.
ثانياً : نحو الكلمة
هذا هو النحو الثاني من أنحاء العربية ، له خصائص ينفرد بها عن ألسنة كثيرة .
وهذا النحو ناشيء من التأليف الصوتي الذي سبق .
ويدرس هذا النحو في علم التصريف ، وعلم الاشتقاق ، وفي علم المعجم ، وهو متن ألفاظ اللغة ، وفي فقه اللغة . وهي علوم أصيلة في العربية ، مطردة الأقيسة ، موفورة النقل ، بديعة الاستنباط والتجريد .
وسأختار منها نحواً يبين المزية ، فإذا وضحت فيه كانت في غيره على ذلك الوضوح .
الكلمة : لفظ ذو معنى ، مؤلف من بعض أحرف الهجاء . وهي أصغر وحدة معنوية في الألفاظ التي يلهج بها اللسان ، ولها في كلّ قسم من أقسامها نظام وزمام وأحكام .
قال سيبويه في صدر [الكتاب 1/12]:
"( هذا بابُ علْم ما الكَلِمُ من العربية )
فالكَلِم : اسمٌ وفِعْلٌ وحَرْفٌ جاء لمعنىً ليس باسم ولا فعل .
فالاسمُ : رجلٌ وفرسٌ وحائط .
وأما الفعل فأمثلة أُخذتْ من لفظ أحداث الأسماء وبُنيتْ لما مضى ، ولما يكون ولم يقع ، وما هو كائن لم ينَقطع .
فأما بناء ما مضى فذَهَبَ وسَمِعَ ومَكُث وحُمِدَ ، وأما بناء ما لم يقَع فإنّه قولك آمِراً : اذهَب واقتُلْ واضرِبْ ، ومخبراً يَقْتُلُ و يَذهَبُ ويَضرِبُ ويُقْتَلُ ويُضرَبُ . وكذلك بناء ما لم يَنقطع وهو كائن إذا أخبرتَ .
فهذه الأمثلة التي أُخذت من لفظ أحداث الأسماء ولها أبنية كثيرة ستبيَّن إن شاء الله .
والأحداث نحو الضَّرْبِ والحمد والقتل .
وأما ما جاء لمعنىً وليس باسم ولا فعلٍ فنحو : ثُمَّ ، وسَوْف ، وواو القسم ، ولام الإضافة ، ونحوها". انتهى
تدور الكلمات العربية في ثلاثة محاور (تقسيم سطحي أو أفقي) : فمنها : أسماء وأفعال وحروف . وانتظمت الكلمات على تلك الأقسامٍ : اسم أو فعل أو حرف معنى. وهذا التقسيم هو أول استنباط في تاريخ النحو بمعناه العام علي ما جرينا على استعماله هنا .
في كلام سيبويه هذا شمول تقسيم لا تراه في كلام غيره من النحويين ، فتأمل مُدخله ومُخرجه في تفصيله الكلام في الفعل دون قسيميه .
وعلة هذه القسمة عند الزجاجي (- 339) [الإيضاح في علل النحو 44] مجيباً عن سؤال يتهم فيه النحويين بتقليد سيبويه بلا برهان ما خلاصته : أن الاسم هو علامة دالة على ذات المسمى ، والفعل علامة على الحدث ، والحرف رابط بينهما ، فالاسم يخبر به ويخبر عنه ، والفعل يخبر به ولا يخبر عنه ، والحرف لا .. ولا .. ، وأن التعبير عما في الأنفس من أمور الحياة جارٍ على اعتبار هذه الثلاثة .
فإذا كانت أقسام الحياة ثلاثة : أشياء : ذوات ج ذات ، وحركة هذه الأشياء (حدث)، ورابط يربط بين الأشياء والأحداث .. فيجب أن تكون أقسام مفردات اللسان كذلك .. اسم (للشيء) وفعل (للحدث) وحرف (للرابط).
وهذا مصداق القول : إن اللغة وعاء لفظي لعلامات دالة على الواقع .
وقال أبو البركات الأنباري (-577) [ أسرار العربية 4] :
"فلمَ قلتم : إن أقسام الكلام ثلاثة لا رابع لها ؟ قيل : لأنا وجدنا هذه الأقسام الثلاثة يعبر بها عن كلّ ما يخطر بالبال ، ويُتوهّم في الخيال ، ولو كان ههنا قسم رابع لبقي في النفس شيء لا يمكن التعبير عنه .
ألا ترى أنه لو سقط آخر هذه الثلاثة الأقسام لبقي في النفس شيء لا يمكن التعبير عنه بإزاء ما سقط".
يقصد أن الزيادة على ثلاثة الأقسام عبث في التقسيم ، وأن النقص عنها مخلّ بمقاصد المتكلم .
وقد كان لانضباط قوانين (الإعراب والبناء) و(الاشتقاق والجمود) و(التجريد والزيادة) في العربية واطرادها ومرونتها = أثر ظاهر في تسويغ هذا التجريد البديع وثرائه ومضائه .
كأنك وأنت تستعرض الكلمات العربية تتبصر فيها آلة بديعة الصنعة ، قوامها الأحرف الأصول (ف ع ل ل ل ) ثابتة في كل كلمة ، ثلاثية أو رباعية (أسماء وأفعالاً) أو خماسية (أسماءً)، كلّ بحسبه ، بأحرف صحاح أو عليلة ، وتتغشاها أحرف الزيادة ( سألتمونيها ) ؛ إن في الصدر أو في الحشو أو العجز ، وأحرف الإبدال ( هدأت موطيا ) !.
وتتوالد الأبنية على سنن هذا الميزان .
وهي بذلك " غير قابلة للتجريد أكثر مما كان أو للضمّ إلا إدغاماً ونحوه أو للحذف إلا لقياس أو خفة مأثورة أو للاقتصاد أو للاعوجاج". !
( وفرق بين الخفة والقصد ) !
- وإذا لم تكن الكلمة العربية ثابتة الشكل في كل أحوالها ( مبنية ) ولا مجهولة الأصول ( أعجمية ) فأبنيتها خاضعة للميزان الصرفي ، وجارية على أقيسة مقطعية مطردة في الغالب :
مثال الأسماء الثلاثية : فلس وفرس وكتف وعضد وحمل وعنب وإبل وقفل وصرد وعنق .
ومثال الأفعال الثلاثية : ضرب وجلس ونصر وعلم وحسب وكرم (أبواب الفعل الثلاثي) .
وزمام الكلمة في العربية بيد الحروف المجردة (من داخل الكلمة)، التي تدور حولها الزوائد والعلل والبدائل .. بخلاف غيرها فزمامها بيد المتكلم (من خارج الكلمة).
وتتكون الانجليزية من أقسام أكثر من أقسام العربية ، وهي :
(1) اسم NOUN
2) ضمير PRONOUN
3) فعل VERP
4) صفة ADJECTIVE
5) حال أو ظرفADVERP
6) حرف جرّ PREPOSITION
7) حرف عطف CONJUNCTION
8) حرف تعجب INTERJECTION
9) أداة ARTICIE
10) مصطلحات IDIOMS
ومثلها في هذه الأقسام الفرنسيةُ ، وسائر الأوربيات التي توخت قواعد اللاتينية .
وكثرة الأقسام تعني تعثر اطراد الأحكام في أقل من ذلك العدد من الأقسام .
وحق العربية أن تكون أقسام كلِمها أكثر ، لأن أصواتها أكثر ، ولكن رأينا العكس ، وسبب ذلك أن الأكثر أقساماً هو الأكثر تعقيداً ، وأن العكس بالعكس .
فإذا أضيف إلى ذلك كثرة أزمنة الفعل (22 زمناً) مع الصيغ المعبرة عنها ( وليس محل الإشكال كثرة الأزمنة ؛ فالإنسان مضطرّ إلى معرفتها بدقة؛ بخلاف كثرة الصيغ المعبرة عنها ، الموجبة للاقتصاد مع الزمن )، ومع كثرة الأفعال الشاذة في تصريفها ، حتى كأنها الأصل = بلغ التعقيد مدى لا تشعر به في العربية التي تتكون من ثلاث صيغ (ماض ومضارع وأمر) ، تعبر بها وبغيرها من المشتقات المتصرفة والمقيسة والمطردة ، عن فروع تلك الأزمنة الثلاثة (المضي والحضور والاستقبال).
وهذا التقسيم في الانجليزية ، وما كان في شبه نظامها من الألسنة ذات الأصول اللاتينية ، يخلط بين نحو الكلمة ونحو الجملة (المصطلحات مثلاً).
وترى في الانجليزية تحت تلك الأقسام ( مقسمة تقسيماً عُمقيّاً أو رأسيّاً ، ويأتي فيه الأنواع المندرجة تحت القسم السطحي السالف ) مفردات تقل عن مفردات العربية في الدلالة على الأشياء ، مثال ذلك الضمائر (I We You They He She It ).
فهي كثيرة الأقسام قليلة الألفاظ ؛ بخلاف العربية قليلة الأقسام كثيرة الألفاظ .
واختفى من الانجليزية ما يعبر عن الضمائر العربية : أنتِ أنتما أنتنّ هما هنّ . وجعلوا ضميراً لغير العاقل (It) [ اعتبروا غير العاقل ولم يعتبروا النساء ! ] .
والعرب ترى أن لكل شيء عقلاً بحسبه ( قالت نملة : ... ) ، ( قالتا : أتينا طائعين ) .
دع حروف الجرّ ، فهي في العربية عشرون ، وفي تلك الألسنة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة ( وحروف الجر من روابط الكلام، وهي تجرّ في العربية ليس غير ، أما في غيرها فهي جارّة بلا جرّ ).
ولك أن تتصور الفرق بين ذينك التقسيمين في تكليف المبتدئين استخراج أقسام الكلام العربي من نص عربي ، واستخراج أقسام الكلام من نص انجليزي ! .
ومر بنا أن الصينية تتكون من مقاطع .. فلا معنى للتقسيم السالف فيها ! ، ولا تستطيع أن تعرف من شكل المفردة الصينية أهي اسم أم فعل أم صفة أم ضمير أم جماد أم إنسان ؟ إلا في السياق (كالحرف عندنا) ، وقد يسمع الصيني المقاطع واضحة فلا يفهم مدلولها ، وتستعمل المقاطع في تكوين الكلمات المفردة بأنواعها ( أسماء أفعال حروف ). وقد ترى جملة من مقطعين ومفردة من ثلاثة مقاطع ، والأغلب أن لكل مفردة مقطعاً واحداً كالقالب ، لا يجرّد ولا يوزن ولا يبدل ولا يتصرف إلا نادراً ؛ بلواحق .
واستقل فيها التعبير الزماني عن الفعل ، فيأتي الفعل وبعده مقطع أو مقاطع تبين زمنه الذي وقع فيه ، وقد ترى مقاطع بعينها يعبرون بها عن الأسماء والأفعال ، أو مقاطع مكررة أو محاكية للحدث أو الصوت . وليس عندهم مقاطع لصيغة الجمع بل المفرد يعبر به عن الجمع والمثنى ! . واختفت من معارفها الضمائر ، فيستعيظون عنها بالاسم الظاهر !. واستجاب لسانها لقرار ماويّ يحصد منها ثلاثة أرباعها !.
وفي الانجليزية (من الأوربيات) أسماء وأفعال تكتب بمقطع واحد كالصينية ! . (وهذا يبعدهما عن الألسنة الاشتقاقية المرنة المطواعة ) .
والفارسية من الألسنة الاشتقاقية كالألمانية (بجامع : الهندوأوربية)، ولكن لم تستطع (مثل العربية مع كلمات الفارسية المعرَّبة ) تصريف الكلمات العربية التي دخلت إليها على موازين كلامها ، فجاءت الكلمات العربية فيها دخيلة جامدة بادية العسر ( وهذا نوع من انفلات الزمام )! .
وسبب ذلك ضعف منظومتها الصرفية والاشتقاقية مقارنة بمنظومة العربية ذات الأصل والفصل !.
(يبدو تأثر واضعي قواعد الفارسية بشكل القواعد العربية واصطلاحاتها ، مع اختلاف المضمون !).
وجاء تقسيم أزمنة أفعالها والصيغ التي تعبر عنها متشابهاً مع نظام الانجليزية (في التعقيد).
واختفى من ضمائرها أنتِ وأنتما وأنتن وهما وهنّ (كالانجليزية والفرنسية) ، كاختفاء هذين وهاتين !.
وتأثر معجم العبرية (السفردية) ، كالمعجم الفارسي ، بما أخذوه عن العرب ، إبان إقامتهم في الأندلس ؛ للتقارب الكبير في الأصول الثلاثية للكلمات ونحوه، وبما نقله (الأشكناز) من أوربا، وجعلوا حديثاً فعلين للحال والاستقبال ؛ بدل المضارع في العربية؛ فهي أربع صيغ للأفعال ؛ لنقص الاشتقاق فيها . يقول العربي في الحال : أنا أذهب ، وفي الاستقبال : أنا ذاهبٌ (من باب الترجمة! فأنا ذاهب: ليس فيها دلالة زمنية؛ كما لا يخفى)، وفي العبرية الحديثة بالعكس !. ( وقد كانت العبرية القديمة ثلاثية التقسيم كالعربية ) .
واختفى منها أنتما وهُما ، وتؤدي بضمير البعد معنى الإشارة إلى البعيد ؛ فلا اسم إشارة له .
اختفت من هذه الألسنة المحكية والمدونة = أسماء كثيرة بأوزانها ، واختفت دلالات معنوية وزمانية في ألفاظها وتصاريفها ، واختفت معاني حروف وحروف معانٍ...
وبقيت تلك الأسماء والأوزان والدلالات والحروف في العربية المدونة والمحكية .
فعلىا ماذا يدل هذا ؟
. . . ( يتبع ) . . .