المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبدالله العلي
يرى جماهير من أهل السنة أن وضع الجريد أو الريحان أو الزهور على القبر غير مشروع، وليس له أصل في الشريعة؛ بل هو بدعة، مأخوذة من الأعاجم([1]).
وما ورد أن النبي r وضع الجريد على قبرين، فقد أجاب عنه أهل العلم: بأنه من خصوصياته عليه الصلاة والسلام.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مر النبي r بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة، ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين فغرز في كل قبر واحدة، قالوا: يا رسول الله! لم فعلت هذا؟ قال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا)
([2]).
وعلق البخاري في صحيحه، في باب الجريدة على القبر عن بريدة الأسلمي: (أنه أوصى أن يجعل في قبره جريدتان)([3]).
وأما فعل بريدة t فقد علق عليه ابن حجر بقوله: «
قال ابن المرابط([4]) وغيره: يُحتمل أن يكون بريدة أمر أن يُغرزا في ظاهر القبر اقتداءً بالنبي r في وضعه الجريدتين في القبرين، ويُحتمل أن يكون أمر أن يُجعلا في داخل القبر لما في النخلة من البركة؛ لقوله تعالى: (ﯺ ﯻ)
([5])، والأول أظهر، ويؤيده إيراد المصنف حديث القبرين في آخر الباب، وكأن بريدة حمل الحديث على عمومه ولم يره خاصًّا بذينك الرجلين»
([6]).
وقال الشيخ ابن باز معلقاً على كلام ابن حجر: «القول بالخصوصية هو الصواب؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يغرز الجريدة إلا على قبورٍ عَلِمَ تعذيب أهلها، ولم يفعل ذلك لسائر القبور، ولو كان سنةً لفعله بالجميع، ولأن الخلفاء الراشدين وكبار الصحابة لم يفعلوا ذلك، ولو كان مشروعاً لبادروا إليه، أما ما فعله بريدة فهو اجتهاد منه، والاجتهاد يخطئ ويصيب، والصواب مع ترك ذلك كما تقدم، والله أعلم»
([7]).
وأما القول بأن تعليل النبي r بالتخفيف عنهما ما لم ييبسا معناه: أنه يخفف عنهما ببركة تسبيحهما؛ إذ إن الرطب أكمل من تسبيح اليابس؛ لما في الأخضر من نوع حياة، فقد أجاب عنه الخطابي بقوله: «وأما غرسه شق العسيب على القبر، وقوله: (لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا)
؛ فإنه من التبرك بأثر النبي r ودعائه بالتخفيف عنهما، وكأنه جعل مدة بقاء النداوة فيهما حدًّا لما وقعت به المسألة من تخفيف العذاب عنهما، وليس ذلك من أجل أن في الجريد الرطب معنىً ليس في اليابس، والعامة في كثير من البلدان تغرس الخُوص([8]) في قبور موتاهم، وأراهم ذهبوا إلى هذا، وليس لما تعاطوه من ذلك وجه»
([9]).
ويؤيد كلام الخطابي ما جاء في حديث جابر t وفيه: (إني مررت بقبرين يعذبان فأحببت بشفاعتي أن يُرفّه
([10]) عنهما ما دام الغصنان رطبين)
([11]).
فالسبب في التخفيف هو شفاعته r، ومدة التخفيف هي ما بقيت هذه النداوة.
وقال الألباني: «
ويؤيد كون وضع الجريد على القبر خاصاً به، وأن التخفيف لم يكن من أجل نداوة شقها أمور:
1- حديث جابر t الطويل في صحيح مسلم وفيه: قال r: (إني مررت بقبرين يعذبان فأحببت بشفاعتي أن يُرفّه عنهما ما دام الغصنان رطبين)
، فهذا صريح أن رفع العذاب إنما هو بسبب شفاعته r ودعائه لا بسبب النداوة...»
([12]).
وعلق أحمد شاكر([13]) على كلام الخطابي السابق بقوله: «وصدق الخطابي، وقد ازداد العامة إصراراً على هذا العمل الذي لا أصل له، وغلوا فيه، خصوصاً في بلاد مصر، تقليداً للنصارى، حتى صاروا يضعون الزهور على القبور، ويتهادونها بينهم، فيضعها الناس على قبور أقاربهم ومعارفهم تحيةً لهم، ومجاملة للأحياء، وحتى صارت عادة شبيهة بالرسمية في المجاملات الدولية، فتجد الكبراء من المسلمين إذا نـزلوا بلدة من بلاد أوروبا ذهبوا إلى قبور عظمائها، أو إلى قبر من يسمونه: (الجندي المجهول) ووضعوا عليها الزهور، وبعضهم يضع الزهور الصناعية التي لا نداوة فيها تقليداً للإفرنج، واتباعاً لسنن من قبلهم، ولا ينكر ذلك عليهم العلماء أشباه العامة؛ بل تراهم أنفسهم يضعون ذلك في قبور موتاهم، ولقد علمتُ أن أكثر الأوقاف التي تسمى أوقافاً خيرية موقوفٌ ريعها على الخوص والريحان الذي يوضع على القبور، وكل هذه بدع ومنكرات لا أصل لها في الدين، ولا سند لها من الكتاب والسنة، ويجب على أهل العلم أن ينكروها وأن يبطلوا هذه العادات ما استطاعوا»
([14]).
وأما قولهم أن تخفيف العذاب عن الميت بسبب تسبيح الأشجار أو الحيوان القريب منه فقول «لا دليل عليه، ولو كان كذلك لكان يقتضي أن يكون الدفن في البساتين مستحباً»
([15]).
ثم إن التسبيح لا تعلّق له بالرطوبة والنداوة، فإن كل شيء يسبح بحمد الله، قال الألباني: «يضاف إلى ما سبق أن بعض العلماء كالسيوطي قد ذكروا أن سبب تأثير النداوة في التخفيف كونها تسبح الله تعالى، قالوا: فإذا ذهبت من العود ويبس انقطع تسبيحه! فإن هذا التعليل مخالف لعموم قوله تبارك وتعالى: ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم)
([16])» ([17])
([1]) انظر: المدخل لابن الحاج (3/280)، أحكام المقابر في الشريعة الإسلامية (ص:172).
([2]) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء (292).
([3]) صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب الجريدة على القبر (ص:218).
([4]) هو أبو عبد الله محمد بن خلف بن سعيد الأندلسي، الشهير بابن المرابط، مفتي مدينة المريَّة وقاضيها، توفي سنة (485هـ)، من مؤلفاته: تاريخ بلنسية، شرح صحيح البخاري. انظر: سير أعلام النبلاء (19/66).
([5]) سورة إبراهيم، آية: (24).
([6]) فتح الباري (4/141).
([7]) تعليق الشيخ ابن باز على فتح الباري (4/142).
([8]) الخوص: ورق النخل. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (ص:289).
([9]) معالم السنن (1/17-18).
([10]) يُرفه: يُخفف ويُنفَّس، انظر: شرح مسلم على النووي (18/144)، النهاية في غريب الحديث والأثر (ص:369).
([11]) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الزهد والرقائق، باب حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر (3014).
([12]) أحكام الجنائز وبدعها (ص:254).
([13]) هو أحمد بن محمد شاكر بن أحمد بن عبد القادر، عالم بالحديث والتفسير، ولد بالقاهرة سنة: (1309هـ) ، وتوفي سنة (1377هـ)، من مؤلفاته: عمدة التفسير، تحقيق مسند الإمام أحمد، نظام الطلاق في الإسلام. انظر: الأعلام للزركلي (1/253).
([14]) جامع الترمذي بتعليق أحمد شاكر (1/103).
([15]) أحكام المقابر للسحيباني (ص:171)، وقد رجّح الباحث أن أفضل مكان للدفن هو الصحراء؛ لأنه أقل ضرراً على الأحياء، وأقل ضرراً على الأموات. انظر (ص:459).
([16]) سورة الإسراء، آية: (44).
([17]) أحكام الجنائز وبدعها (ص:255).