تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 1 من 1

الموضوع: ماذا قال العلامة شكيب أرسلان عندما رأى لأول مرة تاريخ بغداد

  1. #1

    افتراضي ماذا قال العلامة شكيب أرسلان عندما رأى لأول مرة تاريخ بغداد

    السلام عليكم
    تجد رأيه في مقاله المرفق
    مدينة السلام للأمير شكيب أرسلان
    مجلة الثقافة 5/4/1933
    تاريخ بغداد أو مدينة السلام للحافظ أبي بكر احمد بن علي الخطيب وضعه في أزهى عصور الإسلام منذ تأسيسها إلى وفاته عام 463
    يشتمل على وصفها وتخطيطها وتراجم من كان فيها من الخلفاء والملوك والأمراء والوزراء والأشراف والعلماء من جميع الطبقات. وقد ظهر منه عشرة مجلدات ولا يزال مجلدان تحت الطبع. وهو بأجمعه يأتي في 4800 صفحة طبع للمرة الأولى بنفقة مكتبة الخانجي بالقاهرة والمكتبة العربية ببغداد ومطبعة السعادة بجوار محافظة مصر سنة 1349 وفق سنة 1931.
    هذا الكتاب لا يوجد في أدباء العربية من لم يسمع به فهو من أشهر التواريخ وهو لبغداد كتاريخ ابن العساكر لدمشق. ولم أكن أطلعت عليه وإنما أهدانيه أحد أصدقائي من كبار العراقيين جزاه الله خيراً. فوقعت عليه وقوع الذباب على الحلوآء. وبدأت بدرس الجزء الأول منه فأعجبني جداً بيانه السهل الممتنع وهو في رواياته يعتمد على أسلوب علمائنا في العنعنة مع مزيد التحري. وهو أسلوب لا يقدر عاقل أن يطعن فيه لأن الرواية يجب للثقة بها الإطلاع على اسانيدها من كل الجهات وإلا فلا يكون التاريخ تاريخاً. وها نحن أولاء نرى علماء الإفرنجة يبالغون في التدقيق والتمحيص وقد يحررون عن واقعة واحدة كتاباً كثير الورق يبلغون فيه الأمد الأقصى من الأخذ والرد بتصفح وجوه الروايات ومقابلتها بعضها ببعض ويذكرون المصادر التي أخذوا عنها مع تبيين الكتاب والصفحة والسطر والطبعة أية سنة كانت وما أشبه ذلك. فمذهب العنعنة في الإسلام لا يؤتى ولا من جهة. وغاية ما يقول أنه يجوز للكتاب في حال اختصاره حذف أسانيده.
    وأما أهمية هذا الكتاب فهي على نسبة أهمية البلدة التي وضع لأجلها. فبغداد في الحقيقة تمثل مدينة الإسلام لأنها أكبر بلدة عمرها المسلمون بأيديهم وكانت حضارتها إسلامية من أولها إلى آخرها. ولم تبلغ بلدة في الإسلام ما بلغته دار السلام من عظمة وسعة وثروة ونعيم. وجميع مدن الإسلام التي اشتهرت في التاريخ كدمشق وحلب والقاهرة والقيروان وفاس وقرطبة والبصرة واصفهان وسمرقند وغيرها إنما تأتي رديفة لبغداد.
    ذكر الحافظ ابن الخطيب في الصفحة الأولى من الجزء الأول قال: أخبرنا عبد العزيز بن أبي الحسن القرميسيني قال سمعت عمر بن احمد بن عثمان يقول: سمعت أبا بكر النيسابوري يقول: سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول قال لي الشافعي: يا يونس دخلت بغداد؟ قال قلت: لا. قال: ما رأيت الدنيا.
    ليتأمل الإنسان أن قائل هذا القول هو الإمام الشافعي رضي الله عنه الذي لم يكن ممن تزدهيه الدنيا ولا ممن تسكره زينتها ولا ممن يأخذ بلبه زخرفها ولكنه برجاجة عقله كان في مقدمة الرجال الذين يقدرون الأمور أقدارها فهو يقول: أن من لم ير بغداد لم يعرف الدنيا. وحاشا أن يكون مثل الشافعي موصوفاً بالمبالغة فبغداد في عنجهية أمرها كانت المثل الأعلى للحضارة فمن لم يكن شاهدها لم يكن شاهد المثل الأعلى من العمران. ولا نظن أنه كان يوجد في العالم كله لا في العالم الإسلامي فقط بلدة تضارع بغداد في العظمة لعهد المنصور والمهدي والرشيد. فإن رومة في ذلك العصر كانت انحطت عن درجتها المعلومة وأنه لم يكن في أوربة لذلك العهد مدينة تساوي شطراً من بغداد فضلاً عن أن تعادل بغداد نفسها. نعم كانت القسطنطينية في ذلك العصر مدينة عظيمة وكانت وقتئذ عاصمة النصرانية بلا نزاع ولكنها لم تبلغ في العظمة والضخامة ما بلغته بغداد في القرنين الأولين من بنائها. فيمكننا أن نقول أن رئاسة حواضر الدنيا انتهت لبغداد لمدة قرنين أن لم يكن ثلاث. نعم لا نعلم درجة عظمة حواضر الصين والهند لذلك العهد إلا أننا نرجح أنه لم يكن منها ما يعادل بغداد في ذيك القرنين الثاني والثالث للهجرة ولو كانت ثمة مدن تعادل بغداد لكان انتشر خبرها وقيست إلى بغداد في عظمتها لأن العرب كانوا على اتصال مستمر بالهند والصين وكانت السفن تختلف بين سيراف وكنتون بالسهولة التي تختلف فيها الآن بين شربورغ ونيويورك أو سوثمبتون ونيويورك.
    فمم بعد أن تقرر في نظرنا أن بغداد كانت أعظم مدينة في العالم مدة قرنين أو ثلاثة بالأقل يجب أن نبحث في درجة عظمة بغداد وما كانت سعة رقعتها وما بلغه عدد السكان فيها وذلك بناء على الروايات المختلفة التي ساقها ابن الخطيب في هذا التاريخ الذي إن لم يعرف بغداد حق التعريف فلن يعرفه كتاب آخر.
    إننا لا نريد الآن أن نعيد روايات ابن الخطيب التي يمكن القارئ أن يطالعها في الكتاب نفسه. ولم نكن لنتوخى هذا البحث من أجل أن ننقل صفحات من تاريخ بغداد نقلاً. وإنما نريد أن ندقق في روايات ابن الخطيب ونزنها بمعيار العقل ونجتهد في تمييز ما يكون منها مبالغة أو مجازفة ما يمكن أن يكون حقاً، وبعبارة أخرى نريد أن نعرض هذا التاريخ على محك النقد، لا محل النقد الذي أولع به بعضهم من التشكيك في كل شيء ومن الاعتراض على كل شيء لكن محك المعقول السائغ الذي تزعن له أرباب العقول السليمة والمعارف الواسعة. قال ابن الخطيب لم يكن لبغداد في الدنيا نظير في جلالة قدرها وفخامة أمرها وكثرة دورها ومنازلها ودروبها وشعوبها ومحالها وأسواقها وسككها وأزقتها ومساجدها وحماماتها وطرزها وخاناتها وطيب هوائها وعذوبة مائها وبرود ظلالها وأفيائها واعتدال صيفها وشتائها وصحة ربيعها وخريفها وزيادة ما حصر من عدد سكانها وأكثر ما كانت عمارةً وأهلاً في أيام الرشيد إذ الدنيا قارة المضاجع دارّة المراضع خصيبة المراتع مورودة المشارع ثم حدثت بها الفتن وتتابعت على أهلها المحن فخرب عمرانها وانتقل قطانها إلا أنها كانت قبل وقتنا والسابق لعصرنا على ما بها من الاختلال والتناقض في جميع الأحوال مباينة لجميع الأمصار ومخالفة لسائر الديار. ثم قال نقلاً عن أبي الفضل أحمد بن أبي طاهر: أخذ الطول من الجانب الشرقي من بغداد لأبي احمد يعني الموفق بالله عند دخوله مدينة السلام فوجد مائتي حبل وخمسين حبلا وعرضه مائة وخمسة أحبل فتكون ستة وعشرين ألف جريب ومائتين وخمسين جريباً. ووجد الجانب الغربي طرله مائتان وخمسون حبلا أيضاً وعرضه سبعون حبلاً. يكون ذلك سبعة عشر ألف جريب. فالجميع من ذلك ثلاثة وأربعون ألف جريب وسبعمائة وخمسون جريباً من ذلك مقابر أربعة وسبعون جريباً انتهى.
    فلنعل الآن امتحاناً لهذا التعديل فنقول: المعول كله على معرفة مقدار هذا الجريب لأن الأجربة كسائر المقاييس كانت تختلف. وجاء في تاج العروس أنه يختلف البلدان كالرطل والمد والذراع ونحو ذلك وجاء فيه نقلاً عن قدامة الكاتب أن الجريب ثلاثة آلاف وستمائة ذراع. وجاء في تاج العروس أن الجريب مكيالل قدره أربعة أقفزة. وجاء في محل آخر أنه عشرة أقفزة لكل قفيز منها عشرة أعشار فالعشير جزء من مائة جزء من الجريب وهذه هي أيضاً عبارة لسان العرب. وأما الفقير فيقول في تاج العروس أنه مكيال معروف زهو ثمانية مكاكيك عند أهل العراق ومن الأرض قدر مائة وأربع وأربعين ذراع. ووجدت في بعض الكتب أن الجريب عشرة آلاف ذراع. ولكني أرى إذا جعلنا الجريب المقصود هنا عشرة آلاف ذراع وضربنا به الثلاثة والأربعين ألفاً والسبعمائة والخمسين جريباً التي هي مساحة بغداد في ذلك الوقت بحسب تاريخ ابن الخطيب بلغ ذلك مبالغ غير معقولة إذ إن كان الجريب عشرة آلاف ذراع تكون المساحة ثلاثة وأربعين مليوناً وسبعمائة وخمسين ألف ذراع مربع وهذا بعيد جداً هن العقل. فلذلك أخترنا التقويم الآخر وهو أن يكون القفيز مائة وأربعة وأربعين ذراعاً في تاج العروس والجريب عشرة أقفزة فيكون ألف وأربعمائة وأربعين ذراعاً. فإذا ضربنا ثلاثة وأربعين ألفاً وسبعمائة وخمسين جريباً بألف وأربعمائة وأربعين ذراعاً جاء ثلاثة وستون مليون ذراع مربع. فإذا أخرجنا ثلثها من أجل تكسير هذه المساحة على المتر بقي معنا اثنان وأربعون مليون متر مربع وهي مساحة تعادل ثمانية آلاف فدان بحيث يكون طول بغداد من ستة إلى سبعة كيلو مترات وعرضها من ستة إلى سبعة كيلو مترات أيضاً فهذا معقول وسائغ بل يجوز أن تكون رقعتها أوسع من هذا المقدار ذلك العقل، ولكن إن جعلنا الجريب عشرة آلاف ذراع مربع بل جعلناه ثلاثة آلاف وستمائة ذراع كان ذلك بعيد جداً عن العقل.
    أما الشيء الذي لا يتحمل وجوهاً وهو بعيد جداً عن العقل فهو رواية ابن الخطيب نقلاً عن محمد بن يحيى عن عدد الحمامات في بغداد قال: إن عدد الحمامات كان في ذلك الوقت في بغداد ستين ألف حمام وأقل ما يكون في كل حمام خمسة نفر حمامي وقيم وزبال ووقاد وسقاء يكون ذلك ثلثمائة ألف رجل.
    فهذا غير معقول وغير مقبول قولاً واحداً لأننا لا نستطيع أن نتصور مدينة عملت الحمامات فيها ثلثمائة ألف إذ لو قلنا بغداد كانت ثلاثة ملايين نسمة وجب أن يكون عملة الحمامات عشر أهلها. ولا يوجد بلدة في الدنيا مهما بلغ من حب أهلها للنظافة يكون عشر سكانها عملة حمامات. فلو قلنا أن بغداد كانت في لذلك العهد بقدر لو ندرة اليوم أي تسعة ملايين فيجب أن يكون عدد الحمامين فها واحداً من ثلاثين وهذا غير معقول أيضاً. كما أنه لم تبلغ بغداد في وقت من الأوقات درحة لو ندرة اليوم في عدد السكان، هكذا نظن.
    وأغرب منه قول ابن الخطيب نقلاً عن محمد ابن يحيى أنه يكون بإزاء كل حمام خمسة مساجد فيكون ذلك ثلثمائة ألف مسجد وتقدير ذلك أن يكون أقل ما يكون في كل مسجد خمس أنفس يكون ذلك ألف ألف وخمسمائة ألف إنسان. فهذه العبارة كلها غريبة أما أن يكون عدد أهل بغدد ألف ألف وخمسمائة ألف إنسان أي مليونا ونصف إنسان فهذا ليس بشيء ونحن نعتقد أنه كان في بغداد لذلك العهد أكثر من هذا العدد ونظن أن أهلها تجاوزا مليونين وثلاثة ولكن الغرابة في قوله أنه يكون بإزاء كل حمام خمسة مساجد ومجموع ذلك ثلثمائة ألف مسجد. فغير مقبول أصلاً أن يكون في بغداد يومئذ ثلثمائة ألف مسجد وأن قلنا أنه كان فيها ثلثمائة ألف مسجد لزم أن يكون عدد سكانها ثالثين مليوناً بالأقل هذا باعتبار مائة نسمة لكل مسجد. أما اعتبرنا مائتي نسمة لكل مسجد وجب أن يكون عدد سكان بغداد ستين مليوناً وهذا أيضاً خارج عن العقل. ولكن لم نفهم معنى قوله أن لكل مسجد خمسة أنفس، أن أراد بذلك عدد الخدمة فهذا معقول. ولكن إن أراد عدد المصلين فهذا غير معقول. لأنه قليل جداً ولا يعمل مسجد لأجل خمسة ولا لأجل خمسين ويظهر منه أنه يريد عدد الخدم وعليه يكون عدد خدمة المساجد في بغداد مليونا ونصف مليون أي ألف ألف وخمسمائة إنسان. فهذا يرده العقل بدون تردد فالمدينة التي فيها مليون ونصف رجل من خدمة المساجد لا بد أن تكون مشتملة بالأقل على مائة مليون نسمة. والحاصل أننا نستغرب لا هذا العدد بذاته فقط إذ الاستغراب هنا بديهي ولكننا نستغرب أيضاً نقل ابن الخطيب لروايات كهذه تنقص من قيمة التأليف. وهذه قضية النقل بدون تمحيص وكيفما أتفق هي أشد ما يأخذه الافرنج على العرب في هذا الباب. فإن المؤلف العربي يرى أن من الواجب عليه نقل كل خبر كما سمعه بدون تبديل ولا تعديل مهما كان سخيفاً أو غريباً وأحباناً بدون اعتراض تاركاً الحكم فيه للقارئ. ومن مؤلفي العرب من يحب التورع عن نقض الأخبار الغربية بحجة أن كل شيء في الدنيا ممكن وإن الله خرق القواعد. ومنهم من يقول: هذا شيء وجدناه هكذا فلا يجوز لنا أن نتفلسف فيه. وقد كان هذا المشرب عند كثير من مؤلفينا سبباً في مسير مبالغات العرب مثلاً سائراً عند الافرنج. فإذا أردت أن تنقل رواية عن كتاب عربي فيها شيء من العظمة بادرها العالم الافرنجي بالرد أو بالأقل بالتشكيك لأنه لا يتلقى رواية عربية لاسيما عن المقادير والكميات والكيفيات إلا بحذر عظيم. هذا الذي جره علينا مشرب هذا العدد الجم من مؤرخينا الذين أفرط بهم حب التقليد إلى درجة أنهم لا يحبون أن يغيروا ولا أن يبدلوا خبراً من الأخبار ولو كان من فم عجوز. وذلك بحجة أن هذا كله ممكن ولا شيء يعجز قدرة الله. ونسوا أن المستحيل عادة كالمستحيل عقلاً وأن وسق جميع هذه الأخبار في الكتب بدون تمحيص يجعل القراء في شبهة حتى في الصحيح منها. وقد جرت العادة أن التاجر الذي يبيع بضاعة مغشوشة يتحامى المشترون الشراء منه ولو كان عنه بضاعة جيدة. وأن الصيرفي الذي يتعاطى مسكوكات مزيفة تقل الثقة في مسكوكاته الصحيحة. وإني على ثقة بأن نقل ابن الخطيب لأخبار الحمامات والمساجد في بغداد بهذه المبالغات الخارقة للعادة سيفقد تاريخ بغداد كثيراً من نظر الناس مع أنه من التواريخ القيمة بدون شك.
    أن أول واضع لعلم النقد في التاريخ هو الفيلسوف الاجتماعي الأكبر عبد الرحمن ابن خلدون رحمه الله وهو الذي كان أول المنبهين على أغاليط المؤرخين والمنددين بمبالغاتهم لاسيما في ذكر الكميات والأعداد وهو الذي قال أنهم نقلوا المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً أو سميناً لم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار فضلوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط سيما في إحصاء الأعداد من الأموال والعساكر إذا عرضت في الحكايات إذ هي مظنة الكذب ومطية الهذر ولا بد من ردها إلى الأصول وعرضها على القواعد.
    وقال أيضاً وقد نجد الكافة من أهل العصر إذا أفاضوا في الحديث عن عساكر الدول التي لعهدهم أو قريباً منه وتفاوضوا في الأخبار عن جيوش المسلمين أو النصارى أو أخذوا في إحصاء أموال الجبايات وخراج السلطان ونفقات المترفين وبضائع الأغنياء الموسرين توغلوا في العدد وتجاوزا حدود العوائد وطاعوا أوساس الأغراب فإذا استكشفت أصحاب الدواوين عن عساكرهم واستنبطت أحوال أهل الثروة في بضائعهم وفوائدهم واستجلبت عوائد المترفين في نفقاتهم لم تجد معشار ما يعدونه وما ذلك إلا لولع الأنفس بالغرائب وسهولة التجاوز على اللسان والغفلة على المتعقب والمنتقد حتى لا يحاسب نفسه على خطأ ولا عمد ولا يطالها في الخبر بتوسط ولا عدالة ولا يرجعها إلى بحث وتفتيش فيرسل عنانه إلى آخره.
    وإني أرى ابن الخطيب صاحب تاريخ بغداد غير ناقل ما نقله على سبيل تصديقه لأنه قد سبق له ذكر الأحاديث النبوية التي رواها الرووان عن بناء بغداد ثم عن خرابها من قبيل: تبنى مدينة بين دجلة ودجيل والصراة وقطربل يجتمع فيها خزائن الأرض يخسف بها فهي أسرع ذهاباً في الأرض من الحديد أو الحديدة في الأرض الخوارة أو: يكون خسف بين دجلة ودجيل وقطربل والصراة بأمراء جبابرة يخسف الله بهم الأرض ولهي أسرع بهم هوياًّ من الوتد اليابس في الأرض الرطبة وغير ذلك من الأحاديث التي أملى فيها بضع عشرة صفحة مستقصياً أسانيدها وأنهى الأمر بتضعيف هذه الأحاديث وأحياناً تكذيب رواتها وبنقل كلام الأئمة الذين قالوا أنها من الموضوعات.
    أما من جهة عدد الحمامات والمساجد فكأن المؤلف لشدة إعجابه ببلدته لم يشأ أن يتحاشى نقل هذه المبالغات وإنما نقل بجانبها أخبار لم تبلغ هذه الدرجة من المبالغة وأخرى معتدلة ومقولة وترك التمييز للقارئ ويا ليته اقتصر على المعقول فكان انصح للكتاب وأحدى على الثقة به.
    حدث فقال نقلاً عن هلال ابن المحسن قال: كنت يوماً بحضرة جدي أبي اسحق إبراهيم بن هلال الصأبي في سنة ثلاث وثمانين وثلثمائة إذ دخل عليه أحد التجار الذين كانوا يغشونه ويخدمونه فقال له في عرض حديث حدثه به: قال لي أحد التجار أن ببغداد اليوم ثلاثة آلاف حمام. فقال له جدي: هذا سدس ما كنا عددناه وحصرناه. فقال له: كيف ذاك. فقال جدي أذكر وقد كتب ركن الدولة أبو الحسن بن بويه إلى الوزير أبي محمد المهلبي بما قال فيه: ذكر لنا كثرة المساجد والحمامات ببغداد واختلفت علنا فيها الأقاويل واحببنا أن نعرفها على حقيقة وتحصيل فتعرفنا الصحيح من ذلك. قال جدي: وأعطاني أبو محمد الكتاب وقال لي: امض إلى الأمير معز الدولة فاعرضه عليه واستأذنه فيه ففعلت. فقال له الأمير: إستعلم ذلك وعرفنيه. فتقدم أبو محمد المهلبي إلى أبي الحسن البادرجي - وهو صاحب المعونة - يعد المساجد والحمامات، قال جدي: فأما المساجد فلا أذكر ما قيل فيها كثرة، وأما الحمامات فكانت بضعة عشر ألف حمام. وعدت إلى معز الدولة وعرفته ذلك فقال اكتبوا في الحمامات بأنها أربعة آلاف. واستدللنا من قوله على إشفاقه وحسده إياه على بلد هذا عظمه وكبره. وأخذ أبو محمد وأخذنا نتعجب من كون الحمامات هذا القدر. وقد أحصيت في أيام المقتدر الله فكانت سبعة وعشرين ألف حمام. وليس بين الوقتين من التباعد ما يقضي هذا التفاوت. قال هلال: وقيل أنها كانت في أيام عضد الدولة خمسة آلاف حمام وكسراً.
    قلت أما زمان المقتدر فكان في عهد الثلثمائة بعد الهجرة فما بعد. وأما زمان عضد الدولة ين بويه فبدأ في بغداد سنة سبع وستين أو سبعين سنة. فيكون من العجب العجاب أنه في حقبة كهذه ينزل عدد الحمامات من سبعة وعشرين ألفاً إلى خمسة ألاف! ولا أزال أظن أن في قولهم كانت الحمامات في بغداد أيام المقتدر سبعة وعشرين ألف حمام مبالغة عظيمة. وكذلك عندي دليل آخر أقرب إلى العقل من هذا على وجود المبالغة في الخبر وهو قولهم أن الحمامات كانت في أيام الأمير معز الدولة بن بويه والوزير أبي محمد المهلبي بضعة عشر ألف حمام ثم قولهم أنها كانت في أيام عضد الدولة خمسة آلاف حمام وكسراً. فإن زمان سيف الدولة هو زمان الخليفة المطيع لله. وكانت وفاة معز الدولة سنة ست وخمسين وثلثمائة. وكانت وفاة عضد الدولة سنة اثنتين وسبعين وثلثمائة أي بين العهدين لا يوجد أكثر من ست عشرة سنة. فكيف يمكن في مدة قصيرة كهذه أن يتقلص العمران كل هذا التقلص ويتساقط عدد الحمامات من بضعة عشر ألفاً إلى خمسة آلاف وكسر؟ والأرجح عندي أن الحمامات كانت من أربعة إلى خمسة ألاف في العهدين. وليس بهذا عدد قليل لأننا لو جعلنا كل حمام لمائتي بيت كان مجموع البيوت مليون بيت. فإذا جعلنا كل بيت خمس أنفس كان مجموع سكان بغداد خمسة ملايين وهو أقصى ما يتصور لعدد سكان بغداد. وإن قلنا أنهم من شدة ولعهم بالاستحمام وانغماسهم في الترف كان الحمام الواحد لا يكفي إلا لمائة بيت وجب أن يكون في بغداد نصف مليون بيت أي مليونان ونصف مليون نسمة وهذا قريب للعقل أيضاً.
    ومما ذكر ابن الخطيب في تاريخ بغداد استدلالا على استبحار العمران فيها قوله: حدثني القاضي أبو القاسم التنوجي قال: أنبأنا أبو الحسن محمد بن صالح الهاشمي في سنة ستين وثلثمائة قال: أخبرني رجل يبيع سويق الحمص منفرداً به وأسماه لي ونسيته: أنه حصر ما يعمل في سوقه من هذا السويق كل سنة فكان مائة وأربعين كراًّ يكون حمصاً مائتين وثمانين كراًّ يخرج في كل سنة حتى لا يبقى منه شيء ويستأنف عمل ذلك للسنة الأخرى.
    قال: وسويق الحمص غير طيب وإنما يأكله المتحملون والضعفاء شهرين أو ثلاثة عند عدم الفواكه ومن لا يأكله من الناس أكثر. قال الشيخ أبو بكراي المؤرخ: لو طلب من هذا السويق اليوم في جانبي بغداد مكوك واحد ما وجد، انتهى.
    فلنمتحن هذا الخبر فنقول: أن الكر على إحدى الروايات ستة عشرة قنطاراً بالشامي فإذا كان مئتان وثمانون كرا كان مبلغها أربعة آلاف وأربعمائة وثمانين قنطاراً، فهذا ليس بشيء لمثل بغداد يقال أن فيها بضعة عشر ألف حمام بالأقل. ثم رأيت أن الكر ست أوقار حمار، وعليه يكون أقل من ستة عشر قنطاراً بالشامي إذا القنطار ما نعرفه اليوم. والأرجح عندي أن الكر هو ما ورد في تاج العروس أنه عند أهل العراق ستون قفيزاً والقفيز ثمانية مكاكيك والمكوك صاع ونصف فيكون الكر سبعمائة وعشرين صاعاً. على أنه جاء في التاج نقلاً عن الأزهري قال أن الكر اثنا عشر وشقاً كل وسق ستون صاعاً أو أربعون أردباً بحساب أهل مصر. فإذا كان الكر 480 أردباً فيكون مايتان وثمانون كرّاً عبارة عن ماية وعشرين ألف أردب وأربعمائة أردب وليس هذا بشيء يستبعده العقل على حاضرة الإسلام الكبرى. على أن في تاريخ بغداد للشيخ أبي بكر الخطيب فوائد كثيرة وأدلة واضحة على ما كانت عليه من التناهي في العمران، أهم ذلك ما رأيته من وصف الاستقبال الذي جرى لرسول ملك الروم في أيام المقتدر بالله مما يلزم أن يفرد بمقالة خاصة. وربما تترجم هذا الفصل لمجلتنا (لاناسيون آراب) كما فعلنا في وصف قرطبة ونقلت ذلك عنا جرائد أوربية خطيرة.
    ومن الفوائد التي عثرت عليها في تاريخ بغداد للحافظ ابن الخطيب أنه في ترجمة أبي أيوب الأنصاري الخزرجي رضي الله عنه نقل رواية وهي أن شيخاً من أهل فلسطين كان في القسطنطينية فرأى بنية بيضاء دون حائط القسطنطينية فقالوا: هذا قبر أبي أيوب الأنصاري صاحب النبي صلى الله عليه وسلم. قال هذا الشيخ: فأتيت تلك البنية فرأيت قبره في تلك البنية وعليه قنديل معلق بسلسة. فظهر من هنا أن قبر أبي أيوب رحمه الله لم يكن درس القرون الأولى من الهجرة، وأنه أن كان قد درس فيكون فيما بعد. فأن الأتراك يقولون أنهم لما فتحوا القسطنطينية كان قبر أبي أيوب دارساً وأنه إنما كشفه الشيخ آق شمس الدين على أثر رؤيا رآها. فمن كتاب الحافظ ابن الخطيب الذي عاش في القرن الخامس يظهر أن قبر أبي أيوب كان معروفاً محفوظاً وهذا سند جديد يضاف إلى روايات ابن قتيبة والطبري وابن الأثير وابن الجوزي عن كون الروم احترموا قبر صاحب رسول الله ولم يطمسوه مدة قرون. وأما ما يقال بأنهم كانوا يزورونه ويستقسون عنده في أيام القحط فيجوز أن يكون صحيحاً كما يجوز أن يكون من عمل الخيال. وعلى كل حال فعدم مساسهم بالقبر وحرمتهم له هو في عاصمة النصرانية يومئذ هما من كرامات ذلك الصحابي الجليل!
    لقد راجعت الانسكلوبيدية الإسلامية بشأن مدينة بغداد. وليست هذه الانسكلوبيدية في شيء من التحمس لتاريخ الإسلام بل أراها في كثير من الأحيان تبخسه من أشيائه وأحياناً تعطيه أقل من حقه وكثيراً ما تعطيه نصف حقه فقط. ومع هذا رأيتها تقول في الصفحة 576 في الجزء الأول: أن بغداد كانت في عهد الخلفاء الأول من العباسيين أعظم مركز تجاري في آسيا ومنبع حياة عقلية عظيمة وأنها بعظمتها وثروتها وزخرفها كانت تشغل المقام الأول في العالم المتمدن لذلك العهد. ثم قول في تلك الصفحة نفسها: أن هذه الحاضرة يوم وفاة الخليفة المهدي أي قبل الرشيد كانت مساحتها من سبعة إلى ثمانية كيلومترات طولاً إلى سبعة أو ثمانية كيلومترات عرضاً فإذا حسبنا هذه المساحة بضرب ثمانية في ثمانية كانت أربعة وستين كيلومتراً مربعاً ولنقل مائة ألف ذراع مربع. فمساحة كهذه لا تسع أكثر من مائتي ألف بيت إذا حسبنا أنه سيدخل في هذه المساحة الشوارع والسكك والساحات والمساجد والحمامات والقصور والدور العامة. فإذا حسبنا بكل بيت خمس نسمات قلا يكون عدد سكان بغداد في زمان المهدي أكثر من مليون نسمة. قد جاء هذا الكلام في الانسكلوبيدية الإسلامية ولم يذكر فيها السند الذي توكأ عليه الكاتب في قوله: كانت بغداد في أيام المهدي من سبعة إلى ثمانية كيلومترات طولاً ومثلها عرضاً. ثم لم نجد في هذه الانسكلوبيدية حصراً لعدد السكان. ومما اتفق عليه المؤرخين أن أوج عظمة بغداد كان في زمان الرشيد بعد المهدي وبقيت على حالتها تلك إلى أيام المعتصم. ونحن نظن أن تقدير الانسكلوبيدية كون مساحتها سبعة أو ثمانية كيلومترات طولاً في مثلها عرضاً ربما كان هكذا أيام المهدي وأن بغداد قد تضاعفت فيما بعد ونعتقد أن بغداد لم يكن فيها لعهد الرشيد والمأمون ل من ثلاثة ملايين نسمة. وأن مثل هذا العدد قد يلزمه من أربعة إلى خمسة آلاف حمام بالنظر إلى رفاهية الأهالي وللترف الذي كانت تعيش فيه بغداد ولكون أهلها مسلمين من مباديهم الدينية الاغتسال. فأما الستون ألف حمام والثلثمائة ألف مسجد فهذا من كلام العوام وقد أخطأ الحافظ أبو بكر ابن الخطيب رحمه الله في مجرد نقله بدون اعتراض. وحبك الشيء يعمي ويصم.
    جنيف 23 شوال 1351 شكيب آرسلان
    الملفات المرفقة الملفات المرفقة

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •