بحـَّـاثة الأخطاء
سلمان بن فهد العودة
1/7/1426
06/08/2005
عندما يبحث الإنسان عن الأخطاء ، ويكون ذلك ديدنه وعادته يقع في إشكالية تشرّب الخطأ ، ويصبح كأنه مغناطيس ترمي به في التراب فلا يلتقط إلا الرّان والحديد .
وهذا نمط تربوي واقع في المجتمعات أو المدارس العلمية أو المحاضن التربوية .
ومنشؤه خلل في القصد والهدف ، وجنوح في أصل التربية على إعطاء الفرد نفسه حق التصويب والتخطئة ، مع الإسراف في ملاحظة الآخرين ، وتتبّعهم ، وعدّ أنفاسهم ، إضافة إلى شبهات مترسبة في أعماق النفس باتت وكأنها الحق الصُّراح .
ولو لم تكن نتيجة مَن دأْبه البحث عن الأخطاء إلا القاعدة الفيزيائية المشهورة " لكل فِعْل ردّ فِعْل ، مساوٍ له في القوّة ومضادّ له في الاتجاه " لكفاه ذلك .
والتغافل عن الأخطاء ليس غباء أو سذاجة أو إقرار خطأ ؛ فإن من يقرّ الناس على أخطائهم ليس فقيهاً ، ومثله الذي يلاحقهم ويتابع أخطاءهم ويقسو عليهم .
والفقيه بحق هو من جمع هذا وذاك .
يقول ابن الوردي :
تجنَّبْ أصدقاءَكَ أو تغافَلْ *** لهمْ تظفرْ بودّهمُ المبينِ
وإنْ يتكدّروا يوماً فَعُذْراً *** فإنَّ القومَ منْ ماءٍ وطينِ
ويسري ميزان الوسط بين التغافل والملاحقة في كل المعاملات حتى بين الزوجين ، وفي الصحيحين في حديث أم زرع : " قَالَتِ الْخَامِسَة : زَوْجي إِنْ دَخَلَ فَهِدَ ، وَإِنْ خَرَجَ أَسِدَ ، وَلاَ يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ " .
يقول ابن حجر : ( يحتمل المدح بمعنى : أنه شديد الكرم ، كثير التغاضي ، لا يتفقّد ما ذهب من ماله ، وإذا جاء بشيء لبيته لا يسأل عنه بعد ذلك ، أو لا يلتفت إلى ما يرى في البيت من المعايب ، بل يسامح ويغضي ) .
وغالباً ما تتحكم العواطف ؛ فيتصرف الناس بإملاء منها ، وأشد ما يكون هذا عندما يتعلق بالشرع ، ورغم ذلك فالناس لا يحبون أن تُهان كرامتهم ، أو يُستخفّ بهم .
ولما أجاز ابن عباس -رضي الله عنه- الدينار بالدينارين ؛ قال له أبو أسيد الساعدي في ذلك ، وأغلظ له ؛ فقال ابن عباس : ( ما كنت أظن أحداً يعرف قرابتي من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لي مثل هذا ) .
والمرء لا يسلم من الهوى في الحكم على الآخرين إلا من رحم الله .
وقد ذكر الشيخ عبد الرحمن المعلمي صاحب التنكيل تجربة شخصية في كتابه [التنكيل 2/212] حيث يقول :
" وبالجملة فمسالك الهوى أكثر من أن تُحصى ، وقد جرّبت نفسي ، أنني ربما أنظر في القضية زاعماً أنه لا هوى لي ، فيلوح لي فيها معنى ، فأقرره تقريراً يعجبني ، ثم يلوح لي ما يخدش في ذاك المعنى ، فأجدني أتبرم بذلك الخادش ، وتنازعني نفسي إلى تكلّف الجواب عنه ، وغضّ النظر عن مناقشة ذاك الجواب ، وإنما هذا لأني لما قررت ذاك المعنى أولاً تقريراً أعجبني صرت أهوى صحته ، هذا مع أنه لم يعلم بذلك أحد من الناس ، فكيف إذا كنت قد أذعته في الناس ثم لاح لي الخادش ! فكيف لو لم يَلُح لي الخادش ، ولكن رجلاً آخر اعترض عليّ به ! فكيف لو كان المعترض ممن أكرهه ؟!.
وهذا يبين لك مساحة حظ النفس ، والأنانية في الجِبِلّة البشريّة .
تصيّد الأخطاء قد يكون بحسن نية ودافعه خير ؛ لأنه بحث من يستشعر الغيرة والرقابة ، لكن تتولد عنده الروح السلطويّة الفوقيّة على الناس .
ومن الطريف : أن أحدهم كان يكثر من قراءة سورة القارعة إذا أمَّ زملاءه ، وكانوا يتندرون عليه أنه لا يكاد يحفظ غيرها ، فصادف أن دخل الحرم مع زملائه ؛ فقال مداعباً : لعل الإمام يقرأ تلك السورة ويغلط لأرد عليه !.
وأنت حين تلتزم بقول أو رأي أن فلاناً يُؤخذ عليه كذا من الأقوال والمذاهب أو الأحوال أو الأخطاء ، ثم تذهب للتحقّق من ذلك والتحرّي حوله ؛ ففي الغالب قد يسعدك أن تكتشف صواب ظنك السيّئ فيه ، بينما المفترض هو أن تحزن لتحقّق الخطأ في أخيك المسلم .
ولما ناظر داود الظاهري أحدهم ، ردّ عليه ذلك الشخص وقال له : إذا كنت تقول كذا وكذا ؛ فقد كفرت والحمد لله .
قال له داود : لا حول ولا قوة إلا بالله ! كيف تفرح لكفر أخيك المسلم ؟.
وما أجمل هذا الأثر الصحيح الذي يصف ( البحّاثة عن الأخطاء ) عندما لا يرى إلا عيوب الآخرين وأخطاءهم ، مع أنه قد يكون أسوأ حالاً منهم : ( يُبْصِرُ أَحَدُكُمْ الْقَذَاةَ فِي عَيْنِ أَخِيهِ وَيَنْسَى الْجِذْعَ فِي عَيْنِهِ ) رواه البخاري في الأدب المفرد موقوفاً ورفعه ابن حبان في صحيحه وصحّحه الألباني .
فنحن حينما نحاول أن نزن حسنات الآخرين وسيئاتهم ؛ تجدنا في الغالب نضع إصبعنا على طرف الكفة ؛ لترجح هنا أو هناك بحسب ميلنا أو هوانا !.
وقديماً كان حكيم الفقهاء ( الشافعي ) يقول : ما ناظرت أحداً إلا تمنّيت أن يظهر الله الحق على لسانه .
وقد قيل لعثمان -رضي الله عنه -وهو خليفة ، إن قوماً اجتمعوا على لهو وقَصْفٍ وفجور فذهب إليهم فوجدهم قد تفرقوا ؛ فحمد الله تعالى وأعتق رقبة .
ومن الجيد رؤية الجانب الإيجابي حتى لدى المخطئ ، وخاصة حين يكون السياق داعياً لاستحضارها أو ذكرها ، وقد مدح النبي -صلى الله عليه وسلم- النجاشي بأنه ملك لا يظلم عنده أحد وكان يومئذ كافراً ، وقد قال ذلك لمناسبة أمر الصحابة بالهجرة إليه .
رأت إحدى الداعيات في بلد إسلامي امرأة محجّبة وهي تدخّن فقالت : سبحان الله محجّبة تدخّن ؟
ولو شاءت لقالت : ما شاء الله بالرغم من أنها مدخنة إلا أنها التزمت بالحجاب .
صحيح أن الإنسان الذي عليه سمات التقوى قد يُعاتب ، ويؤاخذ على ما لا يؤاخذ غيره ، ويتحمل مسؤولية أكثر مما يتحمل غيره ، لكن علينا أن نتدرب على الوزن بالقسط وألاّ نخسر الميزان .
هل يعني هذا أن علينا أن نبتلع الأخطاء ونتشرّبها؟.
كلا ، بل الأصل معالجة الخطأ ، لكن إذا أفرط الإنسان في المعالجة احتاج إلى معالجة ، وإلاّ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول كما في الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي والبخاري في الأدب المفرد وابن أبي شيبة عن أبي هريرة : ( الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ أَخِيهِ ) . وقد صحّحه الصنعاني ، وحسّنه الألباني وغيره .
والتعبير بالمرآة هنا بليغ ، فأنت ترى فيها صورتك على حقيقتها بدون تعديل ، وهكذا المسلم يرى فيه أخوه المسلمُ الوجهَ الطيبَ المشرق من الصواب ، كما يرى فيه الخطأ أو النقص والجانب السلبي ، خلافاً لما يفهمه قوم وهم يردّدون هذا الحديث ويظنون أنه يعني بيان العيب والخلل .