بسم الله الرحمــــن الرحيم

الاحتجاج بحديث الدجال وفوائد المناظرة و أساليب الدعوة


الشيخ أبو هارون المختار الأخضر الطيباوي الجزائري.



الحمد لله وحده و الصلاة و السلام على من لا نبيّ بعده.
أما بعد.....
من الأدلة التي يذكرها بعض الفضلاء في ترك مخاطبة المبتدعة ومجالستهم ـ مع ما بيّناه من ضوابط في هذه المسألة ـ احتجاجهم بحديث الدجال:" من سمع به فلينأ عنه، فو الله إنّ الرجل ليأتيه وهو يحسب أنّه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات"، و إن كان هذا الحديث قد استدلّ به من هو خير منا علما وعملا، إلاّ أنّه لا محل له في النزاع، وهو قياس بعيد ضعيف، وفي كلام السلف المتواتر ما يغني عن هذا الاستدلال، فالدّجال كما يعلمه أهل السنة المثبتين للأحاديث الواردة فيه مسلّط على الناس بالفتنة، لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بمناظرته ومخاطبته، بل أمر بالهروب منه في رؤوس الجبال ومكة والمدينة، وأنّه يشطر الرجل شطرين ثم يأمره فيقوم مستويا، ويأمر السماء فتمطر، ويظهر للنّاس جنّة و نّارا وغير ذلك، ومن أوتي مثل هذه الأشياء وجعله الله فتنة للناس في آخر الزمان لا يقاس به المبتدع!.
وقد علمنا أنه أوتي خوارق من جنس الآيات، وهذه الخوارق لا تقابل إلاّ بما هو من جنسها، ولذلك يقتله عيسى عليه السلام.
أمّا المبتدع فما يشبه على الناس يمكن معارضته بما معنا من العلم والحق، وعليه كان هذا القياس ضعيفا جدا، من باب التضخيم.
وقد بيّن المحتج بمثل هذا الكلام أنّه إذا كان الغرض من النظر في كتبهم معرفة بدعتهم للردّ عليها فلا بأس بذلك، لمن كان عنده من العقيدة الصحيحة ما يتحصّن به، وكان قادرا للردّ عليهم، فهذا تقييد لهذا الدليل، مع العلم أنّ الدّجال لا يجوز قربه بحال، ولو لمن كان عنده اعتقاد صحيح وقدرة على الردّ على المبتدعة فلا وجه للقياس.
وإذا نقلنا قول كبار الأئمة بجواز مناظرة المبتدعة في بعض الحالات، وأنّها قد تكون واجبة، وقد تكون جائزة مستحبة، وقد تكون محرمة إذا كان المناظر لا يقوى عليهم، كما نقل عدة أفاضل عن ابن عثيمين وغيره، قال شيخ الإسلام في " الدرء"{357/1}:" فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقّه ولا وفى بموجب العلم والإيمان ولا حصل بكلامه شفاء الصدور و طمأنينة النفوس و ا أفاد كلامه العلم و اليقين"1، وهو الحق، ثم نقلنا قول أمثال ابن بطة:" فما جنى على المسلمين جناية أعظم من مناظرة المبتدعة، ولم يكن لهم قهر ولا ذل أعظم مما تركهم السلف على تلك الجملة يموتون من الغيظ كمدا و دردا ولا يجدون إلى إظهار بدعتهم سبيلا"
فهذا تناقض بيّن إذا لم نوجّه النقول ونصرف كلا منها إلى منزلته وضوابطه، فإذا أخذنا قول ابن بطة على عمومه دون توجيه، فنقول: مَنْ مِنَ السّلف ناظر المبتدعة ولم يقمعهم ويقطعهم، وفتح لهم باب الانتشار، أحمد أم الشافعي أم الدارمي أم البربهاري وغيرهم؟، فلعلّ ابن بطة يقصد بعض أئمة الحديث المائلين إلى مذاهب المتكلمين، وهؤلاء ليسوا بحجة، لأنهم هم أنفسهم يحملون بعض عقائد المتكلمين، وهؤلاء من الأشاعرة الذين ناظروا المعتزلة والفلاسفة بحجج ضعيفة لم تكسرهم فزادوا الطين بلّة، قال شيخ الإسلام في " الصفدية "{268/2}:" وبسبب مناظرة هؤلاء للمتفلسفة حصل شرّ كثير في الإسلام، فإنّهم يناظرون بجهل كثير بالعقليات والسمعيات."
وإلاّ فإنّ السلف لم يكونوا كلهم مناظرين للمبتدعة، ولا كلّهم تكلّم في الاعتقاد كما نقلنا عن شيخ الإسلام، بل منهم من كان دوره حفظ السنّة وتدوينها وغير ذلك، ومنهم من كان دوره ردّ البدعة و قهرها.
حكم المناظرة و الجدال:
قال ابن القيم في " الصواعق المرسلة "{1274/4}:" و أمّا السلف فلم يكن ذمّهم للكلام لمجرد ذلك، ولا لمجرد اشتماله على ألفاظ اصطلاحية إذا كانت معانيها صحيحة ولا حرموا معرفة الدليل على الخالق وصفاته وأفعاله، بل كانوا أعلم الناس بذلك، ولا حرموا نظرا صحيحا في دليل صحيح يفضي إلى علم نافع، ولا مناظرة في ذلك، إما لهدي مسترشد، وإمّا لقطع مبطل بل هم أكمل الناس نظرا واستدلالا واعتبارا وهم نظروا في أصح الأدلة وأقومها."
قال ابن تيمية في" الدرء"{184/7}:" أمّا جنس النظر والمناظرة فهذا لم ينه السلف عنه مطلقا، بل هذا إذا كان حقا يكون مأمورا به تارة ومنهيا عنه أخرى كغيره من أنواع الكلام الصدق، فقد ينهى عن الكلام الذي لا يفهمه المستمع أو الذي يضر المستمع، وعن المناظرات التي تورث شبهات وأهواء فلا تفيد علما ولا دينا.
ومن هذا الباب أنّه خرج[ النبي صلى اله عليه وسلم] على طائفة من أصحابه وهم يتناظرون في القدر فقال:" أبهذا أمرتم أم على هذا دعيتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض وإنما نزل القرآن ليصدق بعضه بعضا لا ليكذب بعضه بعضا".
فإذا كانت المناظرة تتضمن أن كل واحد من المتناظرين يكذب ببعض الحق نهي عنها لذلك."
كذلك يقال: كلام ابن بطة عن الفترة التي كانت فيها السنة قوية، والمبتدعة بعض الرؤوس هنا وهناك يجهدون للدخول على الأئمة ومخاطبتهم، فكان ترك كلامهم أنفع الوسائل وأنجعها لقطع ضررهم على المسلمين، وهذا أشبه بقول سهل التستري:" إنما ظهرت البدعة على يدي أهل السنة لأنهم ظاهروهم وقاولوهم فظهرت أقاويلهم وفشت في العامة فسمعه من لم يكن يسمعه فلو تركوهم" "القرطبي"{139/7}.
فلا يقول أحدهم: أهل السنة هم سبب انتشار البدعة فليس هذا مراد سهل، ولكن الأصل كما قال شيخ الإسلام في " الدرء" أنّ السنة إذا كانت ظاهرة منتشرة معلومة للمسلمين لا يجوز مناظرة المبتدع وتمكينه من المخاطبة ولا التكفل بالرد عليه، إلاّ إذا كان في ذلك مصلحة مثل أن تكون هذه البدعة قد سرت في الناس أو أحسن الظن بها بعضهم، فليس كل الناس مبتدعة لسوء القصد بل فيهم المبتدعة بسبب فساد التصور، وهم بعض طلبة العلم وغالب العوام.
فمثل هذا النقل عن سهل و مثله عن ابن بطة إن لم نوجهه التوجيه الصحيح اعتقد الناس باطلا من الاعتقاد ونسبوا للسلف الجهل والظلم، وإذا تعين علينا الاعتماد على أقوال السلف:" فلا بدّ من أن تكون أقوالهم التي يعتمد عليها مروية بالإسناد الصحيح أو مدونة في كتب معروفة مشهورة، وأن نعلّق عليها بما يليق، وذلك ببيان الراجح من محتملاتها وتخصيص عمومها في مواضع، وتقييد مطلقها في أخرى، وجمع المختلف منها، وبيان علل أحكامها، حتى ندرك مقاصدهم ولا نتيه عنها."
فإذا ترك عوام المسلمين ومن لا قدرة عنده المناظرة فهذا معلوم ومتوجه، ولكن إذا وجد من علمائهم من يقدر عليها إذا احتجنا إليها فهذا هو المطلوب، قال النووي في"روضة الطالبين "{217/1.}:" يجب أن يكون في المسلمين من يقيم البراهين ويظهر الحجج ويدفع الشبهات ويحل المشكلات."
قال ابن تيمية في " الأصفهانية"{184/1}:" والمقصود هنا أن يعلم أنّه لم يزل في أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأنّ أمّته لا تبقى على ضلالة بل إذا وقع منكر من لبس حق بباطل أو غير ذلك، فلابدّ أن يقيم الله تعالى من يميّز ذلك، فلابدّ من بيان ذلك، ولابدّ من إعطاء الناس حقوقهم كما قالت عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ننزل الناس منازلهم " رواه أبو داود و غيره."
فالمناظرة من حيث جوازها أو عدمه ينظر للحاجة والمصلحة المرجوة منها، فلما كانت المناظرة في الفقه والعلوم العملية مفيدة للمتناظرين أكثر السلف منها على سبيل المذاكرة، قال ابن عبد البر في "التمهيد"{232/19}:" قال مصعب الزبيري سمعت مالك بن انس يقول: أدركت أهل هذا البلد يعني المدينة وهم يكرهون المناظرة و الجدال إلا فيما تحته عمل."
ولكن لما استطالت البدعة على السنة، وظهرت المبتدعة حتى دخل طائفة من السلف في البدعة بالتأويل فمال بعضهم للقدر وبعضهم للإرجاء ومذهب الحرورية وغير ذلك، نهض الأئمة يناظرون و يحذرون رحمة بمن وقع في البدع، ورحمة و حصانة لمن لم يقع فيها بعد، وكما نقلنا عن ابن القيم و ابن تيمية من ظن أن السلف كانوا يحرمون المناظرة لإظهار الحق وكشف البدعة والشبه فقد غلط عليهم، ولعل هذه الشبهة كانت منتشرة حتى في زمان مالك والشافعي، وكان بعض الناس يتهم السلف أهل الآثار بالغفلة وغير ذلك، قال الشافعي في" الأم"{17./6}": أنتم تنسبون أصحابنا إلى الغفلة و أنهم لا يسلكون طريق المناظرة، فكيف صرت إلى الحجة."
فيجب حينئذ أن نفهم أن المناظرة من وسائل إقامة الحجة، فمن يخالفك في المنهج و العقيدة من المسلمين يرى ماهو عليه دينا صحيحا، فكيف يتركه بمجرد رغبتك، ولم تقيم عليه الحجة، قال الشافعي في " الأم"{218/4} في الباغين على الإمام العادل:" فإن لم يجيبوا قوتلوا ولا يقاتلون حتى يدعو ا ويناظروا إلا أن يمتنعوا عن المناظرة، فيقاتلوا."
وهذا الكلام قاله السلف في الزمن الأول مما يعني أن منهج المناظرة عن الحق، إذا توقف عليها إظهار الحق وإقامة الحجة منهج سلفي صحيح، وثابت عن كبار الأئمة وأعلام الأمة، قال الزرقاني في" شرح الموطأ"{286/3}:" وفيه أن المناظرة وطلب الدليل وموقع الحجة كان قديما من زمن الصحابة ولا ينكره إلا جاهل وأن الكبير لا يرتفع على الصغير ولا يمنع إذا علم أن ينطق بما علم، ورب صغير السن كبير العلم."
وعليه فالمناظرة منهج قرآني رباني ووسيلة من وسائل الأنبياء والمرسلين في دعوة الخلق إلى رب العالمين، قال القرطبي في " تفسيره"{286/3}:" في قصة مناظرة إبراهيم للنمرود، و تدل على إثبات المناظرة والمجادلة وإقامة الحجة في القرآن والسنة من هذا كثير لمن تأمله ، قال الله تعالى:{قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}،{ إن عندكم من سلطان}،أي: من حجة ، وقد وصف خصومة إبراهيم عليه السلام قومه ورده عليهم في عبادة الأوثان كما في سورة الأنبياء وغيرها، وقال في قصة نوح عليه السلام:{ قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا}، وكذلك مجادلة موسى مع فرعون ذلك من الآي فهو كله تعليم من الله عز وجل السؤال والجواب، والمجادلة في الدين لأنّه لا يظهر الفرق بين الحقّ والباطل إلاّ بظهور حجة الحق ودحض حجة الباطل، وجادل رسول الله صلى الله عليه و سلم أهل الكتاب وباهلهم بعد الحجة ... وتحاج آدم وموسى فغلبه آدم بالحجة ، وتجادل أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم السقيفة ، وتدافعوا وتقرروا وتناظروا حتى صدر الحق في أهله ، وتناظروا بعد مبايعة أبي بكر في أهل الردة، ذلك مما يكثر إيراده، وفي قول الله عز وجل فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم } دليل على أن الاحتجاج بالعلم مباح شائع لمن تدبر."
أساليب الدعوة :
وقد بين الله في كتابه أسلوب الدعوة فقال:" اُدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن "، قال في " فتح القدير"{2.3/3}:" فقال:ادع إلى سبيل ربك وحذف المفعول للتعميم لكونه بعث إلى الناس كافة و سبيل الله هو الإسلام، الحكمة أي: بالمقالة المحكمة الصحيحة ،قيل: وهي الحجج القطعية المفيدة لليقين و الموعظة الحسنة وهي المقالة المشتملة على الموعظة الحسنة التي يستحسنها السامع، وتكون في نفسها حسنة باعتبار انتفاع السامع بها ،قيل وهي الحجج الظنية الاقناعية الموجبة للتصديق بمقدمات مقبولة ، وقيل: وليس للدعوة إلا هاتان الطريقتان، ولكن الداعي قد يحتاج مع الخصم الألدّ إلى استعمال المعارضة والمناقضة، ونحو ذلك من الجدل، ولهذا قال سبحانه:{ وجادلهم بالتي هي أحسن } أي بالطريق التي هي أحسن طرق المجادلة، وإنما أمر سبحانه بالمجادلة الحسنة لكون الداعي محقا وغرضه صحيحا، وكان خصمه مبطلا وغرضه فاسدا، إنّ ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله، لما حثّ سبحانه على الدعوة بالطرق المذكورة بيّن أنّ الرشد والهداية ليس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنّما ذلك إليه تعالى، فقال: إنّ ربك هو أعلم أي هو العالم بمن ضل ومن يهتدي وهو أعلم بالمهتدين، أي بمن يبصر الحق متعنت، وإنما شرّع لك الدعوة وأمرك بها قطعا للمعذرة وتتميما للحجة وإزاحة للشبهة."
قال ابن القيم في " الصواعق المرسلة"{1276/4}:"فذكر سبحانه مراتب الدعوة وجعلها ثلاثة أقسام بحسب حال المدعو فإنه إمّا أن يكون طالبا للحقّ راغبا فيه محبّا له مؤثرا له على غيره إذا عرفه فهذا يدعى بالحكمة ولا يحتاج إلى موعظة ولا جدال، وإمّا أن يكون معرضا مشتغلا بضد الحق ولكن لو عرفه آثره واتّبعه فهذا يحتاج مع الحكمة إلى الموعظة بالترغيب والترهيب، وإمّا أن يكون معاندا معارضا فهذا يجادل بالتي هي أحسن فإن رجع إلى الحق وإلاّ انتقل معه في الجدال إلى الجلاد إن أمكن."
فالمجادلة بالتي هي أحسن وإبداء كل أوجه الحق للإقناع أو لقطع الدابر مطلوب شرعا في الدعوة إلى الله وإن خالف في ذلك بعض الناس، قال شيخ الإسلام في"النبوات"{157/1}:"وطائفة تظن أنّ الكلام الذي ذمّه السّلف هو مطلق النظر والاحتجاج والمناظرة ويزعم من يزعم من هؤلاء أن قوله:{ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن} منسوخ بآية السيف، وهؤلاء أيضا غالطونٍ {...} وقوله تعالى:{ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم} ،وقوله:{وجادلهم بالتي هي أحسن } ليس في القرآن ما ينسخهما ولكن بعض الناس يظن أن من المجادلة ترك الجهاد بالسيف وكل ما كان متضمنا لترك الجهاد المأمور به فهو منسوخ بآيات السيف، والجهاد و المجادلة قد تكون مع أهل الذمة و التهمة و الأمان ومن لا يجوز قتاله بالسيف، وقد تكون في ابتداء الدعوة كما كان النبي صلى الله عليه و سلم يجاهد الكفار بالقرآن، وقد تكون لبيان الحق و شفاء القلوب من الشبه مع من يطلب الاستهداء و البيان."
فوائد مناظرة2 المبطل:
ثم ذكر ـ رحمه الله ـ فائدة مناظرة المبطل فقال:" فلمناظرة المبطل فائدتان:
أحدهما: أن يرد عن باطله ويرجع إلى الحق.
الثانية: أن ينكفّ شره وعداوته ويتبيّن للناس أنّ الذي معه باطل"
هذه بعض التوضيحات تجعل كلام السّلف الصالح كلّه حقا يشدّ بعضه بعضا، ولعلّ المطالع لكتب الجرح والتعديل وكتب التراجم سيجد فيها من الأمثلة العدد الكثير، ولعلّ حياة شيخ الإسلام وما حصل من خير للأمة بسبب مناظراته لا ينكره إلاّ مراغم يبخس الناس أشياءهم، ولا يدري فضل هذا الرجل عليه إلى اليوم، قال شيخ الإسلام:" ولمّا ظهرت عليه الحجة أخذ يستعفي عن المناظرة يذكر أنّه منقطع بالجدال ""المجموع{{375/29}.
ولكن كيف مع معاملة أهل السنة للمبتدعة بالهجر وترك المناظرة انتشرت البدعة حتى كادت السنة تموت من أواخر المائة الثالثة إلى يومنا هذا، ما هي الأسباب التي أدت إلى انتشار البدعة في المسلمين؟.
لاشكّ أن قول ابن بطة صحيح إلى حد ما، ولكن يجب توجيهه، فإن إطلاقه وأهل السنة قلّة قليلة رؤوس هنا وهناك، والبدعة مستشرية، ثم الاعتقاد أنّ في ترك مخاطبتهم ومناظرتهم، ومن ورائهم جمهور المسلمين، ممن يعتقدون إمامتهم، أنهم سيموتون غيظا وكمدا، ولا يجدون سبيلا إلى إظهار بدعتهم فهذا لا يقوله عاقل، لا ابن بطة ولا غيره، فلزم توجيه كلام ابن بطة وجهته الصحيحة، مع العلم أنّ الرجل كان على طريقة حديثية صارمة، ولم يكن ممن يدخل في العقليات ويجادل بها، ولذلك ذكر عنه الأئمة في مسألة الحركة والانتقال التوقف، بخلاف المعروفين بالمناظرة كالدارمي والبخاري وابن تيمية وغيرهم بخصوص الحركة، قال شيخ الإسلام في " المجموع"{52/6}:" وأما أبو عبد الله بن بطة فطريقته طريقة المحدثين المحضة ."
وعليه أقول: كلام الأئمة كثير ليس بنقله برمّته يتقرّر الحق، بل بنقل الكلام الذي يدلّ عليه كتاب الله وسنة نبيه تحفظ السنة، فمن كلام بعض السلف ما هو مرجوح، والعلماء أمثال ابن تيمية إذ تركوا بعض هذا الكلام فليس لعدم معرفتهم به، بل لأنه لا يمثل القاعدة الشرعية عندهم.
فمن الأئمة من يذكر النقول كل النقول، ولا يقننها، ولا يقعدها، ولا يستخرج منها المقاصد الشرعية والأصول الكلية، وهؤلاء لا يحرّرون النزاع، بخلاف كبار أئمة السنّة كما بينا مذاهبهم.
فالذي يظهر من كلام ابن بطة أنّه يتكلم عن فترته، وفي فترته انتشر مذهب أهل السنة بكثافة بفضل مناظرات أهل السنة وجدالهم عنه بالعلم والبيان، وثباتهم في السجون أمام الجلد والقهر والقتل، وصارت الدولة لهم، ولكن بعد فترته بقليل ظهر الأشاعرة وكانوا أولا منتسبين للإمام أحمد فلم يقم عليهم الأئمة بالردّ والمجابهة، ولم يعرفوا حالهم بعد كما عرف أحمد حال المعتزلة والكلابية، فلمّا ترك لهم المجال مفتوحا يقولون ما يريدون، ويفعلون ما يشتهون ،حتى ظنّ غالبية النّاس أنّ مذهب أهل السنة هو مذهب الأشاعرة، وصار ينتسب إليهم بعض أهل الحديث وسكت آخرون، فلم يجد نفعا ما قام به القلة من الردّ عليهم، إلاّ حفظ اعتقاد أهل السنة في انتظار أن يعمّ الله على هذه الأمة بأئمة يقومون بواجباتهم في كسر البدعة بالحجّة والدليل، ولعل ما ذكره شيخ الإسلام في " التسعينية" مما يخص تاريخ انتشار الأشعرية، وكيف كان حال المسلمين في تلك الفترة مما لا داعي لذكره الآن.
وهذا المقام يحتمل كلاما كثيرا ليس هذا موضعه، والملخص أنّ كلام ابن بطة حق، إمّا نوجهه مع كلام باقي الأئمة، وإمّا نتركه مطلقا فنصير متناقضين.
فلا يزال في المسلمين من يسمع من المنافقين و الكافرين و المبتدعين و الفاسقين، وتنطلي عليه حيلهم وشبهاتهم في كل مكان وزمان، وهؤلاء يجب حفظهم وتحصينهم، ولا يكون ذلك إلى بالمناظرة والرد، والمناظرة لا تعني المشافهة في جميع الأحوال، فإنها قلما تقع، وقلما يرضى المبتدعة أن يناظروك إذا عرفوا ما تحمل من حجج، ولكن تتبع كتاباتهم، مقالاتهم بالردّ هو منهج أهل السنّة الواضح والبين، وهو أصل المنهج، و يره من أمور وسائل لا يجب أن تعارض الأصل أبدا.
قال ابن القيم:"القلم الجامع هو قلم الردّ على المبطلين، ورفع سنّة المحقّين، وكشف أباطيل المبطلين على اختلاف أنواعها وأجناسها وبيان تناقضهم وتهافتهم وخروجهم عن الحقّ ودخولهم في الباطل"
وقال شيخ الإسلام:" الرادّ على أهل البدع مجاهد، حتى كان يحي بن يحي يقول: الذبّ عن السنّة أفضل الجهاد"
المقصود أنّ مقالات السلف وكتبهم في الردّ على المبتدعة ومناظرتهم كثيرة جدا، وابن بطة نفسه كان من القائمين على المبتدعة بالردّ والكشف، وإذا كان يخشى من مجالستهم العدوى بشبهاتهم، فالعلّة قائمة في النظر في كتبهم، فإذا جاز النظر فيها للعلماء وطلبة العلم القادرين، جاز لهم مناظرتهم، فالأمر يدور على الضوابط المعروفة فيجب ترك الإطلاق3 لأنه ليس مذهبا لأهل السنة .
قال شيخ الإسلام "الدرء"{173/7}:"جنس المناظرة بالحق فقد تكون واجبة تارة و مستحبة أخرى، وفي الجملة جنس المناظرة و المجادلة فيها محمود ومذموم ومفسدة و مصلحة وحق و باطل"
الرد بالأدلة العقلية:
استشهد بعضهم بقول أبي مظفر السمعاني:"ولا يرون رد كلامهم بدلائل العقل، وإنّما كانوا إذا سمعوا بواحد من أهل البدعة أظهروا التبري منه ونهوا الناس عن مجالسته ومحاورته والكلام معه وربّما نهو عن النظر إليه"
قلت: قوله: " إذا سمعوا بواحد من أهل البدعة" يشعر أنّ البدعة كانت ظاهرة شاذة، بخلاف هذا العصر الذي يمكن أن تقول فيه: "إذا سمعت بواحد من أهل السنة " وأنا أدعوك إلى أن تعدهم في بلدان المسلمين في مصر وسوريا والأردن والجزائر والمغرب وغيرها لتعرف كم هم؟
وهذا يعني كما أسلفنا القول أنّ السنة كانت قوية والبدعة ضعيفة، فكان أهل السنة يعاملونها بالهجر والعقوبة حتى تخمد، ولذلك قال:" ونهوا الناس" عندما كان الناس يسمعون لأهل السنة ويستجيبون لهم؟.
جاء في بعض الروايات أن الإمام احمد لما دخل في المحنة وصار يناظر ـ رحمه الله ـ أمام المعتصم، وتكالبت عليه المعتزلة وقف المسلمون خارج القصر يحملون المحبرات و الأقلام قد استعدوا ليكتبوا ما يقول، ولم يلتفتوا إلى الخليفة و حاشيته و علمائه، بل عرفوا أن ما يخرج من أحمد هو مذهب السلف الصالح، وعندما يكون العالم من أهل السنة بمثل هذه المكانة كيف لا يتبعه الناس إذا حذر من مبتدع أو أمر بهجره، فأين هذا الصيت والمكانة من وضعنا في هذا الزمان؟
ثم بماذا نال أحمد هذه المكانة، بتركه المبتدعة يصولون ويجولون على الحق أم بقيامه بالمناظرة والمجادلة والردّ والصبر على الحق؟
قوله:" ولا يرون رد كلامهم بدلائل العقل" على إطلاقه غير صحيح فماذا يقصد السمعاني؟
هل يقصد من دلائل العقل: علم الكلام، والجدال في العقيدة بالرأي والقياس، أم يقصد العقل بإطلاق حتى يتناول الفطرة والضرورة والبديهة، مما معناه أنّ العقل لا يقود إلاّ إلى الباطل، كأنّه من صناعة المبتدعة أو الكفار، وليس من أسباب الهداية العامة التي أنعم الله بها على الخلق كالفطرة الصحيحة.
إنّ العقل الصحيح لا يعارض الكتاب، لأنّ مصدرهما واحد هو الله، فالذي أنزل الكتاب هو الذي خلق العقل، ولم يخلقه ليعارض الكتاب والرسل والحق، بل خلقه ليفهم الكتاب ويقود إليه، ولذلك يعيب الله على الكفار أنهم لا يعقلون، ولكن لما كان العقل قاصرا عن إدراك الحقائق بمفرده فهو بمنزلة قوة الإبصار في الإنسان لا تقضي شيئا بمفردها، إن لم تصادف النور، فالكتاب بالنسبة للعقل كالنور بالنسبة للعين .
وعليه، فالعقل من أقوى أسباب الردّ على المخالفين إذا سخر للكتاب والسنة، وهذا كان منهج السلف الصالح في الفترات التي ظهرت فيها البدع العقلية، أمّا قبل ذلك فالأمر مختلف، أقصد أنّ السلف كانوا إذا حاجّهم مبتدع بالنصوص ردّوا عليه بالنصوص، وإذا حاجهم بتأويل النصوص ردوا عليه برد تأويله، وإذا حاجهم بدلالة اللغة ردوا عليه بدلالة اللغة4، وإذا حاجهم بدلالة العقل ردوا عليه بدلالة العقل ولكنهم دائما يجعلون كلام الله ورسوله أولا ثم يعضدوا الرد باللغة والعقل والضرورة، كما هو ظاهر في مناظرة أحمد للجهمية، وكلامه عن حجة المعتزلة في التركيب بذكر مثال النخلة، وكما فعله غيره.
قال شيخ الإسلام في" الدرء"{172/7}:" والمقصود هنا أنّ السلف كانوا أكمل الناس في معرفة الحق وأدلته، والجواب عما يعارضه وإن كانوا في ذلك درجات، وليس كل منهم يقوم بجميع ذلك، بل هذا يقوم بالبعض، وهذا يقوم بالبعض، كما في نقل الحديث عن النبي وغير ذلك من أمور الدين"
وعليه وجب فهم كلام الأئمة والتفريق بين مدلول العقل عندهم، ومدلوله عند المتكلمين، لأن المتكلمين جعلوا العقل أصل دليلهم والنقل تابع له، بخلاف أهل السنة الذين جعلوا النقل هو الأصل والعقل تابع له، ولبيان هذه المسألة أكثر حتى لا تقع شبهة أخرى أقول:
من المعلوم أنّ العقل قد يقود إلى الحق وقد يقود إلى الباطل، مثله مثل الزهد والتجرد، فمن العقلانيين والمتجردين من قادهم العقل والتجرد إلى معرفة الحق مطلقا، ومنهم من قادهم إلى الباطل، وهذا يستلزم أنّ العقل والتجرّد ليسا من الأدلة الهادية، لأن الدليل الهادي هو الدليل التام والكامل، أي: الذي لا يقود إلاّ إلى الحقّ، ولذلك كانت الرسالة أو النقل الصحيح هي الدليل الهادي، فالعقل وإن استقلّ بالعلم وهو محل له، وكذلك القلب، ولكنهما لا يستقلان بمفردهما دون دليل الرسالة: النقل في العلم الإلهي، ولذلك كان المسلمون بإزاء العقل على مواقف متباينة:
فأما المتكلمون والمتفلسفون ومن في ضمنهم فقد جعلوا العقل وحده أصل علمهم، وأفردوه دون سائر الطرق الأخرى، وجعلوا القرآن والإيمان تابعين له، فالمعقولات عندهم هي الأصول الكلية الأولية المستغنية بنفسها عن الإيمان والقرآن، فإذا جاءوا إلى العقيدة لم يقبلوا النصوص الصحيحة والآيات وإجماع السلف الصالح حتى يعرضوها على أصول عقلية منطقية كلية، فيعرضونها على نظريتهم في الجواهر والأعراض، وعلى مقولات المنطق، فينفون الصفات أو لا يثبتون حقيقتها لأنها تقتضي التركيب على مفهوم التركيب المنطقي المبني على مقولة الكم المتصل والكم المنفصل والغير والجزء والافتقار.
فهذا هو العقل الذي ذمه السلف وعابوه، ولم يجعلوه طريقا لهم في العلم.
أمّا المتصوفة فيذمون العقل ويعيبونه، ويرون أنّ الأحوال العالية والمقامات الرفيعة لا تحصل إلاّ مع عدمه ويقرّون بأمور يكذّب به صريح العقل، فيمدحون السكر والجنون والوله والحيرة وأحوال لا تكون إلاّ مع زوال العقل و التمييز.
فأعلى المقامات عندهم الفناء الذي هو عبارة عن تلاشي و اضمحلال قدرة التمييز العقلي حتى تختلط الموجودات في الذهن، فالمتصوفة يمدحون زوال العقل، وليس هذا مذهب السلف الصالح.
أمّا العقل عند أهل السنة فهو شرط في معرفة العلوم وكمال وصلاح الأعمال، وبه يكمل العلم والعمل، ولكنه لا يستقل بذلك، فالأحوال الحاصلة مع عدم العقل ناقصة، والأقوال المخالفة للعقل باطلة، والرسل جاءت بما يعجز العقل عن دركه، لم تأت بما يعلم بالعقل امتناعه، لكن المسرفين في العقل قضوا بوجوب أشياء وجوازها وامتناعها لحجج عقلية بزعمهم اعتقدوها حقا صحيحا، وهي باطل وغلط عارضوا بها النبوات، أمّا المعرضون عن العقل فصدقوا بأشياء باطلة ودخلوا في أحوال وأعمال فاسدة، وخرجوا عن التمييز الذي فضل الله به بني آدم على غيرهم
ومن أهل الحديث من يقترب إلى المتكلمة فيعارض به السنن الثابتة، ومنهم من يقترب إلى المتصوفة فيعزله عن محل الولاية، ومثل ما هم في العقل هم في الوجد و التجرد سواء بسواء"المجموع"بت صرف.
لقد مدح الله العقل والعلم والفقه في غير موضع فقال:{أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا}"الفرقان"، وقال:{ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن و الإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون}"الأعرا ف"، وقال:{وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير}"الملك".
فالقرآن مدح التفكر والتدبر والتذكر والنظر والاعتبار والفقه والعلم والعقل والسمع والبصر والنطق، فمدح العلم و أسبابه وكماله، وعليه تعرف أنّ جنس عدم العقل والفقه لا يحمد بحال في الشّرع، بل يحمد العلم والعقل، ويؤمر به أمر إيجاب أو أمر استحباب، فهو يختلف باختلاف الشخص نوعا وعينا، إمّا لأنّه لا منفعة فيه لك أنت، أو لأنه يمنعك من علم نافع، وقد ينهى عنه إذا كان فيه مضرة لك.
ذلك أنّ من العلوم ما هو في الحقيقة جهل كعلم الفلسفة والكلام والتقليد الفاسد، ومن العلوم النافعة ما يضر بعض النفوس المريضة، لأنها تستعين به على إدراك أغراضها الخسيسة الفاسدة كالرآسة على الناس، أو الحصول على المال، كمن يحفظ القرآن وهو عمل وعلم نافع ليقرأ به على القبور و يأخذ المال، أو يتعلم الفقه ليجادل به أهل الحق ويترأس على الناس، هذه العلوم النوافع هي في مثل هذه الحالة كالمال للفاجر الفاسق، هذا في جنس العلم، وكذلك في جنس القوة التي يدرك بها العلوم، وهي القوة العقلية، وإن كان عدم جنسها في الإنسان مذموما، فإن بعض الناس لو جن لكان خيرا له، فإنه يرتفع عنه التكليف، وبالعقل يقع في الكفر والفسوق و العصيان" الاستقامة".
"ومن خلال هذا التفصيل تعلم الصواب فيما تنازع فيه أهل العلم في مسألة النظر في العلوم الدقيقة و الاستدلال فيها و الكلام عنها، فمنهم من لم يفرق بين أهل المعرفة بها و أهل الحاجة من أهلها، ويوجبون الإعراض عن تفاصيلها، وبإزاء هؤلاء من يأمر بها كل واحد، والقول الصواب أن نقول: يكره العلم إذا كان كلاما بغير علم، أو حيث يضر، فإذا كان كلاما بعلم ولا مضرة فيه فلا بأس به، وإن كان نافعا فهو مستحب، فلا إطلاق القول بالوجوب يكون صحيحا، ولا إطلاق القول بالتحريم يكون صحيحا، وهذا مثله مثل التقليد والاجتهاد جائز للقادر على الاجتهاد، والتقليد جائز للعاجز عن الاجتهاد" أصول الفقه ضمن المجموع".
أقول هذا لأن من أهل السنة الآن من يعادي العقل كأن بينهما عداوة، وله حساسية اتجاهه يحس بالنقص أمامه، وقد يظن أنّ العقل يخالف الكتاب ويعارضه، وليس في الكتاب أدلة عقلية وبراهين عقلية قاطعة فيقصر دلالة الكتاب على الخبر ـ كما فعل المعتزلة والأشاعرة، الذين قالوا: علم الكلام هو الحجاج عن العقيدة بالعقل كابن خلدون الأشعري، كأنّ الكتاب يحتاج إلى العقل الفلسفي والكلامي للدفاع عنه ـ ، ويجرّده من البراهين، وهذا اعتقاد فاسد أوجب انصراف الناس عن استمداد العلوم من القرآن لهذا الشعور.
قال شيخ الإسلام في " الدرء"{285/5}:" ممّا يوضح الأمر في ذلك أنك لا تجد من سلك هذه السبيل وجوز على الأدلة السمعية أن يعارضها معقول صريح ينافيها إلا وعنده ريب في جنس خبر الله ورسوله، وليس لكلام الله ورسوله في قلبه من الحرمة ما يوجب تحقيق مضمون ذلك، فعلم أن هذا طريق إلحاد ونفاق لا طريق علم وإيمان.
ونحن نبين فساد طريق هؤلاء بالطرق الإيمانية والقرآنية تارة وبالأدلة التي يمكن أن يعقلها من لا يستدل بالقرآن والإيمان، وذلك لأنا في مقام المخاطبة لمن يقر بأن ما أخبر به الرسول حق، ولكن قد يعارض ما جاء عنه بعقليات يجب تقديمها عليه، وإذا كنا في مقام بيان فساد ما يعارضون به من العقليات على وجه التفصيل، فذلك ولله الحمد هو علينا من أيسر الأمور
ونحن ولله الحمد قد تبين لنا بيانا لا يحتمل النقيض فساد الحجج المعروفة للفلاسفة والجهمية والقدرية ونحوهم التي يعارضون بها كتاب الله، وعلمنا بالعقل الصريح فساد أعظم ما يعتمدون عليه من ذلك، و هذا ولله الحمد مما زادنا الله به هدى وإيمانا فإنّ فساد المعارض مما يؤيد معرفة الحق ويقويه، وكل من كان أعرف بفساد الباطل كان أعرف بصحة الحق.".
فيجب في كل الأحوال تنزيل أقوال السلف على المقاصد، فلا نظلمهم، ولا نظلم أنفسنا، و يسلم لنا المنهج بكامله.
قال شيخ الإسلام في " بيان تلبيس الجهمية "{445/1 }:
" ولم يقل أحد من أئمة السنة:إن السني هو الذي لا يتكلم إلا بالألفاظ الواردة التي لا يفهم معناها، بل من فهم معاني النصوص فهو أحق بالسنة ممن لم يفهمها، ومن دفع ما يقوله المبطلون مما يعارض تلك المعاني، وبين أن معاني النصوص تستلزم نفي تلك الأمور المعارضة لها فهو أحق بالسنة من غيره."
فليس من السنة الجمود على ألفاظ لا تردّ بدع المبتدعة، بل بأيّ مصطلح لا يعارض مدلوله الكتاب والسنة يتم دفع المعارض للسنة فذاك هو السنة، السنة تقرير الحق ورّد ما يخالفه، ليست السنّة ترك الباطل يصول على كتاب الله وسنة نبيه، قال من رفع الذل والهوان على أهل السنة المتأخّرين وجعلهما على المبتدعة والضالين: شيخُ الإسلام ابن تيمية في" بيان تلبيس الجهمية" {ص:283/1}:
" وليس المراد بذلك أنهم لم ينطقوا بهذا اللفظ ( الحد)، فإنه قد تجّدد بعدهم ألفاظ اصطلاحية يعبّر بها عمّا دلّ عليه كلامهم في الجملة، وذلك بمنزلة تنوّع اللّغات، وتركيب الألفاظ المفردات."
والحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على سيد المرسلين.
أرزيو/ الجزائر في 27/07/2009
مختار الأخضر طيباوي
الهامش:
--------------------------------------------
1- كما يقال عندنا:" النار تخلف الرماد" قام بعض الشباب السلفي عندنا بمناقشة أقرانهم من الأشعرية أو بالأحرى بمناظرتهم، فلما انتهى القول إلى بعض سفاسف المنطق انقطع السلفيون وقالوا لخصومهم: أمهلونا ثلاث سنوات، فبعدما كان أهل السنة يمهلون المبتدعة ليأتوا بحجج تحد لهم، صار أتباع السلف يمهلون أنفسهم ليأتوا بالحجج، ولو مكث هؤلاء في بيوتهم لكان خيرا لهم، ومع ذلك تجدهم يحشرون أنفسهم ويرتبون العلماء في جداول، وهل يرتب العلماء من لا يعرف مرتبة نفسه؟
وقد اجتمع بعض الشباب من طلبة العلم الذين لم يبق ـ في ذهنهم ـ بينهم وبين العلماء إلاّ شبرا أو أقلّ بمجموعة من الشيعة فقال السني: التوحيد ثلاثة أقسام، فقال له الشيعي: هل يمكن أن أكتب هذا الكلام؟ قال السني: نعم، فكتبه الشيعي في قصاصة ثم قال للسني: هل هذا كلام الله أو كلام رسوله؟ قال السني: لا،قال الشيعي: يمكن إذا تمزيقه؟ فحار السني ولم يحر جوابا!.
ومرجع هذا الاضطراب عند السني عدم التمييز بين الأدلة الجدلية والأدلة العلمية، و أنه تلقى هذه المقولة مجرّدة عن أدلة استنباطها معتقدا أنّ الأمة توافقه على هذا التقسيم لمجرد أنّه يذكر مصطلحات لا يذكرونها.
وبعد أن التقيت بهذا السني و أخبرني بالموضوع قلت له: كان يمكن أن تأخذ ورقة وتقول لهذا الشيعي: السماء زرقاء، والأرض كروية الشكل، وأنت هنا معي لا يمكن أن تكون في قم، ثم تسأله إن كانت هذه المسائل حقا ولن يستطيع إنكارها ثم مزق الورقة، وقل له بعد ذلك: كون هذه المسائل يمكن تمزيقها لا يعني أنها ليست بحق، وكذلك قسمة التوحيد، فهذا دليل جدلي ثم تنقل له من القرآن ما يقرر قسمة التوحيد.
2- كنت قد ذكرت في المقال السابق موقف كبار أئمة السلف من المناظرة، وبينت أنّها أسلوب قرآني في الدعوة إلى الله، وأنّ الأنبياء ناظروا قومهم وأعداءهم ،كما كنت قد بينت أنّ وجه تحذير السلف منها له شروط، منها أن يكون الحق ظاهرا والبدعة غير متمكنة، ففي مثل هذه الحالة ترك مناظرة المبتدع أفضل له وللمسلمين وأقطع لشره، ومنها أن يكون المناظر ضعيفا يخشى أن يستطيل عليه المبتدعة، وهذا نقل آخر عن ابن القيم يوضح أحوال المناظرة، قال في " الصواعق"{1276/4}: " فأمّا المناظرة فتقسم إلى محمودة ومذمومة والمحمودة نوعان، والمذمومة نوعان، وبيان ذلك أنّ المناظر إمّا أن يكون عالما بالحق، وإمّا أن يكون طالبا له، وإمّا أن لا يكون عالما به ولا طالبا له، وهذا الثالث هو المذموم، وأمّا الأولان فمن كان عالما بالحق فمناظرته التي تحمد أن يبين لغيره الحجة التي تهديه ، وإن كان مسترشدا طالبا للحق ،أو تقطعه أو تكسره إن كان معاندا غير طالب للحق ولا متبع له، أو توقفه و تبعثه على النظر في أدلة الحق، إن كان يظن أنه على الحق و قصده الحق."
3- إذا نقلنا قول أبي منصور معمر بن أحمد:" ثم من السنة ترك الرأي والقياس في الدين وترك الجدال والخصومات وترك مفاتحة القدرية وأصحاب الكلام، وترك النظر في كتب الكلام وكتب النجوم" فلا شك أنه يقصد الرأي المذموم والقياس الضعيف والجدال المذموم، فمن الرأي ما هو محمود، ومن القياس ما هو صحيح شرعي دل عليه القرآن والسنة والإجماع، وكذلك الجدال الحسن قد أمر الله به، وترك النظر في الكتب مما أصله بدعة كالكلام والتنجيم والفلسفة والمنطق، لا يتناول كتب الفقه والحديث وغير ذلك مما أصله مشروع مشترك بين المسلمين، فيجب دائما تقيد الإطلاقات حتى لا يقع سوء الفهم، فيأتي بعض طلبة العلم فيحرّم الرأي المحمود، ويعادي جنس القياس، وجنس العقل، وجنس الجدال، ولا يفرق بين المحمود والمذموم، ويترك النظر في كتب الفقه وأصوله والحديث، لأنّ كتبتها مبتدعة دون تمييز بين تركها لأجل عدم تشييخهم، وبين تركها لأن أصلها بدعة باطلة .
4- فلما احتجّ المبتدعة ببيت من الشعر على نفي الاستواء ردّ عليهم الأئمة بدلائل اللغة، ونقلوا عن ابن الأعرابي قوله:" العرب لا تقول للرجل استولى على العرش حتى يكون له فيه ضد، فأيهما غلب قيل استولى عليه، والله لا مضاد له، وهو على عرشه كما أخبر".
ذكر ابن بطة عن ابن الأعرابي، قال:" أرادني ابن أبي داود أن أطلب في بعض لغات العرب ومعانيها الرحمن على العرش استولى فقلت : والله ما يكون هذا " بيان تلبيس الجهمية "{434/1}
وقال ابن عباس لرجل لم يفهم الرؤية: ألست ترى السماء فقال: بلى، قال أتراها كلها، قال لا، فبين له أن نفي الإدراك لا يقتضي نفي الرؤية.