بسم الله الرحمان الرحيم
جواب أبي عبد الله عادل السلفي
شرح مقولة ابن سيرين إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذونه
الشيخ مختار الأخضر طيباوي
السلام عليكم و رحمة الله و براكته:
وعليك السلام ورحمة الله وبركاته،
يا شيخ حفظكم الله,
و أنت حفظك الله، ورعاك بمنه ولطفه،
عندي طلب و هو في نفس الوقت سؤال:
أرجو منكم حفظكم الله أن تبينوا لنا ما قصد الإمام ابن سيرين بقوله إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم أو كما قال رحمه الله.
فالسؤال: هل بن سيرين رحمه الله يقصد جميع العلوم من عقيدة و حديث و فقه و أصوله و علوم الآلة و تاريخ و....ألخ
أم يقصد العلوم الشرعية فقط.
قلت:الحمد لله وحده، و الصلاة و السلام على من لا نبيّ بعده، وبعد...
وصف الشيء بكونه شرعيا يعني أنه ممّا دلّ عليه الشرع بإحدى الطرق المعتبرة، إما مباشرة أو من طريق التضمن و اللزوم، و العلوم منها ما هو شرعي شرعية الغاية، ومنها ما هو شرعي شرعية الوسائل، و الأصل الجامع أن نقول:
كل علم تنبني عليه معرفة الله ، و معرفة أمره و نهيه فهو علم شرعي، فهذا العلم غاية، وكل علم يتوصل به إلى هذين العلمين فهو علم وسيلة،إذ القصد من الإسلام معرفة الله سبحانه و تعالى، و معرفة أمره و نهيه.
و على هذا الأساس يجب أن نفهم كلمة محمد بن سيرين ـ رحمه الله ـ و إن كانت المناسبة التي لأجلها أطلق هذه القاعدة العزيزة، هي تصحيح أسانيد الحديث، و الاحتراز عن الكذابين، ومن ضمنها أخذ العلم عن المبتدعة.
اختلاف عبارات المقالة:
لقد ثبتت هذه المقولة العظيمة التي تشكل أوّل قواعد الجرح و التعديل ـ لفظا ومعنى ـ من عدة طرق، و بعدة ألفاظ متقاربة، ولكن بجمعها تزداد معرفتنا بمقصد ابن سيرين ـ رحمه الله ، فقد جاء عن ابن عون أن ابن سرين قال:" كان يقال العلم دين فانظروا عن من تأخذونه".
فهو هنا أطلق العلم، ولم يحدد نوعه، ومعلوم أن العلم المعروف في عهده علم القرآن و الحديث،ممّا يعني أنه قصد العلوم الشرعية.
وجاء عن الأوزاعي أنه قال : كان ابن سيرين يقول: إن هذا دينكم فانظروا عن من تأخذونه".
وفي رواية :فقال:" اتقوا الله يا معشر الشباب وانظروا عن من تأخذون هذه الأحاديث فإنها دينكم".
وروى أبو عبيدة بن عقبة بن نافع عن أبيه انه كان يوصي بنيه بثلاث يقول:" يا بني إياكم والقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانظروا عن من تأخذون منه فانه دين، وإياكم والدَّين وإن لبستم العباء، والثالثة أنسيها نافع".
وعن ابن أبي أويس قال: سمعت مالك بن أنس يقول:: إن هذا العلم هو لحمك ودمك، وعنه تسأل يوم القيامة فانظر عن من تأخذه".
وفي"إسعاف المبطأ"{ص:10}:"قال إسماعيل بن أبي أويس: سمعت خالي مالكا يقول: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم لقد أدركت سبعين ممن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذه الأساطين فما أخذت عنهم شيئا، وان احدهم لم ائتمن على بيت مال لكان به أمينا لأنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن فقدم علينا ابن شهاب فكنا نزدحم على بابه."
عن زائدة قال:" إن هذا العلم دين فانظروا من تودعونه"
فزاد شرطا آخر،هو أين تضع علمك أي لا تحدث به من هب و دب،وربما ينبني هذا على نوع من العلم خاص كعلم الحديث، فإن المسلم مطالب بتبليغ الرسالة لكل أحد، وربما هو على أصل الشافعي: من وضع علما في غير أهله فقد أضاعه.
قال مجالد:" لا يؤخذ الدين إلا عن أهل الدين".
وقد جاءت رواية عن ابن سيرين مفصّلة واضحة ،قال :"إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذونه، ذهب العلم، وبقي منه غبرات في أوعية سوء، ويجتنب الرواية عن الضعفاء، والمخالفين من أهل البدع والأهواء".
شرح المناوي في "فيض القدير"{2/691} هذه المقولة فقال: (إن هذا العلم) الشرعي الصادق بالتفسير والحديث والفقه وأصول الدين وأصول الفقه ويلحق بها آلاتها (دين فانظروا) أي تأملوا (عمن تأخذون دينكم) أي فلا تأخذوا الدين إلا عمن تحققتم كونه من أهله وفي الإنجيل هل يستطيع أعمى أن يقود أعمى أليس يقعان كلاهما في بئر انتهى.
فعلى الطالب أن يتحرى الآخذ عمن اشتهرت ديانته وكملت أهليته وتحققت شفقته وظهرت مروءته وعرفت عفته وكان أحسن تعليما وأجود تفهيما ولا يرغب الطالب في زيادة العلم مع نقص في ورع أو دين أو عدم خلق حسن وليحذر من التقيد بالمشهورين وترك الآخذ عن الخاملين فقد عدوا مثل ذلك من الكبر وجعلوه عين الحمق لأن الحكمة ضالة المؤمن يلتقطها حيث وجدها ويغتنمها حيث ظفر بها فإن كان الخامل مرجو البركة فالنفع به أعم والتحصيل من جهته أهم وإذا سبرت أحوال السلف والخلف لم تجد النفع يحصل غالبا والفلاح يدرك طالبا إلا إذا كان للشيخ من التقوى نصيب وافر وعلى نصحه للطلبة دليل ظاهر وفي الموطأ ما يدل على أن على المستفتي سؤال الأعلم فالأعلم لأنه أقرب إصابة ممن دونه قال ابن القيم وعليه فطر الله عباده وقال الماوردي ليأخذ الطالب حظه ممن وجد طلبته عنده من نبيه وخامل ولا يطلب الصيت وحسن الذكر باتباع أهل المنازل من العلماء وبعد الذكر إذا كان النفع بغيرهم أعم إلا أن يستوي النفعان فيكون الآخذ عمن اشتهر ذكره وارتفع قدره أولى لأن الانتساب إليه أجمل والآخذ عنه أشهر وإذا قرب منك العلم فلا تطلب ما بعد وإذا سهل لك من وجه فلا تطلب ما صعب وإذا حمدت من خبرته فلا تطلب من لم تخبره فإن العدول عن القريب إلى البعيد عناء وترك الأسهل بالأصعب بلاء والانتقام عن المخبور إلى غيره خطر قال علي : عقبى الأخرق مضرة والمتعسف لا تدوم له مسرة وقال الحكماء : القصد أسهل من التعسف والكفاف أورع من التكلف".
قلت: فهذه قاعدة ـ مقولة ابن سيرين ـ سنّية صلبة، لازمة لكل سنّي مقلد أن يعمل بها في شتى العلوم الشرعية،إنما الإشكال ليس فيها ، ولكن في الاستثناء فيها بالنسبة لطلبة العلم ،فلنوضح هذا الأمر، ثم نجيب الأخ عن سؤاله.
الاستثناء في القاعدة:
قال الوليد بن أبان الكرابيسي: قلت ليزيد بن هارون:" يا أبا خالد هذه المشيخة الضعفاء الذين تحدث عنهم؟ قال: أدركت الناس يكتبون عن كل، فإذا وقعت المناظرة حصلوا".
وعن المعتمر ابن سليمان عن أبي عمرو بن العلاء قال:" كان قتادة لا يغث عليه شئ يروي عن كل أحد".
قال رواد بن الجراح : قال سفيان الثوري:" خذ الحلال والحرام من المشهورين في العلم وما سوى ذلك من المشيخة".
فهذا يبين أن قاعدة ابن سيرين أخص برواية الحديث، فإن له شروطا غير شروط الفقه،وما يشترط لرواة الحديث من الضبط لا يشترط في الفقهاء،وقد عرف الفقهاء برواية الحديث بالمعنى، كما أنهم يحتاجون إلى قواعد فقهية و أصولية لا علاقة لها بالضبط و الإتقان.
قال أبو حفص: قال لي يحيى:" لا تكتب عن معمر عن رجل لا يعرف فانه لا يبالي عمن روى".
قال هشام بن عمار قال لي سويد بن عبد العزيز: قال لي شعبة: تأخذ عن أبي الزبير وهو لا يحسن يصلي؟! وتأخذ عن أبان بن أبي عياش، وإنما كان قتادة يروي عن أنس مائتي حديث وهو يروي ألفين؟ قال: ثم ذهب هو فأخذ عنهما".
قال بقية بن الوليد: سمعت الأوزاعي يقول:" تعلم ما لا يؤخذ به كما تتعلم ما يؤخذ به."
قلت: يعني كتابة حديث الضعفاء لمعرفته، و الله أعلم.
عن عكرمة عن ابن عباس قال:" خذ الحكمة ممن سمعته، فقد يتكلم الرجل بالحكمة وليس بحكيم، فتكون بمنزلة الرمية من غير رام."
و بهذا يتبين أن قاعدة ابن سرين ليست على إطلاقها، بل أحيانا يؤخذ عن الضعيف، وعن أهل البدع و الأهواء فيما يشاركون فيه من علوم شرعية لأسباب معروفة قد ذكرها أهل العلم في باب الرواية عن المبتدع، ولكن يبقى هذا دائما محصورا في طلبة العلم ،و معلوم أن طلب العلم درجات، فيستثنى من كلامي طالب العلم المبتدئ فإنه متى قدِر على اخذ العلم عن الموثوقين من أهل السنة لا يعدل إلى غيرهم.
أين العلم؟
العلم الحقيقي ليس في معرفة القواعد ،بل معرفة الاستثناء فيها،وليس في معرفة العام بل في معرفة الحالات الخاصة ،و ليس في معرفة المشترك بل في معرفة القدر المميز ،فإن الذي يفرق بين النظر العلمي لقضية ما و النظر العامي أو العلمي السطحي ـ ولو صدر ممن صدرـ هو أن الأول يأخذ بعين الاعتبار جميع معطيات القضية، و القضايا تختلف منها ما يكفي فيها الجانب النظري وحده، ومنها ما تلبست بالواقع و تجارب الناس لا يكفي التنظير وحده،ومنها ما دخله الاشتراك مع غيره ، وفصل القدر المشترك عن القدر المميز هو العلم الحقيقي أو الأكمل.
فالتحليل العلمي على خلاف التحليل العامي أو العلمي السطحي لا يكتفي بالنظر في الحالات الموافقة فحسب أي القضايا الظاهرة الموافقة للدليل ، بل أيضا الحالات المخالفة أو القضايا السالبة ،وهذا هو الفرق المؤثر بين النظر العامي و النظر العلمي، بين العقل العلمي و العقل العامي.
وهذا فرق مهم يفرق بين تصور ساذج يتخذ من الاطراد قاعدة عامة يقضي بها الأحكام، و بين تصور تام يتحقق من الاطراد، بمعنى أن الطرد عنده هو ما يوجب الحكم لوجود العلة ،وهو التلازم في الثبوت، ونوع التلازم بين الدليل و المدلول، لكنه لا يخرج عن كونه ربطا بين أمر و أمر آخر بحثا عن مناط الحكم، و قدر التشابه بين المسائل، وهل هو مؤثر أم غير مؤثر؟.
وبهذا تعرف متى لا يعمل بقاعدة ابن سيرين ومتى يعمل بها.
سبب ورود مقولة ابن سيرين:
وروى الإمام أحمد عن جابر بن نوح عن الأعمش عن إبراهيم قال : "إنما سئل عن الإسناد أيام المختار " .
وسبب هذا أنه كثر الكذب على عليّ في تلك الأيام ، كما روى شريك عن أبي إٍسحاق سمعت خزيمة بن نصر العبسي أيام المختار وهم يقولون ما يقولون من الكذب ،وكان من أصحاب علي قال : ما لهم قاتلهم الله ، أي عصابة شانوا وأي حديث أفسدوا ! " .
وروى يونس عن أبي إسحاق عن صلة بن زفر العبسي قال : قاتل الله المختار أي شيعة أفسد وأي حديث شان ".
خرجه الجوزجاني وقال : كان المختار يعطي الرجال الألف دينار والألفين على أن يروي له في تقوية أمره حديثاً ."شرح علل الترمذي"لابن رجب.
كيف نفهم قاعدة ابن سيرين:
الإنسان إن كان طالبا للعلم قد حصّل على قدر منه يسمح له بالتمييز بين الحق و الباطل، وقد عرف طريقة أهل السنة و أصولهم لا تنطبق عليه هذه القاعدة إذ هو مطالب بإتباع الدليل و البرهان،وقد علمنا أن المبتدع المبطل أنواع، فمنهم من يترك كلية، ومنهم من قد عرفت بدعته و حددت بدقة، بحيث باستثنائها يبقى كل كلامه وكتبه جيدة نافعة للمسلمين، تصب مباشرة في طريقة أهل السنة و الجماعة، فهذا يؤخذ عنه حتى المقلد إذ عرف هذا الاستثناء.
بينما من لا يقدر على تمييز الأقوال فقاعدة ابن سيرين لازمة له، فلا يأخذ الدين إلا عن الموثوقين في دينهم و علمهم،فإنك متى لم تقدر على التحقق من مقدمات الكتاب العلمية إن كانت صحيحة أو خاطئة بمجرد النظر فيها، فقد يوجهها الكاتب إلى باطل و أنت لا تشعر،و التحقق من مقدمات الكَتَبَة صعب على كثير من الناس فمن باب طلب السلامة يجب أن لا يؤخذ الدين إلا عن الموثوقين.
فحتى أصول الفقه و اللغة يمكن أن يوجَه فيها الدارس إلا القواعد البدعية التي تنتهي به إلى اعتقاد الباطل.
وعليه فمن كان مؤهلا فلا تنطبق عليه بالقيد السابق، ومن لم يكن فيجب أن يتقيد بها كلية.
ثم إن العلم يختلف من علم لآخر فبعض العلو م مقدماتها معقدة تحمل حقا وباطلا يصعب التحقق منها، ولكن هذا يرجع لغلبة الظن، فإنك قد تأخذ عمن هو موثوق في دينه و علمه لكنه لم يحقق علم الكلام أو أصول الفقه جيدا فينقل إليك قواعد فاسدة، فالاحتراس عن هذا صعب، ولذلك قلت: الأمر راجع لغلبة الظن.
و المحفوظ من حفظه الله .
لماذا يجب على طالب العلم المبتدئ الالتزام التام بقاعدة ابن سيرين:
من المعلوم ـ ضرورة ـ أن كل العلوم لا بد لطالبها ابتداء من مصادرات يأخذها مسلمة إلى أن تتبرهن عنده فيما بعد ، كلما تقدم في العلم حققه، فنفى عن نفسه بعضه و أخذ جديده ، إذ لو كان طالب العلم حين يطلبه قد نال ذلك العلم : لم يكن طالبا له، فلزم أن كل طالب علم في الدنيا يبدأ بمقدمات يسلم بصحتها، يعني يكون مقلدا صرفا.
ولكن بالنسبة لطالب العلم المبتدئ الأهم له هو هل الطريق التي سيطلب بها العلم تفضي إلى المعلوم؟ هل ثبت بطريق ما أنها تفضي إلى المطلوب،فهذا لم يصح عقلا ونقلا إلا في طريق أهل السنة و الجماعة .
فإن طالب العلم لو كان حين ينظر في مقدمات علم ما، يعلم أنه دليل مفض، لم يمكن ذلك حتى يعلم ارتباطه بالمدلول، فإن الدليل إن لم يستلزم المدلول لم يكن دليلا . والعلم بالاستلزام موقوف على العلم بالملزوم واللازم، فلا يعلم طالب العلم أن الدليل الفلاني يدل على المدلول المعين حتى يعلم ثبوت المدلول المعين ـ إما يعلم بوجوده بخبر الصادق أو يشعر بوجوده كما في دليل الفطرة ـ ويعلم أنه ملزوم له، وإذا علم ذلك : استغنى عن الاستدلال به على ثبوته ؛ وإنما يفيده التذكير به ،لا ابتداء العلم به، وإنما يقع الاشتباه هنا ؛ لأنه كثيرا ما يعرف الإنسان ثبوت شيء ثم يطلب الطريق إلى معرفة صفاته ومشاهدة ذاته ؛ إما بالحس ؛ وإما بالقلب فيسلك طريقا يعلم أنها موصلة إلى ذلك المطلوب ؛ لأنه قد علم أن تلك الطريق مستلزم لذلك المطلوب الذي علم ثبوته قبل ذلك ، كمن طلب أن يحج إلى الكعبة التي قد علم وجودها فيسلك الطريق التي يعلم أنها تفضي إلى الكعبة ؛ لإخبار الناس له بذلك، أو يستدل بمن يعلم أنه عارف بتلك الطريق فسلوكه للطريق بنفسه بعد علمه أنها طريق - المقصود - بإخبار الواصلين أو سلوكه بدليل خريت - يهديه في كل منزلة - لا يكون إلا بعد العلم بثبوت المطلوب ـ مكة مثلا ـ، وثبوت أن هذا طريق ودليل ـ أي تقع مكة في هذا الاتجاه .
وهكذا حال الطالبين لمعرفة الله والمريدين له والسائرين إليه قد عرفوا وجوده أولا، وهم يطلبون معرفة صفاته أو مشاهدة قلوبهم له في الدنيا ، فيسلكون الطريق الموصلة إلى ذلك بالإيمان والقرآن.
فالإيمان : نظير سلوك الرجل الطريق التي وصفها له السالكون من قبله، فإنهم متفقون على ذلك، و أن هذا الطريق يقود إلى مكة ،ومن تبعه و صل إليها، والقرآن : تصديق الرسل فيما تخبر به، لأنه ثبت صدقهم بدليل النبوة من معجزات و إخبار بالغيب تحقق، و كثير من الأدلة العقلية و الوضعية، وهو نظير اتباع الدليل منزلة منزلة، ولا بد في طريق الله منهما ."عن كتاب الربوبية لابن تيمية"
فهاهنا مقدمتان تشرحان مقولة ابن سيرين:
الأولى طريقة أهل السنة في العلم الاتباع طبقة عن طبقة وجيل عن جيل ورجل عن رجل حتى تصل النبي صلى الله عليه و سلم فهذه مقدمة الإيمان.
الثانية: أخذ العلم من القرآن و السنة فقط مقدمة الحق الذي ثبت انه حق،فهو بداية السني منتهى المتكلم و المتزهد.
وأما الشيء الذي لم يعلم العقل ثبوته أولا كعلم الكلام و الفلسفة و التجرد إذا سلك طريقا يفضي إلى العلم به - فلا يسلكها ابتداء إلا بطريق التقليد والمصادرة - كسائر مبادئ العلوم، بينما طريق أهل السنة السابق ثبت عقلا و نقلا أنه مفض إلى المطلوب فسالكه متبع وغيره مقلد.
أي إن السني كالمتكلم و المتفلسف و المتصوف وكل طالب علم في هذه الدنيا يبدأ بمقدمات مسلمة أي بالتقليد و المصادرة ومع ذلك السني يطلب العلم على شيء و بطريق ثبت وجودها، فيكون بذلك متبعا، بخلاف غيره ، فإن الطريق التي يسلكها لم يثبت أنها مفضية إلى العلم .
و لما كان العلم الشرعي إما علم بالله أو علم بأمره،وهذا لا يتحقق إلا بخبر الرسول لا بعقل ولا بوجد، بل العقل يحتاج إلى السمع و النقل، و كذلك الوجد، علمنا أن طريق العقل و الوجد تحتاج إلى طريق السمع و النقل، وطريق السمع و النقل لا تحتاج إليهما .
فالسني لا يحتاج في مقدمات سلوكه طريق العلم إلى مقدمات عقلية أو وجدية بينما غيره يحتاجون إلى المقدمات السمعية النقلية مع مقدماتهم.
قال ابن القيم في " الصواعق المرسلة":"وأعلى أنواع العلوم وأعظمها إفادة لليقين العلوم التي ألقاها الله سبحانه إلى أنبيائه بواسطة السمع، وأن نسبة العلوم العقلية المشتركة بين الناس إليها أقل وأصغر من نسبة علوم العجائز والأطفال إلى تلك العلوم فبين العلوم الحاصلة من الأدلة السمعية للرسل وأتباعهم وبين العلوم الصحيحة الحاصلة بأفكار العقلاء من التفاوت أضعاف ما بين الخردلةإلى الجبل"
فإذا عرفت هذا عرفت أن طالب العلم المبتدئ عليه أن يتمسك بقاعدة ابن سرين ما وسعه الجهد ،ولكن الناس تختلف أحوالهم من بلد لآخر، وقد ييسر الله لهذا من الأسباب الباطنة و الظاهرة المعينة على طلب العلم ما لا ييسره لذاك،و الأمر عند الله، فيجب الثقة فيه، و الاعتماد عليه، و طلبه منه .
هذا للمبتدئ،أما غيره من طلبة العلم فيلزمهم أن يجتهدوا في طلب العلم من طرقه.
ويذم طالب العلم الذي ملك أسبابه، و اشتاقت نفسه إلى معرفة الأدلة، والخروج عن التقليد إذا سلك طريقة التقليد ،ولكن عليه أولا أن يفتح أبواب الأدلة التي ذكرها الله في القرآن ـ كما بيناه سابقا ـ التي تبين أن ما جاء به الرسول حق، ويخرج الذكي بمعرفتها ـ قبل أن يخرج عن التقليد ـ عن الضلال والبدعة والجهل، فهذا هو الأهم الابتعاد عن الضلال و الجهل، ثم بعد ذلك الابتعاد عن التقليد.