بين النهر والروافد
أشرقت الشمس لتشهد نهاراً مختلفاً في تلك البقعة التي تشبه بداية الحياة
نعم إنه عناق النهر و روافده
ولكن عناق اليوم كان أشبه بالصراع بسبب غضبٍ في نفوس الروافد على نهرها ، وليس هذا فحسب فقد نقلت إليه غضب المنابع أيضاً في صورة تغير شديد في لون المياه يعكر صفوها وصفاءها حتى اقترب لونها من لون الدم ، الكل غاضب من النهر العظيم .
مضت رسالة الغضب حتى وصلت إلى دلتا النهر وفرعيه العظيمين ، عندها استدار النهر شيئاً قليلاً مواجهاً روافده متسائلاً متعجبا :
- ما بكم ؟ وما سر هذا الهياج ؟ ما رأيتكم قبل اليوم في مثل هذا التذمر ؟
أشاحت الروافد بوجوهها عنه قبل أن ينطق كبيرها في غضب :
- وأنَّى لك أن تشعر بنا ؟ أنَّى لك والناس يحمدونك ويمجدونك صباح مساء ؟ الذكر كله لك ، أما نحن فلا يذكرنا أحد .
وهنا تدخلت المنابع لتضيف في حنقٍ بالغ :
- حتى وإن ذُكرنا فإنهم ينسبوننا إليك يقولون : منابع النهر ، روافد النهر ، فيضان النهر
تبسم النهر حتى بدت الابتسامة على صفحة مائه قائلاً :
- وأي ضرر في ذلك ؟ ألستم بعضي ؟ ألستم مني ؟
فصاح كبير الروافد بعد ارتفاع أصوات الروافد والمنابع اعتراضاً :
- فريةٌ أخرى وظلمٌ آخر ! أنت صنيعتنا ومع ذلك ننسب إليك .
نحن أصولك أيها النهر العظيم ، يبدو أن الثناء قد أفسدك ، أنسيت أن ماءك منا ندفعه إليك بعد تسلمه من المنابع ؟ فما السر في علو ذكرك وارتفاع شأنك ولا فضل لك علينا بل الفضل منا عليك ؟
ظهر التعجب على أمواج النهر وقال :
- سواءٌ عندي أكنت أصلكم أم الفرع ، ماذا تريدون من الناس أن يقولوا ؟ ! نهر المنابع ؟! ونهر الروافد ؟! ونهر الفيضان ؟
ثم ارتفع صوته ضاحكاً وأكمل :
- ونهر الماء ونهر الشطآن ونهر السمك ونهر القاع ، يا أحبابي إنكم تثيرون العجب ، هل سمعتم أحداً ينسب الشجرة إلى جذرها فيقال شجرة الجذر ؟! إن الجميع ينسب إلى الشجرة من الأوراق والثمار والأغصان والجذع والجذور ، والكل يكون الشجرة معاً ، ولا غنى للشجرة عن أي جزء منها .
ارتجت المنابع بصوت السيول على رأسها غاضبة :
- لا تبعد بنا عن أصل المشكلة ، هل تنكر الفضل في مائي الذي أرسله لك عبر الروافد ؟ أي قيمةٍ لك بدوننا ؟!
تمعن النهر في الكلام ملياً حتى ظنت المنابع والروافد أن الحجة لزمته فإذا به يقول :
- حسناً فلنكمل الدائرة إذن لننسب إلى كل ذي فضلٍ فضله ، أنتم تتفضلون علي بالماء والمطر يتفضل عليكم به والسحاب يتفضل على المطر و البحر يتفضل على السحاب بالبخار والشمس تتفضل بحرارتها على البحر والله ذو الفضل العظيم متفضل على الجميع ، ثم إنك أيتها المنابع إنما تدفعين ماءك إلى الروافد لأنك مرتفعة لا تصلحين لتخزين الماء ، والروافد تسوقه إليَّ لأنها منحدرة لا تستطيع إمساكه ، حتى أنا لا يطيب مائي حتى يتسلمه بعضي من بعضي فيشربه الناس جارياً عذباً نميراً ويسقون منه زرعهم ودوابهم ، فما تبقى فإنه لا يبقى مكانه ولكنه يعانق البحر في المصب عناق المحبين .
إن اللسان يا إخوتي حينما ينطق ويتصف بالفصاحة فإنه لا يستأثر بالفضل لأن الذي يثني على اللسان إنما يقصد الجنان الذي حركه وأوحى إليه .
ثم إننا جميعا بل كل المخلوقات هي مجرد وعاء لفضل الله على الجميع ، وإني لا أدعي استغنائي عنكم ولا أنكر فضلكم فأنا منكم ولا حياة لي بدونكم فقد خلقنا الله متكاملين .

وهنا انفكت العقدة وتبسمت المنابع والروافد والشطآن والقاع والمصب والماء و طال بينهما العناق وعاد الصفو إلى صفحة النهر ثم هتف الجميع بحبٍ : يعيش النهر