خطبة الحرم المكي - عوامل بناء الأسرة المسلمة وإصلاحها


مجلة الفرقان

جاءت خطبة المسجد الحرام 28 محرم 1444 هــ 26‏/08‏/2022 لإمام الحرم الشيخ فيصل بن جميل غزاوي بعنوان: (عوامل بناء الأسرة المسلمة وإصلاحها). في بداية الخطبة أكد الشيخ أن الأسرة المسلمة هي نواة المجتمع الإسلامي، وأساس بنيانه، وقد حرص الإسلام على إرساء الأسرة وتثبيتها، والمحافَظة على تماسُكها واستقرارها، والتحذير من أسباب تفكُّكِها وعوامل تصدُّعِها.
إنَّ من أهم مُهمَّات إبليس إفسادَ الصلات الأُسْرية
إنَّ من أهم مُهمَّات إبليس إفسادَ الصلات الأُسْرية، ونقض العَلاقات الزوجيَّة، فقد صحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: «إنَّ إبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ علَى الماءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَراياهُ، فأدْناهُمْ منه مَنْزِلَةً أعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أحَدُهُمْ فيَقولُ: فَعَلْتُ كَذا وكَذا، فيَقولُ: ما صَنَعْتَ شيئًا، قالَ ثُمَّ يَجِيءُ أحَدُهُمْ فيَقولُ: ما تَرَكْتُهُ حتَّى فَرَّقْتُ بيْنَهُ وبيْنَ امْرَأَتِهِ، قالَ: فيُدْنِيهِ منه ويقولُ: نِعْمَ أنْتَ»، والتَّفريقُ بينَ الزَّوجينِ يُعجِب إبليسَ؛ لِمَا يترتَّب عليه مِن مفاسدَ عظيمةٍ؛ كانقطاع النسل، وسوء تربية الأطفال، وتشتُّت الأولاد وضياعهم، وقطيعة الرحم، وما في ذلك مِن التباغض والتشاحن وإثارة العداوات بين الناس.
{وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}
لقد خاطَبَنا ربُّنا -عز وجل- بقوله: {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}(الْأ َنْفَالِ: 1)؛ أي: أصلِحوا ما بينكم من الأحوال، حتى تكون أحوالَ أُلفة ومحبَّة واتفاق، وقال - لى الله عليه وسلم -: «ألَا أُخبِركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟ قالوا: بلى، قال: إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين هي الحالقة»، فيعمل المرءُ على إصلاح نفسه، ومَنْ لهم ولاية عليهم، قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}(التَّحْر ِيمِ: 6)، وقال - لى الله عليه وسلم -: «والرجلُ في أهله راعٍ، وهو مسؤولٌ عن رعيته».
كان النبي - لى الله عليه وسلم - خيرَ الناس لأهله، وأحسنَهم عشرةً لأزواجه، وقد بيَّن ذلك بقوله: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهله».
الواجب على الزوجين أن يُعاشِر كلٌّ منهما الآخر بالمعروف
والواجب على الزوجين أن يُعاشِر كلٌّ منهما الآخر بالمعروف، قال جلَّ وعَلَا: {وعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}( النِّسَاءِ: 19)، وقال -تعالى-: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}( الْبَقَرَةِ: 228)؛ وذلك بأَنْ يتعاوَنَا على الخير، ويكونَ كلُّ واحد منهما ناصحًا للآخَر، حريصًا على القيام بحقِّه في مودَّةٍ ووئامٍ، وبُعدٍ عن النزاع والخصام، والتنابز والشتام، وجَرْح المشاعر وكَسْر الخواطر، ويكون ديدنَهما التصافي وحفظُ الجميل، والثناءُ على الفعل النبيل، والاعترافُ بالخطأ والاعتذار، والتماسُ الأعذار.
اسْتَوصُوا بالنِّساءِ خَيْرًا
ومن وصاياه - لى الله عليه وسلم - في حُسن العشرة قولُه: «ألا واسْتَوصُوا بالنِّساءِ خَيْرًا فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٍ عِنْدَكُمْ»؛ فعلى كل زوج أن يتقيَ اللهَ ربَّه في زوجته، التي جعَلَها اللهُ تحتَ ولايتِه وفي عصمتِه، وهذا يقتضي رعايتَها وحفظَها وصيانتَها، فهو القائم على مصالحها كما قال -تعالى-: {الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ}(النِّ سَاءِ: 34)، وهي قِوامة إصلاح ورعاية، وإدارة وتدبير، وليست قوامةَ تسلُّط وبَغْيٍ وأذيةٍ وتنفيرٍ، كما يستوجِب معاملتَها بالإحسان والرحمة والصفح والغُفران؛ لقوله - لى الله عليه وسلم -: «لا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَر»، ولا يعني ذلك أن يُطِيعَها في معصية ربِّه استرضاءً لها، كما أن الله -عز وجل- أدَّب الزوجَ بألَّا تَحمِلَه كراهةُ زوجتِه على سوء العشرة، قال -تعالى-: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَ ّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (النِّسَاءِ: 19)، وعند نشوز المرأة ينبغي المعالجةُ بما يُصلِح المسارَ ويُقوِّم الصلةَ بين الزوجين وَفقَ ما شرَع اللهُ.
المرأةُ الشريفةُ البَرَّةُ تُحافِظ على العشرة الزوجيَّة
والمرأةُ الشريفةُ البَرَّةُ تُراقِب ربَّها، وتُحافِظ على العشرة الزوجيَّة؛ فامرأةُ نبيِّ الله أيوبَ -عليه السلام- كانت زوجةً صالحةً صابرةً تقيةً وفيَّةً، وقفَتْ بجانبه في محنته حينَ مسَّه الضرُّ، وابتُلي في ماله وولده وجسده، وبقي في المحنة ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، فلازَمَتْه تخدُمه وتواسيه، ولم تهجرْه وتزهدْ فيه، فكانت مثالًا للنُّبْل، والوفاء، والتضحية، والعطاء، ولما خرج عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ذات ليلة يطوف بالمدينة؛ إذ سمع امرأة غاب عنها زوجُها تقول:
تطاوَلَ هذا الليلُ واسودَّ جانِبُهْ
وأرَّقَني ألَّا خليلٌ أُلاعِبُهْ
فواللهِ لَولَا اللهُ أنِّي أُراقِبُهْ
لحُرِّكَ مِنْ هذا السريرِ جَوانِبُهْ
فمراقبةُ هذه المرأةِ ربَّها وخشيتُها إيَّاه دعاها إلى أن تَصبِرَ على فِراقِ زَوجِها وألَّا تَخُونَه، بل حافظَتْ على شَرَفِها ولم تهدم بنيانَ بيتها.
المرأة العاقلة تَحرِص على أداء حقوق زوجها
كما أن المرأة العاقلة الرشيدة تَحرِص على أداء حقوق زوجها؛ فلمَّا سُئل - لى الله عليه وسلم - عن خيرِ النِّساءِ، قالَ: «الَّتي تُطيعُ زوجَها إذا أَمَرَ، وتَسُرُّهُ إذا نَظَرَ، وتحفظُهُ في نفسِها ومالِهِ»، وسأل النبيُّ - لى الله عليه وسلم - امرأةً قائلًا لها: «أَذاتُ زوجٍ أنتِ؟ قالت: نعم، قال: كيف أنتِ له؟ قالت: ما آلُوه -أَيْ: لا أُقصِّر في حقه- إلا ما عجَزتُ عنه. قال: فانظري أين أنتِ منه، فإنما هو جنتُكِ ونارُكِ»، أي: هو سببٌ لدخولك الجنَّةَ برضاه عنكِ، وسببٌ لدخولِكِ النارَ بسخَطِه عليكِ، فأحسِنِي عشرتَه، ولا تُخالفي أمرَه فيما ليس بمعصية، فلا طاعةَ لمخلوق في معصية الخالق.
طاعة الزوجة لزوجها تُقوِّي المحبةَ القَلبِيَّةَ
كما أن طاعةَ الزوجة لزوجها تُقوِّي المحبةَ القَلبِيَّةَ بينَ الزوجينِ، وتُحافِظ على الحياة الزوجية من التصدُّع والانشقاق، قال ابن الجوزي -رحمه الله-: «وينبغي للمرأة العاقلة إذا وجَدَتْ زوجًا صالحًا يُلائمها أن تجتهدَ في مرضاته، وتجتنِبَ كلَّ ما يُؤذيه، فإنَّها متى آذَتْه أو تعرَّضَتْ لِمَا يَكرَهُه أوجَب ذلك مَلالتَه، وبقي ذلك في نفسه».
المخاطر التي تهدِّد بنيانَ الأسر المسلمة
ثم بين إمام الحرم أن من المخاطر التي تهدِّد بنيانَ الأسر المسلمة التأثرَ بمقاطعِ بعضِ مشاهيرِ التواصُل الاجتماعيّ، التي تَحمِل في ثناياها رسائلَ هدمٍ للبيوت، ودمارٍ للقِيَم والمبادئ فالحذرَ الحذرَ من ذلك! كما أنَّ مِنْ أخطرِ ما يُفسِد العلاقةَ الزوجيةَ التخبيبَ، وهو من كبائر الذنوب، قال - لى الله عليه وسلم -: «ليسَ منَّا مَنْ خبَّبَ امرأةً علَى زوجِها»؛ ألَا فليتقِ اللهَ أولئك الَّذِينَ يسعَون بالفتنة بينَ الأصفياء، ويَلتَمِسون العنتَ للبُرآء؛ فكم من بيوت آمنة تفرَّق جمعُها، وتصدَّع بنيانُها، وكم من أُسَر متماسكة تشتَّت شملُها وتقاطَع أفرادُها، مِنْ جرَّاء هذا الجرم العظيم، والفعل الأثيم، وَليَحْذَر الزوجان ما يُفسِد العشرةَ بينَهما، وألَّا يكونَا سمّاعَينِ لمن يريد الوقيعةَ بينَهما من القرابة أو من غيرهم؛ فإنَّ المخبِّبِينَ جندٌ لإبليس في مُهمته، المتمثِّلة في إلقاء العداوة بينَ الزوجين؛ بتزهيدِ الزوجِ في امرأته بغيرِ حقٍّ؛ بذِكْرِ مساوئها عندَه، وتحقيرِها في عينه، حتى يَنقَلِبَ عليها بغضًا وذمًّا، وتزهيدِ المرأةِ في زوجها بغير حقٍّ، بذِكْر مساوئه عندَها والقَدْح فيه وإيغار صدرِها عليه؛ حتى تنفرَ منه وتؤذيَه.
الفرقَ بين المخبِّبِينَ والمصلحينَ
وانظروا -رحمكم الله- الفرقَ بين عمل المخبِّبِينَ، وعمل المصلحينَ، الذين يَنشُدُون أن تكون بيوتُ المسلمينَ هادئةً مطمئنةً مستقرةً، وصلةُ الزوجين قويةً متماسكةً مستمرةً، ويَحرِصُونَ على بقاءِ أواصرِ الصلةِ بينَ الزوجينِ مُحكَمةً، لا تَنقَطِعُ لمجردِ خلافاتٍ طارئةٍ، ولا تَضعُف لأسبابٍ تافهةٍ؛ فقد كان - لى الله عليه وسلم - حريصًا على معالَجة الخلافات الزوجيَّة، كما صنَع مع ابنتِه فاطمةَ، وزوجِها عليّ -رضي الله عنهما-، بعدَ أن حصَل بينَهما شيءٌ، وكان يَشفَع للإصلاح بينَ الزوجينِ، كما شفَع لزوج بَرِيرَةَ أَنْ تُرَاجِعَهُ.
واستطرد الشيخ غزاوي قائلا: كَمْ مِنْ بيتٍ كاد أن يتهدَّم بسببِ خلافٍ يسيرٍ نشأ بينَ الزوجينِ، وأوشَكَ الزوجُ أن يُوقِعَ الطلاقَ! فإذا بأحد المصلحين من مفاتيح الخير بكلمة طيبة، ونصيحة غالية، يُصلِح بينَهما بفضلِ اللهِ وتوفيقِه؛ فهؤلاء المصلحون يُؤرِّقُهم ويُقلِقُهم ما يَرَوْنَهُ من تشتُّت الأُسَر وضياع الذَّريَّة، فيعملون على الإصلاح بين المتقاطعينَ من أفراد الأسرة، وإزالة الخلاف بينَهم، وشعارهم: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ}(هُو دٍ: 88).
تقويةَ الأبوينِ صلتَهما بالله أساسٌ في استقامة الأولاد
ثم بين الشيخ أنَّ تقويةَ الأبوينِ صلتَهما بالله، بالمحافَظةِ على إقامة الصلاة، وغيرها من شعائر الدِّين، ولزومِ التقوى والمراقبةِ، أساسٌ في استقامة الأولاد، وثباتِ بناء الأسرة، وتأمَّلُوا قولَ الله -تعالى-: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} (الْكَهْفِ: 82)، ففيه دَلالةٌ على أنَّ صلاحَ الآباءِ يُفِيد الحفظَ في ذريتهم، وأنَّ بركةَ صلاحِهم تشمَل مَنْ وراءَهُم مِنْ نسلهم.