بسم الله الرحمن الرحيم
(1-3)
قال الشيخ طارق – حفظه الله- :
هذا الفصل من كلام ابن الصلاح - رحمه الله- مما انتقده بعض من جاء بعده من أهل العلم , كالنووي , والعراقي , وابن حجر , وغيرهم..
وبالغوا في انتقاده , و الرد عليه.
وإنما منشأ ذلك الخلاف – حسب فمي-؛ أن هؤلاء العلماء – رحمهم الله- فهموا من كلام ابن الصلاح إغلاق باب الاجتهاد في الحكم على الأحاديث, ويراه متعذرا في هذه العصور المتأخرة, فنقضوا عليه ذلك بأن باب الاجتهاد مفتوح لمن تمكن وقويت معرفته, ولا وجه لإغلاقه , مادام أن تحقيق شروطه متاح , وآلاته موجود متوفرة.
والمتأمل لكلام ابن الصلاح : يتجلى له أنه لم يقصد هذا الذي فهموا عنه , وأن كلامه يتعلق بنوع من الروايات رويت في كتب معينة , في أزمنة معينة , يتعذر الحكم عليها بمجرد اعتبار الأسانيد, لا لشئ إلا لأن الأسانيد في هذه الأزمنة لم يتحقق فيها _ أو في أغلبها- الشرائط المعتبرة في صحتها سواء منها المتعلق بالعدالة والضبط أو المتعلق باتصال الإسناد فضلا عن السلامة من الشذوذ والسلامة من العلة.
وقد أشار الإمام ابن الصلاح إلى بعض ذلك , فذكر ما يفيد إلى نوعي الضبط – ضبط الصدر , وضبط الكتاب- غير متحققين في رواة هذه الأزمنة , لأنهم يعتمدون على كتب لا يؤمن فيها التغيير والتحريف , فهي غير مضبوطة , وهم أيضا لا يحفظون ما فيها, ولا يتنبهون إلى ما فيها , من التغيير والتحريف , لأن مثل هذا إنما يدركه الحافظ غالبا , وأما غير الحافظ فأنى له إدراك ذلك؟!
قال ابن الصلاح : "لأنه ما من اسناد من ذلك إلا وتجد في رجاله من اعتمد في روايته على ما في كتابه عريا عما يشترط في الصحيح من الحفظ والضبط و الإتقان , فآل الأمر _ إذا_ في معرفة الصحيح والحسن إلى الاعتماد على ما نص عليه أئمة الحديث في تصانيفهم المعتمدة المشهورة التي يؤمن فيها لشهرتها من التغيير والتحريف".
فواضح من كلام الإمام ابن الصلاح أنه يقصد روايات تقع في كتب معينة , وهي كما نص عليها :" أجزاء الحديث وغيرها" , يعني من كتب المتأخرة , التي صنفها المتأخرون , وأودعوا فيها روايات قصدوا بها الإغراب أحيانا ككتب " الأفراد" , أو العلو أحيانا أخرى, كعامة كتب المتأخرين .
وهذه الروايات , عامتها يرويها الشيوخ المتأخرون , الذين لا هم لهم إلا العلو بالإسناد , أو تحصيل شرف الرواية لا غير , فهم غير حافظين لما يروون , ولا عارفين بما يعتري الكتب التي سمعوها , من تصحيف وتحريف, وزيادة ونقص.
ومثل هؤلاء الرواة لم يكونوا بمحل الثقة عند المتقدمين, لأنهم لم يحققوا ما يستحقون به وصف الثقة , فهم غير حافظين , فلم يحققوا ضبط الصدر , ولا هم أصحاب كتب مصححة , فلم يحققوا ضبط الكتاب.
إلا أن المتأخرين توسعوا في مثل هؤلاء ومنحوهم وصف الثقة , واصطلحوا لأنفسهم : أن الثقة في زمانهم هو من صح سماعه, بقراءته أو بحضوره مجلس السماع, حفظ أولم يحفظ , ضبط أو لم يضبط.
قال الذهبي : في ترجمة أبي بكر ابن خلاد من " السير" , بعد أن حكى عن الخطيب أنه قال فيه : " كان لا يعرف شيئا من العلم غير أن سماعه صحيح" وعن أبي نعيم الأصبهاني :" كان ثقة " , وعن أبي الفتح ابن أبي الفوارس, أنه وثقه , وقال:"لم يكن يعرف من الحديث شيئا " , قال الذهبي : (16/ 69-70) :
" قلت : فمن هذا الوقت , بل وقبله صار الحفاظ يطلقون هذه اللفظة (ثقة) على الشيخ الذي سماعه صحيح بقراءة متقن, وإثبات عدل, وترخصوا في تسميته بـ" الثقة" وإنما الثقة في عرف أئمة النقد كانت تقع على العدل في نفسه, المتقن لما حمله, الضابط لما نقل , وله فهم ومعرفة بالفن ؛ فتوسع المتأخرون ". اهـ.
وقال أيضا في مقدمة "الميزان"(1/4):
" وكذلك؛ من قد تكلم فيه من المتأخرين , لا أورد منهم إلا من قد تبين ضعفه, واتضح أمره من الرواة, إذ العمدة في زماننا ليس على الرواة , بل على المحدثين, والمقيدين , والذين عرفت عدالتهم , وصدقهم في ضبط أسماء السامعين’ ثم من المعلوم أنه لابد من صون الراوي وستره, فالحد الفاصل بين المتقدم والمتأخر هو رأس ثلا ث مائة , ولو فتحت على نفسي تليين هذا الباب لما سلم معي إلا القليل , إذ الأكثر لا يدرون ما يروون ولا يعرفون هذا الشأن , إنما سمعوا في الصغر , واحتيج إلى علو سندهم في الكبر, فالعمدة على من قرأ لهم , على من أثبت طباق السماع لهم , كما هو مبسوط في علوم الحديث" ا.هـ .
وقال ابن الأثير في مقدمة " جامع الأصول" (1/73-74), بعد أن بين معنى الضبط وشروطه , قال:
" على أن الضبط في زماننا هذا بل وقبله من الأزمان المتطاولة , قل وجوده في العالم, وعز وقوعه ؛ فإن غاية درجات المحدث – في زماننا – المشهور بالرواية, الذي ينصب نفسه لإسماع الحديث في مجالس النقل: أن تكون عنده نسخة قد قرأها أو سمعها أو في بلدته نسخة عليها طبقة سماع , اسمه مذكور فيها , أوله مناولة, أو إجازة بذلك الكتاب , فإذا سمع عليه استمع إلى قارئه,وكتب له بخطه بقراءته وسماعه, ولعل قارئه قد صحف فيه أماكن لا يعرفها شيخه , ولا عثر عليها, وإن سأله عنها كان أحسن أجوبته أن يقول : كذا سمعتها ؛ إن فطن لها , وإذا اعتبرت أحوال المشايخ من المحدثين في زماننا وجدتها كذلك , أو أكثرها , ليس عندهم من الرواية علم, ولا لهم بصواب الحديث وخطئه معرفة , غير ما ذكرنا من الرواية , على الوجه المشروح" ا.هـ.
وقال الحافظ أبو الطاهر السلفي في جزء له جمعه في " شرط القراءة على الشيوخ" كما في " شرح الألفية" للعراقي(1/348), و" النكت" للزركشي (3/430):
إن الشيوخ الذين لا يعرفون حديثهم , الاعتماد في روايتهم على الثقة المقيد عنهم لا عليهم , وان هذا كله توسل من الحفاظ إلى حفظ الأسانيد , إذ ليسوا من شرط الصحيح إلا على وجه المتابعة , ولولا رخصة العلماء لما جاز الكتابة عنهم , ولا الرواية عن قوم منهم دون آخرين" ا.هـ.