الطواف أنواعه وأحكامه (1)
أ.د. سليمان العيسى
بداية وقته:
طواف الإفاضة له وقت فضيلة ووقت جواز:
فأما وقت الفضيلة فهو يوم النحر أول النهار استناداً إلى ما رواه مسلم في صحيحه عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر، ثم رجع فصلى الظهر بمنى، قال نافع: فكان ابن عمر يفيض يوم النحر ثم يرجع فيصلي الظهر بمنى ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله(36).
قال النووي: بعد ذكره لهذا الحديث: وفي هذا الحديث إثبات طواف الإفاضة وأنه يستحب فعله يوم النحر وأول النهار وقد أجمع العلماء على أن هذا الطواف وهو طواف الإفاضة ركن من أركان الحج لا يصح إلا به، واتفقوا على أنه يستحب فعله يوم النحر بعد الرمي والنحر والحلق(37).
وأما وقت الجواز فقد اختلف الفقهاء رحمهم الله في ابتدائه على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن ابتداء وقته من طلوع فجر يوم النحر وهو قول الحنفية، وقول في مذهب المالكية، وهو رواية عند الحنابلة.
القول الثاني: أن ابتداء وقته من منتصف ليلة النحر وبه قال الشافعية والحنابلة.
القول الثالث: أن من طاف يوم التروية قبل يوم عرفة فقد طاف للحج في وقته وهو قول في مذهب المالكية.
الأدلة:
أدلة القول الأول والذي مفاده أن ابتداء وقته بعد طلوع فجر يوم النحر:
الدليل الأول: فعله صلى الله عليه وسلم مع قوله: "خذوا عني مناسككم"(38)، وقد طاف صلى الله عليه وسلم طواف الإفاضة يوم النحر في النهار ولم يطف ليلة النحر، والليالي تابعة للأيام السابقة لا اللاحقة، والنهار يبتدأ من طلوع الفجر(39).
الدليل الثاني: ما رواه أبو داود في سننه قال حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا ابن أبي فديك عن الضحاك – يعني ابن عثمان – عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم – يعني عندها(40).
وجه الدلالة: أن طوافها كان بعد طلوع الفجر، لأنها رمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت إلى مكة قال ابن تيمية في شرح العمدة(41): قالوا ومن المنزل إلى مكة نحو من سبعة أميال أو أكثر، ومن موقف الإمام بعرفة إلى باب المسجد الحرام بريد: اثنا عشر ميلاً... إلى أن قال رحمه الله وحديث أم سلمة لا يخالفه – أي لا يخالف حديث أسماء والذي فيه أنها إنما انصرفت من مزدلفة بعد غيبوبة القمر – فإن ستة أميال تقطع في أقل من ثلاث ساعات بكثير بل في قريب من ساعتين فإذا قامت بعد مغيب القمر: أدركت الفجر بمكة إدراكاً حسناً.
وأما طوافها.....(42).
قلت وحديث عائشة في إرسال أم سلمة قد سكت عنه أبو داود وسكوته يدل على أنه صالح عنده، إذ قال أبو حازم قال: أبو داود في رسالته لأهل مكة وليس في كتاب السنن الذي صنفته عن رجل متروك الحديث شيء(43).
قال ابن كثير: انفرد به أبو داود وهو إسناد جيد(44).
وقال ابن حجر: إسناده صحيح(45)، وقال ابن قدامة واحتج به أحمد(46).
قال النووي في شرح المهذب: وأمّا حديث عائشة في إرسال أم سلمة فصحيح رواه أبو داود بلفظه بإسناد صحيح على شرط مسلم(47).
وقال الشنقيطي في أضواء البيان بعد سياقه لكلام النووي السالف الذكر ما نصه: "قال مقيده عفى الله عنه وغفر له ما ذكره النووي من كون إسناد أبي داود المذكور صحيح على شرط مسلم: لأن طبقته الأولى هارون الحمال وهو ثقة من رجال مسلم، وطبقته الثانية محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك وهو صدوق أخرج له الشيخان وغيرهما وطبقته الثالثة الضحاك بن عثمان الحزامي الكبير وهو صدوق يهم، وهو من رجال مسلم، وباقي الإسناد هشام بن عروة بن الزبير عن عائشة وصحته ظاهرة فالاحتجاج بهذا الإسناد ظاهر لأن جميع رجاله من رجال مسلم، وبعض رجاله أخرج له الجميع فظاهره الصحة(48).
هذا وقد أطلت في الكلام عن بيان درجة الحديث لوجود من اعترض عليه من جهة سنده ومتنه ودلالته(49) وما ذكرناه عن الحديث من حيث قوة إسناده وصحته هو الأولى. والله أعلم.
أدلة القول الثاني: والذي مفاده أن ابتداء طواف الإفاضة من منتصف ليلة النحر استدلوا بحديث عائشة المتقدم(50)، والذي فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت... إلخ.
وجه الدلالة لهم: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل بها في ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت قالوا وهذا كله في الليل قبل الفجر.
كما استدلوا بأدلة جواز الدفع من مزدلفة قبل فجر يوم النحر والتي منها ما رواه البخاري عن عبد الله مولى أسماء عن أسماء أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة فقامت تصلي، فصلت، ثم قالت: يا بنيّ هل غاب القمر؟ قلت: لا، ثم صلت ساعة ثم قالت: يا بني هل غاب القمر، فقلت: نعم. قالت: فارتحلوا فارتحلنا فمضينا، ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها فقلت يا هنتا(51) ما أرانا إلا قد غلسنا(52)، قالت يا بنتي إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أذن للظعن(53)(54).
ومنها ما رواه النسائي في سننه عن عطاء بن أبي رباح أن مولى لأسماء بنت أبي بكر أخبرهم قال: جئت مع أسماء بنت أبي بكر، منى بغلس، فقلت لها: لقد جئنا بغلس فقالت: كنا نصنع هذا مع من هو خير منك(55). ولأبي داود قالت: كنا نصنع هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم(56).
وجه الدلالة من الأحاديث السابقة: جواز الدفع من مزدلفة بعد منتصف الليل وإذا جاز الدفع منها جاز الرمي والطواف.
أدلة القول الثالث: والذي مفاده أن من طاف يوم التروية فقد طاف للحج في وقته قال النمري القرطبي مستدلاً لهذا القول: ومن قال هذا قال: إنما قيل لطواف الدخول وطواف الإفاضة واجب لأن بعضها ينوب عن بعض على ما وصفنا، ولأنه قد روي عن مالك أنه يرجع من نسي أحدهما من بلده كما يرجع إلى الآخر على ما ذكرنا، ولأن الله عز وجل لم يفرض على الحاج إلا طوافاً واحداً بقوله: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) (الحج: من الآية27)، وقال في سياق الآية: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُو ا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج:29)، والواو في هذه الآية وغيرها عندهم لا توجب رتبة إلا بتوقيت ومن طاف بالبيت يوم التروية فقد طاف للحج في وقته وحين عمله(57).
الترجيح والمناقشة:
بعد عرض أقوال العلماء رحمهم الله وأدلتهم على بداية وقت جواز طواف الإفاضة يتضح ما يلي:
أولاً: أن القول الثالث والذي مفاده جواز طواف الإفاضة قبل يوم عرفة قول ضعيف جداً، واستدلالهم بأن الله سبحانه لم يفرض على الحاج إلا طوافاً واحداً، أمر مسلَّم به غير أن هذا الطواف والمذكور في قوله تعالى: (وَلْيَطَّوَّفُ ا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج: من الآية29) هو طواف الإفاضة بالإجماع وهو الطواف الذي يكون بعد عرفة وهو الذي يحلُّ به من إحرامه والدليل على ذلك أن الله سبحانه ذكر الحج بقوله: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ) (الحج: من الآية27)، ثم قال سبحانه في سياق الآيات: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) وهو كل ما يحل به الحاج من رمي وحلاق، ثم قال: (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) أي يأتوا بما وجب عليهم (وَلْيَطَّوَّفُ ا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج:29)، فذكر الطواف بعد إلقاء التفث وهو عطف بالواو على ثم، وثم توجب الرتبة، فلا يكون الطواف المفترض الواجب إلا بعد ذلك.
ثانياً: أن القول الأول والذي مفاده جواز طواف الإفاضة بعد طلوع الفجر.
قد استدل أربابه بأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف يوم النحر بالنهار، وقال: "خذوا عني مناسككم" والنهار يبتدأ من طلوع الفجر.
والجواب: عن هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم إما طاف ضحى يوم النحر، فقد روى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر، ثم رجع فصلى الظهر بمنى(58).
وأما قولهم إن ابتداء النهار من طلوع الفجر، فالجواب عنه أنه محل خلاف بين أهل العلم إذ من العلماء من يرى أن ابتداء النهار من طلوع الشمس، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يطف إلا بعد طلوع الشمس وقد قال: لتأخذوا عني مناسككم.
وأما استدلالهم بحديث عائشة والذي فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت... إلخ.
فالجواب عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أذن للضعفة بالدفع من مزدلفة آخر الليل إذا قلنا: إذا جاز لهم الدفع جاز الطواف، لكن هذا الإذن يختص بهم إذ إن مساواة القوي بالضعيف في الدفع من مزدلفة وما بعده من الرمي والطواف استناداً على الأدلة التي جاءت بالترخيص لهم غير مستقيم ولا مسلَّم به لأن التعبير بالرخصة يقتضي أن يقابلها عزيمة، وقياس القوي على الضعيف قياس مع الفارق وهو مردود كما هو مقرر في الأصول(59).
ثانياً: أن القول الثاني والذي مفاده جواز طواف الإفاضة بعد منتصف الليل غية ما استدلوا به: هي الأحاديث التي جاءت بترخيص النبي صلى الله عليه وسلم للضعفة من أهله وغيرهم بالدفع من مزدلفة آخر الليل قبل حطمة الناس والتي منها أن بعض من رخص له قد طاف طواف الإفاضة بعد رمي جمرة العقبة.
والجواب عنها كالجواب عن حديث عائشة في قصة إرسال النبي صلى الله عليه وسلم بأم سلمة إذ كلها بمعناه فالرسول صلى الله عليه وسلم إنما أذن بالدفع من مزدلفة آخر الليل للضعفة وقياس القوي على الضعيف قياس مع الفارق، وقد تقدم تفصيل ذلك آنفاً في الجواب عن أدلة القول الأول.
رابعاً: أن أرباب هذا القول وقتوا جواز طواف الإفاضة بالنصف الثاني من الليل وهو أيضاً لا دليل عليه حتى في حق الضعفة فضلاً عن الأقوياء إذ الأدلة التي جاءت بخصوص الضعفة والتي تقدم بعضها في القولين الأولين إنما جاءت بالرخصة بالدفع من مزدلفة، والذي قلنا: يترتب عليه جواز طواف الإفاضة جاءت بعد غيبوبة القمر، والقمر كما هو معلوم لا يغاب في الليلة العاشرة إلا بعد مضي أكثر الليل لا نصفه، قال العلامة ابن القيم رحمه الله والذي دلت عليه السنة إنما هو التعجل بعد غيبوبة القمر لا نصف الليل وليس مع من حدّه بالنصف دليل(60). وقال ابن تيمية رحمه الله: فهذه أسماء قد روت الرخصة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلتها مؤقتة بمغيب القمر إذ كانت هي التي روت الرخصة وليس في الباب شيء مؤقت أبلغ من هذا، وسائر الأحاديث لا تكاد تبلغ هذا الوقت، وحديث أم سلمة لا يخالفه، فإن ستة أميال تقطع في أقل من ثلاث ساعات بكثير بل في قريب من ساعتين، فإذا قامت بعد مغيب القمر، أدركت الفجر بمكة إدراكاً حسناً... وعلى هذا فيكون المبيت واجباً إلى أن يبقى سبعا الليل إذا جعل آخره طلوع الشمس وذلك أقل من الثلث) إلى أن قال: (فتكون الإفاضة من جمع جائزة إذا بقي من وقت الوقوف الثلث وتقدير الرخصة بالثلث: له نظائر في الشرع، والتقدير بالأسباع له نظائر خصوصاً في المناسك فإن أمر الأسباع فيه غالب، فيجوز أن يكون الوقوف بمزدلفة مقدراً بالأسباع(61).
هذا وبناءً على استعراض أدلة الأقوال المتقدمة ومناقشتها يترجح لي والعلم عند الله تعالى أن ابتداء طواف الإفاضة ينبني على ابتداء وقت جواز الدفع من مزدلفة ليلة النحر وقد تبين لنا من خلال الأدلة المتقدمة أن ابتداء الدفع من مزدلفة يختلف باختلاف الحاج قوة وضعفاً، فالضعفة من النساء والصبيان والمرأة الحامل، وكبار السن من الرجال والنساء والمرضى، وكذا المرأة التي يخشى من حيضها أو نفاسها والذي يترتب على تأخرها تعطيل رفقتها، وكذاا لمرافق لأي ممن تقدم كالسائق والمحْرَم والمساعد ونحوهم كل هؤلاء يجوز لهم الطواف بعد دفعهم من مزدلفة وبعد غيبوبة القمر آخر ليلة النحر كما تقدم إيضاحه، وأما الأقوياء فلا يجوز لهم لطواف إلا بعد طلوع الشمس لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ممن لا عذر لهم لم يطوفوا إلا بعد طلوع الشمس وهذا القول هو الذي يجمع بين النصوص المتقدمة، ومتى أمكن الجمع وجب العمل به، ولا يلجأ لغيره كالترجيح بين الأدلة إلا لتعذره، والله أعلم.
نهاية وقت طواف الإفاضة:
لم يرد نص في نهاية وقت طواف الإفاضة وجمهور العلماء على أنه لا آخر لوقته بل يبقى وقته ما دام صاحب النسك حياً، لكن العلماء اختلفوا في لزوم الدم بالتأخير أو عدم لزومه إلى ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه لا يلزم بالتأخير دم مطلقاً ففي أي وقت أتى به أجزأه، وهذا قول أبي يوسف ومحمد من الحنفية ومذهب الشافعية والحنابلة.
القول الثاني: أن تأخيره عن أيام التشريق يجب فيه دم، وهو قول أبي حنيفة، وقول لبعض الحنابلة، وقد خرجه القاضي وغيره رواية في المذهب.
القول الثالث: أنه لا يجب الدم إلا إذا أخره عن شهر ذي الحجة، وهذا هو المشهور عن المالكية.
الأدلة:
استدل أهل القول الأول على عدم وجوب الدم في التأخير: بأنه لم يرد نص على نهاية وقت طواف الإفاضة فمتى فعله الإنسان أجزأه، ولأنه لو توقت آخره لسقط بمضي آخره كالوقوف بعرفة فلما لم يسقط دل على أنه لم يتوقف، ثم إنّ الأصل عدم وجوب الدم حتى يرد الشرع به(62).
واستدل أهل القول الثاني والثالث على وجوب الدم في التأخير بأن التأخير بمنزلة الترك في حق وجوب الجابر بدليل أن من جاوز الميقات بغير إحرام ثم أحرم يلزمه دم ولو لم يوجد منه إلا تأخير النسك، وكذا تأخير الواجب في باب الصلاة بمنزلة الترك في حق وجوب الجابر وهو سجود السهو فكان الفقه في ذلك أن أداء الواجب كما هو واجب، إذ مراعاة محل الواجب واجب فكان التأخير تركاً للمراعاة الواجبة وهي مراعاته في محله(63). قالوا ولأنه نسك يفعل في الحج فكان آخره محدوداً كالوقوف والرمي فإذا أخره لزم أن يجبره بدم.
الترجيح:
يترجح لي والعلم عند الله تعالى عدم وجوب الدم بتأخير طواف الإفاضة لأن آخر وقته غير محدود شرعاً، ولهذا أجمعوا على أنه من أتى به ولو سافر ورجع أجزأه، وإنما الخلاف في وجوب الدم ولا دليل على وجوبه إذ الأصل عدم وجوبه، واستدلال الموجبين بأن التأخير بمنزلة الترك في حق وجوب الجابر غير مسلم به إذ قد يعفى عن التأخير من غير جبر ولا حرج، ولا يعفى عن الترك فقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال: لا حرج، وفي رواية عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل يوم النحر بمنى، فيقول: لا حرج فسأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح قال اذبح ولا حرج، وقال رميت بعدما أمسيت فقال: لا حرج، وروى البخاري أيضاً عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما سئل يومئذ عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج(64).
هذا وقياسهم طواف الإفاضة على الوقوف والرمي قياس مع الفارق لأن الوقوف والرمي مؤقتان بوقت يفوتان بفواته وليس كذلك في طواف الإفاضة فإنه متى أتي به صح كما تقدم. والله أعلم.
ثالثاً: طواف العمرة:
اتفق الأئمة الأربعة على أن طواف العمرة ركن من أركانها لا تصح إلا به بل نقل بعض أهل العلم الإجماع على ذلك.
قال الكاساني في بدائع الصنائع: وأما ركنها – يعني العمرة – فالطواف، لقوله عز وجل: (وَلْيَطَّوَّفُ ا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج: من الآية29) ولإجماع الأمة عليه(65).
وجاء في مواهب الجليل ما نصه: "ثم الطواف لهما سبعاً" هذا معطوف على الإحرام في قوله: وركنهما الإحرام ويعني أن الركن الثاني من الأركان التي يشترك فيها الحج والعمرة الطواف فإن الطواف ركن في العمرة والطواف الركن في الحج طواف الإفاضة(66).
وقال النووي في المجموع: وأما العمرة فأركانها الإحرام والطواف والسعي والحلق إن جعلناه نسكاً(67).
وقال البهوتي في كشاف القناع: وأركان العمرة ثلاثة الإحرام والطواف والسعي... فمن ترك ركناً أو ترك النية له إن اعتبرت فيه كالطواف والسعي لم يتم نسكه إلا به(68).
رابعاً: طواف الوداع للحج لغير حاضري المسجد الحرام:
حكمه:
طواف الوداع سمي بهذا الاسم لأنه لتوديع البيت ويطلق عليه طواف خروج وطواف الصدر لأنه عند خروج وصدور الناس من مكة، وهو آخر ما يفعله الحاج غير المكي عند إرادته السفر من مكة.
وحكمة مشروعيته والله أعلم: تعظيم بيت الله تعالى الذي أضافه سبحانه إليه بقوله: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (الحج: من الآية26) فيكون هو الأول وهو الآخر بياناً لكونه هو المقصود من السفر.
هذا وقد أجمع العلماء رحمهم الله على مشروعيته وعلى سقوطه عن الحائض إلا ما روي عن ابن الخطاب وابن عمر وزيد بن ثابت أنهم أوجبوه على الحائض وقد ثبت رجوع ابن عمر وزيد بن ثابت(69).
وقد جاء في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن الحائض(70).
وروى مسلم في صحيحه عن طاوس قال: كنت مع ابن عباس إذ قال زيد ابن ثابت: تفتي أن تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت، فقال له ابن عباس: إما لا فسل فلانة الأنصارية هل أمرها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فرجع زيد بن ثابت إلى ابن عباس يضحك وهو يقول: ما أراك إلا قد صدقت، وروى مسلم أيضاً عن عائشة رضي الله عنها قالت حاضت صفية بنت حيي بعدما أفاضت قالت عائشة فذكرت حيضتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحابستنا هي قالت: فقلت يا رسول الله إنها قد كانت أفاضت وطافت بالبيت ثم خاضت بعد الإفاضة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلتنفر"(71).
هذا وقد اختلفوا في حكمه في حق غير الحائض على قولين:
القول الأول: أنه واجب وهو قول جمهور العلماء منهم الحسن البصري والحكم وحماد والثوري وغيرهم وهو قول أبي حنيفة والأصح في مذهب الشافعي كما أنه مذهب الحنابلة.
القول الثاني: أنه سنة وبه قال الإمام مالك وحكاه النووي عن داود وابن المنذر وعن مجاهد في رواية عنه، وهو قول في مذهب الشافعي.
الأدلة:
أدلة القائلين بوجوب طواف الوداع:
الدليل الأول: ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض(72).
الدليل الثاني: ما رواه مسلم وأبو داود وابن ماجة وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت(73).
قال النووي في شرحه لهذا الحديث: فيه دلالة لمن قال بوجوب طواف الوداع وأنه إذا تركه لزمه دم وهو الصحيح من مذهبنا، وبه قال أكثر العلماء(74).
الدليل الثالث: ما رواه مالك في الموطأ عن نافع عن عبد الله بن عمر بن الخطاب قال لا يصدرن أحد من الحاج حتى يطوف بالبيت فإن آخر النسك الطواف بالبيت(75).
قال الباجي قال مالك في قول عمر بن الخطاب فإن آخر النسك الطواف بالبيت أن ذلك فيما نرى والله أعلم لقول الله تبارك وتعالى: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج: من الآية32)، وقال: (ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج: من الآية33)، فمحل الشعائر كلها وانقضاؤها إلى البيت العتيق(76).
الدليل الرابع: ما رواه مالك أيضاً عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ردّ رجلاً من ممر الظهران لم يكن ودع البيت حتى ودع(77).
الدليل الخامس: ما رواه البخاري ومسلم عن عروة عن أم سلمة رضي الله عنهما زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وهو بمكة وأراد الخروج ولم تكن أم سلمة طافت بالبيت وأرادت الخروج فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقيمت صلاة الصبح فطوفي على بعيرك والناس يصلون ففعلت ذلك فلم تصلي حتى خرجت(78).
هذا وقد قال ابن حجر في الفتح: حديثها هذا في طواف الوداع(79).
أدلة القائلين بسنية طواف الوداع:
الدليل الأول: ما رواه البخاري ومسلم ومالك وغيرهم واللفظ لمسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أراد من صفية بعض ما يريد الرجل من أجله فقالوا: إنها حائض يا رسول الله قال: وإنها لحابستنا، فقالوا يا رسول الله إنها قد زارت يوم النحر قال: فلتنفر معكم، وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم لما علم بحيضها قال لها: عقري حلقي إنك لحابستنا ثم قال: أكنت أفضت يوم النحر قالت نعم قال فانفري(81).
وجه الدلالة: من الحديث السابق لهذا القول:
قال الباجي (مسألة) إذا ثبت أنه مشروع – يعني طواف الوداع – فليس بواجب، ثم ذكر حديث عائشة المتقدم – وقال: فوجه الدليل من الحديث أنه خاف أن لا تكون طافت للإفاضة وأن يحبسهم ذلك بمكة، فلما أخبر أنها قد أفاضت، قال: أخرجوا ولم يحبسهم لعذر طواف الوداع على صفية كما خاف أن يحبسهم لعذر طواف الإفاضة(82).
الدليل الثاني: ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أُمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خُفف عن المرأة الحائض(83).
وجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم رخص للحائض في تركه ولم يأمرها بدم ولا شيء ولو كان واجباً لأمر بجبره ولوجب عليها كطواف الإفاضة، قالوا ولأنه كتحية البيت أشبه طواف القدوم(84).
الترجيح والمناقشة:
قلت والذي يترجح لي والله أعلم هو القول بوجوب طواف الوداع على كل من أراد الخروج من مكة وهو من غير حاضري المسجد الحرام إلا الحائض والنفساء وذلك لعدة وجوه:
الوجه الأول: أن غاية ما استدل به من رأى سُنية ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم للحائض في تركه وأنهه تحية للبيت كطواف القدوم.
والجواب عن هذا: أن تخصيص الحائض بإسقاطه عنها دليل على وجوبه على غيرها إذ لو كان ساقطاً عن الكل لم يكن لتخصيصها بذلك معنى، هذا وقياس طواف الوداع على طواف القدوم قياس مع الفارق ذلك أن طواف الوداع جاء الأمر به من الرسول صلى الله عليه وسلم بخلاف طواف القدوم ثم إن بعض من قال بسنيته طواف الوداع وهم المالكية قالوا بوجوب طواف القدوم كما تقدم وبناءً على هذا فهو قياس مسألة مختلف فيها على مثلها، وهذا غير سليم في القياس إذ الصحيح في القياس قياس مسألة مختلف فيها على متفق عليها.
الوجه الثاني: أن الأدلة الصحيحة والتي تقدمت في أدلة القول الأول صريحة في أمره صلى الله عليه وسلم للناس بأن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض، والأمر يقتضي الوجوب.
الوجه الثالث: ثبوت نهيه صلى الله عليه وسلم الناس عن الانصراف والنفر قبل أن يكون آخر عهدهم بالبيت، فقد تقدم فيما رواه مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت(85)، فهو دليل على منع النفر بدون وداع، وهو واضح في وجوب طواف الوداع.
الوجه الرابع: ثبوت طواف الوداع بفعله صلى الله عليه وسلم فقد روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ورقد رقدة بالمحصب ثم ركب إلى البيت فطاف به(86).
قال ابن حجر في الفتح: وفي سياق حديث أنس الثاني ما يشعر بأنه صلى بالأبطح وهو المحصب مع ذلك المغرب والعشاء، ثم ركب إلى البيت فطاف به أي طواف الوداع(87).
قلت: وحديث أنس هذا صريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف للوداع قبل أن يخرج ففيه دلالة على ثبوت طواف الوداع بفعله صلى الله عليه وسلم والذي يدل على الوجوب مع قوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم".
قال الشوكاني في نيل الأوطار: وقد اجتمع في طواف الوداع: أمره صلى الله عليه وسلم به، ونهيه عن تركه، وفعله الذي هو بيان للمجمل الواجب، ولا شك أن ذلك يفيد الوجوب(88).
وقال ابن حجر على حديث ابن عباس رضي الله عنهما: ولفظه: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنّه خُفف عن المرأة الحائض.
(فيه دليل على وجوب طواف الوداع للأمر المؤكد به وللتعبير في حق الحائض بالتخفيف كما تقدم، والتخفيف لا يكون إلا من أمر مؤكد)(89).
وقال ابن قدامة: وليس في سقوطه – يعني طواف الوداع – عن المعذور ما يجوز سقوطه لغيره كالصلاة تسقط عن الحائض وتجب على غيرها، بل تخصيص الحائض بإسقاطه عنها دليل على وجوبه على غيرها إذ لو كان ساقطاً عن الكل لم يكن لتخصيصها بذلك معنى(90).
يتبع