أجوال هذا أم وبال؟

{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ }الصافات96

قال ابن كثير رحمه الله:(..أي خلقكم وعملكم..),ويحتمل أن تكون بمعنى الذي تقديره :"والله خلقكم والذي تعملونه" وكلا القولين متلازم , والأول أظهر لما رواه البخاري في كتاب أفعال العباد عن حذيفة رضي الله عنه مرفوعا قال ((إنّ الله يصنع كلّ صانع وصنعته))..اهـ.

وذكر الحافظ في الفتح :(باب قول الله تعالى: {كلّ يوم هو في شأن ..}حيث قال:((..قال البخاري:..سمعت يحيى بن سعيد يعني القطان يقول : مازلت أسمع أصحابنا يقولون: إنّ أفعال العباد مخلوقة .

قال البخاري: حركاتهم وأصواتهم وأكسابهم وكتبهم مخلوقة...(و)قال البخاري:فالمداد والورق ونحوه خلق ..لأن كلّ شيء دون الله هو بصنعه ,ثمّ ساق حديث حذيفة رضي الله عنه رفعه :(إنّ الله يصنع كلّ صانع وصنعته))..وهو حديث صحيح )..اهــ

وذكر الحافظ في الفتح أيضا:(باب قول الله تعالى{والله خلقكم وما تعملون} وقال :"..قال البيهقي : وقد قال الله تعالى { خلق كلّ شئ ,وهو بكلّ شئ عليم}فامتدح بأنه خلق كلّ شئ وبأنه يعلم كلّ شئ وكذا لا يخرج عن خلقه شئ...".

وقال الله تعالى:{َمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى},وقال تعالى{أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ }فسلب عنهم هذه الأفال وأثبتها لنفسه ليدل بذلك على أنّ المؤثر فيها حتى صارت موجودة بعد العدم هو خلقه, وأنّ الذي يقع من الناس إنّما هو مباشرة تلك الأفعال بقدرة حادثة أحدثتها على ما أراد , فهي من الله تعالى خلق بمعنى الاختراع بقدرته القديمة...)..انتهى .

فانطلاقا من هذا المبحث المذكور نقول :

إنّ الجوال الذي يستخدمه الرجل أو المرأة هو وصانعه من خلقه سبحانه , ونعمة من نعم الله التي أنعم الله بها على العباد.

قال العلماء:فإنّ نعمه -سبحانه- الظاهرةوالباطنة على العباد,بعدد الأنفس واللحظات , والله -سبحانه- أعطاهم من كل ما تعلّقت به أمانيّهم وحاجتهم,مما يسألونه إياه بلسان الحال,أو بلسان المقال, من أنعام ,وآلات,وصناعات وغير ذلك.قلت فإذا أفاض المولى نعمه على العباد بأكثر من أن يحصيها العباد,فماذا نقول في مثل هذا المصلّي الذي إستعمل نِعم الله الّتي أنعم الله بها عليه في وجوه الشّر,والذي يبدّل نعمة الله بأعمال الفسق والفجورِ,ولم يستعن بها على الطاعة؟(إستفت قلبك).

نرى كثيراً من الناس اليوم - إلّا من رحم الله- في بِيوت الله (المساجد),بأنّ جوّالاتهم مزيّنة بنغمات الموسيقى الفاتنة وهم يصلّون في المساجد مع المصلّين. فهؤلاء هم الذين يبدّلون نعمة الله بعمل الفسق والفجور,وفي بيت ربّهم الذي أنعم الله عليهم بنعمة الجوال.

ماندري ما يمنعهم من إقفال الجوال وقت دخول المسجد؟ ومن أن يجعلوا جرس الجوال جرساً عاديًّا لئلّا يشوّشوا على الخاشع في صلاته, ولا يغلي دماغه من نغمات الموسيقى وهو في المسجد,وقد قال النبي- صلى الله عليه وسلم("...ليكوننّ من أمّتي أقوام يستحلّون الحِرَّ والحرير والخمر والمعازف..) رواه البخاري

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا أتخذ الفيء دولا والأمانة مغنما والزكاة مغرما وتعلم لغير الدين وأطاع الرجل امرأته وعصى أمه وأدنى صديقه وأقصى أباه وظهرت الأصوات في المساجد وساد القبيلة فاسقهم وكان زعيم القوم أرذلهم وأكرم الرجل مخافة شره وظهرت القينات والمعازف وشربت الخمور ولعن آخر هذه الأمة أولها فارتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وزلزلة وخسفا ومسخا وقذفا وآيات تتتابع كنظام قطع سلكه فتتابع) أخرجه الترمذي

وفي عون المعبود 13/266: ("وأخرج ابن ماجه عن النبي-صلى الله عليه وسلم-قال:"ليشربن ناس من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها، يضرب على رءوسهم بالمعازف والقينات، فيخسف الله بهم الأرض , ويجعل منهم القردة والخنازير")

ومعنى المعازف فقد ذكره الحافظ في الفتح وقال: ("وهي آلات الملاهي, ونقل القرطبي عن الجوهري :أنّ المعازف هي الغناء ,والذي في صحاحه أنها آلات اللهو, وقيل: أصوات الملاهي. وفي حواشي الدمياطي: المعازف الدفوف وغيرها مما يضرب به , ويطلق على الغناء عزف , وعلى كلّ لعب عزف...")اهــ

فالرجل الذي جوّاله مشغول بالموسيقى وقت الصلاة أو غيرها ,ما نحكم فيه شيئا ولا نتّهمه بأنّه يريد أن يشغل به غيره عن الصلاة . بل نقول فيه : إنّ ذلك حدث منه بسبب غفلته أو سهوه أو جهله من أنّ الموسيقى حرام في دينه الذي ارتضاه الله لنفسه مهما كان في المسجد أو في السوق.

وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم -("إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بَعَثَنِي رَحْمَةً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ وَأَمَرَنِي أَنْ أَمْحَقَ الْمَعَازِفَ وَالْخُمُورَ وَالأَوْثَانَ الَّتِي كَانَتْ تُعْبَدُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ..") (رواه أحمد برقم :21843)

وذكر القرطبي في تفسير قوله تعالى :{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ }لقمان6...حيث قال :(وروى الترمذي وغيره من حديث أنس رضي الله عنه وغيره عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنّه قال:(" صوتان ملعونان فاجران أنهى عنهما : صوت مزمار ورنة شيطان عند نغمة ومرح . ورنة عند مصيبة لطم خدود , وشق جيوب"))
وفي حديث (( وما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله عليه شيطانين : أحدهما على هذا المنكب والآخر على هذا المنكب . فلا يزالان يضربان بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت )).


وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- :(("بعثت بكسر المزامير"))خرجه أبو طالب الغيلاني.

وقال أيضا- صلى الله عليه وسلم-:(("بعثت بهدم المزامير والطبل")). انتهى ما ذكره القرطبي.

وذكر السعدي رحمه الله في تفسير قوله تعالى:{وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ }الأنفال35 وقال("إنّ الله تعالى إنّما جعل بيته الحرام ليقام فيه دينه , وتخلص له فيه العبادة.

فالمؤمنون هم الذين قامو بهذا الأمر , وأمّا هؤلاء المشركون الذين يصدّون عنه,فما كانت صلاتهم فيه التي هي أكبر أنواع العبادات{إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً},أي صفيرا وتصفيقاً,فعل الجهلةِ الأغبياء,الذين ليس في قلوبهم تعظيم لربهم , ولا معرفة بحقوقه,ولا إحترام لأفضل البقاع وأشرفها , فإذا كانت هذه صلاتهم فيه,فكيف ببقية العبادات؟فبأيّ شئ كانوا أولىبهذا البيت من المؤمنين ,الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون ,إلى آخر ما وصفهم الله به من الصفات الحميدة.").انتهى.

وقال تعالى للشيطان:{وَاسْتَفْزِزْ }والمعنى إستزلّه (أي الانسان)بقطعك إيّاه عن الحق{ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ}الإسراء64 ,قال مجاهد :(المراد به)الغناء والمزامير.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما :الغناء والمزامير واللهو . (وقال)الضحاك:(هو) وت المزمار.(ذكره القرطبي).

هذا,وقال النبي- صلى الله عليه وسلم-:("الجرس مزمار الشيطان") راه مسلم كما في فتح الباري6/141

قوله:("مزمارة الشيطان"بكسر الميم يعني الغناء أو الدّف,لأنّ المزمارة أو المزمار مشتق من الزمير وهو الصوت الحسن وعلى الغناء,وسمّيت به الآلة المعروفة التي يزمر بها,واضافتها إلى الشيطان من جهة أنّها تلهي,فقد تشغل القلب عن الذكر).(ذكره الحافظ في الفتح).

والقصد من ذكر هذه الأحاديث! هو بين ذم المزمار والجرس وصوتهما في المساجد والبيوت والطرق والمحلات وعلى وجه الأرض كلّها ,لأنّهما(أي الجرس والمزمار)من أصوات الشيطان كما ذكر الحديث المتقدم , ونغمات الموسيقى المروجة هي أشدّ من أصوات المزمار والأجراس القديمة .

ومن المعلوم أنّ الشيطان للإنسان عدوّ مبين, يريد أن يغويه ويختلس من صلاته الخشوع المترتب عليه الفوز والفلاح,قال تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ{1 } الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ{2}}المؤمنون...جعلنا الله منهم.

وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم-وأصحابه وعباد الله الصالحين بعدهم يكرهون أن يسمعوا أصوات الشيطان(المزمار) في الطرق والشوارع - فما قولك إذا كان ذلك في بيوت الله وأحبّ البقاع إلى الله-فإذا وقع صوت المزمار في آذانهم ويعدلون عن الطريق ثم يخرجونها حتى لا يسمعوا صوت المزمار.فأين نحن من هذا يا عباد الله؟

فعن نافع مولى ابن عمر:أنّ ابن عمر رضي الله عنهما سمع صوت زمّارة راع,فوضع أصبعيه في أذنيه ,وعدل عن راحلته عن الطريق.وهو يقول: يانافع!أتسمع؟فأ ول نعم فيمضي,حتى قلت لا,فوضع يديه وأعاد راحلته إلى الطريق , وقال :رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم-وسمع صوت زمّارة راع فصنع مثل هذا.").واه أحمد وأبو داود في مسنديهما

وقال عثمان بن نويرة:دعي شهِر ابن حوشب إلى وليمة وأنا معه فدخلنا فأصبنا من الطعام ,فلما سمع شهرٌ المزمار وضع إصبعيه في أذنيه وخرج حتى لم يسمعه.(تهذيب الكمال7/477).

هذا هو حال عباد الله الصالحين .يا عباد الله ويا إماء الله-إذا سمعو صوت المزمار العادي لا نغمات الموسيقى الفاحشة المروجة وهم خارج المسجد.فكيف كان حالهم إذا سمعو ذلك في بيت من بيوت الله تعالى؟!

وها أنا ذا أذكر قصة تتعلق بالموضوع الذي نحن فيه وهي كالآتي:

أنّ رجلا صالحا صلّى بالناس صلاة الجمعة فسمع أثناء الصلاة أصوات الجوالات ارتجّ بها المسجد,فلما انصرف من في الصلاة لم يملك على نفسه الغضب,حتى قام قائلا بعد الحمد والصلاة:

أيها المسلمون!وياأيه الظالمون لأنفسكم:ـحلف بالله تعالى : بأنّني ما سمعت أصوات هذه الموسيقات ومزامير الشيطان في بيتي التي أسمعها اليوم في بيت ربّي هذا ,فيا أسفاه!ويا حزناه!أجوّال هذا أم وبال؟وإلى الله المشتكى.ماأدري لماذا لا تقفلون هذه الجوالات لدقائق معدودة وقت الصلاة ,لتؤدوا الصلاة خاشعين لله ,ولتدعوا الناس في صلاتهم خاشعين هادئين .

أيّها الإخوة! أليس يكفيكم الجرس العادي في أجهزتكم,وأين ذهبت غيرتكم الإيمانية؟,بأنّ م لا تعظّمون شعائر الله,منها هذه المساجد بيوت الله التي يرفع فيها اسمه سبحانه.اسمعو بآذانكم ووعو بقلوبكم قول الله جلّ وعلا:

{ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ }الحج32..(معناه:تع يم الشعائر وإجلالها,والقيا بها ,وتكميلها على أكمل ما يقدر عليه العبد,ومنها الهدايا,فتعظيمه ,باستحسانها ,وأن تكون مكمّلة من كلّ وجه,فتعظيم شعائر الله ,صادر من تقوى القلوب ,لأنّ تعظيمها ,تابع لتعظيم الله وإجلاله)فيا أيّها الإخوة انصحوا لأنفسكم وانظروا في تعاملكم في أعظم العبادات وأفضلها -أي الصلاة-,فما بالكم فيما دونها ؟أسأل الله ربيّ أن يهديني وإياكم إلى سواء السبيل.

وهذا أخر ما ذكرناه في هذا الكتيّب .

سبحانك ربّ العزّة عمّا يصفون وسلام على المرسلين والحمدلله ربّ العالمين.

كتبه:أبو روضة الليبي

مدونة صوت التوحيد ...أهل السنة والجماعه

المصدر:كتاب "مختصر أين الخاشعون في الصلاة؟"