المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو عبد الرحمن من دمشق
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لا يُسلَّمُ لك يا أخي!!
فإقرارك بإخراج "أين" عن المكانية في "أين عقلك" ونحوِها، وإنكارُك هذا الإخراج في "أين الله"
غير سديد؛ بارك الله فيك.
الذي يُفهم من كلامك هذا أن الأصل عندك في "أين" إخراجها عن المكانية!! وهذا لازم للكلام يجب ألا يخفى على طالب العلم! فمن أين جئت بهذا الأصل؟؟؟؟
فأنت لم تُخرِجها في الأولى إلا بدليل عقلي، يتفق عليه عقلي وعقلك وعقلُ كل عاقل؛ لأن عقلَ المسؤول عن عقله في "أين عقلك" لا مكانَ له.
من الذي قال إنها حملت على غير المكانية في المثال الذي ذكرته أنت بدليل "عقلي"؟؟ بل بقرينة من كلام المتكلم وسياق الكلام!! فمثل هذا السؤال "أين عقلك" قد يخاطب به طالب في المدرسة مثلا ليرى المدرس هل يعلم الطالب مكان العقل أو لا يعلم!
ثم هل أنت تؤمن بأن العقل لا مكان له؟؟؟؟
هذا يخالفك فيه سائر أصحاب العقول! والقرءان يبطله!!
وإلا فأين أنت من قوله تعالى ((أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)) [الحج : 46]؟؟؟؟
وأين أنت من الكلام بيننا وبين الملاحدة والماديين الذين يجعلون العقل في الدماغ وينكرون أن يكون له علاقة بالقلب كما نصت النصوص عندنا!
فمن الذي قال إن عقل المخاطب بهذا السؤال يحمله لا محالة على إخراج السؤال بأين هنا عن المكانية؟؟؟؟ هذا لزوم باطل لا يصح!
وعدم الإخراج لإثباتِ مكانٍ لله عز وجلّ ـ لا على جهة المكان الحسّي ـ وإجراءُ "أين" على ظاهرٍ متوهَّمٍ تناقُضٌ.
القرينة في المثال الذي سقته أنت على أن عبارة "أين عقلك" لا يراد بها المكانية، أن المسؤول بها في حال من الغضب والسائل بها في مقام عتاب له على مساءة خرجت منه! فيتوجه الفهم تلقائيا بسبب تلك القرائن المحتفة بالكلام إلى خلاف المكانية!
ولكن لو اختلف السياق وتغيرت القرائن لما لزمنا حملها على ذلك الفهم!!
بل أنا أجزم بأنك لو جئت إلى أحدٍ من الناس وسألته "أين عقلك"، وذلك دون مقدمات للكلام ودون إظهار أي قرائن تفيد معنى الاتهام بغياب العقل عند المخاطب، فإنه سيعجب من السؤال.. لا لأنه لا مكان للعقل على الحقيقة، ولكن لأن مكان العقل معلوم ومعدود من المسلمات عند عامة الناس التي لا يعتاد السؤال عنها!!
فعن أي تناقض تتكلم يا أخانا؟؟؟
ودليلي: أنني وأنت وكل مسلم مؤمنون بأنّه لا مكانَ حسياً لله تبارك وتعالى.
لا أسلم لك بهذه الدعوى حتى أستفصل منك عن معنى قولك "حسيا"!! وإلا فذات الله لها وجود حقيقي بائن عن غيرها من الموجودات، وهي موصوفة بما لا يفهم منه العقل - السوي السالم من الشبهات والفلسفات - إلا معنى المكانية الحقيقية! ولا يلزم من ذلك المعنى عند العقل السوي تشبيهٌ ولا تمثيلٌ ولا قياسٌ على المخلوقات!!!
الذي بقيَ أنّك ـ ومن وافقك ـ تُريدون أن تُثبتوا لله تعالى مكاناً لا كالأمكنة (غير مادّيٍّ أو حسّيّ)، وذلك لا تصريحاً من النصوص بل فهماً لها.
قولك "لا تصريحا بل فهما" = تشقيق لفظي مردود!!
وهل يأخذ الناس من النص إلا الفهم؟؟ ليس للناس من النصوص إلا الفهم!
فإن اتفقوا فيه فلا إشكال، وإن اختلفوا فينظر في النزاع بحسبه ويقدر بقدره!
وأما قولك مكان "غير مادي أو حسي" فهو تزيُّد منك لا نرتضيه!! العقل يوجب لكل ما يسأل عنه بأين فيكون الجواب بأنه "في العلو وفي السماء" = معنى المكانية (وتأمل كلمة معنى).. فهذا هو معنى قولك "في السماء" هنا لغة وعقلا! فهو في السماء - سبحانه وتعالى - على الحقيقة، على النحو الذي يليق بذاته! ولا يلزم من نسبة هذا المعنى له سبحانه أن يكون "متحيزا" محاطا به كما هو شأن المخلوقين، وكما يتوهم أهل الكلام!! هذا اللازم الباطل لا تتصوره إلا أذهانهم الفاسدة، ولم يقل به أحد من الصحابة قط!!! لم نر الجارية تتحرج من نسبة هذا المعنى لله تعالى جوابا للسؤال، ولم نر رسول الله صلى الله عليه وسلم يستدرك جوابها بما ينفي عن العقل ذلك المعنى!! فهل كتم النبي عليه السلام البيان وقت الحاجة (ويالها من حاجة!)؟؟؟؟
سلِّم قبلك يا أخي من هذه اللوازم والتصورات الباطلة كما كانت قلوب الصحابة والسلف رضي الله عنهم، وليسعك ما وسعهم دون عسف ولا تفلسف ولا خوض فيما لا سلطان لنا به!!
الطائر يوصف بأنه في السماء، والله تعالى موصوف كذلك بأنه في السماء! كلاهما يوصفان بمعنى المكان، ولكن يقينا ليس يلزم من وصف الله تعالى بهذا المعنى ما ينقدح في الأذهان من وصف الطائر بمثله!! فهو سبحانه فوق مخلوقاته بائن منها ليس كمثله شيء! هكذا فهم الصحابة والسلف تلك النصوص ولم يتكلفوا فيها ما تكلفت، ولا شرطوا لقبولها التأويل!!
فلنقف عند هذا القدر ولا نحمل الكلام ما لا يحتمله!!
وهذا الفهمُ مفتقرٌ إلى الدليل الصريح؛ وهو منقوضٌ بالمسلَّمِ به من أنْ لا مكانَ حسياً لله تعالى.
أعني: لا نصّ شرعياً يُثبتُ ـ بصريح الدلالة ـ المكانَ لله جل وعلا؛ فإثباته بمجرّد ظاهرٍ مصروفٍ لنصٍّ ما غير صواب.
تخليط عجيب!
قولك "منقوض بالمسلم به من أن الله لا مكان له (حسيا)" مردود عليك لما تقدم بيانه.
قولك "لا نص شرعيا يثبت بصريح الدلالة" جدلٌ محض وطلب لما يتصور! فعندما يأتيني نص يفيد استواء الله تعالى على عرشه وعلوه عليه ويأتي الجواب لسؤال "أين الله" بأنه سبحانه في السماء، ولا يرد في النص مزيد على هذا، فإننا لتسليمنا بأنه سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء، وبنائنا على هذا الأصل الأصيل، لا نطالب بالمزيد من النصوص لإثبات المعاني الواضحات، ولنسبة تلك الصفات لله على حقيقتها!!
لا ننتظر أن يرد إلينا نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "كل ما أخبرتكم به من صفات الله تعالى فهو على حقيقته، فاليد يد والعين عين والنزول نزول على الحقيقة"!! إذ عقولنا ولله الحمد سالمة من ذلك المعارض الباطل الذي توهمتموه أنتم!!
وإلا فما معنى مطالبتك بالدليل "الصريح الدلالة"؟؟؟؟
أما قولك "مصروف لنص ما غير صواب" فلم أفهمه حقيقة!! ما هو النص الغير صواب؟؟
تلخيص العبارة: إثباتُ مكانٍ ـ لا كالأمكنة ـ لله تعالى لا دليل صريحاً عليه، وغاية الأمر أنه مبنيٌّ على استنتاجٍ اجتهاديٍّ للبعضِ مُعارَضٍ بالدليل النقلي والعقلي.
ليس ثمّ لا دليل عقلي ولا نقلي لدفع هذا الفهم، وأمهلك من الآن إلى السنة القادمة لتقدم لنا هذا الدليل الذي يعارضه، من كلام الصحابة رضي الله عنهم!! وإن جئتني بقاعدة في التأويل فأطالبك بإثباتها من كلامهم أيضا .. كقولكم "كل ما عارض المعقول من الصفات فإنه يؤول"!! هات الدليل "الصريح عليها"!!
أسأل الله أن يلهمني وإياك رشدنا.
أرجو أن أكون أوصلتُ فكرتي بجلاء وحُسن بيان.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته