هدوء النفس عند التحاور..


الشيخ أبو أويس مولاي رشيد الإدريسي


الأخ الكريم إذا جادلت عند الحاجة 1: فاجعل الحقَّ لك مقصداً، والحقيقة لك منْشداً، سواءٌ ألفيتها عندك أم عند غيرك، فإن ذلك لا يَضيرك.
قال الإمام الشافعي – رحمه الله –: " ما كلَّمت أحداً إلاَّ أحببت أن يُوفَّق ويُسدَّد ويُعان، ويكون عليه رعاية الله وحفظه، وما كلَّمت أحداً إلاَّ ولم أُبال يُبيِّنُ اللهُ الحقَّ على لساني أو لسانه " 2.

و المجادل الذي هذا جداله ، هو الذي قد صحَّ عقله واستقام حاله، وصفت نفسه، لكن الواقع حتى في مجالس بعض من تجمعهم الأصول الصحيحة فقدان روح الأخوة والمودة عند أي اختلاف، بل ربما يصل الحال إلى عدم النظر إلى الوشائج العامة التي تجمعهم والتي أولها: الآدمية ، وثانيها : الإسلام ، وثالثها : رحم العلم .
وقد قال من ذاق لذَّة العلم ومواصلة العلماء:
وقرابة الآداب تقْصر دونها****عند اللَّبيب قرابة الأرحام

فالملاحظ في كثير من المجالس التي تقام للكلام في مسألة علمية نوع تشويش يذهب بلب صاحبه وصفاء ذهنه، بحيث يكون ذلك من أعظم أسباب التعصب ومجانبة الحق والصدور عنه..، { وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي } 3...
فترى المرء ينهض لمجرد أن يعترض، مع أن " الانتهاض لمجرد الاعتراض من جملة الأمراض " 4.

فيا هذا تذكر أن " خير الألسن المخزون، وخير الكلام الموزون، فحدث _ إن حدثت _ بأفضل من الصمت، وزين حديثك بالوقار وحسن السمت، إن الطيش في الكلام يترجم عن خفة الأحلام، وما دخل الرفق في شيء إلا زانه وما زان المتكلم إلا الرزانة " 5.

واعلم يا رعاك الله أن اعتدال المزاج عند مجالس المباحثة خاصة سبب لحسن النظر، وتصور المسائل تصورا صحيحا، فإن النفوس إذا نفرت " عميت القلوب، وخمدت الخواطر، وانسدت أبواب الفوائد " 6.
ولذلك زجر الشرع عن القضاء حال الغضب، لأن الغضب وما في معناه يخرج عن حد الاعتدال فلا يحسن تصور الأمور على ما هي عليه.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله:" وهل يستريب عاقل في أن النبي عليه الصلاة والسلام لما قال : (لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان)، إنما كان ذلك لأن الغضب يشوش عليه قلبه وذهنه ويمنعه من كمال الفهم ويحول بينه وبين استيفاء النظر ويعمى عليه طريق العلم والقصد فمن قصر النهي على الغضب وحده دون الهم المزعج، والخوف المقلق، والجوع والظمأ الشديد، وشغل القلب المانع من الفهم فقد قل فقهه وفهمه" 7.

فالكيس إذن لا يحاور" في حال الجوع والعطش، ولا في حال الخوف والغضب، ولا في حال يتغير فيها عن طبعه، ولا يتكلم في مجلس تأخذه فيه هيبة، ولا بحضرة من يزري بكلامه، لأن ذلك كله يشغل الخاطر ويقطع المادة " 8.
فالحرص الحرص على هدوء النفس عند الحوار والجدال ، فإن ذلك من أسباب الإصابة في الأقوال والفعال، والعرب كانت تقول:" قبل الرمي يراش السهم"، أي: هيئ الأمر وأعده قبل حاجتك إليه 9.

قال الخطيب البغدادي رحمه الله في ذكر آداب الجدل والمناظرة:" ويستشعر في نفسه الوقار، ويستعمل الهدوء، وحسن السمت، وطول الصمت إلا عند الحاجة" 10.
فـقد قيل: " قل أن يصح رأي مع فورة طبع، فوجب التوقف إلى حين الاعتدال" 11.

إذا ما كنت ذا فضل وعلم****بما اختلف الأوائل والأواخر
فناظر من تناظر في سكون****حليما لا تلح ولا تكابر
يفيدك ما استفاد بلا امتنان****من النكت اللطيفة والنوادر
وإياك اللجوج ومن يرائي**** بأني قد غلبت ومن يفاخر
فإن الشر في جنبات هذا****يمني بالتقاطع والتدابر
نعم، العلم يحتاج إلى حرقة تجمع أطراف الفكر، لكنها حرقة نور لا حرقة نار، وملاك ذلك الإنصاف.
قال ابن عزوز المالكي رحمه الله:" فإن المحققين ما نالوا حقائق العلوم إلا بالشوق إليها والنهمة فيها بحرقة تجمع أطراف الفكر إلى ما هو بصدده، وهي حرقة نور لا حرقة نار، وخصلة الإنصاف ملاك الأمر كله" 12.

فالحق وإن كان ثقيلا فإنه يستطاب للنفس إذا هذبت وعليه فـ " قولهم: ( الحق مر) فهو باعتبار من لم تتهذب نفسه، ولم يزل مرضه.
فمن يك ذا فم مر مريض****يجد مرا به الماء الزلالا
فأما من كمل فإنه يستطيب الحق وإن كان ثقيلا، كما قال عليه الصلاة والسلام (وجعل قرة عيني في الصلاة)، ومن أصلح خلقه وهذب نفسه فقد فاز أعظم المآلين" 13.
فالقضية إذن أخلاقية تربوية، فـ " بالخلق الحسن وطمأنينة القلب وراحته يتمكن من معرفة العلوم التي سعى لإدراكها، والمعارف التي يفكر في تحصيلها وبه يتمكن المناظر والمخاصم من إبداء حجته، وفهم حجة صاحبه، ويسترشد بذلك إلى الصواب قولا وعملا....
وبالخلق الحسن يسلم العبد من مضار العجلة والطيش، لرزانته وصبره ونظره لكل ما يمكن من الاحتمالات، وتجنب ما يخشى ضرره...
وإن حسن الخلق ليدعو إلى صفة الإنصاف، فإن صاحب الخلق الحسن يسلم غالبا من الانتصار لنفسه، والتعصب لقوله، لأن الانتصار للنفس والتعصب يحمل على الإعساف، وعدم الإنصاف" 14.
فهدئ أيها المحاور من روعك، واترك الشغب عند الجدال مع إخوتك فإن " من خاض في الشغب تعوده، ومن تعوده حرم الإصابة واستروح إليه، ومن عرف به سقط سقوط الذرة " 15.
فجادل بالتي هي أحسن كما أمرك ربك، وأصلح من حالك فإن " لسان الحال أبلغ من لسان المقال " 16، فكيف إذا اجتمعا ؟.
فـ" الجدال فيه مدافعة ومغاضبة، فيحتاج أن يكون بالتي هي أحسن حتى يصلح ما فيه من الممانعة والمدافعة، والموعظة لا تدافع كما يدافع المجادل" 17.
أما من لم يكن على بصيرة من رأيه، ولا حسن في مجادلته، ولا هدوء في حاله فإنه ينزعج في محاورته، ويطيش فيلفظ بالكلام دون قيده ولا زمامه..، فيظن أن السبق قد حازه، والفضل قد ناله، والأمر على خلاف ما وسوس له، والعرب تقول:" عند النطاح يغلب الكبش الأجم"، لأنه فعل ذلك من غير عدة هيأها ! 18.
" فالمناظرة حيث وضعت فإنها وضعت لاستخراج حكم الله في الحادثة، فاعتبر لها اعتدال الطبع " 19
فيا أيها المحاور حتى لا تكون ممن ينتهض لمجرد أن يعترض فعليك مع علم العليم التحلي بخلق الحليم، فـ" أحسن شيء كلام رقيق، يستخرج من بحر عميق على لسان رجل رفيق" 20.
ومن اللطائف عند هذا المقام ما حث عليه الشرع الحكيم، ويحمل عليه الذوق السليم: التبسم مع المخالف إذا كان يرجى معه تحقيق التآلف حتى وصف الموفق ابن قدامة رحمه الله بأنه كان لا يناظر أحدا إلا وهو يتبسم، حتى قال بعض الناس: " هذا الشيخ يقتل خصمه بتبسمه " 21.
فـ " كن مع خصمك مستبشرا متبسما غير عبوس، فتكون أنت وخصمك عند ذلك عن دواعي الغضب والضجر أبعد " 22.

فهدوء النفس إذن في هذا المجال يعكس عقلا متزنا، وفكرا منتظما، وحجة وموضوعية، كالبحر تجد الصخب والضجيج على الشاطئ وعند الصخور، حيث الماء ضحل لا جواهر فيه ولا درر، وتجد الهدوء لدى الماء الأعمق، حيث نفائس البحر وكنوزه.
أرى البحر حيث العمق والدر هادئا****ويلقى ضجيج البحر عند السواحل
فكن هادئا طبعا تكن ذا مهابة****ولا ترفعن الصوت عند التجادل
......................
1. قيد الأمر بالحاجة لأن الجدل " لا يدعى به، بل هو من باب دفع الصائل، فإذا عارض الحق معارض جودل بالتي أحسن " الرد على المنطقيين لابن تيمية رحمه الله 468.
2. الفقيه والمتفقه للخطيب رحمه الله 2/49.
3. فالإنسان كإنسان عرضة للخطأ والزلل، عرضة أن يستفز بكلام أو تصرف..ولكن العبرة بالغالب فتنبه.
4. قالها السراج البلقيني رحمه الله في محاسن الاصطلاح 176.
5. من قالات الزمخشري رحمه الله انظر أطواق الذهب 79.
6. قالها الإمام ابن عقيل رحمه الله كما في الواضح في أصول الفقه 1/528.
7. إعلام الموقعين 1/217.
8. من قالات أبي الوليد الباجي رحمه الله كما في المنهاج بترتيب الحجاج 85.
9. الأمثال لأبي عبيد رحمه الله 215.
10. الفقيه والمتفقه للخطيب رحمه الله 2/27.
11. قالها ابن عقيل رحمه الله انظر الآداب الشرعية لابن مفلح رحمه الله 65 مهذبه.
12. هيئة الناسك 53.
13. الذريعة إلى مكارم الشريعة 126.
14. الفتاوي السعدية 464_465.
15. قاله ابن مفلح رحمه الله انظر أصول الفقه 3/ 1424.
16. الجامع لأحكام القرآن 9/148.
17. الرد على المنطقيين لابن تيمية رحمه الله 468.
18. الأمثال لأبي عبيد رحمه الله 215.
19. كتاب الجدل على طريقة الفقهاء لابن عقيل رحمه الله 244.
20. قاله يحيى بن معاذ رحمه الله انظر بهجة المجالس للأثري.
21. الذيل على طبقات الحنابلة 2/137.
22. كما قال الجويني رحمه الله انظر الكافية في الجدل 532.

أبو أويس الإدريسي.