هل نأخذ العلم عمن لا يُعرف

أَبُو الوَلِيدِ الغَزِّيُّ الأَنْصَارِيُّ

وسُئلَ عما اشْتَهَرَ فِي هذه الأيامِ من الكتابَةِ فِي المُنْتَدَياتِ؛ هَلْ يأخُذُ الطالِبُ العِلْمَ عَمَّنْ يَكْتُبُ فِيها؛ وإنْ كانَ غَيرَ مَعْرُوفِ بالطلَبِ؛ مُراعِياً فِي ذلكَ النظَرَ فِي الدلِيلِ وتَقْدِيمِهِ، أم لا يأخُذُ إلا عَمَّن اشْتَهَرَ بالطلَبِ وعُرِفَ بِهِ؛ وبِتَلَقِّي العِلْمِ عن أهْلِه؟.

فَأجاب:
الحَمْدُ للهِ؛ وبَعْد:
فالأصْلُ فِي الطلَبِ أخْذُ العِلْمِ عن أهْلِهِ المَعْرُوفِينَ بِهِ؛ الذِين حَصَلَ لَهُم العِلْمُ بالأخْذِ عن العُلماءِ والشيوخِ؛ وسلكوا فِي تَحْصِيلِهِ الجادَّةَ القَويمَةَ؛ التي هِي دَأبُ السلفِ من عَلماءِ الأمَّةِ إلَى يَومِنا هَذا، أما أن يَأخُذَ الطالِبُ عن كُلِّ من خَطَّ بالقَلَمِ!؛ فَلا، ولَيْسَ كُلُّ من حَكَى آيَةً أو حَدِيثاً فَقَدِ استَدَلَّ؛ حَتَّى يَجْرِيَ فِي ذلكَ عَلى وَفْقِ قَواعِدِ العُلماءِ ويَتَضلَّعَ مِن أصولِهم؛ مَعَ تقوى اللهِ تعالَى؛ والورعِ المتين، وهذا لا يَحْصلُ إلا بِطُولِ خِبرَةٍ ومِراسٍ؛ ومُراوَضَةٍ للعِلْمِ، وطَلَبُ العِلْمِ وإن كانَ طِريقاً مُيسراً لمنْ علَت همتُهُ وحَسُنَت نيتُهُ؛ إلا أنَّهُ لَيسَ حِمَىً مُباحاً لِكُلِّ مَن دَخَلَهُ، وإنما مَثَلُهُ كمثَلِ البحرِ, لَيسُ يُحْسِنُ السباحَةَ فِي أعماقِهِ وبَينَ أمواجِهِ إلاَّ من أحْسَنها فِي شُطْآنِهِ أوَّلا؛ وإلاَّ كانَ فِي ذلكَ حَتْفُهُ، نسألُ اللهَ السلامَةَ والعافِية.
والأحْسنُ أن يُقالَ: الناسُ قِسمان:
مُبْتَدِئٌ فِي الطلَبِ: فَهَذا الذِي قَصْدْناهُ فِي كلامِنا السابِق، ومْثْلُهُ من كانَ مُتَوسِّطا فِيهِ، فإنّ هذينِ يُخْشى عَلَيْهما من الاغتِرارِ بكَلامِ مَن لَيْسَ أهْلاً للأخْذِ عَنْه، وفِي هذا مَضرَّةٌ علَى الطالِبِ؛ يَتَعَرضُ مَعها لكثِيرٍ من المزالِقِ؛ خاصةً وأن ما يَسْتَقِرُ فِي ذِهن الطالِبِ أولَ الطلَبِ يَتَعَسرُ علَيهِ الانْفكاكُ عَنْهُ بَعْدَ ذلكَ إلا أن يشاءَ اللهُ، وقدْ قِيل قَديما: العادَةُ طَبِيعَةٌ ثانِية!.
والثانِي: مُتَمَكِّنُ مِنْهُ؛ تَخَرَّجَ علَى أيْدِي المُتَمَكِّنِين َ من العُلماءِ، فَهَذا لا ضَيرَ علَى مِثْلِهِ أن يَقْرأ لِمنْ شاءَ؛ لأنَّ المُفْتَرَضَ فِيه أن يَقْدِرَ علَى التَمْييزِ بينَ خَطَأ العِلْم وصوابِهِ، فَهُو بِمَنْزِلَةِ الحَكَمِ بَينَ الخُصومِ.
وقَدْ اطلَعْتُ عَلى جُمْلَةٍ مُسْتَكْثَرَةٍ مِما يُكْتَبُ ويُنْشَرُ للكُتابِ المَذكُورِينَ، فَرَأيْتُهُ فِي غالِبِهِ تَعالُماً فَجّا لا يَحِلُّ الاشْتِغالُ بِهِ ولا التعْويلُ علَيْهِ، وإنما هذا العِلْمُ دِينٌ؛ فليَنْظُرِ الإنسانُ عَمَّنْ يَأخُذُ دِينَهُ، ثُمَّ إنَّ الواجِبَ علَى مَن يَتَصَدَّرُ للفَتْوى أنْ يَتَّقِيَ اللهَ تعالَى؛ فَإنَّهُ لا يَحِلُّ لَهُ التصَدُّرُ لِذلكَ حَتَّى يَكُونَ لَهُ أهْلاً، وقَدْ كانَ السلَفُ رَحِمهم اللهُ لا يَنْتَصِبُ الواحِدُ مِنهم لذلكَ حَتَّى يَشهَدَ لهُ الأكابِرُ من العلماءِ بأنَّهُ أهْلٌ لَهُ، كما يُعْرَفُ ذلكَ بالنظَرِ فِي تراجِمِهم، أفَتَرَى هؤلاءِ المُتعالِمينَ قَدْ ظَفِرُوا بِما فاتَ الأولَينَ؟!.
واقْرأ لِزَاماً ما كَتَبْناهُ فِي هذا المقامِ فِي (الحَولِياتِ) تَحْتَ العناوِينِ التالِيةِ: شَرَفُ العِلم، ولكن كونُوا ربانِيِّين، حَتّى إذا بلغَ أشُدّه، وَكانُوا هَكذَا وشبكَ بَينَ أصابِعِه،
وفّقَ اللهُ الجَمِيعَ إلى ما يحبهُ ويرضاه؛ والحمدُ للهِ رب العالمين.

خَادِمُ العِلْمِ وَأَهْلِهِ:
كانَ اللهُ لَهُ
أَبُو الوَلِيدِ الغَزِّيُّ الأَنْصَارِيُّ