بادئ ذي بدء لعل ناظرا في هذه المقالة ينفر من عنوانها ويستوحش من محتواها ويربأ برجال الحسبة عن الخطأ ، فكثير من الناس -وللأسف بعض الخاصة من المثقفين وطلبة العلوم الشرعية - لا يميزون في نقدهم بين المبدأ وصاحبه أو بين الفعل وفاعله ؛ أو بعبارة أخرى بين الأفكار والرجال والأحداث ، وإن ادعوا ذلك بالأقوال فإنها تكاد تكون شبه معدومة بالأفعال ، فإننا نجد أحيانا أن الحقيقة قد يقولها من لا يبحث عنها وأن الباطل قد يتلبس به من هو من أكثر الناس تنفيرا عنه، وقديما قال معاذ بن جبل رضي الله عنه : اقبلوا الحق ممن جاء به ولو كان كافرا ! قالوا: أما المسلم فقد عرفنا ولكن كيف نقبله من الكافر ؟ قال معاذ : إن على الحق نورا .
إذا كان ذلك كذلك فلماذا نمتنع من قبول صواب المخالف لنا في الوجهة والمشرب ! وقد أخبرنا معاذ رضي الله عنه أن على الحق نورا إلا أن الظلام الذي نراه أو نصنعه حول المخالف يجعلنا لا نراه ، فإذا أردنا – وكنا صادقين مع أنفسنا - أن نرى هذا النور فلابد من أن نفرق بين القائل وقوله ورأي الراوي وروايته ، ومن جهة أخرى لا يمنعنا خطأ المصلح من أن نقول له أخطأت؛ ولا يعتبر هذا تجنيا على الحق ولا زراية بأهل الصلاح ولا تشويها لسمعة أهل الخير كما أنه في الوقت ذاته لا يعتبر إعانة لأهل الباطل على أهل الحق . وقد رد الخطيب البغدادي رحمه الله قول بعض أهل العلم حين اعتذر عن بيان بعض أخطاء أحد العلماء بقوله : أخشى أن يسقط أمام الناس !. فعلق الخطيب على ذلك : لكن حراسة العلم أولى من حراسة العالم ! وهاهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم قادة الأنام ومعادن العلم وينابيع الحكمة وأولى البشر بكل فضيلة وأقربهم من التوفيق والعصمة ما منهم إلا وقد بدا منه هفوة أو وقع في زلة وقد رفع الرسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وتبرأ أمام الناس من قتل خالد بن الوليد رضي الله عنه لأسرى بني جذيمة ، وقد ضرب عمر رضي الله عنه بالدرة على رأس عمرو بن العاص وقال للمصري والله لولا صلعة أبيه لما تجرأ عليك ابنه !. وما كان هذا تقليلا من شأن الأمراء ولا تنقصا من أقدار ذوي الهيئات أمام العامة.
على أننا لا نقول أن رجال الهيئة قد وقعوا في الطوام أو ارتكبوا العظائم ، بل لو انتقلنا إلى غيرهم من أجهزة الدولة الميدانية لوجدنا الأعين تطرف على الأجذاع ولكن زلة المتدين يضرب لها الطبل ! وهذا الإسراف في الخصومة والظلم في المعارضة من بعض وسائل الإعلام لا يجوز أن يقابل بمثله من قبل رجال الحسبة أو المدافعين عنها إذ أنهم أولا وأخيرا رجال دين ودعاة إصلاح يرجون الله واليوم الآخر ومن أجل ذلك خاطبناهم بهذه المقالة وفي نفس الوقت لا نخليهم من المسئولية ولا ندعهم من العذل إذا هذا من النصيحة التي أوجبها الله على عامة المسلمين.
وما سبب هذه الهالة التي أهيلت على رجال الحسبة إلا لأمرين ؛ أولاهما شرف وظيفتهم وارتباطه بالدين مما جعل له هيبة في القلوب ومكانة في النفوس استغلها بعض رجال الحسبة في الاستطالة أحيانا بجهل وتعصب ؛ والتعصب يعمي ويصم ! ، و الأمر الثاني أنهم واجهوا أهواء الناس وشهواتهم ؛ والناس بطبعهم لا يحبون من يخالف هواهم في الجملة ، وهذا الأمر الثاني هو محل الإجلال والإكبار لرجال الحسبة إذا تأمل المنصف إذ ضحوا من أجل ذلك بأوقاتهم وراحة بالهم وبسمعتهم ؛ في حين رضي بعض العلماء – ويشاركهم المثقفون والكتاب - بالجلوس خلف المكاتب يعالجون الأوراق والكتب متخصصين في الإنكار الفكري كما يقال وينكرون من مكان بعيد وأنى لبعيد أن يدرك ما يدرك القريب وكما قلت أن الاحتساب عمل ميداني من لم يجرب مضائقه لم يكشف حقائقه ، وهذا الإنكار من مكان بعيد جعلهم لا يعرفون الأمر من جميع جوانبه في بعض الأحيان فينكرون برأيهم ما رآه الناس بعيونهم ثم إذا جاءوا يردون على مبالغات بعض الصحفيين أخذوا يتحدثون عن فضيلة الحسبة ومكانها في الدين وأنها سفينة النجاة وأنها الركن السادس من أركان الإسلام - وهذا كله حق والذين يجادلون في هذا المسلمات غير مخاطبون بهذه المقالة أصالة - وتجدهم متجاوزين الأخطاء الحقيقية الواقعة والغير مقصودة من بعض رجال الحسبة كالقبض على الظن والاشتباك على الشبهة ثم قد يتطور الأمر إلى العراك والملاسنة ثم إلى الدخول فيما يأنف منه الفضلاء ويترفع عنه العقلاء ويأباه الحر الرشيد ؛ ثم هم إذا جاءوا في معرض ذكر الإنجازات أو تبرير بعض التصرفات تراهم خلعوا مسوح الوعظ والإرشاد إلى المحامي الرسمي المعين من قبل أنفسهم قائلين بأن الهيئة جهاز من أجهزة الدولة له ما لها وعليه ما عليها ، وهذه العبارة الأخيرة تكون باللسان دون القلب أحيانا ؛ أفلا ترون بعض الذابين عن رجال الحسبة أخذوا يتهمون الناقدين لرجال الحسبة أنهم من الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ... الخ وهذا الاسلوب بالذات – وهو غير حميد إذا كان لإبطال الحق - يلقي على بعض الناس الذين لا يفرقون بين الدين والرجال عدم الخوض في هذه القضايا ولو حتى بالنصيحة ؛ هيبة من المساس بشعائر الدين ويجعلهم يظنون أن بعض تلك التصرفات جزء من الدين ، ومما يجرئ البعض الآخر الذين قل حظهم من التدين على الوقيعة في المتدينين عموما بل وربما في الشعيرة ذاتها إذا كان هذا هو الطريق الوحيد لنقد رجال الحسبة وهم أعني رجال الحسبة الذين اضطروهم إلى ذلك ،وهذا التعصب للرأي جعل بعض المواقع الإخبارية ذات الحضور الكبير تعمل تصويتا لا على تحجيم الهيئة بل على إلغاءها بالكلية مما يدل على أن الرحى الدائرة أصبحت تصفية حسابات وانتصار للذات ؛ هؤلاء باسم الدفاع الدين وأولئك باسم الدفاع عن المجتمع كأن الدين ما أتى إلا ليقيد المجتمع وكأن الاحتساب حكرا على فئة معينة هي فئة المعصومين . وما أولى رجال الحسبة والذابين عنهم بتدبر ما يقال عنهم سواء كان من إخوانهم الغيورين أو غيرهم فإن كان حقا تلقوه بقلب سليم وإن كان باطلا ردوه بالحجة والبرهان فإن ذلك أبلغ في النصرة وأوجب للعذر وأشفى للقلوب وقد يظن من لا يعلم من الناس أو لا يضع الأمور مواضعها أن هذا النقد مما يفرح به الأعداء ويهش له المتربصون ، وليس كما ظنوا إذ لا يصح ولا يجوز أن نتوانى عن النصيحة أو نداهن بها بحجة استغلال بعض الأطراف المعادية لها في التشنيع والسخرية فهؤلاء وللأسف لم يألوا جهدا في الإغماض عن الحسنات وتكبير الزلات مما يغنيهم عن الاستعانة بمثل هذه الانتقادات ولا أدل على ذلك ما فعله ذلك المذيع عندما أراد أن يعمل استفتاءا حيا على الهواء عن رجال الحسبة فكان أول سؤال بدأ به : ما هو أسوأ موقف مر معك من رجال الحسبة ؟. فهل رأيتم عمى بعد هذا العمى وهل سمعتم بخصومة مثل هذه الخصومة وليس هذا بغريب مع انقلاب الأحوال وتغير الزمان والله المستعان .