قيلَ : جلسَ رجلٌ في مجلس ، فقال : سَلوني عما دون العرش أخبركم . فانبرى له رجلٌ ليسأله ليُريَ اللهُ الناسَ من علمه مداه ، فقال : النملة التي خاطبت سليمان ذكرا كانت أم أنثى . فبُهت الذي ادَّعى ، و سقط ، حيث تجاهلَ المُدَّعي حقيقة { و فوق كل ذي علم عليم } ليأتيه الله بمن يُقرر له حقيقة { و ما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } .
ظاهرة الادعاء بالإحاطة بكل شيءٍ من سوءات المنتسبين إلى المعارف ، ومن وَصَمات العيبِ فيهم ، و لا تكون إلا في حالات نادرة ، حين تشعر النفسُ بأنها شَبِعت و ارتوت ، و لقيَتْ من الناس من يُثبت ذلك ، و لكنَّ المعارف مخاوف ، فلا تدع أحدا يعتلي صهوة ضرْبِ الصدرِ بالإحاطة حتى يأتيه مِن قِبَلها من يُسقط و يَنفي ، كما في قصة الزهري ، إن صحت ، أنه تحدث إلى صبي احتج بحديثٍ ، فقال الزهري : حفظت نصف السنة و لا أعرف هذا الحديث ، فقال الصبي : لعلها من النصف الذي لم تحفظه . ففي كل معلومٍ لدينا جزءٌ مجهول لدينا أيضا ، كما أن القمرَ حين نراه مضيئا من جهتنا فإن له جهة أخرى ليست مضيئة ، فمن رام من المعارفِ نوالاً فليقف على أدبها ، فلا يتلقَّف مما علِمَه أن يكون مَصْدرَ صدوره ، و لا سِرَّ سروره ، و إنما ليكُن بأدب عدم الدراية ألصقَ ، فهو أحق به ، و إن رام غيرَ ذا سيرتقي به الحال ، ربما ، ليكون كحال المعري ، إن صحت عنه ، و لا أظنها صاحَّةٌ لنفس أبي العلاء المهذَّبة ، حين أنشد أمام غلام بيتَ " لآتٍ بما لم تأتِ به الأوائلُ " ، ففاجأه بسؤالٍ بريءٍ : الأوائل أتوا بثمانية و عشرين حرفاً ، فأتِ أنتَ بتاسعٍ زائداً . فلم يجد مخرجاً لحرَجِه ، فربما بانت السوءات على يد من لا يُؤْبَه به ، و جنود المعارف مجهولة .
حين يتملَّك الشخص الرغبة في الصدور ، فليكُن بما يدريه ، و يُحيط به علماً ، و مع الإحاطة يحتاج إلى أدب الوقوفِ بالتورُّعِ ، فـ ( لا أدري ) حرز أمين ، و من تركها " أصيبت مقاتله " ، و لا يسلك أحد هذا المسلك إلا من خلالِ تهذيب نفسٍ ، و سلامة قلب ، و قُنعة حالٍ بأن المجهول أكثر من المعلوم ، و بأنه ربما وراء الأفق شمسٌ تحملُ بهجة يوم جديد ، و أن أوعية القلوبِ حمَّالة بما لا يُدرَ بعدُ .
و مع هذا كلِّه ، فتلك مبادرةٌ ، إن كانت من واقفٍ محيط عالم دارٍ عارفٍ مُطَّلِعٍ ، من تلقاء نفسه ، لا من بَوح غيرِه ، فحسَنةٌ ، و لكن ليلتزم الإقلالَ فالإكثارُ مِعثار ، و المعارف كما أنها أنهارٌ ففيها انهيار ، و إذ كانت تهَبُ نَشوةً فهي تُركِبُ نزوة ، و في منائحها مِحنها .