدَّث يونس عن الزهري أن أبا بكر حدَّث رجلاً حديثاً فاستفهمه الرجل إيّاه ، فقال أبو بكر : هو كما حدثتُك ، أيُّ أرضٍ تُقِلُّني إذا أنا قلتُ ما لم أعلم .
    وصحَّ أنَّ الصديق خطَبهم فقالَ : إياكم والكذب ، فإن الكذبَ يهدي إلى الفجور ، والفجور يهدي إلى النار .
    وقال علي بن عاصم - وهو من أوعية العلم لكنه سيء الحفظ - : انا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال : سمعت أبا بكر الصديق يقول : إياكم والكذب ، فإن الكذب مجانبٌ الإيمان .
    قلت : صدق الصديق ، فإن الكذب أسُّ النفاق وآيةُ المنافق ، والمؤمن يُطبع على المعاصي والذنوب الشهوانية ، لا على الخيانةِ والكذب ؛ فما الظنُّ بالكذب على الصادق الأمين صلوات الله عليه وسلامه ، وهو القائل : إنَّ كذباً عليَّ ليس ككذبٍ على غيري ، من يكذب عليَّ بُني له بيتٌ في النار ، وقال : من يَقُلْ عليَّ ما لم أقلْ ، الحديث .
    فهذا وعيدٌ لمن نقل عن نبيه ما لم يقله[4] ، مع غلبة الظن أنه ما قاله ، فكيف حالُ من تهجَّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتعمد عليه الكذب ، وقوَّله ما لم يقل؛ وقد قال عليه السلام : << من روى عني حديثاً يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين >>[5] .
    فإنا لله ، وإنا إليه راجعون ؛ ما ذي إلا بليّة عظيمة وخطر شديد ممن يروي الأباطيل والأحاديث الساقطة المتهم نقَلَتُها بالكذب .
    فحق على المحدث أن يتورع فيما يؤديه ، وأن يسأل أهل المعرفة والورع ليعينوه على إيضاح مروياته .
    ولا سبيل إلى أن يصير العارف الذي يزكي نقلة الأخبار ويجرّحهم جهبذاً[6] ، إلا بإدمان الطلب ، والفحص عن هذا الشأن ، وكثرة المذاكرة والسهر ، والتيقظ والفهم ، مع التقوى والدين المتين والإنصاف ، والتردد إلى مجالس العلماء ، والتحري والإتقان ؛ وإلا تفعل :
    فدع عنك الكتابة لست منها***ولو سوَّدت وجهَك بالمداد
    قال الله تعالى ، عزَّ وجلَّ : (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)[7].
    فإن آنست يا هذا مِن نفسك فهماً وصدقاً وديناً وورعاً ، وإلا فلا تتعنَّ .
    وإن غلب عليك الهوى والعصبية لرأيٍ ولمذهب ، فبالله لا تتعب .
    وإن عرفتَ أنكَ مخلِّطٌ مخبِّطٌ مهملٌ لحدود الله ، فأَرِحْنا منك ، فبعدَ قليلٍ ينكشف البهرج وينكب الزغل ، ولا يحيق المكرُ السيء إلا بأهله .
    فقد نصحتُك ؛ فعلم الحديث صلفٌ ، فأينَ علمُ الحديث ؟! وأين أهلُه ؟! كدت أن لا أراهم إلا في كتابٍ أو تحتَ تراب ) ؛ انتهت هذه النصيحة الذهبية في نسبها ومعناها .
    وقال الذهبي أيضاً في (سير أعلام النبلاء) (11/82) : (ونحن لا ندعي العصمة في أئمة الجرح والتعديل ، لكن هم أكثر الناس صواباً وأندرهم خطأ وأشدهم انصافاً وأبعدهم عن التحامل ، وإذا اتفقوا على تعديل أو جرح فتمسك به واعضض عليه بناجذيك ولا تتجاوزه فتندم ، ومن شذ منهم فلا عبرة به ، فخلِّ عنك العناءَ وأَعْطِ القوس باريها ؛ فوالله لولا الحفاظ الأكابر لخطبت الزنادقة على المنابر ، ولئن خطب خاطب من أهل البدع فإنما هو بسيف الإسلام وبلسان الشريعة وبجاه السنه وبإظهار متابعة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، فنعوذ بالله من الخذلان ) .
    وقبل ذلك بكثير قال عالم العلل الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج صاحب (الجامع الصحيح) في (التمييز) له (ص218-219 ، مكتبة الكوثر) :
    (اعلم ، رحمك الله ، أن صناعة الحديث ومعرفة أسبابه من الصحيح والسقيم ، إنما هي لأهل الحديث خاصة ؛ لأنهم الحفاظ لروايات الناس، العارفين بها دون غيرهم، إذ الأصل الذي يعتمدون لأديانهم: السنن والآثار المنقولة، من عصر إلى عصر ، من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا هذا ؛ فلا سبيل لمن نابذهم من الناس وخالفهم في المذهب ، إلى معرفة الحديث ومعرفة الرجال من علماء الأمصار فيما مضى من الأعصار مِن نقل[8] الأخبار، وحمال الآثار.
    وأهل الحديث هم الذين يعرفونهم ويميزونهم ، حتى ينزلونهم منازلهم في التعديل والتجريح .
    وإنما اقتصصنا هذا الكلام لكي نثبته[9] مَن جَهِلَ مذهب أهل الحديث ممن يريد التعلم والتنبه ، على تثبيت الرجال وتضعيفهم فيعرف ما الشواهد عندهم، والدلائل التي بها ثبتوا الناقل للخبر من نقله، أو سقطوا [كذا] من أسقطوا منهم ، والكلام في تفسير ذلك يكثر ؛ وقد شرحناه في مواضع غير هذا ، وبالله التوفيق في كل ما نؤم ونقصد)[10] .
    وقبله قال الإمام الشافعي رحمه الله : (عليكم بأصحاب الحديث فإنهم أكثر الناس صواباً)[11] .
    وقبل ذلك قال أحد علماء التابعين ومشاهيرهم وهو الإمام الزهري رحمه الله ، لأبي بكر الهذلي : يا هذلي أيُعجبك الحديث ؟ قال : نعم ، قال : أما إنه يعجبُ ذكور الرجال ويكرهه مؤنثوهم[12] .
    هذه المعاني عَرَف حقائقها الجادون الموفّقون أصحاب الهمم العلية من طلبة العلوم الشرعية ، عرفوا من علم الحديث منذ نشأته هذا الذي وصفتُه أو حكيتُه لك من صعوبته ووعورة مرتقاه وعزة مناله ، وعرفوا مع ذلك فضْلَ هذا العلم الشريف وخطره ، فشمروا عن ساعد الجد ، وراحوا يجوبون أقطار الأرض ليسمعوا كل ما يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن السلف ، فسمعوه وكتبوه ، ثم بعد ذلك جعلوا يتحفظونه فحفظوه في صدورهم ، ووثَّقوا حفظهم هذا وعضدوه بحِفاظهم على كتبهم كما كتبوها أول مرة ، إلى أن يبلِّغوا ما فيها لمن هم على شاكلتهم ، ولم يقفوا عند هذه الدرجة بل حرصوا غاية الحرص على تمييز ما ثبت من ذلك المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته وغيرهم من متقدمي العلماء عما لم يثبت منه بطريقة نقدية فريدة ما عرفها العالَم قبلَهم ، فهي من خصائص هذه الأمة المباركة ، فكانوا كما وصفهم ابن حبان رحمه الله إذ قال : (فرسان هذا العلم الذين حفظوا على المسلمين الدين ، وهدوهم إلى الصراط المستقيم ، الذين آثروا قَطْع المفاوز والقِفار ، على التنعم في الديار والأوطان في طلب السنن في الأمصار ، وجمعها بالوجل والأسفار ، والدوران في جميع الأقطار ، حتى إن أحدهم ليرحل في الحديث الواحد الفراسخ البعيدة ، وفي الكلمة الواحدة الأيام الكثيرة ، لئلا يُدخِل مضلٌّ في السنن شيئاً يُضلُّ به ، وإن فعل فهم الذابّون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الكذب والقائمون بنصرة الدين )[13] .
    ولما كان هذا العلم – كما سلف وصفُه به - صعباً عصياً متأبياً على غير أهله ، واجتمع إلى ذلك تفاوت طلابه في عقولهم واجتهاداتهم وهممهم وقدراتهم وأحوالهم ومقدار توفيق الله لهم وعونه إياهم : نتج عن ذلك أن علماء الحديث ليسوا على مرتبة واحدة في التمكن منه وحسن الفهم فيه وقوة النظر في مسائله ومتانة العلم بأحكامه وكثرة الإصابة فيه ، بل هم على مراتب لا يعلم قدرها ولا حقيقتها إلا الذي هو بكل شيء عليم .
    فمن سلك سبيلهم من المتأخرين والمعاصرين من العلماء والباحثين ، فلا بد له أن يعرف قدرهم وأن يعرف قبل ذلك قدره بالنسبة إليهم ، ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه .
    إن هذا التهاون في النقد الحديثي هو الذي أدى إلى ذلك التوسع والتساهل في التقوية بكثرة الطرق ، وإني لأعجب ممن يعظم أمر الفتوى جداً ، وهي جديرة بذلك ولكنه مع ذلك يتهاون في تصحيح الأحاديث وتضعيفها وهي أصل الإفتاء واستنباط الأحكام الشرعية !
    وانظر التنبيه التالي .
    --------------------------------------------------------------------------------
    [1] النحل (43) والأنبياء (7) .
    [2] ومثله يقال في نقد الأحاديث وتخريجها والحكم عليها ، وأولى منه انتقاد النقاد .
    [3] مقدمة المعلمي لكتاب ابن أبي حاتم (الجرح والتعديل) (صفحة ب – صفحة ج) .
    [4] قلت : ويدخل في هذا الحكم كذلك من صحح في نقده حديثاً غير صحيح ، تلاعباً أو تهاوناً ، أو تعالماً ، وأما العلماء المجتهدون الصادقون المتثبتون الورعون فخطؤهم مغفور بل مأجور ، بإذن الله .
    [5] أخرجه مسلم في مقدمة (صحيحه) في (باب وجوب الرواية عن الثقات وترك الكذابين والتحذير من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم) فقال : (واعلم وفقك الله تعالى أن الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها وثقات الناقلين لها من المتهمين : أن لا يروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه والستارة في ناقليه ، وأن يتقي منها ما كان منها عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع .
    والدليل على أن الذي قلنا من هذا هو اللازم دون ما خالفه : قولُ الله جل ذكره "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين" [الحجرات : 6] ؛ وقال جل ثناؤه : "ممن ترضون من الشهداء" ؛ وقال عز وجل : "وأشهدوا ذوي عدل منكم" [الطلاق : 2] ؛ فدل بما ذكرنا من هذه الآي أن خبر الفاسق مقبولٌ وأن شهادة غير العدل مردودة ؛ والخبر وإن فارق معناه معنى الشهادة في بعض الوجوه فقد يجتمعان في أعظم معانيهما ، إذ كان خبر الفاسق غير مقبول ثم أهل العلم ، كما أن شهادته مردودة عند جميعهم ؛ ودلت السنة على نفي رواية المنكر من الأخبار ، كنحو دلالة القرآن على نفي خبر الفاسق ، وهو الأثر المشهور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين" ؛ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن شعبة عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن سمرة بن جندب ؛ ح ؛ وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة أيضاً حدثنا وكيع ، عن شعبة وسفيان ، عن حبيب عن ميمون بن أبي شَبيب عن المغيرة بن شعبة : قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ) .
    قال ابن الصلاح في (صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط وحمايته من الإسقاط والسقط) (ص118-119) : (ذكر مسلم من حديث سمرة بن جندب والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهما قوله صلى الله عليه وسلم "من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين" ؛ فوجدته بخط الحافظ الضابط أبي عامر محمد بن سعدون العبدري رحمه الله ها هنا مضبوطاً يُرى ، بضم الياء ، و"الكاذِبِين" على الجمع ؛ ووجدت عن القاضي الحافظ المصنف أبي الفضل عياض بن موسى اليحصبي أنه قال : الرواية فيه عندنا "الكاذِبِين" ، على الجميع ؛ قلت : رواه الحافظ الكبير أبو نعيم الأصبهاني في كتابه "المستخرج على كتاب مسلم" في حديث سمرة بن جندب "الكاذبَين" ، على التثنية فحسب ؛ واحتج به على أن الراوي لذلك يشارك في الكذب مَن بدأ بالكذب عليه صلى الله عليه وسلم ؛ وفي هذا تفسيرٌ منه لمعنى التثنية حسنٌ ؛ ثم ذكره في روايته إياه من حديث المغيرة بن شعبة "فهو أحد الكاذِبَين أو الكاذبِين ، على الترديد بين التثنية والجمع ؛ ووجدت ذلك مضبوطاً محققاً في أصل مأخوذ عن أبي نعيم مسموعاً عليه مكرراً في موضعين من كتابه ؛ وقدَّم في الترديد التثنية في الذكر ؛ وهذه فائدة عالية غالية ولله الحمد الأكمل .
    وأما الضم في "يُرى" فهو مبني على ما اشتهر من أنه بالضم يستعمل في الظن والحُسبان ، وبالفتح في العلم ورؤية العين ؛ وفي حفظي أنه قد يستعمل بالفتح بمعنى الظن أيضاً ، كما يُستعمل العلم بمعنى الظن ).
    [6] الجهبذ كلمة معربة جمعها جهابذة ؛ ومعناها النقاد الخبير بغوامض الأمور .
    [7] النحل (43) والأنبياء (7) .
    [8] كذا في المطبوع ولا أدري أهي محفوظة أم مصحفة عن نحو (نُقّال) أو (نَقَلة) .
    [9] لعلها ينتبه أو يثبته أو يتبينه .
    [10] وانظر (مجموع الفتاوى) (1/7-8)
    [11] أخرجه الذهبي بإسناده في (سير أعلام النبلاء) (10/70) .
    [12] أخرجه ابن حبان في مقدمة (المجروحين) (1/26)
    [13] المجروحين (1/27) .

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    2,642

    افتراضي رد: أصول وفروع متفرقه في مسألة تقوية الحديث بمجموع طرقه


    بارك الله فيكم يا شيخ محمد
    متابعٌ للموضوع ومفيدٌ منه، نفع الله بكم

    يسرني متابعتك لصفحتي على الفيسبوك
    http://www.facebook.com/profile.php?...328429&sk=wall

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jun 2007
    المشاركات
    132

    افتراضي رد: أصول وفروع متفرقه في مسألة تقوية الحديث بمجموع طرقه

    التنبيه الرابع
    ليس معنى التبيه السابق سد باب النقد الحديثي أو باب التقوية بكثرة الطرق
    علم التقوية بكثرة الطرق هو – كما تقدم - فرع من فروع علم العلل، ومسألة من صعاب مسائله، فهو خروج عن الأصل العام لأحاديث الراوي الضعيف إلى حكم استثنائي اقتضاه النظر المتبحر في الروايات الأخرى لذلك الحديث ؛ وهو - بهذا - نظير تضعيف حديث الثقة، فهو - أعني تضعيف حديث الثقة - أيضاً حكم استثنائي اقتضاه النظر الفاحص المتعمق في الروايات الأخرى للحديث.
    فإذا كان هذا الفن هو من فروع علم العلل، فهل معنى ذلك سد باب التقوية بكثرة الطرق لانعدام علماء العلل اليوم؟ [هذا على افتراض انعدامهم، وقد يكون هذا الافتراض هو الواقع].
    الجواب: لا، لأن هذا القول يؤدي إلى إبطال البحث والاجتهاد في علم الحديث جملة وتفصيلاً، وهو قول باطل، فلازمه باطل مثله.
    ولكني أقول: إن المسألة المعقدة المشكلة التي كان عالم العلل يتكلم فيها بطلاقة ويمر فيها كالسهم، قد يتمكن الباحث اليوم من دراستها وإصدار الحكم فيها، ولكن بشروط:
    الأول: أن يكون قد فهم جيداً أصول علماء العلل وطرائقهم ومناهجهم واصطلاحاتهم .
    الثاني: أن يتقي الله كثيراً ويتثبت التثبت الذي يستحقه الحكم على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو - قطعاً - أخطر من الإفتاء، لو كانوا يعلمون!
    الثالث: أن يجد من نفسه أنه من أهل الفطنة والذكاء والنباهة وقوة الملاحظة، وأن يشهد له بذلك الصادقون العارفون من مشايخه، أو غيرهم من أصحاب الشهادة المعتبرة .
    الرابع: أن يتعب نفسه في البحث والتفتيش فيصل من ذلك إلى حد يرى أنه قد استوعب وجوه المسألة وأقوال علماء العلل فيها أو في بابها أو في أمثالها.
    الخامس: أن يعلم ذلك الباحث أنه إذا تأهل فشارك في اكتشاف علل بعض الأحاديث، التي يرى هو أنه غير مسبوق إليها، فإنه ليس معنى ذلك أنه صار من علماء العلل، وإنما هو باحث في علم العلل، وحسْب.
    فالحكم التعليلي الذي كان يطلقه الإمام أحمد أو أبو زرعة في دقيقة، ثم صار يُصْدره الخطيب البغدادي في دقائق أو ساعات، ثم صار ابن حجر يصدره في أيام: صار هذا الباحث يقدر على إصدار حكم مثله، ولكن بعد استقراء تام وتفتيش شامل واستعانة بأقوال العلماء وبحوث الباحثين، وقد يستغرق ذلك منه أياماً طويلة، وربما أشهراً كثيرة، بل ربما رجع بعد كل ذلك البحث الدائب المتواصل بخفي حنين، أو صرح بالتوقف في المسألة أو العجز عن معرفة وجه القول فيها.
    فإذن لا بد من التثبت والتحري والتوقف طويلاً قبل أن يخوض المرء في مثل هذه العلوم الصعبة، فأين علم العلل وأين أهله؟!
    اللهم بارك لنا في علمائنا المعاصرين من أهل السنة والجماعة كما باركت في علمائنا السابقين .
    وفي المرة القادمة يأتي تنبيه آخر ، بإذن الله

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jun 2007
    المشاركات
    132

    افتراضي رد: أصول وفروع متفرقه في مسألة تقوية الحديث بمجموع طرقه

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الحمادي مشاهدة المشاركة

    بارك الله فيكم يا شيخ محمد
    متابعٌ للموضوع ومفيدٌ منه، نفع الله بكم
    بارك الله فيكم ، ومنكم نفيد ، وجزاكم الله على مروركم وتعليقكم خيراً .

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jun 2007
    المشاركات
    132

    افتراضي رد: أصول وفروع متفرقه في مسألة تقوية الحديث بمجموع طرقه

    التنبيه الخامس
    خطأ الاكتفاء بالضوابط المجملة والأصول العامة
    يكتفي أكثر الباحثين الحديثيين في هذا العصر - وقد سبقهم إلى ذلك أكثر المتأخرين المشتغلين بهذا الفن - بالضوابط الإجمالية والقواعد العامة ، فترى أحدهم مثلاً يقول ما معناه : (القاعدة أن الضعيف الذي لم يشتد ضعفه يستشهد به فإذا روى حديثاً تابعه عليه من هو مثله أو قريب منه فذلك الحديث حسن بمجموع الطريقين ) ! ؛ هكذا بإطلاق ، وتراه يطبق هذا في تخريجاته وكأنه في درس رياضيات حسابية (جبر أو هندسة) .
    هذا مثال فقط ، ونظائره متكاثرة جداً ؛ ومشكلة الاعتماد على القواعد اعتماداً كلياً وطردها أبداً : مشكلةٌ فاقت خطورتُها وسوءُ أثرها تصوُّرَها .
    ولقد كنت كتبت موضوعاً (مقالة مطولة) في هذه المسألة ، وهي قيد النشر إن شاء الله تعالى ، وبسبب ذلك ، وبسبب طولها أيضاً ، فإني أقتصر هنا على أن أقتطف منها صدرها ، فدونك ذلك .
    ******
    لما كان علم الحديث صعباً عصياً متأبياً على أكثر طالبيه والراغبين فيه كما تقدم ذكره نتج عن ذلك كثرة اختلاف مراتب أهله فيه ، ومعرفة مراتب العلماء ومنازلهم علمٌ لا تخفى أهميته وكثرة نفعه .
    ولكن مما لا يخفى أيضاً أنه ليس علينا معاشر الباحثين في هذه الأعصر أن نعرف مراتب علماء الحديث على التفصيل الكامل الشامل الدقيق، لأن ذلك ليس بوسعنا ؛ بل ليس بوسعنا معرفة ما هو أدنى من ذلك ، أعني معرفة مراتبهم وتفاصيل أحوالهم في علمهم كما يعرف العالم ذلك عن شيوخه الذين طالت ملازمته لهم ومداخلته لأحوالهم ، أو كما يعرف النبيه من المدرسين مراتب وخصائص طلبته ولا سيما عندما يتكرر منه اختباره لهم واستكشافه لملكاتهم ومقادير فهمهم وطرائقهم في تعلمهم .
    نعم ، ليس ذلك علينا ، ولكن علينا ألا نقصر في معرفة كل ما يتهيأ لنا - أو ما نقدر عليه - من تفاصيل تتعلق بمراتبهم ولو على الإجمال، وبمناهجهم ولو على التقريب ، فذلك علم لا يُستغنى عنه وبابٌ لا بد من دخوله .
    وليس هذا هو موضوع هذا البحث ولكنه شيءٌ جرَّنا إليه الكلام المتتابع ، ثم إنه كالتمهيد لما نريد .
    أما مراد البحث فهو تقسيم المحدثين بطريقة أخرى غير ما تقدم ، وهو تقسيمهم إلى طائفتين بينهما في الجملة كثير من الاختلاف (نعم ، كثير من الاختلاف) ، في الأصول العامة والقواعد الواسعة والضوابط الضيقة ، ثم بيان خصائص كل واحدة من الطائفتين وشرح ما لها وما عليها ، مع التزام الإنصاف والقسط والتثبت بحسَبِ الوسع والطاقة إن شاء الله تعالى وما التوفيق إلا من الله العليم الحكيم ؛ فأقول :
    إذا جاء الباحث المطلع واستقرأ طرائق علماء الحديث في نقدهم واستكشف مقاماتهم في فنهم، وجد أنهم كما ينقسمون إلى مراتب كثيرة متفاوتة، فإنهم ينقسمون في الجملة إلى مرتبتين إجماليتين وفرقتين رئيسَتَيْنِ وطائفتين كبيرتين .
    أما أُولى الطائفتين فجماعة من الأئمة الذين كانوا عجباً في فنهم، تمكن مذهل، وحفظ تام وذكاء يتوقد ومعرفة بالتفاصيل تظن إذا سمعت منهم بعضها أنهم لا يكاد يخفى عليهم من مهمات أصول وفروع هذا العلم شيء، وما ظنك من الحقيقة ببعيد.
    وأما الطائفة الثانية فعلماء أفاضل، ولكنهم دون أولئك بمراتب؛ وليس ذلك بعيب فيهم ، فقد جعل الله لكل شيء قدراً؛ ولكن العيب أن لا يعرف المرءُ قدر نفسه وعلمه، ولا يعرف لمن هو فوقه في العلم منزلتَه؛ وقد وقع شيء من ذلك، مِنْ قِبَلِ بعض المتأخرين أو المتعاصرين، وأكثره كان عن حسن قصد، ولكن ما كان ينبغي أن يكون؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله .
    ولم يقفِ الأمرُ عند هذا الحد، بل تعداه إلى ما هو أخطر بكثير، فإنَّ هذه الصناعة الحديثية الشريفة الموقرة الجليلة الخطيرة طمع فيها – لأسباب كثيرة منها ما تقدمت الإشارة إليه من تصرفات أدت إلى تهوين شأن هذا العلم بتهوين شأن أئمته – أقول طمع فيها كثير ممن ليسوا في العير ولا النفير، من طالب دراسة جامعية يقرأ سنتين ما شمَّ قبلها لعلم الحديث رائحةً ، فيكتب رسالةً يحكم فيها بالقبول أو الرد على مئات من الأحاديث التي لو عرض كثير منها على مثل أحمد بن حنبل لتوقف فيها أو لجمع لها – أو لكثير منها – علي بن المديني وابن معين وأضرابهما لو تيسر له ذلك، ومن رجل جاهل حصّل مخطوطةً حديثية نفيسةً فأبى إلا أن يقومَ هو – دون غيره - بنشرها وتحقيقها وتصحيحها ، وما درى أن الذي قام به إنما هو تزويرها وإفسادها وتصحيفها .
    فانتهى الحال إلى ما ترون من المآل، ووقع في هذا العلم الشريف ذلكم الإخلال.
    فحقَّ لأهل العلم أن يتمثلوا*****ببيت قديم شاع في كل مجلسِ
    لقد هزلت حتى بدا من هزالها***كُلاها وحتى سامها كل مفلسِ
    وحقَّ لهم أن يتمثلوا بقول من قال:
    لَمّا تبدلتِ المنازلُ أوجُهاً ******* غيرَ الذين عهدتُ من علمائِها
    ورأيتها محفوفةً بسوى الألى ****** كانوا ولاةَ صدورِها وفِنائها
    أنشدتُ بيتاً سائراً متقدماً ****** والعينُ قد شرقت بجاري مائها
    أما الخيام فإنها كخيامهم *** *** وأرى نساء الحي غير نسائها
    فإذن نحن بين يدي علمٍ بل بحرٍ محيطٍ لا ساحل له ، وميدان خطيرٍ قلَّ فرسانه ، وصناعة غريبة لا يتقنها في الحقيقة إلا أفراد أفذاذ وعلماء خلقهم الله تعالى لهذا الشأن ، ولكنهم قلت على مر العصور أعدادُهم حتى صاروا غرباء في بلادِهم ، وجهل حقَّهم أكثرُ الخلائق ، لكن هؤلاء الأئمة الجهابذة قد عرف حقَّهم العلماءُ المحققون قديماً وحديثاً وأبرزوا مكانتهم وأظهروا فضلهم فأنزلوهم المنزلة التي يستحقون ووقفوا أمام بحار علمهم خاضعين غير خائضين ، وإنما يعرف الفضلَ لأهله أهلُه ، خذ مثلاً لذلك – وتدبرْه - قولَ الإمام البخاري : (ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني) .
    إنه علمٌ من تكلم فيه من غير أئمته فالخطر إليه أسرع من سلامته ، ومن دخل فيه من غير بابه فخطؤه أقرب إليه من صوابه .
    هذا شأن هذا العلم الشريف الجليل ؛ ولكن قد حصَلَ أمرٌ كان سيء الأثر جداً عليه ، وإن ذلك لمصاب جلل على هذه الأمة وخطب كاد يقصم ظهرَ العلم الشرعي لولا أن تداركه الله برحمة منه ، فما هو ذلك الأمر وما خبره؟ إليك بيان ذلك .
    بدأت الأمة بعد القرون الأولى تضعف شيئاً فشيئاً ، ثم لم يزل الضعف مستمراً ، ولا شك أن أول ما يضعف بضعف الأمة هو علمها الأول علم الحديث النبوي في نقله ونقده وفقهه والعمل به .
    وكان من نتيجة ذلك أن تنازلت مراتب حملة هذا العلم الشريف عما كانت عليه ، وأن تجرأ على الدخول في ميدانه كثير ممن لا يُحسنه ، فشارك فيه كثيرٌ من المتفقهة القاصرين وبعض ضعفاء الطلبة وجماعات من المتعالمين ومن أصحاب المقاصد المنحرفة ، فكان لهؤلاء في الجملة أصول غير التي لأهل الحديث الذين هم أهله ومناهج غير التي كانوا يسلكون .
    وهكذا صار الحديثيون أو المشتغلون بالحديث منقسمين في الجملة إلى طائفتين كبيرتين : طائفة عالمة ورعة متثبتة متأهلة ، وطائفة منحرفة عنها في منهجها وقاصرة عنها في علمها ومقصرة في التطبيق .
    وقبل أن أبدأ بتفصيل أهم الفروق بين الطائفتين أود أن أنبهك على مسألتين :
    الأولى : أنني رأيت أنه يحسن بي في هذا المبحث أن أسمي الطائفتين ، لأجل اختصار التعبير ، فرأيت أن أصطلح على تسمية الأولى (طائفة علماء العلل والتفصيل) ؛ وأصطلح على تسمية الثانية (طائفة علماء الجمل والتأصيل) ؛ وسأنبيك عن سر هاتين التسميتين ببيان؛ بل ستفهم أنت ذلك – إن شاء الله تعالى - من مجرى الكلام على الفروق بين هاتين الطائفتين .
    الثانية : إن الفروق الفرعية بين الطائفتين أعني الفروق بينهما في الأحكام على الأحاديث وأسانيدها ورواتها كثيرة ، وأنا لا أريد – بل ولا أملك – أن أذكرها هنا؛ فذلك خارج عن موضوع هذه المقالة وخارج عن حدود قدرة باحث واحد ولو أطال البحث واسترسل فيه؛ ثم إنه لا ينبغي أن يكون هو المقصود بالدراسة لمنهج الطائفتين، فإنه لا يفي ببيان صفة منهجيهما وحقيقة مذهبيهما؛ وإنما الذي يبين ذلك بياناً شافياً هو أصول الطائفتين وكبار قواعدهما ، فدونك بيان ذلك .
    هاتان الطائفتان بينهما فروق أصلية منهجية؛ أرى أنها راجعة إلى أمور سبعة ، وإليك سر هذا التقسيم :
    إننا إذا نظرنا في أنواع الاختلاف العلمي بين الطائفتين وجدت أنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
    القسم الأول : الاختلاف في الأصل الأعم الأكبر .
    القسم الثاني : الاختلاف في الأصول العامة والقواعد الواسعة .
    القسم الثالث : الاختلاف فيما سوى ذلك ، كالأصول الجزئية والضوابط والقواعد الفرعية والتفاصيل بكل مراتبها وأنواعها .
    والأصل أن أذكر في كل قسم من هذه الأقسام الثلاثة الفرقَ بين الطائفتين من جهتين اثنتين :
    أولاهما : جهة مقدار الاطلاع وسعة العلم .
    وثانيتهما : جهة مقدار الإصابة والخطأ .
    فبذلك يتبين ما هي الطائفة الأوسع اطلاعاً علماً والأقل خطأً وانحرافاً .
    ولكن الجهة الأولى ، أي الفرق في مقدار الاطلاع غير متصوَّر - أو غير موجود - في القسم الأول ، فهو أصل واحد معين لكل طائفة ، لا يزيد ولا ينقص ؛ وهو – أي الفرق المذكور - قليل في القسم الثاني ، فلا يستحق الذكر في مثل هذا البحث ، فلذلك ذكرته في القسم الثالث فقط ؛ وأما مخالفة الصواب فمذكورة في الأقسام كلها .
    فهذه أربعة أمور ، وهي علمية ، فإذا أضفنا إليها ثلاثة أمور أخرى أحدها علمي أيضاً وثانيها ديني وثالثها منهجي : صارت الأمور سبعة ، وهي ما أذكره فيما يلي :
    أما أولها: فهو المبدأ والمنطلق في نقد الأحاديث ، أي الأصل الأكبر في ذلك ، وإن شئت فقل: هو أصل تأصيل نقد الأحاديث .
    وأما الثاني: فهو مقدار الإصابة والخطأ في قواعد الطائفتين الكبرى وأصولهم العامة .
    وأما الثالث: فهو سعة الاطلاع على القواعد الفرعية والضوابط الجزئية والتفاصيل وتفاصيلها .
    وأما الرابع: فهو مقدار الإصابة والخطأ في هذه المعاني المذكورة في الأمر الثالث .
    وأما الخامس: فهو مقدار التأهل للاستقراء الصحيح ومقدار المكنة من التفريع الصحيح على ذلك الاستقراء، ومدى التأهل للتطبيق الصحيح والاستنباط العميق والملاحظة الدقيقة .
    وأما السادس : فهو ما يتعلق بالجرأة والورع في نقد الأحاديث .
    وأما السابع : فهو ما يتعلق بالاجتهاد والتقليد في نقد الأحاديث .
    وأتكلم هنا إن شاء الله تعالى على كل واحد من هذه الأمور السبعة بما يبينه؛ فأقول:
    أما الأمر الأول:
    وهو اختلاف الطائفتين في المبدأ والمنطلق، فإنما معناه أن طائفة التفصيل تبدأ بالتفصيل ، وتبحث عنه وتريد أن تنتهي إليه ، وهي لا تعدل بالتفصيل شيئاً ولا تقنع ببديلٍ عنه إلا إذا عدمته ؛ إنها تريد أن تعرف عن كل راو أو سند أو حديث أكملَ وأدقَّ ما يمكن أن يُعلم عنه ، مما هو منقول عن النقاد والمؤرخين وما هو معلوم باستقراء الأحاديث ونحو ذلك ؛ فإن لم يتيسر لها ذلك، انتقلتْ – بعد اليأس من تحصيل هذه المرتبة العليا – إلى مرتبة أدنى منها ولكنها الأقرب إليها ، أي هي الأكثر تفصيلاً مما يمكن الوقوف عليه من مراتب التفصيل في ذلك الشيء المبحوث عن حاله ؛ وهكذا تتنازل هذه الطائفة في بحثها ونقدها لكل مسألة، من مقام التفصيل الأعلى إن تعذر أو تعسر، إلى أقرب ما يليه من مقامات التفصيل الممكنة؛ فتنازلها إذن اضطراري لا اختياري؛ واجتهادي لا تقليدي ولا انتقائي .
    وهكذا يستمر أحياناً تنازلُ طائفة العلل والتفصيل في الحكم على بعض الجزئيات إلى أن تبتعد كثيراً عن الاستناد إلى التفصيل المفيد وتقترب جداً من الاتكاء على الإجمال البعيد ، أعني : يكون الحكم على القضية الجزئية حكماً تغليبياً وتخمينياً لأنه يستند إلى حكم عام مجمل ؛ وأصل غير قريب ، ولكن لا عيب عليهم في ذلك ، فليس على العالم أن يعلم ما لا يوجد علمه بين الناس ، ولكن عليه أن لا يقصر في طلب النافع من العلم وجمعِ أشتاته واستظهار خوافيه ، ولا سيما في فنه الذي يتكلم فيه ، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها .
    ومثال ذلك – أي القناعة بالاستناد إلى العلم المجمل - أن يردوا الحديث لما فيه من عنعنة راو مدلس مكثر من التدليس؛ لأنهم لا يعرفون من كيفية تحمل ذلك الراوي لذلك الحديث خاصةً شيئاً ، بل ولا يعرفون من التفصيل في عنعنة ذلك الراوي أكثر من أنهم يعرفون أنه مدلس مكثر من التدليس؛ وهذا بخلاف بعض أحاديث بعض المدلسين فترى النقاد يستثنونها ويحكمون فيها بحكم مختص بها ، فيقولون مثلاً : فلان المدلس سمع هذا الحديث من شيخه زيد باعتراف زيد نفسه ، أو بشهادة فلان من أقرانه أو تلامذته ، أو بدلالة كذا وكذا، أو هو مكثر عن زيد جداً طويل الملازمة له فلا تضره عنعنته عنه ويكون لها خاصة حكمُ الصيغ الصريحة في السماع .
    ومثال الاستناد إلى أصل عام أيضاً أن يمر بهم تابعي صغير مجهول ولكنه من شيوخ مالك وهم لا يعرفون عنه شيئاً فيقولون: هو ثقة لرواية مالك عنه، مستندين على حكم عام وأصل أغلبي وهو أن مالكاً لا يروي إلا عن ثقة عنده؛ مع أنه قد عُلم روايته عن عدد يسير من الضعفاء .
    فإذن الاستناد إلى القواعد الكبرى والضوابط الواسعة والأصول البعيدة لا يكون – عند الطائفة الأولى – إلا عند فقدان تفاصيلها التي من شأنها أنها تحرص جداً على تحصيلها؛ وهي مع ذلك تتدرج ، بل تتدرك ، في نزولها من علمِ فرعٍ ضيق تعجز عنه إلى علم فرع يكون أوسع من الأول وأعم منه وأشمل ، وهي في كل ذلك – كما ذكرنا - مضطرة غير مختارة ؛ فهي تحرص على الفروع والتفاصيل وتجمد عليها ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، أكثر من حرص أهل الأصول والقواعد وجمودهم على أصولهم وقواعدهم .
    فالقواعد والأصول عند الطائفة الأولى وجدت للحاجة واختصار التعبير، وتيسير الحفظ وتسهيل التعليم ، وهي لا يصار إليها أو يُستند عليها - بل ولا يُلتَفتُ إليها - إلا عند فقدان ما يغني عنها ويفْضُلها من العلم الأكثر تفصيلاً والأكمل تصريحاً والأبين تفسيراً .
    وأما الطائفة الثانية ، فإنها ظنت – غيرَ موفَّقةٍ في كثير من ذلك الظن - أن العلم هو القواعد والأصول ، وأن تلك الأصول يجب أن تكون حَكَماً على التفاصيل وحُكماً لها ؛ وأنه لا يصح أن يُقبلَ قولٌ يخالف قاعدة شائعة أو يخرج عن أصل معتبر ، إلا بدليل تقتنع به هذه الطائفة نفسها .
    فلو قال عالم من علماء الطائفة الأولى - وهم أئمة العلل والتفصيل - : هذا الراوي من شيوخ مالك ضعيف ، أو قال : هذا الحديث من أحاديث المدلس الفلاني متصل، قاموا عليه وعارضوه بنحو قولهم: أخالفت الأصل أو نسيته؟! وهو لم يخالفه ولم ينسه .
    فصنيعهم لو تدبرتَه وجدتَه من باب تقديم العام على الخاص، أي من باب حمل الخاص على العام؛ ومعلوم أن هذا أصل باطل لا يحق ومنهج أعوج لا يستقيم .
    فإن قيل: لِمَ فعلتِ الطائفةُ الثانيةُ ذلك؟
    فالجواب أنهم أُتوا في ذلك من أمور:
    أولها: نقص كبير في الوقوف على التفاصيل ، فأدى بهم ذلك إلى الغلو في القواعد والأصول والمبالغة في الرجوع إليها والاعتماد عليها ، وتفاقم الأمر إلى أن وصل ما إليه وصل .
    الثاني: النظرة المنطقية التي تدأب وتحرص أبداً على أن تجعلَ كلَّ فرع داخلاً تحت أصل عام لا ينبغي أن يُخرج عنه إلا في حالات نادرة جداً ولأدلةٍ مسوغةٍ للخروج تكون كالشمس في وضوحها ؛ وهذه التربية المنطقية تسربت إليهم من محدثي الفقهاء، ومن الفقهاء والأصوليين المتأثرين بعلم المنطق والكلام ، وهي في الأصل مأخوذة من أصحاب هذين العلمين أنفسهم ، أي من المتكلمين والمناطقة ، بل ومن الفلاسفة أيضاً ، وهم أصل كل داءٍ وبلاء .
    قال الشيخ عبدالله السعد حفظه الله وثبته ونفع الأمة بعلمه في تقديمه لبعض طبعات (إرشاد الفحول) للشوكاني : (ثم توالت المصنفات بعد الرسالة [يعني رسالة الإمام الشافعي] في علم أصول الفقه ؛ وقُسمت هذه المؤلفات إلى قسمين من حيث المنهج
    1- طريقة الفقهاء
    2- طريقة المتكلمين
    ولا شك أنها على قسمين ، ولكن غير ما تقدم .
    وإنما القسم الأول ما كان على طريقة الشافعي من تعظيم لكتاب والسنة والاعتصام بهما وذكر الأدلة الشرعية الإجمالية وبيان مراتبها وربط الأصول بالفروع من خلال الإكثار من ضرب الأمثلة ومناقشة المسائل الخلافية بالحجة الشرعية والبرهان الصحيح وترك المسائل النظرية والإعراض عن المباحث الكلامية والفلسفية و... .
    وممن سار على هذا المنهج الخطيب البغدادي في (الفقيه والمتفقه) وأبو بكر البيهقي في (المدخل إلى السنن الكبرى) ومقدمة (معرفة السنن والآثار) ، و(مقدمة دلائل النبوة) ، وأبو عمر ابن عبدالبر في (جامع بيان العلم وفضله) ، فقد تحدث فيه عن بعض المسائل الأصولية ، و(أعلام الموقعين) لأبي عبدالله ابن القيم وغيرها .
    وأما الطريقة الثانية ففيها الإكثار من ذكر المسائل النظرية والبحث في مسائل كلامية وقضايا منطقية مع عدم الإكثار من ضرب الأمثلة وربط الأصول بالفروع ، فأدى هذا إلى تعقيد هذا العلم مع قلة الفائدة المرجوة من هذه الطريقة ، قال أبو العباس بن تيمية كما في (مجموع الفتاوى) (20/402) : (فالأصوليون يذكرون في مسائل أصول الفقه مذاهب المجتهدين كمالك والشافعي والأوزاعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وداود ومذهب أتباعهم ؛ بل هؤلاء ونحوهم هم أحق الناس بمعرفة أصول الفقه ، إذ كانوا يعرفونها بأعيانها ويستعملون الأصول في الاستدلال على الأحكام ، بخلاف الذين يجردون الكلام في أصولٍ مقدرةٍ بعضها وُجد وبعضها لا يوجد ، من غير معرفة أعيانها ، فإن هؤلاء لو كان ما يقولونه حقاً فهو قليل المنفعة أو عديمها ؛ إذ كان تكلماً في أدلة مقدرة في الأذهان لا تحقُّقَ لها في الأعيان ، كمن يتكلم في الفقه فيما يقدره من أفعال العباد وهو لا يعرف حكم الأفعال المحققة منه ، فكيف وأكثر ما يتكلمون به من هذه المقدرات فهو كلام باطل) .
    وقال أبو المظفر السمعاني في (قواطع الأدلة) (1/18) : (فرأيت أكثرهم قد قنع بظاهر من الكلام ورائق من العبارة ولم يداخل حقيقة الأصول على ما يوافق معاني الفقه ؛ ورأيتُ بعضَهم قد أوغل وحلل وداخل غير أنه حاد عن محجة الفقهاء في كثير من المسائل وسلك طريق المتكلمين الذين هم أجانب عن الفقه ومعانيه بل لا قبيل لهم فيه ولا دبير ولا نقير ولا قطمير ، ومن تشبع بما لم يُعطَ فقد لبس ثوبي زور... اهـ ) .
    الثالث: عدم فهمهم - أو عدم تيقنهم - أن القواعد إنما أوجدها أصحاب الطائفة الأولى - شأنهم في ذلك شأن أصحاب كل علم صحيح - ليكون الاستناد إليها والتفريع عليها عِوضاً عن التفاصيل عند فقدانها في مسألة جزئية من مسائل ذلك العلم ، وملجأ للباحثين عند تعذر المعرفة التحقيقية الدقيقة ، كما تقدم .
    إن جادّةَ جمهور المتأخرين في علومهم إنما هي بناء الأحكام الفرعية على الأصول العامة ، فكأنهم لذلك ظنوا أن المتقدمين كذلك كانوا ، وما علموا أن المتأخرين والمتقدمين ليسوا سواء ، فالمتقدمون طريقتهم بناء الأصول على الفروع ، ثم إعطاء الفرع – أي المسألة الجزئية - إذا جُهل وصفه وتفصيله حكمَ الأصل العام ، كما تقدم بعضُ أمثلته ؛ وأما إذا عُلم من الفرع أيُّ تفصيلٍ مختص به فيكون الاستناد في الحكم عليه : على هذا التفصيل لا على ذلك الإجمال والتعميم .
    هذا وإن شئت فقل هنا بدل ما تقدم من التعبير : إن المتقدمين والمتأخرين تماثلوا في المبدأ واختلفوا في التطبيق ، فكل واحد من الطائفتين يبني فروعه على أصوله ، ولكن المبني عليه عند المتقدمين هو الأحكام التفصيلية ، والمبني هو الأصول والضوابط المجملة ؛ وأما المتأخرون فعلى الضد من ذلك ، فقاسوا المتقدمين عليهم فكان ذلك القياس فاسداً عند المحققين بلا منازع ، بل معكوساً ومضاداً للواقع .
    وهكذا أُتي المتأخرون من عدم فهمهم – أو عدم تيقنهم – أن القواعد والأصول الصحيحة إنما هي في أصلها قائمة على الأحكام الفرعية للأئمة ومتفرعة عنها ومستندة إليها؛ فالراوي الذي قال فيه النقاد المتقدمون المجتهدون : (هو ضعيف) فهم إنما قالوا ذلك فيه بعد أن استقرأوا أحاديثه أو معظمها وتتبعوا طرقها وحكموا عليها ونظروا في كل ما يتعلق بها مما من شأنه أن يعين على التوصل إلى معرفة ما يليق بها من حكم وما تستحقه من وصف؛ وعند ذلك وصفوا ذلك الراوي بكلمة وجيزة تكون دلالة على حاله في الجملة لتكون أصلاً في أحاديثه، فيلجأ إلى هذا الأصلِ الناقدُ الذي لم يتمكن - بعد البحث والتنقيب التامين اللذين يستفرغ فيهما جهده - من معرفة تفاصيل حديث بعينه من أحاديث ذلك الراوي، فيحكم على ذلك الحديث بالضعف ، أي بهذا الحكم العام الأغلبي الأصلي، لاضطراره إليه .
    فالراوي الذي قالوا فيه: (ضعيف) ليس معنى قولهم هذا هو أنهم وجدوا كل أحاديثه ضعيفة فوصفوه بالضعف ؛ بل معناه أنهم وجدوه روى أحاديث مستقيمة وأحاديث أخطأ فيها، وأحاديث لم يتبين أمرها وهي محتملة، فعلموا أنه إن كان لا بد من وصف حال هذا الراوي بكلمة واحدة أو بعبارة وجيزة ونحوهما فأعدل شيء في حقه هو هذا الاصطلاح ، أعني كلمة (ضعيف) وما يؤي معناها .
    وبعد هذا أقول لأجل توضيح جملة المعنى المتقدم :
    إن أقرب ما يوضح معنى هذا الحكم المجمل – أي الحكم على الراوي بأنه ضعيف - هو أن يقال: إن معناه في اللهجة الدارجة في المدارس هو (المعدل الدراسي ) ، فمعدل هذا الراوي في أحاديثه هو أنه ضعيف ؛ فهو من جنس المعدلات التي تُمْنَح للطلاب في مدارسهم ؛ فمثلاً الطالب الذي يكون معدله (جيد) فهل معنى ذلك أنه جيد في كل علم من العلوم التي اختُبِر فيها في تلك السنة الدراسية ؟ الجواب كما هو معلوم : لا ؛ فوصفه بأنه جيد إنما معناه أنه حصل باعتبار جملة تلك العلوم – لا باعتبار كل واحد منها وحده - على درجة بين الستين والسبعين من مئة درجة ، فهذه الدرجة التي حصل عليها هي المعدل الإجمالي لدرجاته في كل الدروس ؛ فلو جئت إلى تفاصيل درجاته فقد تجده متفوقاً في بعض الدروس وقريباً من التفوق في دروس أخرى وتجده متوسطاً في قسم ثالث منها وضعيفاً أو رديئاً في بقيتها ، بل ربما يكون فاشلاً في درس أو درسين إذ لا يلزم من كون معدله جيداً أن يكون ناجحاً في كل دروسه .
    إذا عُلم هذا – بل هو معلوم متواتر - عُلم أن إنكار الطالب أو غيره - كولي أمره – على مدير المدرسة التي حكمت بفشل الطالب ورسوبه بأن ذلك الطالب قد نجح في بعض دروسه : إنكارٌ غير وجيه ولا محل له .
    هذا مثال لتقريب المسألة وتوضيحها لبعض الأخوة المبتدئين في دراسة وتصور هذه القضية قضية الفروق بين الطائفتين .
    وبعد هذا التمثيل وما تقدم قبله أسأل قائلاً :
    إذا ضعَّف أحد الأئمة النقاد المتقدمين رجلاً من رجال الحديث ، ثم حكم على حديث من أحاديثه بأنه صحيح ، فهل من العلم الصحيح أو العدل والنصفة أن نردَّ قوله بنحو قولنا : كيف تصحح حديثه وهو راو ضعيف؟! أو أن ننكر عليه أو نستغرب صنيعَه فنقول : كيف ضعفتَ راوياً وصححتَ حديثاً من أحاديثه ؟! أو نحو هذا القول ؟ .
    أليس له – أو لمن ينصره – أن يردَّ على الذين يسألون مثل هذين السؤالين بأن يقول متعجباً: (كيف قبلتم واحداً من قولَيَّ أو حُكمَيَّ ورددتم الآخر ؟! قبلتم تضعيفي للراوي - وهو حكم عام مجملٌ أغلبي بنيْتُه على معرفتي بأحاديثه جملةً وتفصيلاً - ورددتم استثائي من هذا الحكم العام حديثاً بعينه أنا علمتُ أنه أصاب في روايته له وما أخطأ ؛ علمتُ إصابتَه فيه من مصاحبتي له أو من أقوال النقاد المطلعين على تفاصيل أحواله وأحاديثه ، أو من استقرائي لأحواله وأحاديثه من أجل أن أتوصل إلى معرفة أحوال مروياته على التفصيل من جهة ، وأن أتوصل إلى الحكم عليه – أي على الرجل – بكلمة مجملة من جهة أخرى ؟ والحكم على الراوي عندي فرع من الحكم على جملة أحاديثه ، فلِمَ عكستم أنتم المسألة في حقي وحسبتم أو جعلتم حُكْمي على كل حديث من أحاديثه فرعاً من حكمي العام المجمل الذي جعلته له – أي للراوي - من أجل اختصار التعبير عن حاله وتلخيصه ومن أجل أن يكون ذلك التلخيص أصلاً في أحاديثه يصار إليه عند الحاجة، وليس من أجل أن يكون نصاً في كل حَديثٍ حدِيثٍ منها ؟ ما لكم كيف تقدمون الأثر على العين والغائب على الشاهد والعام على الخاص ؟ ! وما لكم تعارضون بين الحكم العام والحكم الخاص وتريدون إبطال أحدهما بالآخر ، وتريدون الحكم بالتناقض على من حكم بهما ) .
    نعم، كيف يستقيم ذلك الاعتراض ويتجه ذلك الإنكار ونحن ما تعلمنا ضعف هذا الراوي إلا من ذلك الناقد؛ أفيصح أن نخطّئ مَن علم من التفاصيل ما لم نعلم مجمله إلا منه؟! إن هذا لهو موضع المثل الشهير :
    وكنت أعلمه الرماية كل يوم *** فلما اشتد ساعده رماني
    وإذا تكلم المرء في غير فنه أتى بالعجائب .
    وأذنْ لي أيها القارئ أن أكرر تكريراً آخر – لأجل بيان أو توكيد هذا المعنى الخطير الذي صار غريباً – فأقول : إن المبدأ وأصل الأصول عند أئمة العلل والتفصيل هي التفاصيل، وإن أصل الأصول عند علماء القواعد والأصول هي تلك الأصول العامة والقواعد الواسعة عليها يجمدون وعنها يدافعون؛ ولا يستوي هذان المنهجان ؛ وإن الإنكار على عالم العلل الذي ضعف راوياً وقَبِلَ – مع ذلك - بعض حديثه إنما هو يشبه من كل الوجوه أو من وجوه كثيرةٍ الإنكارَ على مدير المدرسة الذي حكم بفشل الطالب ورسوبه بأن ذلك الطالب قد نجح في بعض دروسه ، ولا شك أن مِثل هذا الإنكار باطل وظالم يدفعه العرف ويستسقمه العقل ، والله المستعان .
    الفرق الثاني : ----- .
    أكتفي بهذا القدر من المقالة المشار إليها ؛ وأنتقل إن شاء الله إلى تنبيه آخر يأتي في المشاركة القادمة ، بتوفيق الله وتيسيره ، ولكن قد يتأخر ذلك بعض الشيء ، دفعاً للملالة وأخذاً بمبدأ التدرج .

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jan 2007
    المشاركات
    1,469

    افتراضي رد: أصول وفروع متفرقه في مسألة تقوية الحديث بمجموع طرقه

    بارك الله فيك ياشيخ محمد
    ونفعنا الله وإياك بما كتبت وبينت
    قال العلامة الأمين : العقيدة كالأساس والعمل كالسقف فالسقف اذا وجد أساسا ثبت عليه وإن لم يجد أساسا انهار

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    May 2007
    المشاركات
    1,901

    افتراضي رد: أصول وفروع متفرقه في مسألة تقوية الحديث بمجموع طرقه

    بارك الله فيكم
    الموضوع شيق ولا اظن ان فيه شيء مما تخافه .
    فاكمل حفظكم الله .
    قل للذي لايخلص لايُتعب نفسهُ

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Jun 2007
    المشاركات
    132

    افتراضي رد: أصول وفروع متفرقه في مسألة تقوية الحديث بمجموع طرقه

    جزاكما الله خيراً ، وبارك الله فيكما وفي سائر إخواننا .
    التنبيه السادس
    عدم استنكار ما هو منكر من تفرد الضعفاء
    كان من عادة أئمة النقد أن لا يقبلوا من تفرد الثقة إلا ما يُحتمل من مثله ، أو قل : هم يقبلون تفرد الثقة إلا إذا جاء بما لا يحتمل منه ، مثل أن ينفرد عن حافظ مكثر له تلامذة يلازمونه ويحرصون على جمع حديثه وتتبع ألفاظه وحروفه ، بحديث لم يروه عنه أحد سواه وليس هو من الملازمين له ، ولا هو من أهل الاعتناء الزائد بجمع الطرق وتتبعها .
    هذا كان شأنهم مع تفرد الثقات ، فمن باب أولى أن يستغربوا أو يستنكروا كثيراً مما تفرد به الصدوقون ونحوهم ، أعني من أصحاب التوثيق الناقص ، فما ظنك بما يتفرد به الضعفاء والهلكى ؟!
    ما ظنك بما يتفرد به راو ضعيف عن قتادة مثلاً ؟! أو عن شعبة ؟! أو عن مالك ؟!
    إن مثل هذا التفرد لا بد أن يكون منكراً ، وحينئذ لا بد أن يُقطع بأن ذلك الإسناد لا يصلح للاستشهاد به ، أعني لا تنفعه الشواهد والمتابعات القاصرة ، باستثناء حالات نادرة جداً ضيقة المجال عزيزة الفهم ، وأما المتابعات التامة فالفرض هنا أنها منتفية .
    جاء في شرح علل الترمذي لابن رجب (1/385) : « قال [أحمد] في رواية إسحاق بن إبراهيم بن هانئ : قد يحتاج الرجل يحدث عن الضعيف مثل عمرو بن مرزوق وعمرو بن حكام ومحمد بن معاوية وعلي بن الجعد وإسحاق بن إسرائيل ، ولا يعجبني أن يحدث عن بعضهم ؛ وقال في روايته أيضاً وقد سأله : ترى أن نكتب الحديث المنكر ؟ قال : المنكر أبداً منكر، قيل له : فالضعفاء ؟ قال : قد يُحتاج اليهم في وقت، كأنه لم ير بالكتابة عنهم بأساً ».
    وقال الإمام مسلم في مقدمة (صحيحه) :
    (وعلامة المنكر في حديث المحدث : إذا ما عُرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضا خالفت روايته روايتهم ، أو لم تكد توافقها ؛ فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك كان مهجور الحديث غير مقبوله ولا مستعمَله .
    فمن هذا الضرب من المحدثين عبدالله بن محرر، ويحيى بن أبي أنيسة، والجراح بن المنهال أبو العطوف، وعباد بن كثير، وحسين بن عبدالله بن ضميرة، وعمر بن صهبان. ومن نحا نحوهم في رواية المنكر من الحديث ، فلسنا نعرج على حديثهم ولا نتشاغل به ؛ لأن حكم أهل العلم، والذي نعرف من مذهبهم في قبول ما يتفرد به المحدث من الحديث : أن يكون قد شارك الثقات من أهل العلم والحفظ في بعض ما رووا وأمعن في ذلك على الموافقة لهم ، فإذا وُجد كذلك ثم زاد بعد ذلك شيئاً ليس عند أصحابه قُبلت زيادته.
    فأما من تراه يعمد لمثل الزهري في جلالته وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديثه وحديث غيره، أو لمثل هشام بن عروة، وحديثهما عند أهل العلم مبسوط مشترك قد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على الاتفاق منهم في أكثره ، فيروي عنهما أو عن أحدهما العدد من الحديث، مما لا يعرفه أحد من أصحابهما، وليس ممن قد شاركهم في الصحيح مما عندهم ، فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس ؛ والله أعلم) .
    وبعد هذا أسوق هنا تخريجاً عصرياً لبعض الأحاديث ليكون مثالاً على تقوية المنكر ، أعني ما يتفرد به الضعيف عن علم من أعلام الحفظ وجبل من جبال الرواية ، مثل قتادة رحمه الله ، بل هو مثال لكثير من المسائل المتقدمة في التنبيهات السابقة وبعض التنبيهات الآتية ، إن شاء الله تعالى .
    حسن بعض أفاضل المعاصرين هذا الحديث (أقل أمتي الذين يبلغون السبعين) ، وقال في تخريجه ما لفظه :
    (رواه ابن الضريس في (أحاديث مسلم بن إبراهيم الفراهيدي) (5/1) والعقيلي في (الضعفاء) (56) عن بحر بن كنيز عن قتادة عن أنس بن مالك مرفوعاً .
    ذكره العقيلي في ترجمة بحر هذا وقال : (ليس له أصل من حديث قتادة ولا يتابع عليه بحر) .ثم روى عن البخاري أنه قال فيه : (ليس هو عندهم بالقوي ، وليس لهذا المتن حديث يثبت ، والرواية فيه فيها لين) .
    ومن طريف بحر رواه ابن عدي أيضاً (39/2) وقال : (الضعف على حديثه بين ، وهو إلى الضعف أقرب) .
    ثم رواه ابن عدي (213/2) عن أبي عباد بن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ :
    (أقل أمتي أبناء السبعين) ، وقال : (أبو عباد عبدالله بن سعيد المقبري عامة ما يرويه الضعف عليه بين) .
    لكن يبدو أنه لم يتفرد به ، فقد عزاه السيوطي للحكيم الترمذي من حديث أبي هريرة به فقال المناوي :
    وفيه محمد بن ربيعة أورده الذهبي في (ذيل الضعفاء) وقال : لا يعرف ، وكامل أبو العلاء جرحه ابن حبان) .
    قلت : كامل من رجال مسلم وهو حسن الحديث ، وفي التقريب : (صدوق يخطئ ، من السابعة ) .
    وكامل [كذا] بن ربيعة معروف بالصدق ، كما تقدم في الحديث (757) وهو نحو هذا .
    فالحديث حسن عندي لذاته أو على الأقل بمجموع طرقه .
    وقد روي من حديث ابن عمر مرفوعاً بلفظ الترجمة .
    أخرجه الطبراني في الكبير (رقم 13594) من طريق سعيد بن راشد السماك عن عطاء عنه .
    وسعيد هذا قال البخاري (منكر الحديث) وقال النسائي : (متروك) .
    ثم وجدت لعبدالله بن سعيد المقبري متابعاً ، ولكنه مثله في الضعف ، أخرجه أبو يعلى في (مسنده) (1542) من طريق إبراهيم بن الفضل بن سليمان مولى بني مخزوم عن المقبري به ؛ وفي لفظ له :
    (معترك المنايا بين الستين إلى السبعين) .
    وأخرجه [لعل الواو زائدة] الرامهرمزي في (الأمثال) (47/1) والخطيب في (التاريخ) (5/476) والقضاعي (15/2) ؛ قال الحافظ : (إبراهيم بن الفضل المخزومي متروك) .
    لكن يشهد له حديث أبي هريرة المتقدم هناك برقم (727) [الصواب 757] ، فإنه عند الثعلبي من طريق ابن عرفة بهذا اللفظ ؛ والله أعلم) .
    تنبيه : حديث محمد بن ربيعة عن كامل أبي العلاء عن أبي صالح عن أبي هريرة أخرجه الترمذي صاحب السنن وقال فيه : (حسن غريب ، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة) ، فخو قد استغربه ، ولم تندفع عنده الغرابة عنه بالطرق الأخرى التي أشار إليها ، ولا معنى للتوكأ على رواية الحكيم الترمذي ورواية الترمذي أبو عيسى تغني عنها ، وهي أولى منها ، والظن أنها هي المحفوظة دون رواية الحكيم إن خالفتها .
    لن أعلق على هذا التخريج بأكثر من هذا ، لأنني أريد من القارئ الفطن – وأحسب أكثر رواد هذا المنتدى المبارك كذلك - أن يتدبره بنفسه ، ويقف على مواطن الخلل فيه ، وأما من كان غير مؤهل لمثل هذا التدبر بسبب ضعف علم أو شدة تعصب لمذهب نشأ عليه فليس مراداً بخطابنا هذا ، والله المستعان .
    وإلى تنبيه آخر من التنبيهات على ما يقع من الخلل في طرق تقوية الأحاديث بمجموع الطرق ، ومن الله العون والتسديد.............. .............

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Jun 2007
    المشاركات
    132

    افتراضي رد: أصول وفروع متفرقه في مسألة تقوية الحديث بمجموع طرقه

    التنبيه السابع
    عدم تدبر الاحتمالات في سبب تعدد الطرق أو كثرتها

    فأكثر ما يتبادر إلى أكثر المتأخرين في هذا الباب هو أن هذه الطرق الأصل فيها والغالب عليها أنها مستقلة عن بعضها وغير متأثرة ببعضها ، وأن أصولها غير متحدة ، ولو كانت عن الواهين والتالفين ؛ ولذلك تراهم يكثر فرحهم بكثرة الطرق ويقوون الحديث بها ! .
    والواقع أن هناك احتمالات كثيرة أخرى في سبب كثرة طرق الحديث الواحد غير ذلك الاحتمال الذي يسبق عندهم أبداً كل احتمال آخر ، وتلك الاحتمالات هي :
    الكذب والتزوير .
    السرقة .
    التلقين .
    الإدخال .
    التدليس .
    الوهم ، وأسبابه كثيرة .
    التصحيف .
    الاختلاط .
    وكذلك من المهم تدبر الاحتمالات في الطرق ، ومحاولة استكشاف تفرع بعضها عن بعض بسبب من الأسباب المتقدمة .
    ذكر الشوكاني في (الفوائد المجموعة) (ص481) الحديث التالي وهو في فضل المعمَّرين : (ما من معمر يعمر في الإسلام أربعين سنة إلا صرف الله عنه أنواعاً من البلاء : الجنون ، والجذام ، والبرص ؛ فإذا بلغ خمسين ليَّن الله عليه الحساب ؛ فإذا بلغ ستين رزقه الإنابة إليه ؛ فإذا بلغ سبعين أحبه الله وأحبه أهل السماء ؛ فإذا بلغ ثمانين قبل الله حسناته وتجاوز عن سيئاته ؛ فإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وسمي أسير الله في أرضه وشفع لأهل بيته ). ثم قال في تخريجه :
    رواه أحمد بن منيع في مسنده ، فذكر نحوه ، وقال : فإذا بلغ خمسين سنة خفف الله عنه الحساب .
    ورواه البغوي في معجمه ، وأبو يعلي في مسنده ، عن عثمان بن عفان مرفوعاً ، كنحو لفظ أحمد .
    ورواه أبو نعيم عن عائشة مرفوعاً بلفظ : من بلغ الثمانين من هذه الأمة لم يعرض ولم يحاسب وقيل : ادخل الجنة .
    وقد أورد الحديث ابن الجوزي في (الموضوعات) ، لكون أحمد رواه بإسناد فيه يوسف بن أبي ذرة ، قال ابن الجوزي : يروي المناكير ، ليس بشيء .
    ورواه أحمد أيضاً بإسناد آخر فيه : الفرج عن محمد بن عامر ، قال : ضعيف منكر الحديث يلزق المتون الواهية بالأسانيد الصحيحة ، ومحمد بن عامر يقلب الأخبار ويروي عن الثقات ما ليس من حديثهم ، وشيخه العرزمي ترك الناس حديثه ، وفي إسناد أحمد بن منيع : عباد بن عباد المهلبي .
    قال ابن حبان : كان يحدث بالمناكير فاستحق الترك [قال المعلمي : إنما قال ابن حبان هذا في عباد بن عباد الأرسوفي ، وهو غير المهلبي ، نبه عليه ابن حجر ، فأما المهلبي فثقة يخطىء ؛ وأرى البلاء في هذا الخبر من شبخه عبد الواحد بن راشد، فإنه مجهول جداً ] .
    وفي إسناد البغوي وأبي يعلي عزرة بن قيس الأزدي ، ضعفه يحيى ، وشيخه مجهول .
    وفي إسناد أبي نعيم : عائد بن نسير .
    قال ابن الجوزي : ضعيف ، فهذا غاية ما أبداه ابن الجوزي دليلاً على ما حكم به من الوضع ، وقد أفرط وجازف ، فليس مثل هذه المقالات توجب الحكم بالوضع ، بل أقل أحوال الحديث أن يكون حسناً لغيره ؛ وقد دفع ابن حجر في القول المسدد هذه المطاعن التي ذكرها ابن الجوزي ، وعباد بن عباد المهلبي : احتج به الشيخان ، وما قال ابن حبان كما نقله ابن الجوزي هو في عباد بن عباد الفارسي [قال المعلمي : كذا ، والمعروف الأرسوفي ، كما مر] ، لا المهلبي ؛ فالغلط لابن الجوزي ؛ وله طرق كثيرة أوردها ابن حجر بعضها رجاله رجال الصحيح ؛ وقد نقل كلامه صاحب (اللآلىء) ، وأطال البحث .
    وقد أوردت كثيراً من طرق الحديث في رسالتي التي سميتها (زهر النسرين الفائح بفضائل المعمرين) . انتهى .
    قال العلامة الألمعي المعلمي اليماني رحمه الله (ص482) تعقباً لقوله (وله طرق كثيرة أوردها ابن حجر بعضها رجاله رجال الصحيح ) :
    (ليس من تلك الروايات ما هو بهذه الصفة ، وأشبهها رواية ابن الأخشيد ، وستأتي ، وأعلم أن هذا الخبر يتضمن معذرة وفضيلة للمسنين ، وإن كانوا مفرطين أو مسرفين على أنفسهم ، فمن ثَم أولع به الناس ، يحتاج إليه الرجل ليعتذر عن نفسه ، أو عمن يتقرب إليه ، فإما أن يقويَه ، وإما أن يركب له إسناداً جديداً ، أو يلقنه من يقبل التلقين ، أو يدخله على غير ضابط من الصادقين ، أو يدلسه عن الكذابين ، أو على الأقل يرويه عنهم ، ساكتا عن بيان حاله---) .
    وقال في موضع آخر من حاشيته على (الفوائد المجموعة) : (وقد يفتري رجل فيسرق منه آخر) .
    وقال في موضع ثالث منها : (وفي اللآلىء أنه قد روي عن السري بن عاصم ، وعن فهد بن حيان ، كل منهما عن حفص بن غياث ، كما قال عبد الرحمن ، أقول : لم يبين السند إليهما ، والسري يسرق الحديث ، فهذا من ذاك ، وفهد واه متروك ، إما أن يكون سرقه ، وإما أدخل عليه) .
    وقال في موضع رابع : (أقول : كأن الذي تولى كبره إسماعيل ، ثم سرقه أحمد بن هارون ، وركب له سنداً آخر) .
    رحم الله المعلمي ، وأين مثل المعلمي ؟! وإن حاشيته على (الفوائد المجموعة) لتصلح منهجاً للنقد الحديثي المنضبط على طريقة أئمة هذا الفن العظيم ، وما أنفع أن يُستَقرأ من مثل هذا العالم الفذ منهجه في نقد الروايات ورواتها ، فأين الباحثون الجادون ؟! وأين طلاب الحقائق ؟!
    وانتظروا التنبيه التالي بإذن الله وتوفيقه ، وأسأل الله أن يعينكم على هذا الموضوع فأنا لا أحسن الاختصار وأحياناً لا أحبه . (ابتسامة تلطيف للأجواء) ------------.

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    May 2007
    المشاركات
    1,901

    افتراضي رد: أصول وفروع متفرقه في مسألة تقوية الحديث بمجموع طرقه

    بارك الله فيكم أكمل فنحن بالانتظار
    قل للذي لايخلص لايُتعب نفسهُ

  16. #16
    تاريخ التسجيل
    Jun 2007
    المشاركات
    132

    افتراضي رد: أصول وفروع متفرقه في مسألة تقوية الحديث بمجموع طرقه

    جزاك الله خيراً كثيراً أخي الفاضل (ابن رجب) ؛ وهذا
    التنبيه الثامن
    وجوب ملاحظة باب الحديث ومعناه ودلالات ما قد يتعلق بذلك المعنى من خلافات بين الفرق ونحوها

    في باب النظر في مجموع الطرق والمتابعات والبحث عن مقتضَياتها ودلالاتها النقدية لا بد من ملاحظة موضوع المتن ، هل هو من المعاني الشائعة أو هو من المعاني الغريبة ؟ هل هو من جنس المعاني التي يزدحم الوضاعون ودعاة الباطل على نشرها أو نشر ضدها ؟ هل هو من المسائل التي تكثر فيها الخصومة بين بعض الفرق الإسلامية ؟ --- هل هو --- هل --- ؟
    فمثلاً من الأحاديث التي ينبغي أن يتأنى الناقد في شأنها كثيراً، وأن تدرس بطريقة خاصة مليئة بالحذر وقائمة على ملاحظة القرائن والأحوال وخالية من التساهل وإحسان الظن: الأحاديث التي يتعلق بها نزاع اعتقادي أو سياسي خطير كأحاديث القدر وأحاديث المهدي وأحاديث افتراق الأمة وأحاديث مناقب الكبار الذين اختلف فيهم الناس وكان الغلو فيهم أو الحط منهم مدار بعض البدع كأمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه، وكثير من أحاديث الفتن وآخر الزمان؛ والأحاديث التي يرغب في معانيها عامة الناس ، أستثني من ذلك ما استقر الأمر على صحته في الأبواب المذكورة وغيرها ، كالأحاديث التي صححها البخاري ومسلم وعلماء العلل ولم يأت فيها خلافٌ مؤثر ؛ فكلامي المتقدم مقصور على الأحاديث التي لم يصححها الأئمة المتقدمون وإنما ورد تصحيحها عن بعض المتأخرين والمتساهلين ومع ذلك نوزعوا في تصحيحها .
    قال المعلمي في تعليقه على (الفوائد المجموعة) (ص504) في ختام كلامه على حديث (إن لكل أمة مجوساً، وإن مجوس هذه الأمة القدرية، فلا تعودوهم إن مرضوا، ولا تصلوا عليهم إن ماتوا): (وهذا الخبر يتعلق بعقيدة كثر فيها النزاع واللجاج، فلا يقبل فيها ما فيه مغمز، وقد قال النسائي ـ وهو من كبار أئمة السنة ـ "هذا الحديث باطل كذب" ) .

  17. #17
    تاريخ التسجيل
    May 2007
    المشاركات
    1,901

    افتراضي رد: أصول وفروع متفرقه في مسألة تقوية الحديث بمجموع طرقه

    واياكم .
    زد زادكم الرحمن .
    قل للذي لايخلص لايُتعب نفسهُ

  18. #18
    تاريخ التسجيل
    Feb 2007
    المشاركات
    233

    افتراضي رد: أصول وفروع متفرقه في مسألة تقوية الحديث بمجموع طرقه

    شكرا لك ... بارك الله فيك ...
    قال يونس الصدفي : ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني، فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة ؟!

  19. #19
    تاريخ التسجيل
    Nov 2006
    المشاركات
    1,699

    افتراضي رد: أصول وفروع متفرقه في مسألة تقوية الحديث بمجموع طرقه

    نفع الله بكم وبارك في جهودكم
    وسر على نهج فلا يخفاك أن البسط والشرح يفيد المبتدئ ولا يضر المنتهي.

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد خلف سلامة مشاهدة المشاركة
    قال المعلمي في تعليقه على (الفوائد المجموعة) (ص504) في ختام كلامه على حديث (إن لكل أمة مجوساً، وإن مجوس هذه الأمة القدرية، فلا تعودوهم إن مرضوا، ولا تصلوا عليهم إن ماتوا): (وهذا الخبر يتعلق بعقيدة كثر فيها النزاع واللجاج، فلا يقبل فيها ما فيه مغمز، وقد قال النسائي ـ وهو من كبار أئمة السنة ـ "هذا الحديث باطل كذب" ) .
    شيخنا الكريم
    بحثت سريعا عن مصدر كلام النسائي، فوجدته في الموضوعات لابن الجوزي 1/452، وقال المحقق: إنه لم يعثر على مصدره.
    المقصود: الظاهر لي أن حكم النسائي على حديث الحسن بن عبد الله بن أبي عون الثقفي عن رجاء بن الحارث عن مجاهد حديث أبي هريرة ررر فقط، لا الحكم العام على كل الوارد في الباب، فلعلكم تتأملون وتفيدوني.

  20. #20
    تاريخ التسجيل
    Jun 2007
    المشاركات
    132

    افتراضي رد: أصول وفروع متفرقه في مسألة تقوية الحديث بمجموع طرقه

    جزاكما الله خيراً يا أخي الفاضل حرملة ويا أخي الفاضل ابن رجب وشكر الله حسناتكما ونفع بكما .
    جزاك الله خيراً يا شيخ عبدالرحمن ونفعنا الله بعلمك ، ولعل الله ييسر لي أو لغيري من إخواننا تجلية المسألة التي ذكرتها .
    وهذا هو :
    التنبيه التاسع
    خطأ التسوية بين قيمة الأسانيد التي تختلف كتبها من حيث موضوعها وطبقتها ووثاقتها
    من طالع كتب تخريجات المعاصرين وجد أن أكثرهم لا يفرقون بين حديث رواه مالك في موطئه أو أحمد في مسنده أو الدارمي في سننه أو أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه أو أحد الستة في أُمّاتهم ، وبين حديث رواه البخاري في تاريخه أو مسلم في تمييزه أو ابن عدي في كامله أو العقيلي في ضعفائه أو أبو نعيم في حليته أو الطبراني في معاجيمه أو الخطيب في تاريخه أو أصحاب الغرائب والفوائد في غرائبهم وفوائدهم .
    وهذه تسوية – بلا حق - بين قيم مختلفات متباينات ، ونسيان – لا عذر فيه - للفرقان بين مراتب متفرقات متفاوتات ، وهذا ما غفل عنه أكثر المتكلمين على الأحاديث من المتأخرين ، وهو خطأ يأتي بيانه وتفصيله ، وبيان الحق الذي ينبغي أن يحل محله ويمحوه .
    إنه لا يكفي أن يكون صاحب الكتاب ثقة أو حافظاً لنثق بإسناده الذي ظاهره الاستقامة كما نثق بإسناد البخاري أو مسلم أو بقية الستة ، هذا مثال لما نحن فيه ومدخل لمعنى الأمر الذي نريد أن نلجه ، فأقول :
    إذا تدبرنا المكتبة المسندة وجدناها تضم في الجملة – من جهة نظرنا في قيمتها ووثاقتها - خمسة أنواع من الكتب لا بد من التفرقة بينها ووضعِ كل نوع منها في مرتبته التي يستحق ، وهذه الأنواع هي :
    النوع الأولى : الأصول القديمة العالية الموثوقة والأمات وكتب الأحكام التي هي من تأليف الأئمة المتقنين الضابطين والتي اشتهرت بين أهل العلم اشتهاراً زائداً .
    النوع الثاني : كتب التواريخ والضعفاء والعلل ونحوها .
    النوع الثالث : كتب الفوائد والغرائب .
    النوع الرابع : كتب المتأخرين الذين كانوا يحرصون على العوالي والغرائب ولا يبالون برواية المنكرات ونحوها .
    النوع الخامس : الكتب التي ورد في مؤلفيها أو فيها خاصة بعض المطاعن المؤثرة مطلقاً أو أحياناً ، والتي ينبغي أن تُعمَل في محلها ولا تُهمل .
    وإليك التفصيل المناسب للمقام :
    أما النوع الأول ، فكتب ألفها علماء متقنون كان همهم الأول أن يرووا الصحيح أو أن يميزوا الثابت من غيره ، أو أن يسيروا على شرائط معلومة ومناهج مرسومة ، فلا بد أن تكون الثقة بهذه الأسانيد في الجملة أعلى - بكثير - من الثقة بأسانيد كتب الأنواع الأخرى الآتية كما يأتي شرحه وبيانه .
    وأما النوع الثاني أعني كتب التواريخ والضعفاء والجرح والتعديل فالأصل أن صاحب التاريخ أو الكتاب من هذا النوع لا يروي الخبر فيه إلا ليبن نكارته ، وهو يريد أن يترجم به لذلك الراوي ويشير إلى أنه يروي المنكرات وأن الحمل في رواية ذلك الحديث المنكر – أو تلك الأحاديث المنكرة – إنما هو عليه لا على غيره من رجال ذلك الإسناد ؛ هذا هو الأصل ، وقد يرِدُ أحياناً ما يدل على خلافه ، مثل أن يبين صاحب الكتاب بعد روايته الحديث المنكر في ترجمة الرجل الذي هو أحد رواته أن الحمل في ذلك الحديث المنكر إنما هو واقع على غير ذلك الراوي ، أو يدفع النكارة عن الحديث ويردُّ على من ادعى نكارته .
    قال العلامة المعلمي في تعليقه على (الفوائد المجموعة) (ص180) : (وإخراج البخاري في (التاريخ) لا يفيد الخبر شيئاً ، بل يضره ، فإن من شأن البخاري أن لا يخرج الخبر في (التاريخ) إلا ليدل على وهن راويه ) .
    قال ذلك تعقباً على كلامهم على الحديث المرفوع (جاءني جبريل فأومأ إلي بتمر فقال : ما تسمون هذا في أرضكم ؟ قلت : نسميه التمر البرني ، قال : كله فإن فيه سبع خصال ) إلخ .
    وقد قال الشوكاني في تخريجه : (رواه ابن عدي وقال : باطل ، ورواه ابن عدي أيضاً عن علي مرفوعاً : خير ثمراتكم البرني يخرج الداء ولا داء فيه ، وفي إسناده : إسحاق الفروي ، متروك .
    وقد رواه أبو نعيم في الطب من غير طريقه .
    وله طرق أخرى موضوعة .
    وأخرجه الحاكم في (المستدرك) وقال : صحيح من حديث أنس ، وتعقبه الذهبي في (تلخيصه) فقال : عثمان بن عبد الله العبدي لا يعرف والحديث منكر .
    وأخرجه ابن عدي أيضاً من حديث ابن بريدة عن أبيه مرفوعاً .
    قال ابن حبان : عقبة بن عبد الله الأصم ينفرد بالمناكير عن المشاهير .
    قال في (اللآلىء) : روى له الترمذي وقد أخرجه البخاري في (التاريخ) والبيهقي في (الشعب) وصححه المقدسي ؛ وأخرجه من حديث أبي سعيد أبو نعيم في (الطب) والحاكم في (المستدرك) فالحكم بوضعه مجازفة ) .
    فقال المعلمي : (بل المجازفة في هذا الكلام ، فإن ألفاظ الخبر مختلفة ، ومنها ما ينادي على نفسه بالوضع ، وإخراج البخاري في التاريخ لا يفيد الخبر شيئاً ، بل يضره ، فإن من شأن البخاري أن لا يخرج الخبر في التاريخ إلا ليدل على وهن راويه ؛ وتصحيح المقدسي لرواية عقبة الأصم مع ضعفه وتدليسه وتفرده وإنكار المتن مردود عليه .
    أما حديث أبي سعيد الذي أخرجه أبو نعيم والحاكم ، ففي سنده من لا يعرف ، ولم يصححه الحاكم ، وإنما قال : أخرجناه شاهداً .
    وأبعد الروايات عن الإنكار من طريق شهاب بن عباد ، أنه سمع بعض وفد بني عبد القيس يقول : قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ... الحديث ، وفيه في البرني ( أما إنه من خير تمركم ، وأنفعه لكم ) ؛ والله أعلم) . انتهى .
    وليت الأمر يقف عند هذا الحديث ، بل كثيراً ما يصرح جامعو كتب الضعفاء في طائفة معينة منصوص عليها ، من أحاديث ذلك الضعيف بأنها منكرة ويبينون بالتصريح بأنهم إنما اختاروا تلك الطائفة من أحاديثه لتكون أمثلة على منكراته ، ومع ذلك يأبى كثير من المتأخرين إلا تصحيح تلك الأحاديث نفسها – أو بعضها - بمجموع الطرق ، فما الذي حوَّل المنكر إلى معروف غير منكر ، وما الذي قوى عندنا ما كان ساقطاً عند أئمتنا ؟! .
    وأما النوع الثالث أي كتب الفوائد والغرائب :
    فأما كتب الفوائد فيأتي الكلام عليها في الرابط الآتي .
    http://majles.alukah.net/showthread....2586#post32586
    وأما كتب الغرائب، فشرطها قريب من شرط كتب الفوائد ، ومعناها غير بعيد من معناها ، ولكنه أوسع منه ، فالفوائد أخص من الغرائب ، فكتب الفوائد تجمع غرائب مصنفيها وحدهم، وأما كتب الغرائب فتُعنى أصلاً بجمع ما أغرب - أي تفرد - به راو عن إمام حافظ مكثر شهير ، كمالك ، أو شعبة ؛ سواء كان المُغْرِب هو الراوي عن ذلك الحافظ ، أو كان راوياً آخر دونه في السند .
    وكثير من هذه الغرائب لا تلبث أن تشتهر في الطبقات التالية لطبقة ذلك المتفرد ، وذلك بسبب كونها مروية من طريق ذلك الإمام الذي يحرص كثير الرواة على جمع كل ما روي عنه ، بخلاف الفوائد فهي غرائب في بلد جامعها ، أو في عصره ، كما تقدم ؛ فغرابتها متأخرة في طبقتها عن غرابة سائر الغرائب .
    هذا ، وإنَّ أكثر محتويات كتب الغرائب لا تصح ؛ ولذلك كان للأئمة عبارات كثيرة في التحذير مما كان يفعله كثير من الرواة من كثرة الإقبال على الغرائب والمبالغة في البحث عنها وسماعها وتدوينها وحفظها ، مع التقصير في الاعتناء بالصحاح والمشاهير من الأحاديث ، وأكثر الناس تراهم أكثر ولعاً بالنادر الغريب منهم بالشائع الشهير ، قال ابن رجب في (شرح علل الترمذي) (2/621) : (وأما الحديث الغريب : فهو ضد المشهور ؛ وقد كان السلف يمدحون المشهور من الحديث ويذمون الغريب منه في الجملة .
    ومنه قول ابن المبارك : (العلم هو الذي يجيئك من ههنا ومن ههنا ) ، يعني المشهور ؛ خرجه البيهقي من طريق الترمذي عن أحمد بن عبدة عن أبي وهب عنه .
    وخرج أيضاً من طريق الزهري عن علي بن حسين قال : (ليس من العلم ما لا يُعرف ، إنما العلم ما عُرف وتواطأت عليه الألسن) .
    وبإسناده عن مالك قال : (شر العلم الغريب ، وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس) .
    وروى محمد بن جابر عن الأعمش عن إبراهيم قال : (كانوا يكرهون غريب الحديث وغريب الكلام ) .
    وعن أبي يوسف قال : (من طلب غرائب الحديث كذب) .
    وقال أبو نعيم : (كان عندنا رجل يصلي كل يوم خمسمائة ركعة ، سقط حديثه في الغرائب ) .
    وقال عمرو بن خالد : سمعت زهير بن معاوية يقول لعيسى بن يونس : (ينبغي للرجل أن يتوقى رواية غريب الحديث فإني أعرف رجلاً كان يصلي في اليوم مئتي ركعة ما أفسده عند الناس إلا رواية غريب الحديث) .
    وذكر مسلم في مقدمة (كتابه) من طريق حماد بن زيد أن أيوب قال لرجل : لزمت عمراً ؟ قا ل : نعم ، إنه يجيئنا بأشياء غرائب !! قال : يقول له أيوب : (إنما نفرُّ - أو نفرق - من تلك الغرائب) .
    وقال رجل لخالد بن الحارث : أخرج لي حديث الأشعث لعلي أجد فيه شيئاً غريباً ، فقال : (لو كان فيه شيء غريب لمحوته) .
    ونقل علي بن عثمان النفيلي عن أحمد قال : ( شرُّ الحديث الغرائب التي لا يُعمل بها ولا يُعتمد عليها ) .
    وقال المروذي سمعت أحمد يقول : (تركوا الحديث وأقبلوا على الغرائب ، ما أقل الفقه فيهم ) .
    ونقل محمد بن سهل بن عسكر عن أحمد قال : (إذا سمعت أصحاب الحديث يقولون : هذا الحديث غريب أو فائدة ، فاعلم أنه خطأ ، أو دخل حديث في حديث ، أو خطأ من المحدث ، أو ليس له إسناد ، وإن كان قد روى شعبة وسفيان ؛ وإذا سمعتم يقولون : لا شيء فاعلم أنه حديث صحيح ) .
    وقال أحمد بن يحيى : سمعت أحمد غير مرة يقول : (لا تكتبوا هذه الأحاديث الغرائب فإنها مناكير وعامتها عن الضعفاء) .
    قال أبو بكر الخطيب : (أكثر طالبي الحديث في هذا الزمان يغلب عليهم كتب الغريب دون المشهور ، وسماع المنكر دون المعروف ، والاشتغال بما وقع فيه السهو والخطأ من رواية المجروحين والضعفاء ، حتى لقد صار الصحيح عند أكثرهم مجتنباً ، والثابت مصدوفاً عنه ، مطَّرحاً ، وذلك لعدم معرفتهم بأحوال الرواة ومحلهم ، ونقصان علمهم بالتمييز ، وزهدهم في تعلمه ؛ وهذا خلاف ما كان عليه الأئمة المحدثين والأعلام من أسلافنا الماضين) .
    وهذا الذي ذكره الخطيب حق ، ونجد كثيراً ممن ينتسب إلى الحديث لا يعتني بالأصول الصحاح ، كالكتب الستة ونحوها ، ويعتني بالأجزاء الغريبة ، وبمثل مسند البزار ومعاجم الطبراني وأفراد الدارقطني ، وهي مجمع الغرائب والمناكير ) .
    وقال الشيخ محمد عمرو عبداللطيف في (مرويات في الميزان) (ك2 ص174) عقب حكايته كلام الحافظ ابن رجب هذا : (قلت : فإذا وجدتَ حديثاً في أحد «المعاجم» الثلاثة ، رجاله كلهم ثقات أو صدوقون ، فلا تتسرع بالحكم عليه بالصحة أو الثبوت ، إذ لا بد أن تجد فيه خللاً ما ، من إعلال ، أو شذوذ ، أو عدم اشتهار بعضهم بالرواية عن بعض .
    وقد يجتمع فيه الأمران جميعاً ـ كما في حديثنا هذا ـ المخالفةُ في الإسناد وانتفاءُ الرواية .
    وليس هذا خاصاً بالطبراني وحده و «مسند البزار» و «أفراد الدارقطني» ، فإنما ذكرها الإمام ابن رجب على سبيل التمثيل بقوله : « وبمثل مسند البزار ...» .
    أما البزار فقد سمى كتابه « المسند المعلل » فهو يُشبه في معناه « علل ابن أبي حاتم » و« علل الدارقطني » ، وفي الغالب يكون الوجه الراجح هو الوجه المرسل ، أو الموقوف أو الذي فيه راوٍ مبهم أو ضعيف التبس اسمه باسم ثقة ... إلخ .
    على أنَّ فيه أحاديث كثيرة واقعة في (الصحيحين) والكتب المشهورة ، فهذه لا يتناولها البحث ، هنا .
    نعم ، لا تعدم أن تجد فيه حديثاً معلاًّ بالوقف على صحابي ، فإن صحَّ الإسناد فيكون أثراً صحيحاً ، أو بالإرسال عن كبار التابعين الذين لا يُسندون إلا عن أهل الثقة والصدق ، أو لا يروون إلا عن أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كسعيد بن المسيب ، وأبي أمامة بن سهل بن حنيف ، ونحوهما ، فتكون لهم مكانة متميزة في الاحتجاج أو الاعتبار ) .
    وأما النوع الرابع وهو كتب المتأخرين ، فكثير من المتأخرون عن عصر الأئمة أصحاب الكتب الستة ، كأبي نعيم والطبراني والخطيب ، فضلاً عمن جاء بعدهم كصاحب مسند الفردوس ، وفضلاً عمن كان في القرن السابع أو الثامن ، كان الغالب عليهم أن يحرصوا على رواية الغرائب والعوالي – والعوالي فيها إغراب أيضاً بل هي عند التحقيق والتدبر نوع من الغرائب ، فهي تشاركها في معناها ولو لغة فقط – وهذه يكثر فيها الغلط والوهم ، وقد تقدم في الكلام على الغرائب بعض ما يتعلق بهذا النوع .
    وكذلك توسع المتأخرون في مسألة الإجازة بكل أنواعها وتسهلوا في الجملة في طرق التحمل تسهلاً لا يرضاه المتقدمون والمحققون ؛ ولنستحضر هنا أيضاً كلام ابن الصلاح – على ما دار حوله من نقاش وتعقبات – في موقفه من تصحيحات المتأخرين وأحوال كتبهم .
    والحاصل أنه ليس من الإنصاف أن نثق بكل إسناد أخرجه الحاكم مثلاً أو أبو نعيم – على أن أبا نعيم من الحفاظ الثقات العلماء كما هو معلوم – أو ابن الجوزي في بعض كتبه أو بعض المتأخرين في مشيخاتهم وغيرها ، كما نثق بكل إسناد أخرجه أبو داود أو النسائي ، ولا أريد حال الإسناد من حيث رواته ، ولكن حاله من حيث سلامته من خطأ وخلل وتصحيف متأتٍ من جهة المصنف أو شيخه أو شيخ شيخه ، أي من جهة تأخر من رواه عن الأئمة المتقدمين في زمانه وتخلفه عنهم في علمه ، ومن جهة تساهله ، فالنسائي مثلاً لو روى حديثاً ضعيفاً ، فإنه ليس من القريب المتوقع أن يكون ذلك الحديث قد وهم فيه ثقة من رواته الثقات ثم يأتي النسائي فيرويه في (سننه) فلا هو اجتنبه ولا هو بين علته ولا أشار إليها ولو برواية ما يخالفه ، النسائي ينتقي ويبين ويعلل ، وإن سكت عن شيء فهو محتمل أو علته معلومة أو هو نادر ولا عبرة بالنادر ؛ فهل هذا هو نهج المتأخر ؟ وهل هو متأهل لهذا المقام ؟ هل يفعل مثل ذلك ؟ وهل يبلغ علمه أو حرصه أو شرطه أو تثبته هذا المبلغ ؟! فالمسألة لا تقف عند قولنا هذا كتاب مروي بالإسناد وهذا راو ثقة ، المسألة أبعد من ذلك وأخطر .
    وأما النوع الخامس من الكتب أعني الكتب التي ورد في مؤلفيها أو فيها خاصة بعض المطاعن المؤثرة مطلقاً أو أحياناً ، والتي ينبغي أن تُعمَل في محلها ولا تُهمل .
    أين - مثلاً - أثر كلام النقاد في تخريجات المتأخرين في (مستدرك الحاكم) وأنه وقع له فيه أوهام غير قليلة ؟!
    وأين أثر كلامهم في الذين كانوا يدلسون الإجازة كأبي نعيم ؟!
    أين أثر كلامهم في الحارث بن أبي أسامة ، أعني عند من قَبِل كلام من تكلم فيه وغمزه ؟
    بل أين أثر كلامهم في كل كتاب مسند تكلموا فيه أو في صاحبه كلاماً معتبراً ؟!
    نعم ، الكتب المسندة التي تُكلم فيها وفي أصحابها قليلة جداً – بحمد الله - قياساً إلى ما لم يتكلموا فيه منها ، فهذه خارجة عن ساحة هذا التنبيه ، ولكن نريد الدقة والتحقيق ووضع كل شيء في موضعه اللائق به ؛ فلا يصح في ميزان العلم أن نعتبر كل إسناد وارد في مثل هذه الكتب المنتقدة أو المتأخرة كما نعتبر أسانيد الأئمة المتقدمين ؛ فالتفريق هنا لا بد منه ، ولكن هذا التفريق يحتاج إلى فضل علم وتحقيق وإلى تعب يعجز عنه أكثر أصحاب الطلب ، والله الموفق وهو وحده المستعان .
    تنبيه : إذا أطلقت المتأخرين أو المعاصرين في مثل هذا المقام فمرادي - كما هو معلوم عند المنصفين والعارفين - هو أكثرهم أو المقصود أصحاب منهج المتأخرين ، وليس مقصودي جميع المتأخرين والمعاصرين ، وأعوذ بالله من تعميم باطل ، ولكن التقييد قد يفوت الكاتب أحياناً وقد يستغني عنه تاراتٍ بالقرائن وغيرها .
    وانتظروا التنبيه العاشر ، بعون الله وتوفيقه -------------------------------------

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •