اعلم ـ رحمك الله ـ أن أول هذه المسالك هو:
(1) تحصيل تقوى الله ، وخشيته بدوام مراقبته وكثرة ذكره والتعبد له .
ذكر ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ في صفة الصفوة (4/129) ، في ترجمة عبد الله بن المبارك ـ رحمه الله تعالى ـ (ت 181هـ ) :
" عن القاسم بن محمد ،قال : كنا نسافر مع ابن المبارك فكثيراً ما كان يخطر ببالي فأقول في نفسي : بأي شيء فُضل هذا الرجل علينا حتى اشتهر في الناس هذه الشهرة ؟ إن كان يصلي إنّا لنصلي ، ولئن كان يصوم إنا لنصوم ، وإن كان يغزو فإنا لنغزو ، وإن كان يحج إنا لنحج .
قال : فكنا في بعض مسيرنا في طريق الشام ليلة نتعشى في بيت إذ طفئ السراج فقام بعضنا فأخذ السراج وخرج يستصبح فمكث هنيهة ثم جاء بالسراج ، فنظرت إلى وجه ابن المبارك ولحيته قد ابتلت من الدموع . فقلت في نفسي : بهذه الخشية فضل هذا الرجل علينا ، ولعله حين فقد السراج فصار إلى الظلمة ذكر القيامة " .
(2) الحرص على الفرائض ، وعدم ترك النوافل ، من الصيام وغيره ، ولاسيما قيام الليل .
جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ ، أنه قال : « يقول تعالى : من عادى لي ولياً فقد بارزني بالحرب ، وما تقرب إلي عبدي بشيء أفضل من أداء ما افترضت عليه ، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ، ولئن دعاني لأجيبنه ، ولئن استعاذ بي لأعيذنه ، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه » .
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ في تفسيره (4/506) : " فمعنى الحديث أن العبد إذا أخلص الطاعة صارت أفعاله كلها لله ـ عز وجل ـ ، فلا يسمع إلا لله ، ولا يبصر إلا لله أي ما شرعه الله له ، ولا يبطش ولا يمشي إلا في طاعة الله عز وجل ، مستعيناً بالله في ذلك كله ، ولهذا جاء في بعض رواية الحديث في غير الصحيح بعد قوله ورجله التي يمشي بها « فبي يسمع ، وبي يبصر، وبي يبطش ، وبي يمشي » ولهذا قال تعالى : ( وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ) [السجدة 9] ، كقوله تعالى في الآية الأخرى : ( قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ، قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) [الملك 23 ، 24] " . أهـ
فمن كانت هذه حاله فما عساه إن يحصل من العلم والفهم والتسديد في القول والعمل والبركة فيه . نسأل الله من فضله .
(3) الوصية بكثرة التذلل لله ، والتضرع بين يديه ، وسؤاله دائماً التوفيق للعلم والعمل .
وقال ابن وهب عن الإمام مالك ـ رحمه الله ورضي عنه ـ : " طلب العلم حسن ،
لمن رزق خيره ، وهو قسم من الله ، ولكن انظر ما يلزمك حين تصبح إلى حين تمسي فالزمه " .
وقال : " العلم نور لا يأنس إلا بقلب تقي خاشع " .
ترتيب المدارك وتقريب المسالك للقاضي عياض (1/96) .
(4) الحرص على استغلال الوقت وعدم تركه يمضي بلا فائدة تذكر .
ذكر السخاوي ـ رحمه الله ـ في ترجمة شيخه الحافظ ابن حجرـ رحمه الله ـ :
"وقد سمعته يقول غيرمرة : إنني لأتعجب ممن يجلس خالياً عن الاشتغال .(الجواهر والدرر 1 / 170) .
(5) الهمة في الحرص على طلب العلم ، ونيل شرفه ، وطلب الزيادة منه .
قال تعالى : ( وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ) [ طه 114] .
قال القرطبي في تفسيره (4/40) : " فلو كان شيء أشرف من العلم لأمر الله تعالى نبيه ـ صلى الله عليه وسلّم ـ أن يسأله المزيد منه كما أمر يستزيده من العلم " .
وقال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ في الفتح (1/170) :
" ما أمر الله رسوله بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم " .
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في مفتاح دار السعادة (1/223) :
" وكفى بهذا شرفاً للعلم ، أنْ أمرنبيّه أن يسأله المزيد منه " .
(6) أخذ العلم عن الأكابر .
قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ : " إنما يؤخذ العلم عن الأكابر " .
طبقات الحنابلة (1/189) .
(7) الاستغناء عن الناس ، والتفرغ لطلب العلم ، وإدامة النظر في كتب أهل العلم .
ذكر الذهبي ـ رحمه الله ـ في السير (8/382) في ترجمة عبد اللهبن المبارك ـ رحمه الله ـ فقال:
"كان ابن المبارك يُكثر الجلوس في بيته ، فقيل لهألا تستوحش ؟
" فقال : كيف أستوحشُ وأنا مع النبيـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأصحابه .
وسئل الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ في الحفظ بأي شيءٍ يكون ، قال : " بإدامة النظر " .
ذكره ابن عبد البر في كتاب جامع بيان العلم وفضله : بَابٌ فِي فَضْلِ النَّظَرِ فِي الْكُتُبِ وَحَمْدِ الْعِنَايَةِ بِالدَّفَاتِرِ .
(8) الصبر والتحمل في طلب العلم .
فعلى قدر ما تعطي العلم من وقتك ومالك وصبرك وتحملك على قدر ما يعطيك العلم .
قال ابن القاسم : " أفضى بمالك [ أي الإمام مالك ] طلب العلم إلى أن نقض سقف بيته فباع خشبه ، ثم مالت عليه الدنيا بعد " . ترتيب المدارك وتقريب المسالك للقاضي عياض (1/54) .
(9) الجمع بين العلم والعمل .
فبركة العلم العمل .
روى الدارمي في مسنده (1/107) ح (390) عن الحَسَنِ ، قال : " إن كانَ الرجُلُ ليصيبُ البابَ من العلمِ فيعملُ بِهِ ، فيكونُ خيراً لَهُ من الدنيا وما فيها ، لو كانَتْ له فجعَلَهَا في الآخِرَةِ " .
قال : قال الحَسَنُ : " كانَ الرجُلُ إذا طَلَبَ العلمَ لم يلبَثْ أنْ يَرَى ذَلِكَ في بَصَرِهِ وتَخَشُّعِهِ ولسانِهِ، ويدِهِ وصلاتِهِ وَزُهْدِهِ " .
وعن عطية العوفي قال : " حسنةُ الدنيا العلم والعمل به ، وحسنةُ الآخرة تيسير الحساب ودخول الجنة " . الفتح (12/486) .
(10) إخراج زكاة العلم بالدعوة إليه .
(11) الصبر على الأذى فيه .
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
( وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) ) [العصر]