الحمد لله وحده..
فهذا بحث حسن ربما غفل عنه الناس،وقد أودعه الشيخ عبد الرحمن بن حسن قائد حاشية تحقيقه النفيس جداً للمنتخب من كتاب المنثورات لابن طاهر المقدسي = فأحببتُ إفراده هنا؛لينتبه له أناس،وينتفع به آخرون..
قال وفقه الله :
((في وصف الحاكم بالرفض غلوٌّ وإسراف , والله يحبُّ الإنصاف , وسننظر في نسبته إلى التشيُّع , ونبسط القول فيها في مقاماتٍ أربعة :
الأول : من وصفه بذلك .
* اتهمه أبو إسماعيل الأنصاري ( ت : 481 ) بالرفض , كما في العبارة التي هنا , وسيأتي النظر فيها , وعلى خطاه سار تلميذه محمد بن طاهر ( ت : 507 ) فنعت الحاكم بالتعصُّب الشديد للشيعة في الباطن , مع التظاهر بالتسنُّن في التقديم والخلافة , والانحراف المعلن الغالي عن معاوية رضي الله عنه , وستأتي عبارته , وانظر كذلك :
« الأنساب المتفقة » ( 70 ) , وقال في « تذكرة الحفاظ » ( 146 ) : « كان يتَّهم بالتعصُّب للرافضة » , وتلـقَّف هذا عنه ابن الجوزي , فذكر عبارته في « العلل المتناهية » ( 1 / 233 ) .
* ووصفه بالتشيُّع فحسب , أو بالميل إليه , جماعةٌ من أهل العلم , منهم :
الخطيب البغدادي ( ت : 463 ) , وقال في « تاريخ بغداد » ( 5 / 473 ) :
« كان ابن البيِّع يميل إلى التشيُّع » .
وأبو سعد السمعاني ( ت : 562 ) , وقال في « الأنساب » ( 2 / 371 ) :
« وكان فيه تشيُّع » .
وابن الجوزي ( ت : 597 ) , وقال في « المنتظم » ( 8 / 269 ) : « كان متشيعًا ظاهر التشيُّع » .
وابن تيمية ( ت : 728 ) , وقال في « منهاج السنة » ( 7 / 373 ) : « منسوبٌ إلى التشيُّع » .
والذهبي ( ت : 748 ) في مصنفاته : « السير » ( 17 / 165 , 174 ) ,
و « التذكرة » ( 1045 ) , و « العبر » ( 3 / 91 ) , و « الميزان » ( 3 / 608 ) ,
و « المعجم المختص » ( 303 ) , وستأتي عباراته .
وابن كثير ( ت : 774 ) , وقال في « البداية والنهاية » ( 8 / 583 , 9 / 243 ) : « ينسبُ إلى شيءٍ من التشيُّع » , « كان فيه تشيُّع » .
وابن الجزري ( ت : 833 ) , وقال في « غاية النهاية » ( 2 / 185 ) : « كان شيعيًّا , مع حبه للشيخين رضي الله عنهما » .
وابن الوزير ( ت : 840 ) , وقال في « الروض الباسم » ( 237 , 568 ) :
« فإنهم [ أي : أئمة الحديث ] مجمعون على أن أبا عبد الله الحاكم ابن البيِّـع من أئمة الحديث , مع معرفتهم أنه من الشيعة » .
الثاني : دلائل تشيُّعه .
1 – تصحيحُه لحديث الطير , وإدخاله إياه في كتابه : « المستدرك على الصحيحين » , وجمعه لطرقه , وهو أنه كان عندالنبي ^ طير , فقال : « اللهم ائتني بأحبِّ خلقك إليك يأكل معي هذا الطير , فجاء عليٌّ فأكل معه » .
قال الخطيب في « التاريخ » ( 5 / 435 ) : « وكان ابن البيِّـع يميلُ إلى التشيُّع ؛ فحدثني أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الأرموي , بنيسابور , وكان شيخًا صالحًا فاضلًا عالمًا , قال : جمع الحاكمُ أبو عبد الله أحاديث زعم أنها صحاحٌ على شرط البخاري ومسلم , يلزمهما إخراجها في صحيحيهما , منها : حديث الطائر , و من كنت مولاه فعليٌّ مولاه , فأنكر عليه أصحاب الحديث ذلك , ولم يلتفتوا فيه إلى قوله , ولا صوَّبوه في فعله » .
وقال محمد بن طاهر : « ورأيت أنا حديث الطير ، جَـمْعَ الحاكم ، بخطِّه , في جزءٍ ضخمٍ , فكتبته للتعجُّب » . انظر : « السير » ( 17 / 176 ) .
وقد أخرجه في « المستدرك » ( 3 /130 , 131 ) من طريق يحيى بن سعيد عن أنس , ثم قال : « هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط الشيخين , و لم يخرجاه . وقد رواه عن أنس جماعةٌ من أصحابه , زيادة على ثلاثين نفسًا , ثم صحَّت الروايةُ عن عليٍّ وأبي سعيد الخدري وسفينة » .
وقال أيضًا : « حديث الطائر لم يخـرَّج في الصحيح , وهو صحيح » . انظر :
« المنتظم » ( 4 / 320 ) .
وهو حديثٌ منكر , له طرقٌ كثيرةٌ لا يصحُّ منها شيء , قال الذهبي : « أقربُـها غرائبُ ضعيفة , وأردؤها طرقٌ مختلقةٌ مفتعلة , وغالـبُها طرقٌ واهية » , انظر جملةً منها في : « العلل المتناهية » ( 1 / 225 – 234 ) , و « البداية والنهاية » ( 11 / 75 –
83 ) و « لسان الميزان » ( 1 / 37 , 42 , 177 , 408 , 2 / 217 , 285 , 353 , 359 , 434 , 3 / 80 , 183 , 226 , 287 , 336 , 4 / 12 , 351 , 5 / 57 ,
192 , 6 / 140 , 7 / 118 ) .
قال العقيلي : « هذا الباب الروايةُ فيها لينٌ وضعف , لا نعلم فيه شيء ثابت , وهكذا قال محمد بن إسماعيل البخاري » , « الرواية فيه متقاربةٌ في الضعف » , « طرقُ هذا الحديث فيها لين » . « الضعفاء » ( 1 /46 , 2 / 318 , 4 / 188 ) .
وقال الخليلي : « ما روى حديث الطير ثقة , رواه الضعفاء مثل : إسماعيل بن سلمان الأزرق , وأشباهه ، ويردُّه جميعُ أئمة الحديث » . « الإرشاد » ( 420 ) .
وقال أبو ذر الهروي : « كنا في حلقة الحاكم أبي عبد الله بن البيِّع الحافظ بنيسابور إذا أخرج عن السُّدِّي في الصَّحيح نتغامزُ عليه , وذلك أنه روى حديثَ الطير , ولم يتابعه أحدٌ عليه , وكان [ أي : السُّدِّي ] يُنْسَبُ إلى التشيُّع » . « معجم السفر » للسِّلفي ( 239 ) .
وقال محمد بن طاهر في « اليواقيت » : « حديثُ الطائر موضوع , إنما يجيء عن سُقَّاط أهل الكوفة عن المشاهير والمجاهيل عن أنسٍ وغيره , ولا يخلو أمرُ الحاكم من أمرين : إمَّا الجهلُ بالصحيح , فلا يُعْتـَمد على قوله , وإمَّا العلمُ به , ويقول به , فيكون معاندًا كذابًا دسَّاسًا » . انظر : « العلل المتناهية » ( 1 / 233 , 234 ) ,
و « المنتظم » ( 4 /320 ) , و « النكت على كتاب ابن الصلاح » للزركشي ( 1 /220 ) .
و قال أيضًا : « كلُّ طرقه باطلةٌ معلولة » . انظر : « تذكرة الحفاظ » له 146 ) , و « العلل المتناهية » ( 1 / 233 ) .
وذكر الحافظ عبد القادر الـرُّهاوي في كتاب « المادح والممدوح » له : أن الدارقطنيَّ لمَّـا وقف على « مستدرك » الحاكم أنكره , وقال : يستدركُ عليهما حديث الطير ؟! فبلغ ذلك الحاكم , فضرب عليه من كتابه . انظر : « الفروسية » لابن القيم
( 276 ) , و « العلل المتناهية » ( 1 / 233 ) , و « النكت » للزركشي ( 1 / 223 ) .
وروى ابن طاهر هذه القصة , فقال : « سمعت أبا محمد بن السمرقندي يقول : بلغني أن مستدرك الحاكم ذُكِرَ بين يدي الدارقطني ... » . انظر : « السير » ( 17 / 176 ) , و « تاريخ الإسلام » ( 9 / 99 ) .
وقال ابن تيمية في « منهاج السنة » ( 7 / 371 ) : « حديثُ الطائر من المكذوبات الموضوعات عند أهل العلم و المعرفة بحقائـق النقل » .
واستنكر متنه أبو بكر بن أبي داود , وله فيه عبارةٌ رديئة . انظر : « الكامل » لابن عدي ( 4 / 266 ) , و « السير » ( 13 / 232 ) .
وقال الحاكم : « لو صحَّ لما كان أحدٌ أفضل من عليٍّ بعد النبي ^ » . انظر :
« السير » ( 17 / 168 ) .
فالعنايةُ بتصحيح مثل هذا الحديث الواهي , والاحتشاد له , وجمعُ طرقه , والتصنيفُ فيه , ومخالفةُ الناس في الحكم عليه , والتجلُّد بإدخاله في المستدرك على الصحيحين , مع اعتقاد أنه لو صحَّ لما كان أحدٌ أفضل من عليٍّ بعد رسول الله ^ ؛ ألا يدلُّ كلُّ أولئك على أن في النفس ميلًا إلى اعتقاد ما دلَّ عليه , وهوىً في تصديقه , ورغبةً جامحةً لتصحيح الخبر الوارد به ؟!
2- امتناعه عن التحديث بحديثٍ واحدٍ في فضل معاوية رضي الله عنه , وقد طُلِبَ إليه .
قال محمد بن طاهر : « كان منحرفًا غاليًا عن معاوية وأهل بيته , يتظاهرُ به ولا يعتذرُ منه . فسمعتُ أبا الفتح ابن سمكويه , بهراة ، سمعت عبد الواحد المليحي ، سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول : دخلتُ على أبي عبد الله الحاكم وهو في داره ، لا يمكنه الخروجُ إلى المسجد من أصحاب أبي عبد الله بن كـرَّام , وذلك أنهم كسروا منبره ، ومنعوه من الخروج ، فقلت له : لو خرجتَ وأمليتَ في فضائل هذا الرجل
[ يعني : معاوية رضي الله عنه . انظر : « المنتظم » ( 4 / 320 ) , و « طبقات الشافعية » ( 4 / 163 ) ] حديثًا لاسترحتَ من المحنة , فقال : لا يجيءُ من قلبي ، لا يجيءُ من قلبي » .
أبو الفتح محمد بن أحمد بن عبد الله بن سمكويه , إمامٌ حافظٌ ثقة . انظر :
« السير » ( 19 / 16 ) . وعبد الواحد بن أحمد الـمَـلِيحي الهروي محدِّث هراة في وقته ومسندها , ثقةٌ صالح . انظر : « السير » ( 18 / 255 ) .
ويصدِّقُ هذا أنه لم يذكر معاوية رضي الله عنه في كتاب معرفة الصحابة من
« المستدرك » , ولا خرَّج فيه شيئًا من فضائله .
قال ابن تيمية : « هذا مع إن الحاكم منسوبٌ إلى التشيع , وقد طُلِبَ منه أن يروي حديثًا في فضل معاوية , فقال : ما يجيء من قلبي , ما يجيء من قلبي , وقد ضربوه على ذلك فلم يفعل , و هو يروي في الأربعين أحاديث ضعيفةً بل موضوعةً عند أئمة الحديث , كقوله بقتال الناكـثين , والقاسطين , والمارقين » . « منهاج السنة » ( 7 /
373 ) .
ولا يقال : إنه لم يجد حديثًا في فضل معاوية على شرط الصحيح , وقد روىٰ عن أبي العباس الأصم عن أبيه عن إسحاق بن راهويه قوله : « لا يصحُّ عن النبي ^ في فضل معاوية بن أبي سفيان شيء » , أخرجه من طريقه ابن الجوزي في « الموضوعات » ( 823 ) , وابن عساكر في « تاريخ دمشق » ( 59 /106 ) = لأنـَّـا بلوناه يتساهل في فضائل غيره , ويخرج الضعيف والموضوع , فما بال التشدُّد لا يأتي إلا في فضائل معاوية ؟!
3- قوله : « إن عليًّا وصيٌّ » . أي : أوصى النبيُّ ^ بالخلافة إليه من بعده .
قال الذهبي في ترجمته من « الميزان » ( 3 / 608 ) : « ومن شقاشقه قوله : ... , وقوله : إن عليًّا وصيٌّ » .
وقال ابن الجزري في « غاية النهاية » ( 2 / 185 ) : « ومما انتُـقِد عليه قوله : ... وقوله : إن عليًّا وصيٌّ » . ثم قال : « وأما قوله : إن عليًّا رضي الله عنه وصيٌّ , فهو من زلَّاته , فإنه لا يجهل أن هذا غير صحيح , لكنه كان شيعيًّا مع حبِّه للشيخين رضي الله عنهما » .
والقول بذلك موطِّئٌ للقول بالإمامة , إن لم يكن إيَّاه , وهي أصل دين الشيعة .
4- إنشاده مرثـيَّـةً في مقتل الحسين رضي الله عنه , في خبرٍ رواه المزيُّ في
« تهذيب الكمال » ( 6 / 448 ) , وانظر : « البداية والنهاية » ( 9 / 243 ) . وله فيه تصنيفٌ مستقل , انظر : « المستدرك » ( 3 / 177 ) .
5- ترجمة الشيعة له في كتبهم . انظر : « أعيان الشيعة » للعاملي ( 9 /391 ) ,
و « قاموس الرجال » للتستري ( 9 / 386 ) , و « مستدركات علم رجال الحديث » للشاهرودي ( 7 / 170 ) .
الثالث : تحرير القول في درجة تشيُّـعه .
أما الزعم بأنه رافضي , فأبعدُ شيء عن الحق , وأدناه إلى البغي , ولا دليل يدلُّ عليه , ولا بيِّـنة تشفعُ له , بل الدلائلُ تنفيه , والبراهينُ تجحده .
وقد تعقبه الذهبيُّ بقوله : « كلا , ليس هو رافضيًّا ، بلى يتشيع » , وقال : « كان من بحور العلم على تشيُّعٍ قليلٍ فيه » , وقال : « تشيُّعه خفيف » . « السير » ( 17 / 165 , 174 , 16 / 358 ) .
وقال : « أما انحرافه عن خصوم عليٍّ فظاهر ، وأما أمر الشيخين فمعظِّمٌ لهما بكلِّ حال , فهو شيعيٌّ لا رافضي » . « التذكرة » ( 1045 ) .
وقال : « الله يحب الإنصاف ، ما الرجلُ برافضي ، بل شيعيٌّ فقط » , وقال : « هو شيعيٌّ مشهورٌ بذلك , من غير تعرُّضٍ للشيخين » . « الميزان » ( 3 / 608 ) .
وقال : «كلَّا , ما كان الرجل رافضيًّا , بل كان شيعيًّا ينال من الذين حاربوا عليًّا رضي الله عنه , ونحن نترضَّىٰ عن الطائفتين , ونحبُّ عليًّا أكثر من خصومه » . « المعجم المختص بالمحدثين » ( 303 ) .
وقال : « وكان فيه تشيُّـعٌ وحطٌّ على معاوية » . « العبر » ( 3 / 91 ) .
أما المعلمي , فعلَّق على عبارة أبي إسماعيل تعليقًا طريفًا , فقال : « وتذكِّرني هذه الكلمة ما حكوه أن الصاحبَ ابن عبَّـاد كتب إلى قاضي قُم :
أيها القاضي بِـقُم قد عزلناك فـقُم
فقال القاضي : ما عزلتني إلا هذه السَّجعة !! » . « التنكيل » ( 1 / 455 ) .
قلت : وما هذا من أبي إسماعيل بمستغرب , فإنه يقدحُ بأدنىٰ شيءٍ ينكره من مواضع النزاع , كما قال ابن رجب في « ذيل طبقات الحنابلة » ( 1 / 28 ) , فكيف بمواضع الوفاق ؟!
ولا تلتفت إلى زعم السبكي أن طعن أبي إسماعيل وابن طاهر في الحاكم بسبب أشعريَّـته , فلو قدر السبكيُّ لجعل الشافعية كلهم أشاعرةً ضربة لازب !
ولنـترك لأبي عبد الله الحاكم هَـتْـك هذه الأخلوقة , من كتبه :
ففي « المستدرك » ( 3 / 145 ): باب « ذكر البيان الواضح أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه نفىٰ من خواصِّ أوليائه جماعةً , وهَجَـرَهم ؛ لذكرهم أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم بما ليسوا له بأهلٍ , وسبِّهم غيـرَهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , حتى فارقوه وتوجَّهوا إلى حروراء , منهم : عبد الله بن الكواء اليشكري , وشبيب بن ربعي التميمي » .
ثم أسند الأثر الدالَّ على ذلك , وصحَّح إسناده .
وافتتح كتاب معرفة الصحابة من « المستدرك » بمناقب أبي بكر رضي الله عنه , وأخرج فيها أكثر من ستين حديثًا ( 3 / 61 – 79 ) .
ثم عقد بابًا , فقال : « ذكر الروايات الصحيحة عن الصحابة رضي الله عنهم بإجماعهم في مخاطبتهم إياه بيا خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم » .
ثم شرع في مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه , فخرَّج فيها أكثر من ثلاثين حديثًا ( 3 / 80 – 90 ) , ثم ساق ما ورد في قصة مقتله رضي الله عنه , وما قيل فيه من الشعر .
ثم قال : « فضائل أمير المؤمنين ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه » وأورد في هذا الباب ( 3 / 95 – 100 ) ثمانية عشر حديثًا , ثم ذكر ما ورد من الأخبار في قصة مقتله رضي الله عنه ( 3 /100 – 107 ) , وقال في ( 3 / 103 ) : « قد ذكرت الأخبار المسانيد في هذا الباب في كتاب مقتل عثمان رضي الله عنه , فلم أستحسن ذكرها عن آخرها في هذا الموضع , فإن في هذا القدر كفاية , فأما الذي ادعته المبتدعة من معونة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب على قتله فإنه كذبٌ و زور , فقد تواترت الأخبار بخلافه » .
ثم شرع في مناقب علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم .
ثم قال في ( 3 /180 ) : « وقد أمليتُ ما أدَّى إليه اجتهادي من فضائل الخلفاء الأربعة , وأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله سلم , ما يصحُّ منها بالأسانيد » .
وفي كتابه « الأربعين » عقد بابًا لتفضيل أبي بكر وعمر وعثمان , واختصَّهم من بين الصحابة . انظر : « طبقات الشافعية » للسبكي ( 4 / 167 ) .
فماذا بقي للرافضة في باب الصحابة والإمامة من باطلٍ لم يمحقه ؟!
وقد أعلن رحمه الله تعالى براءته منهم بطعـنِـه فيهم وفي غلاة الشيعة , ونَـعْـتِهم بالـرَّفض والغلـوِّ , ووَصْفِهم برداءة المذهب , وعَـدِّهم من أهل البدع والأهواء !!
* قال في شيخه الحافظ أبي بكر أحمد بن محمد بن السَّري بن أبي دارم : « هو رافضيٌّ , غير ثقة » . انظر : « السير » ( 15 / 578 ) , و « الميزان » ( 1 / 139 ) .
* وقال في تليد بن سليمان المحاربي : « رديء المذهب » . « المدخل إلى الصحيح » ( 1 / 133 ) . وكان تليد شيعيًّا غاليًا يشتم عثمان , بل أبا بكر وعمر رضي الله عنهم , كما قال أبو داود . انظر : « سؤالات الآجري » ( 1871 ) . ومع هذا فقال عنه الإمام أحمد : « كان مذهبه التشيع » , ولم ير به بأسًا ! , كما في « العلل » رواية المروذي ( 189 ) , ونُقِل عنه تكذيبه في روايةٍ أخرى .
* وقال في أبي الجارود الأعمى زياد بن المنذر الكوفي : « رديء المذهب » .
« المدخل إلى الصحيح » ( 1 /150 ) . وإليه تنتسبُ الجارودية , شرُّ فرق الزيدية , وما أقربهم من الرافضة , ولذا قال عنه ابن حبان: « كان رافضيًّا » . انظر : « تهذيب الكمال » ( 9 / 519 , 520 ) , و « المجروحين » ( 1 / 306 ) .
* ولما ذكر رحمه الله في كتابه « المدخل إلى الإكليل » ( 119 ) الخلاف في قبول روايات « المبتدعة وأصحاب الأهواء » , مثَّل لهم بعبَّاد بن يعقوب الرواجني , وعبيد الله بن موسى العبسي ( وهما شيعيَّان غاليان متهمان بالرفض ) , وحريز بن عثمان ( وهو ناصبي ) , وغيرهم .
* وقال في عباد بن يعقوب الرواجني : « كان من الغالين في التشيُّع » .
« المدخل إلى الصحيح » ( 2 / 793 ) .
* وقال في الوليد بن عبد الله بن جميع : « في حديثه [ ما ] يدل على ما وراءه من الميل عن الطريق وغيره » . « المدخل إلى الصحيح » ( 2 / 753 , 693 ) . وهو كوفي , وقد وثقه جمهور الأئمة , ولم أر من وصمه بالتشيُّع - سوى ما أشار إليه الحاكم - إلا البزار , فقال في « المسند » ( 2800 ) : « كانت فيه شيعيةٌ شديدة , وقد احتمل أهل العلم حديثه » , وفي « التهذيب » عنه : « كان فيه تشيع » .
* وقال في يونس بن بكير : « إني قد تأملتُ كلَّ ما قيل فيه , فلم أجد أحدًا من أئمتنا استزاده ( كذا في المطبوعة , ولعل الصواب : ٱستزلَّه ) في حفظٍ أو إتقان , أو مخالفةٍ للثقات في رواياته , إلا لميله عن الطريق في تشيُّعه , وقد ٱحتُمِل مثلُ هذا الحال عن جماعةٍ من الكوفيين , فهو عندي من جملتهم » . « المدخل إلى الصحيح » ( 2 / 701 ) . ولم أر من اتهم يونس بالرفض , بل جمهور الأئمة على توثيقه , وإنما نقم عليه بعضهم التشيع والإرجاء , وقال الجوزجاني في « أحوال الرجال » ( 120 ) : « ينبغي أن يتثبت في أمره ؛ لميله عن الطريق » , وكأن الحاكم أخذ هذه العبارة عنه , وقد نقل عنه في « المدخل » ( 2 / 767 ) قوله في شيعيٍّ آخر , وهو خالد بن مخلد القطواني : « كان شتَّامًا , معلنًا بسوء مذهبه » .
أفيصحُّ بعد هذا أن يوصم بالـرَّفض ؟!
وكيف يكون رافضيًّا من أبلىٰ زهرة شبابه , وربيع كهولته , وهشيم شيخوخته في طلب سنة النبي ^ , وتدوينها , والذبِّ عنها , وتمييز صحيحها من سقيمها , والتصنيف في علومها , والدعوة إلى لزومها والعمل بها , فأصبح من فرسانها إذا ما رايةٌ رفعت لها ؟!
وكيف يكون رافضيًّا – صانه الله عن هذه الحماقة - وهو شافعيُّ المذهب , معتزٌّ بشافعيته , مصنِّـفٌ في مناقب إمامه ؟! أرافضيٌّ وشافعيّ ؟!
أما قول ابن طاهر : « كان شديدَ التعصُّب للشِّيعة في الباطن , وكان يُظْهِرُ التسنُّن في التقديم والخلافة » , فحسبُه أنْ أحال على غير مليء , واعتمد على مظنون , وما لناولباطن الرجل حتى نتولـَّجه , وهل من سبيلٍ إلى القطع بما فيه حتى نتكلَّف هذا التـقحُّم ؟! وما أمرنا الله بذلك , بل بأن نأخذ بظواهر الخلق ونكل سرائرهم إليه , عزَّ سلطانه .
بقي النظـرُ في القول بتشيُّعه , رحمه الله , وهو موضعٌ للتأمل فيه فسحة , وللاجتهاد مجال , فلنتصفَّح أدلته .
أما حديث الطير , فإنما يستقيم الاستدلال بتصحيحه له على تشيُّعه لو كان لم يصحِّح في الفضائل من الواهيات إلا هو أو ما كان من بابته , فكيف وقد صحَّح أحاديث واهيةً في فضائل أبي بكر وعمر وعثمان , وفي كتابه « أحاديث نحو المئة يشهد القلبُ ببطلانها , حديثُ الطير بالنسبة إليها سماء » كما يقول الذهبي , فما وجه ٱختصاص القدح بذاك الحديث ؟!
ثم إنه عاد وتبيَّن له وهاؤه , وحكم بعدم صحته , كما ثبت عنه بإسنادٍ صحيح . ولعله أنعم التدبر فيه غِـبَّ إنكار أهل الحديث عليه تصحيحه .
قال أبو عبد الرحمن الشاذْياخي : كنا في مجلس السيد أبي الحسن , فسئل أبو عبد الله الحاكم عن حديث الطير , فقال : « لا يصح , ولو صحَّ لما كان أحدٌ أفضل من عليٍّ بعد النبي ^ » . قال الذهبي : « هذه حكايةٌ قوية » . انظر : « السير » ( 17 /
168 , 169 ) , و « تاريخ الإسلام » ( 9 / 94 ) .
وهذا أشبه من أن يكون رأىٰ عدم ثبوته أولًا , ثم تغيَّر رأيه بعدُ فصحَّحه وأدخله في « المستدرك » , كما ذهب إلى ذلك الذهبي في « التذكرة » ( 1042 ) .
وقد ردَّ الذهبيُّ في « السير » ( 17 / 176 ) , و « تاريخ الإسلام » ( 9 / 99 ) روايةً منقطعةً , سلف ذكرها بألفاظها , وفيها أن الحاكم أمر بالضرب على هذا الحديث , وإخراجه من كتابه , بعد أن بلغه إنكار الدارقطني عليه استدراكه , وذلك أن الحاكم إنما صنف « المستدرك » في آخر حياته بعد موت الدارقطني بمدَّة , ثم إن الحديث لم يزل في الكتاب . وهو كما قال .
وجوَّز السبكي في « الطبقات » ( 4 / 169 ) أن يكون أخرجه من كتابه , وبقي في بعض النسخ .
أما جمعُه لطرقه , فعسى أن يكون للاعتبار والمعرفة , كما قال أبو موسى المديني , انظر : « منهاج السنة » ( 7 / 372 ) , و « نكت » الزركشي ( 1 / 328 ) , وتلك شريعةٌ مورودة , وقد جمع طرقه غير واحدٍ من الحفاظ , منهم : ابن جرير الطبري , والطبراني , وأبو نعيم , وابن مردويه , وأبو طاهر محمد بن أحمد بن علي بن حمدان , والذهبي , وغيرهم .
وبعد ذلك , ففي الحكم بوضع الحديث نزاع , والذهبيُّ على أنه يرىٰ ضعفه يجزم بأن مجموع طرقه يوجبُ أن يكون له أصلٌ , ويقول : « لم يثبت ، ولا أنا بالمعتقد بطلانه » . انظر : « السير » ( 13 / 233 ) , و « التذكرة » ( 1043 ) . فهذا مما يخففُ اللوم على الحاكم .
أما قوله عن الحديث : « لو صحَّ لما كان أحدٌ أفضل من عليٍّ بعد النبي ^ » , فإنما جاء عقب قوله : « لا يصح » , وكأن ذلك عنده نكارةٌ أوجبت ردَّه .
والحقُّ أن هذا المعنى المتوهَّم لا يستلزمه الحديث , بعد التسليم بصحَّته , ولو أفاده فله معارضٌ أقوىٰ منه يقضي على دلالته , ويقدَّم عليه , انظر : « منهاج السنة »
( 7 / 375 ) , ولهذا نظائر كثيرة .
فهذا أول الأدلة لم يتبين فيه وحده ما تتبرهنُ به الدعوىٰ .
أما موقفه من معاوية رضي الله عنه , فينبغي أن يُعْلم أول الأمر أن معاوية صحابيٌّ عدلٌ مأمونٌ عند أبي عبد الله الحاكم , لا مطمع إلى التشكيك في هذا أو النَّيل منه , وقد أخرج من طريقه نحو العشرين حديثًا في كتابه , وصحَّح أسانيدها وقبلها , ولم يتردَّد في ذلك طرفة عين .
أما امتناعه من التحديث بفضائله وقد طُلِبَ إليه , فلعله لم يجد فيها شيئًا يثبتُ بإسنادٍ يرتضيه , وهو من روىٰ عن إسحاق بن راهويه قوله : « لا يصحُّ عن النبي ^ في فضل معاوية بن أبي سفيان شيء » , كما تقدَّم , فلم تطب نفسُه بمخالفة ما يعلمه إرضاءً لبعض الغوغاء , ولو كان في قلبه حرجٌ منه لمحاربته عليًّا رضي الله عنهما لما عقد في كتاب معرفة الصحابة من « المستدرك » أبوابًا لمناقب طلحة والزبير وعائشة وعمرو بن العاص رضي الله عنهم !
وقد جرىٰ قريبٌ من هذا للإمام النسائي ؛ فإنه لما صنَّـف « فضائل الصحابة » قيل له : ألا تخرج فضائل معاوية رضي الله عنه ؟ فقال : أيَّ شئ أخرج ؟ حديث : « اللهم لا تُشْبِعْ بطنَه » ؟! . انظر : « السير » ( 14 / 129 ) .
أما ما نقله الذهبيُّ عنه من قوله : « إن عليًّا وصيٌّ » , فلم يسنده عنه , ولا نقله من كتابٍ سمَّـاه له , وما أدري أيُّ شيءٍ هذا , وكيف يقول مثله الحاكم وهو يعتقد صحَّة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان , ويروي الأحاديث ويصحِّحها في مناقبهم , ولا يتردَّد في العمل بأحاديثهم وأحاديث سواهم من الصحابة , وكلهم عطَّـل تلك الوصية المزعومة ؟!
فلا ريب في بطلان هذه النسبة , أو إحالة الكلمة عن وجهها لفظًا أو معنى .
نعم , قد أخرج في « المستدرك » ( 3 / 172 ) عن الحسن بن علي رضي الله عنهما في خطبةٍ له قوله : « أنا ابن الوصي » لكنه لم يصحِّحها , ولا علمنا أنه رضي هذه اللفظة .
أما إنشاده مرثيةً في مقتل الحسين رضي الله عنه , فتلك شكاةٌ ظاهرٌ عنه عارها , ولولا إشارةُ الحافظ ابن كثير رحمه الله إلى صلة ذلك بتشيُّعه بقوله في « البداية والنهاية » ( 9 / 243 ) : « وقد رثاه الناس بمراثٍ كثيرة , ومن أحسن ذلك ما أورده الحاكم أبو عبد الله النيسابوري , وكان فيه تشيُّع » ثم ساق الأبيات = لما ٱستسغتُ إيراده ضمن الدلائل , وإنما حمله عليه تهمةُ الحاكم بالتشيُّع , وإلا فليس هذا مما تـختصُّ به الشيعة , وما كانوا أولياءه , بل أهل السنة أولىٰ به , وقد رثاه منهم خلقٌ لا يحصون .
وكذلك هو القول في تصنيفه في مقتله رضي الله عنه ورفع درجته , وقد صنَّـف في تلك الفاجعة غير واحدٍ من أهل السنَّـة .
أما ذكر الشيعة له في تراجمهم , فلم يفعله إلا متأخروهم , وهم فيه عالةٌ على أهل السنة , وعنهم أخذوا وصفه بذلك , وليس عندهم علمٌ زائد بحاله , بل هو عامِّيٌّ باصطلاحهم , أي سُنِّي , وإنما أوردوه لتصنيفه في فضائل أهل البيت رضي الله عنهم , ولا ريب عندهم في سُنِّــيَّته . انظر : « الوضَّاعون وأحاديثهم من كتاب الغدير للأميني » ( 7 , 61 ) .
وبعد ؛ فقد تبين أن الإمام أبا عبد الله الحاكم رحمه الله معظِّمٌ للشيخين أبي بكر وعمر , رضي الله عنهما , معترفٌ بخلافتهما , ولم يأت عنه ما فيه نيلٌ منهما , أو تقديمٌ لعليٍّ عليهما , بل ولا على عثمان , وقد قدَّم في « المستدرك » ذكره عليه , وساق مناقبه قبله .
وصحَّح فيه ( 3 / 96 ) حديث عائشة رضي الله عنها , مع وهائه , قالت : « أول حجرٍ حمله النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم , ثم حمل أبو بكر , ثم حمل عمر حجرًا , ثم حمل عثمان حجرًا , فقلت : يا رسول الله , ألا ترى إلى هؤلاء كيف يساعدونك ؟ فقال : يا عائشة , هؤلاء الخلفاء من بعدي » , فمن يصحِّحُ هذا الحديث الذي هو كالنصِّ على خلافة هؤلاء الثلاثة , مع ما في تصحيحه من الاعتراض عليه , يُظَنُّ به أن يطوي قلبه على شيءٍ من البغض لهم ؟!
وصحَّح فيه ( 3 / 97 ) في فضائل عثمان قول النبي ^ : « لينهضْ كلُّ رجلٍ منكم إلى كفئه » , ثم نهض ^ إلى عثمان , فاعتنقه وقال : « أنت وليي في الدنيا والآخرة » , مع أن إسناده تالف .
انظر : « طبقات الشافعية » للسبكي ( 4 / 167 , 168 ) .
كما تبيَّن أنه سليم الصَّدر لصحابة النبي ^ ممَّن قاتل عليًّا رضي الله عنه , معترفٌ بعدالتهم , ناطقٌ بفضلهم , لا يطوي قلبه على غير ذلك .
وإذا علمتَ أن سبب شهرة نسبته إلى التشيُّع هو تلك الشُّبه التي بينَّا وهاءها , علمتَ ما في القطع بهاتيك النسبة من المجازفة .
ولو خرجتَ من تلك الشبهات بأن عنده ميلًا زائدًا إلى عليٍّ - رضي الله عنه - عن الميل المطلوب شرعًا , وأن إعراضه عن التحديث بفضائل معاوية رضي الله عنه هو لنبوِّ قلبه عنها , وقلتَ : إنه يَـبْـعُد أن يصير جميعُ من نسبه إلى التشيُّع إلى ظنٍّ لا حقيقة له = فاعلم أن ذلك – على فرض ثبوته - تشيُّـعٌ خفيفٌ جدًّا , لا يُـقْدَحُ به , ولا يغبِّر في وجه إمامته وفضله , وقد رأيتَ قوله في يونس بن بكير : « لم أجد أحدًا من أئمتنا ٱستزلَّه في حفظٍ أو إتقان , أو مخالفةٍ للثقات في رواياته , إلا لميله عن الطريق في تشيُّعه , وقد ٱحتُمِل مثل هذا الحال عن جماعةٍ من الكوفيين » .
وفيه يقول ابن تيمية : « لكن تشيُّعه وتشيُّع أمثاله من أهل العلم بالحديث , كالنسائي , وابن عبد البر , وأمثالهما , لا يبلغ إلى تفضيله على أبي بكر وعمر , فلا يُـعْرف في علماء الحديث من يفضِّله عليهما , بل غايةُ المتشيِّع منهم أن يفضِّله على عثمان , أو يحصل منه كلامٌ أو إعراضٌ عن ذكر محاسن مَنْ قاتله , ونحو ذلك » .
« منهاج السنة » ( 7 / 373 ) .
الرابع : أثر تشيُّـعه على أحكامه على الأحاديث .
لم أكن لأذكر هذا لولا قول السخاوي في « فتح المغيث » ( 1 / 40 , 41 ) عند حديثه عن تساهل الحاكم في « المستدرك » : « بإدخاله فيه عدَّة موضوعات , حمله على تصحيحها إما التعصُّب لما رُمِيَ به من التشيُّع , وإما غيره » .
وهو احتمالٌ باطل , وتساهله لا يختصُّ بباب , كما هو معلوم .
قال المعلمي : « لا أرى الذنب للتشيُّع , فإنه يتساهل في فضائل بقية الصحابة , كالشيخين وغيرهما » . « التنكيل » ( 1 / 457 ) .
انتهى..