الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد :
إن من مميزات هذا القرن ، من جهة المسائل الفقهية : ظهور الجدل والتأليف في مسألة كشف وجه المرأة . وهذا بعكس القرون السابقة ، حيث انحصر البحث في بطون الكتب الفقهية ، والحديثية ، والتفاسير . لم تكن جدلا في المنتديات ، ولا دعوة على المنابر ، ولم تؤلف فيها مؤلفات مستقلة ، كلا ، بل كان العالم يعرض رأيه فيها ، ثم يمضي لغيرها ، دون إغراق في مناقشة المخالف ، أو تعمق وفحص ، وكان العلماء فيها على قولين :
الأول : إيجاب التغطية على جميع النساء ، بما فيهن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عن أزواجه .
الثاني : استحباب التغطية على جميع النساء ، حاشا الأزواج رضوان الله عليهن ، فعليهن التغطية .
وبهذا يعلم اتفاقهم في شئ ، واختلافهم في شئ :
اتفقوا على وجوب التغطية في حق الأزواج ، فكان هذا إجماعا .
واختلفوا في حق عموم النساء ، بين موجب ومستحب ، فكان هذا خلافا .
وأهم ما يجب ملاحظته في مذهب المستحبين : أن قولهم تضمن أمرين مهيمن هما :
الأول : استحبابهم التغطية ؛ وذلك يعني أفضليتها على الكشف ، فحكم الاستحباب فوق حكم المباح ، في المباح : يستوي الفعل والترك . لكن في الاستحباب : يفضل فعل المستحب .
الثاني : اشتراطهم لجواز الكشف شرطا هو : أمن الفتنة . والفتنة هي : حسن المرأة ، وصغر سنها ( أن تكون شابة ) ، وكثرة الفساق . فمتى وجدت إحداهما فالواجب التغطية .
وبهذا يعلم أن تجويزهم الكشف مقيد غير مطلق ؛ مقيد بشرط أمن الفتنة ، ومقيد بأفضلية التغطية . وهذا ما لم يلحظه الداعون للكشف اليوم ، وهم يستندون في دعوتهم إلى هؤلاء العلماء !!
وقد التزم المستحبون ذلك الشرط ، وذلك التفضيل ، فانعكس على مواقفهم :
- فأما الشرط ، فالتزامهم به ، أدى بهم لموافقة الموجبين في بعض الأحوال فأوجبوا التغطية حال الفتنة ، فنتج من ذلك : حصول الإجماع على التغطية حال الفتنة . فالموجبون أوجبوها في كل حال ، والمستحبون أوجبوها حال الفتنة ، فصح إجماعهم على التغطية حال الفتنة ؛ لأنهم جميعا متفقون على هذا الحكم في هذا الحال . هذا بالأصل ( أي الموجب )،وهذا بالشرط (أي المستحب ) .
وأما التفضيل ، فالتزامهم به منعهم من السعي في نشر مذهبهم ، والدعوة إليه ، وحمل النساء عليه ؛ ولأجله لم يكتبوا مؤلفات مستقلة تنصر القول بالكشف . فما كان لهم استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير !! .. ترتب على ذلك أثر مهم هو : إجماع عملي . تمثل في منع خروج النساء سافرات ، فلم يكن لاختلافهم العلمي النظري أثر في واقع الحال .. وهذا ما لم يلحظه الداعون للكشف اليوم ، وهم يستندون في دعوتهم إلى هؤلاء العلماء !!! .
فملخص أقوالهم :
1 – ثلاث إجماعات : إجماع على التغطية في حق أزواج النبي صلى الله عليه وسلم . وإجماع على التغطية حال الفتنة . وإجماع عملي في منع خروج النساء سافرات .
2 – إيجاب على الجميع ، بما فيهن أزواج النبي ، في كل حال .
3 – استحباب على الجميع دون الأزواج ، مقيد بشرط أمن الفتنة ، ومقيد بالأفضلية .
هذه المذاهب في هذه المسألة وهكذا مرت بينهم في تلك القرون : خلاف نظري ، يمحوه اتفاق عملي . فانعكس على أحوال المسلمات ، فلم تكن النساء يخرجن سافرات الوجوه ، كاشفات الخدود ، طيلة ثلاثة عشر قرنا ، عمر الخلافة الإسلامية ، حكى ذلك وأثبته جمع من العلماء ، منهم :
1 – أبو حامد الغزالي : وقد عاش في القرن الخامس (توفي عام 505 هـ )، في الشام والعراق ، الذي قال في كتابه : إحياء علوم الدين : (( ولم يزل الرجال على ممر الزمان مكشوفي الوجوه ، والنساء يخرجن منتقبات )) .
2 – الإمام النووي ، وقد عاش في القرن السابع حيث نقل في كتابه روضة الطالبين الاتفاق على ذلك ، فقال في حكم النظر إلى المرأة : ( والثاني : يحرم ، قاله الاصطخري وأبو علي الطبري ، واختاره الشيخ أبو محمد ، والإمام ، وبه قطع صاحب المهذب والروياني ، ووجهه الإمام باتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات ، وبأن النظر مظنة الفتنة ، وهو محرك للشهوة ، فاللائق بمحاسن الشرع ، سد الباب والإعراض عن تفاصيل الأحوال ، كالخلوة بالأجنبية )) .
3 – أبو حيان الأندلسي المفسر اللغوي ، عاش في القرن الثامن ، قال في تفسيره ( البحر المحيط ) : وكذا عادة بلاد الأندلس ، لا يظهر من المرأة إلا عينها الواحدة ) .
4 – ابن حجر العسقلاني ، وقد عاش في القرن التاسع ، قال في الفتح : استمرار العمل على جواز خروج النساء إلى المساجد ، والأسواق ، والأسفار منتقبات ؛ لئلا يراهن الرجال ) .
5 – ابن رسلان ، الذي حكى : اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه ، لا سيما عند كثرة الفساق ) .
و هكذا كان الحال في بدايات القرن الأخير ، فقد ظهر التصوير قبل مائة وخمسين عاما ، تقريبا ، وصور المصورون أحوال كثير من البلاد الإسلامية ، منذ مائة عام ، وزيادة ، وفيها ما يحكي واقع حال النساء في بلاد الإسلام : تركستان ، والهند ، وأفغانستان ، وإيران ، والعراق ، وتركيا ، والشام ، والحجاز ، واليمن ، ومصر ، والمغرب العربي . حيث الجميع محجبات الوجوه والأبدان حجابا كاملا سابغا ، حتى في المناطق الإسلامية النائية ، كجزيرة زنجبار في جنوبي إفريقيا ، في المحيط الهندي ، ... وعندنا شاهد في هذا العصر المرأة الأفغانية . فحجابها السابغ الذي يغطي جميع بدنها ، حتى وجهها ، قريب إلى حد كبير مما كان عليه النساء في سائر البلدان . فهذا الحال أشهر من يستدل له ، فالصور أدلة يقينية ، فقد ظلت المرأة متمسكة بهذا الحجاب الكامل إلى عهد قريب ، ولم يظهر السفور إلا بعد موجات الاستعمار والتغريب ، حيث كان من أولويات المستعمر :
- نزع حجاب المرأة .
- تعطيل العمل بالشريعة الإسلامية .
وقد اتخذ لتحقيق هذين الهدفين طريقين : القوة ، والشبهة . والأخطر طريق الشبهة .
لقد ظهر من يدعو وينادي بالسفور ، من على المنابر ، والصحف ، والكتب ، باعتبار أن كشف الوجه مسألة خلافية ، حيث نظروا في تراث الإسلام ، فتتبعوا مسائل الخلاف ، وأفادوا منها في تأييد وإسناد دعواهم . فكانوا شبها بالمستشرقين ، والفرق أن المستشرقين بحثوا ، وفتشوا للطعن في الإسلام نفسه ، وهؤلاء بحثوا وفتشوا للتشكيك في أحكام مستقرة ، جرى عليها العمل ، من ذلك حجاب المرأة ، وبخاصة كشف الوجه .
فوجدوا لطائفة من العلماء أقوالا تجيزه ، ولا تحرمه ، لطن بشرط أمن الفتنة .
فأخذوا أقوالهم ، وتركوا شروطهم !! كما أخذوا قولهم بالجواز ، وتركوا قولهم بالاستحباب .
ونسبوا قولهم الجديد ، المحدث ، في جواز كشف الوجه مطلقا ، من غير قيد بشرط ، ولا قيد بأفضلية إلى هؤلاء العلماء !! فلم يحفظوا أمانة الأداء ، ولم يحرروا نسبة الأقوال ، ثم زعموا أنه قول جماهير العلماء !! .
ثم إنهم ربطوا بين السفور والتقدم ، وزعموا أن سبب انحطاط الأمة ، إنما كان باحتجاب المرأة ، وبعدها عن ميدان الرجال . وسمع لهم من سمع ، وانساق كثير ن المسلمين لهذه الأفكار ، لانتفاء الحصانة ، وضعف القناعة ، فتمثلوها ، وطبقوها ، فحدث في تاريخ الإسلام حدث غير سابق ، غريب كل الغربة عن أخلاق المسلمين ، حيث خرجت المرأة المسلمة سافرة ، تتشبه في لباسها بالكافرة .
صارت المرأة في الصورة التي أرادها المتحررون ، ومرت عقود ، وشارف قرن على الأفول ، كن تلك البلدان المتحررة ما زالت من دول العالم الثالث ، فأين التقدم الذي يجئ مع كشف الوجه .
والدعوات نفسها تعاد في مأرز الإسلام ، ومأوى الإيمان من دون اعتبار .
إن أخطر ما في الأمر هو تبني مذهب الكشف طائفة من المنتسبين للتيار الإسلامي ممن كانوا يعارضون هذا المذهب !! .
عبدالعزيز بن محمد السريهيد
من كتاب الدلالة المحكمة لآيات الحجاب على غطاء وجه المرأة .
لفضيلة الدكتور : لطف الله خوجه .
الاستاذ المساعد بقسم العقيدة بجامعة أم القرى بمكة المكرمة .