قبائح اليهود




فضيلة الشيخ المحدِّث: أبي محمد عبد الحق الهاشمي
المدرس بالمسجد الحرام (رحمه الله)



بسم الله الرحمن الرحيم




خصال اليهود التي أوجبت عليهم سخط الله ورسوله والمؤمنين


الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على نبيه المصطفى وأزواجه وذريته وصحابته ومن اتبع الهدى.

أما بعد فنذكر في هذه الرسالة خصال اليهود التي أوجبت عليهم سخط الله ورسوله والمؤمنين، فنقول أن الله سبحانه وتعالى قضى على اليهود بتسعة أشياء ذكرها في القرآن الكريم.
أولها: الذلة. وثانيها: المسكنة. وثالثها: المسخ. ورابعها: اللعنة. وخامسها: الغضب. وسادسها: الاصر. وسابعها: الاغلال. وثامنها: أنه لا تقوم لهم دولة بل يكونون تحت حكومة الإسلام. وتاسعها: البغضاء بينهم.
كما قال تعالى: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ).
وفي هذا الموضع ذكر عز وجل أربعة أسباب لكونهم استوجبوا السخط عليهم وهي كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء وعصيانهم ثم اعتداؤهم لذلك استحقوا الذلة والمسكنة والغضب من الله وهذه ثلاثة أشياء من التسعة المذكورة التي قضى الله بها على اليهود.
وقال تعالى: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ).
وفي هذه الآية ذكر الله لعنه اليهود وجعله منهم القردة والخنازير بالمسخ وهذان شيئان من التسعة المذكورة التي قضى الله بها على اليهود بسبب عصيانهم وعبادتهم الطاغوت.
وإلى هذا المسخ أشار القرآن في موضع آخر فقال: (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) وقال في موضع آخر: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ، فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) وكان سبب ذلك هو العدوان والعصيان وقد ذكر الله لعنه اليهود وغضبه عليهم بسبب كفرهم وبغيهم فقال: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ. بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِين َ عَذَابٌ مُهِينٌ).
أما الإصر والأغلال التي قضى الله بها عليهم فأشار إليها القرآن في قوله: (رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) وهم اليهود
وقال تعالى: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ، وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) وأما العداوة التي ألقيت بينهم فقال الله تعالى: (وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ).
فهذه ثمانية أشياء، الذلة والمسكنة والمسخ واللعنة والغضب والعداوة والإصر والأغلال ذكرت في هذه الآيات من القرآن الكريم.
أما أنه لا تقوم لهم مملكة وهي الظاهرة التاسعة فقد قال تعالى: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ).
ومن أجل ذلك كانت النصارى تتغلب عليهم في كل معركة.
وقال تعالى: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ).
ومعنى ذلك أنه لا عز لهم إلا بالرجوع إلى الحق وبذل الجزية وهذا هو المراد بحبل من الله وحبل من الناس وسبب ذلك هو كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء وقد روى أنهم قتلوا ثلاثمائة نبي في أول النهار ثم أقاموا سوق الخضرة في آخر النهار.
وأيضاً قال الله تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ).
وهذا دليل عدم قيام دولتهم إطلاقاً.
ونذكر هاهنا الأسباب التي أدت باليهود إلى هذه الذلة وقد علمت أنهم كفروا بآيات الله وقتلوا الأنبياء وعبدوا الطاغوت وعتوا عما نهوا عنه وبغوا واعتدوا وعصوا وكذبوا على الله وطغوا وأفسدوا فضرب الله عليهم الذلة لذلك ولم يجعل لهم سلطانا وأعد لهم في الآخرة الويل والعذاب.

وهذه اثنتا عشرة قبيحة من قبائح اليهود ذكرها الله في كتابه نجملها هاهنا.

القبيحة الأولى: أنهم كانوا يؤذون نبيهم موسى عليه السلام وذلك أنهم كان بسبب الحياء لا يغتسل مع بني إسرائيل فقالوا أنما لا يغتسل معنا موسى لأنه به برصا أو ادرة فأراد الله أن يبرئه فاغتسل موسى عليه السلام في خلوة عرياناً ووضع ثوبه على حجر فأمر الله الحجر ففر بثوبه فجعل موسى عليه السلام خلفه يقول: ثوبي حجر ثوبي حجر حتى وقف على ملأ من اليهود فرأوه أبرأ خلق الله وقالوا ما به أذى.

ولهذا قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً) وروى أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان يقسم فقال رجل أن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله فجاء عبد الله بن مسعود فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: رحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر.

القبيحة الثانية: أنهم أبوا العمل بالتوراة فرفع الله عليهم جبل الطور لأخذ الميثاق الغليظ والعمل به كما حكى الله تعالى فقال: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)
وقال أيضاً: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ)

القبيحة الثالثة: أنهم قالوا لموسى عليه السلام لن نؤمن حتى نرى الله كما حكى الله تعالى ذلك عنهم فقال: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ، ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) وقال أيضاً: (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً)

القبيحة الرابعة: أنهم بدلوا ما أمروا به من دخول باب المسجد سجداً وقول حطة فقالوا حبة في شعرة ودخلوا على أستاههم كما قال تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ، فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)

القبيحة الخامسة: أنهم نسبوا إلى نبيهم موسى عليه السلام حين أمرهم بذبح بقرة في قضية المقتول الذي سألوا عن قاتله أنه يهزأ كما قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)

القبيحة السادسة: أنهم كانوا يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هو من عند الله كما قال الله تعالى: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ)

القبيحة السابعة: أنهم كانوا يلوون ألسنتهم بالكتاب ليحسب أنه من الكتاب كما قال تعالى: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)

القبيحة الثامنة: أنهم كانوا يحرفون كلام الله كما قال تعالى: (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) وقال أيضاً (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِم ْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ)

القبيحة التاسعة: ان موسى عليه السلام لما ذهب لأخذ التوراة تركوا أخاه هارون عليه السلام واتبعوا السامري وعبدوا العجل كما قال تعالى: (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ) وقال أيضاً: (ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ) وقال أيضاً: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ) وقال أيضاً: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)

القبيحة العاشرة: أنهم قالوا ان يد الله مغلولة كما قال تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)

القبيحة الحادية عشرة: انهم كانوا يقولون ان الله فقير كما قال تعالى: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ، ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)

القبيحة الثانية عشرة: أنهم قالوا لنبيهم موسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هنا قاعدون مع أنه ذكرهم بنعم الله عليهم من جعله فيهم أنبياء وجعلهم ملوكا وإيتائهم ما لم يؤت أحدا وحكى الله عنهم ذلك فقال: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ ، يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ، قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ، قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ، قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ. قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ)




أسباب غضب الله على اليهود


ذكرنا بعض قبائح اليهود التي لعنوا بسببها وضربت عليهم الذلة والمسكنة وغضب الله عليهم ومسخهم وحمل عليهم الإصر والأغلال وأوقع في فرقهم العداوة والبغضاء وسلبهم الحكومة والسيادة واستشهدنا على ذلك بآيات من القرآن.

وكان أكبر هذه الأسباب التي استحقوا بها السخط قتلهم الأنبياء ونقضهم الميثاق الذي أخذ الله عليهم وإيذاؤهم موسى عليه السلام وآباؤهم العمل بالتوراة وطلبهم رؤية الله جهرة وتبديلهم ما أمروا به ونسبتهم الهزء إلى موسى عليه السلام وعبادتهم العجل وقولهم إن الله فقير وأن يده مغلولة.

وكل ذلك ذكره الله في كتابه العزيز في آيات كثيرات في مواضع من القرآن متعددة.

ونذكرها هنا قبيحة من قبائحهم وهي اغترارهم بالعقيدة الفاسدة وهي أنه لا تمسهم النار إلا أياماً معدودة كما قال تعالى: (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ، بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)

وهذا النوع من قبائح اليهود مما يتعلق بحقدهم الفاسد وهو جزمهم بأن الله تعالى لا يعذبهم إلا أياما قليلة وهذا الجزم لا سبيل إليه بالعقل البتة إلا بالدليل السمعي ولا توجد هناك دلالة سمعية فكيف جوزوا الجزم بذلك.

وقد روى عن مجاهد أن اليهود كانت تزعم أن الدنيا سبعة آلاف سنة فالله تعالى يعذبنا سبعة أيام، وحكى الأصم عن بعض اليهود أنهم عبدوا العجل سبعة أيام فكانوا يقولون أن الله تعالى يعذبنا سبعة أيام، ويروى عن ابن عباس أنه فسر هذه الأيام بالأربعين وهو عدد الأيام التي عبدوا العجل فيها.

وكل ذلك من أباطيلهم وقد رد الله تعالى عليهم بأن وعيده لاحِقٌ بالعصاة وهم أصحاب النار وأنكر على اليهود ان يكون لديهم عهد بذلك.

وفي موضع آخر يقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ، أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ، فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)

وقد روى عن أبي عبيدة ابن الجراح أنه قال قلت يا رسول الله أي الناس أشد عذاباً يوم القيامة قال رجل قتل نبيا أو رجل أمر بالمنكر ونهى عن المعروف وقرأ هذه الآية: ثم قال يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبين من أول النهار في ساعة واحدة فقام مئة رجل واثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا في آخر النهار في ذلك اليوم فهم الذين ذكرهم الله تعالى.

ولما كان المراد هنا شرح عِظَم ذنبهم وقد وصف بثلاثة أوصاف جاء وعيدهم من ثلاثة أوجه أيضاً:

الأولى: العذاب الأليم وذلك قوله (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)
الثاني: حبوط أعمالهم وذلك قوله (أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)
الثالث: قوله تعالى: (وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ)

وقد بين الله بالنوع الأول من الوعيد اجتماع أسباب الآلام والمكروهات في حقهم وبين بالنوع الثاني زوال أسباب المنافع عنهم بالكلية، وبين بالوجه الثالث حقهم حتى لا يكون لهم ناصر ولا دافع.

وقد ذكر الله بعد ذلك اليهود وعدم احتكامهم إلى كتاب الله وإعراضهم عنه ويروى في ذلك عن ابن عباس أن رجلا وامرأة من اليهود زنيا وكانا ذوى شرف وكن في كتابهم الرجم فكرهوا رجمهما لشرفهما عندهم فرجعوا في أمرهما إلى الني صلى الله عليه وسلم رجاء أن يكون عند رخصة في ترك الرجم فحكم الرسول بالرجم فأنكروا ذلك فقال عليه السلام بيني وبينكم التوراة فإن فيها الرجم فمن أعلمكم ؟ قالوا عبد الله بن صوريا الفدكي فأتوا به وأحضروا التوراة فلما أتى على آية الرجم وضع يده عليها فقال ابن سلام: قد جاوز موضعها يا رسول الله فرفع كفه عنها فوجدوا آية الرجم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهما فرجما فغضبت اليهود لعنهم الله لذلك غضباً شديداً فأنزل الله هذه الآية.

ويروى أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم دخل مدرسة اليهود وكان فيها جماعة منهم فدعاهم إلى الإسلام فقالوا على أي دين أنت ؟ فقال على ملة إبراهيم فقالوا إن إبراهيم كان يهودياً فقال النبي صلى الله عليه وسلم هلموا إلى التوراة فأبوا ذلك فأنزل الله تعالى في هذه الآية.

ويروى كذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دع اليهود إلى التوراة وفيها علامات بعثته والدلائل الدالة على صحة نبوته فأبوا الرجوع إليها فأنزل الله هذه الأية.

والمعنى أنهم إذا أبوا أن يجيبوا إلى التحاكم إلى كتابهم فلا عجب من مخالفتهم كتابنا فلذلك قال تعالى: (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) ولو علموا ان ليس في التوراة ما يدل على نبوة نبينا لسارعوا إليها ولكنهم أسروا ذلك وقد استوجبوا الذم بعد ذلك على أنهم قطعوا بأن مدة عذاب الفاسق قصيرة قليلة وأنهم كانوا يتساهلون في أصول الدين وأنهم كانوا يعتقدون أنه لا تأثير لتكذيبهم محمدا في تغليظ العقاب فكان ذلك تصريحا بتكذيبهم إياه مع استحقار هذا التكذيب.

أما قوله تعالى: (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) فالمراد أما قولهم: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) وإما قولهم (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ)

وكل ذلك من قبائحهم الموجبة عليهم الغضب واللعنة وقيل وغرهم قولهم نحن على الحق وأنت على الباطل.

ومعنى قوله: (فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ) انه لما حكى عنهم اغترارهم بما هم عليه من الجهل بين أنه سيجيء يوم يزول فيه ذلك الجهل وينكشف فيه ذلك الغرور.

ومن قبائح اليهود قولهم لموسى عليه السلام (إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) فانظر أيها المسلم إلى حكاية هؤلاء الملعونين وإلى قول قادة هذه الأمة المرحومة وسادتها مع قلة عددها وعددها يوم بدر: يا رسول الله اذهب أنت ونحن نقاتل بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن يسارك والله لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر الأخضر لخضنا، فَوَازِ بين هاتين المقالتين وزنهما بميزان العدل تجد بينهما بعد المشرق والمغرب فكلمة اليهود كلمة كفر تكاد السموات يتفطرن منها وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا وكلمة هذا المسلم الواحد القائم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الواقف في عدد من المسلمين ثلاثمائة وثلاثة وعشرين كلمة إسلامية صدرت من صميم القلب المسلم وتجاوزت السموات السبع حتى بلغت قائمة العرش العظيم تحوم حولها وتأخذ الجزاء من رب العرش الكريم جزاء وافراً كاملاً يبلّغه درجات عالية وغرفات غالية في جنة النعيم.

نعم هذه القبائح الجالبة على اليهود اللعن والطعن والذلة والمسكنة وغيرها هي التي تحثنا على الجهاد والقتال واستعمال السيف والسنان والحراب والسهام لتعرف قوة المجاهدين ويعرف جبن الجبناء، وقد تغلب هؤلاء اليهود الملعونون على بعض أهل الإسلام باستعمال النار ولا يعد لهم ذلك نصرا ولا ظفرا بل هو ضرب من الحباب الذي يكون على الماء ثم يضمحل ويذهب جفاء، فالمسلم الواحد الحق يكفي لغلبة اثنين والمائة تغلب مائتين بنص القرآن كما قال تعالى: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) ويجب علينا استعمال آلات النار مثلما يستعملون لقوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) وقال تعالى: (وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين َ) وليس من شأن المسلم الوهن في ابتغاء القوم الكافرين كما قال تعالى: (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) وكذلك ليس من شأن المجاهد المخلص أن يولى دبره يوم الزحف كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ ، وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) بل الكافر هو الذي يولى دبره كما قال تعالى: (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ) وقال: (وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ)

والمجاهد المسلم لا يدعو الكافر ابتداء إلى الصلح فإن طلب الكافر الصلح قبل قال تعالى: (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ)

وقال عز وجل: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا) وقال أيضاً: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُ مْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ، سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ، أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِين َ أَمْثَالُهَا ، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ)

وهذا كما في الحديث أنه قال أبو سفيان يوم أحدٍ: لنا عُزَّى ولا عُزَّى لكم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أجيبوه: لنا مولى ولا مولى لكم).



موجبات ذلة اليهود


وقد ذكر الله تعالى من قبائح اليهود قتلهم أنبياءه وذلك في مواضع من كتابه العزيز منها قوله جل شأنه: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ)

وقد بين الله تعالى في هذا أنه إنما ضرب عليهم الذلة والمسكنة وجعلهم محل الغضب والعقاب من حيث كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون أنبياءه، وذكروا في معناه أنه جعلت الذلة محيطة بهم مشتملة عليهم فهم فيها كمن يكون في القبة المضروبة، أو الصقت بهم حتى لزمتهم ضربة لازم كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه.

والأقرب في الذلة أن يكون المراد منها ما يجرى مجرى الاستحقاق كقوله تعالى فيمن يحارب ويفسد: (ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا) فأما من يقول: المراد به الجزية خاصة على ما قال(حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) فقوله بعد لأنها لم تك مضروبة بهم من أول الأمر والمراد بالمسكنة الفقر والفاقة وتشديد المحنة وهذا الجنس يجوز أن يكون كالعقوبة، ومن العلماء من عد هذا من باب المعجزات لأنه عليه السلام أخبر عن ضرب الذلة والمسكنة عليهم ووقع الأمر كذلك فكان هذا إخباراً عن الغيب فيكون معجزا.

وجاء البوء بمعنى الرجوع والتسوية والاستحقاق والغضب من الله هو إرادة الانتقام والمعنى أنهم استحقوا جميع ما تقدم لأجل أفعالهم وأشدها الكفر وهو الجهد بآياته وقتل الأنبياء، وقد أفاد قوله: (بِغَيْرِ الْحَقِّ) أنهم تعهدوا قتلهم وهم يعلمون أنه ليس بحق فإن الذي يأتي بالباطل قد يكون يعتقد حقا لشبه قامت في نفسه لكن هؤلاء قتلوا الأنبياء وكانوا عالمين بقبح فعلهم وأنه ليس بحق ومع ذلك فقد فعلوه، فالتكرير المؤكد يقتضي هذا التخريج على أنه لو ذمهم على مجرد القتل لكان وقوعه بإرادة مبعث سؤالهم فكأنه نبه على أن القضاء عليهم من الله بحق وأن فعلهم ذلك باطل في حقيقة الأمر وفي اعتقادهم أيضاً، وهكذا جاء قوله بعد هذا وهو: (ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) تأكيدا بتكرير الشيء بغير اللفظ الأول تبكيتا على الذنوب فكأنه لما ذكر إنزال العقوبة بهم بين سبب استحقاقهم إياها فبدأ أولا بما فعلوه في حقه من جحدهم وكفرهم ثم بما يتلوه في العظم وهو قتل الأنبياء ثم ثلثه بما يكون منهم من المعاصي التي تخصهم ثم ربعه بما يكون منهم من المعاصي المتعدية بالظلم، هذا وقد ذكر (الْحَقُّ) هنا بالتعريف وفي غير هذا الموضع نكرة فالمعروف هو الذي يعرف المسلمون من كفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس حرمها الله فكأن المنكر جاء تأكيد العموم كأنه قال لم يكن هناك حق في قتلهم لا هذا الذي يعرفه المسلمون ولا غيره البتة.

ويقول الله في موضع آخر: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)

وفي هذه الآية ذكر الله اليهود الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بما كان من قبائح أفعال سلفهم من قتل الأنبياء وبين لهم أن دعواهم أنهم مؤمنون بالتوراة متناقضة لأنها كفرت من سعى في قتل صادق النبوة وهم قد فعلوا ذلك مع يحيى وزكريا وعيسى عليهم السلام ولم يبلغوا مع ابن مريم قصدهم بل رفعه الله إليه وشبه لهم.

ويقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ، أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) وهذا كما في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبينا في ساعة واحدة من أول النهار فقام إليه عبادهم فنهوا عن المنكر فقتلوا جميعا، وتصح إضافة معنى الآية إلى اليهود الذين كانوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقع منهم قتل الأنبياء، إما على وجه التذكير كما في الآية السابقة وإما على وجه إضمارهم قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرصه على ذلك لكن الله عصمه منهم.

وقال تعالى أيضاً: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ)

وقد ذكرنا فيما سبق أن المراد بهذا الذل المضروب عليهم استحقاقهم ذلك وأن يحاربوا ويقتلوا وتغنم أموالهم وتسبى ذراريهم وينفوا من الأرض التي احتلوها وهذا هو أقوى الوجوه في تفسير ذلك.

وبعضهم يفسر هذه الذلة الجزية وبعضهم يفسره بالمهانة فإنك لا ترى فيهم ملكا قاهراً ولا رئيساً معتبراً بل هم مستخفون في جميع البلاد ذليلون مهينون، وأما الاستثناء في الآية فليس معناه زوال تلك الذلة عنهم عند حصول حبل من الله وحبل من الناس. بل قال ابن جرير الطبري أنه استثناء منقطع فاليهود ضربت عليهم الذلة سواء كانوا على عهد من الله أو لم يكونوا فلا يخرجون بهذا الاستثناء من الذلة إلى العزة فقوله (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ) تقديره لكن قد يعتصمون بحبل من الله وحبل من الناس

ومال بعضهم إلى حمل الذلة على كل هذه الأشياء أعني القتل والأسر وسبي الذراري وأخذ المال وإلحاق الصغار والمهانة وفائدة الاستثناء حينئذ أنه لا يبقى عليهم مجموع هذه الأحكام وهذا لا ينافى في بقاء بعضها مع حصول الحبل.

وقال الحسن: المراد بالمسكنة الجزية لأنه أخرجها عن الاستثناء وذلك يدل على أنها باقية عليهم غير زائلة، وقال آخرون: المراد أن اليهودي يظهر من نفسه الفقر وإن كان غنيا موسرا وقال بعضهم: هذا إخبار من الله بأنه جعل اليهود روقا للمسلمين فيصيرون مساكين في آخر الأمر.

وقد ذكر الله في هذا الموضع أيضاً موجبات هذه الثلاثة الأشياء وهي الذلة والمسكنة وغضب الله فقال: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ)

وذكر العصيان والاعتداء بعد ذكر الكفر وقتل الأنبياء يفيد ذكر علة العلة فلما كانت علة الذلة والغضب والمسكنة هي الكفر وقتل الأنبياء كانت علة الكفر وقتل الأنبياء هي المعصية والتوغل فيها.

وقال تعالى: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ، ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)

وروى في ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كتب مع أبي بكر في يهود بني فينقا يدعوهم إلى الإسلام وأن يقرضوا الله قرضاً حسنا فقال فنحا اليهودي: إن الله فقير حتى سألنا القرض فلطمه أبو بكر وقال لولا الذي بيننا وبينكم من العهد لضربت عنقك فشكاه إلى رسول الله وجحه ما قاله فنـزلت هذه الآية تصديقا لأبي بكر رضي الله عنه.

وروى أيضاً أنه لما نزلت: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَنا..ً) الآية قالت اليهود نرى إله محمد يستقرض منا فنحن إذا أغنياء وهو فقير وهو ينهانا عن الربا ثم يعطينا الربا، وأكثر الروايات على أن هذا القول كان منهم على سبيل الاستهزاء والسخرية وقد قرنه الله بقتلهم الأنبياء بينا لأن جهالاتهم وحماقاتهم ليست مقتصرة على نوع معين.

ثم قال تعالى: (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)

قال ابن عباس نزلت هذه الآية في كعب بن الأشرف وكعب بن أسد ومالك بن الصيف ووهب بن يهوذا وزيد بن التابوت وفنحاص بن عازوراء وغيرهم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد تزعم أنك رسول الله وأنه تعالى أنزل عليك كتابا وقد عهد الله إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ويكون لها دوى خفيف تنـزل من السماء فإن جئتنا بهذا صدقناك فنـزلت هذه الآية، قال عطاء كانت بنو إسرائيل يذبحون لله فيأخذون الثروب وأطايب اللحم فيضعونها في وسط بيت والسقف مكشوف فيقوم النبي في البيت ويناجي ربه وبنو إسرائيل خارجون واقفون حول البيت فتنـزل نار بيضاء لها دوى خفيف ولا دخان لها فتأكل ذلك القربان.

وقد بين الله تعالى أن طلبهم هذه المعجزة على سبيل التعنت وقد ارتفعت وليس من شرط المعجزات أن تكون على وجه الخصوص والتعيين وكذبهم بصنيعهم من قتلهم أنبياء الله ونسبة ذلك إلى الحاضرين منهم زمن الرسول نسبة الرضا بفعل أسلافهم وإن كان بينهم وبين من وقع منهم القتل قريب من سبعمئة سنة.

قال تعالى: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً)

وذكر الله ها هنا من جناياتهم العظيمة نقضهم الميثاق والكفر بآياته وقتل الأنبياء وقولهم: (قُلُوبُنَا غُلْفٌ) يعنون أنهم أوعية العلم فلا يحتاجون إلى أحد أو أنهم في أكنة مما يدعون إليه فلا يفقهون ما يقال لهم منصرفين عن كل شيء إلى ما عندهم منكرين كل تكليف، ومعنى الآية أنه لعنهم وسخط عليهم وصَبَّ عليهم العقوبة بسبب ذلك وبما ذكر من قبل ومن بعد.

وقال أيضاً: (لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) وقال في موضع آخر: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ)

والمقصود ها هنا بيان عتو بني إسرائيل وشدة تمردهم على الوفاء بعهد الله وقد أرسل إليهم رسلا بتعريف الشرائع والأحكام، ومعنى (بِمَا لا تَهْوَى) أنفسهم أي بما يخالف أهواءهم وبما يضاد شهواتهم من مشاق التكليف فبظلم منهم حرم عليهم الطيبات وبقتلهم أنبياءه وأحلّهم مثوى التبار والصغار.





الميثاق الذي نقضه اليهود


قال تعالى: (يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) وفي هذه الآية الكريمة ذكر الله بني إسرائيل بالنعم المخصوصة بهم فكان تعريفه إياهم عهدا له عليهم من حيث يلزمهم القيام بشكرها كما يلزمهم الوفاء بالعهد والميثاق أو المراد من هذا العهد ما أثبته في الكتب المتقدمة من نعت محمد صلى الله عليه وسلم وأنه سيبعثه وأما عهد الله معهم فهو أن ينجز لهم ما وعدهم كما في رواية ابن عباس أنه تعالى كان عهد إلى بني إسرائيل في التوراة أني باعث من بني إسماعيل نبيا فمن تبعه وصدق بالنور الذي يأتي به غفرت له ذنبه وأدخلته الجنة وجعلت له أجرين.

ومن هذه النعم التي جاء بها التذكير أنه استنقذهم مما كانوا فيه من البلاء من فرعون وقومه وأبدلهم من ذلك بتمكينهم في الأرض وتخليصهم من العبودية كما قال (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ)

ومنها أنه جعلهم ملوكا وجعل فيها أنبياء بعد أن كانوا عبيداً للقِبْطِ فأهلك أعداءهم وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم كما قال كذلك أورثناها بني إسرائيل ومنها أنه أنزل عليهم من الكتب العظيمة ما لم ينـزل على أمة سواهم كما قال (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ)

وفي رواية عن ابن عباس أنه قال من نعمه تعالى على بني إسرائيل أن نجاهم من آل فرعون وظلّل عليهم في التيه الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى في التيه وأعطاهم الحجر الذي كان كرأس الرجل يسقيهم ما شاءوا من الماء متى أرادوا، فإذا استغنوا عن الماء رفعوه فاحتبس الماء عنهم وأعطاهم عمودا من النور ليضيء لهم بالليل وكانت رؤوسهم لا تتشعث وثيابهم لا تبلى.
وبالجملة فإن أخذ الميثاق منهم هو نوع من النعم ذلك لأنه قال إنما أخذ ميثاقهم لمصلحتهم فصار ذلك من إنعامه عليهم قال الله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)

وكان هذا الميثاق بفعل الأمور التي توجب الانقياد والطاعة بما أودع الله العقول، وقد روى أن موسى عليه السلام لما رجع من عند ربه بالألواح قال لهم إن فيها كتاب الله فقالوا لن نأخذ بقولك حتى نرى الله جهرة فيقول هذا كتابي فخذوه فأخذتهم الصاعقة فماتوا ثم أحياهم الله فقال لهم موسى خذوا كتاب الله فأبوا فرفع فوقهم الطور وقيل لهم خذوا الكتاب وإلا طرح عليكم فأخذوه بعد ظهور هذه الآية الباهرة العجيبة وهي رفع الطور وأعطوا العهد والميثاق أن لا يعودوا إلى ما كان منهم من عبادة العجل وأن يقوموا بالتوراة فكان هذا عهدا وموثقا جعلوه لله على أنفسهم، وذكر أن أخذ الميثاق كان متقدما فلما نقضوه بالامتناع عن قبول الكتاب رفع عليهم الجبل، والمفهوم من الرواية أنه قاموا بهذا الميثاق ثم أعرضوا عن الوفاء به فحرقوا التوراة وتركوا العمل به، وقتلوا الأنبياء وكفروا بهم وعصوا أمرهم ولعل ما فيها ما اختص به بعضهم دون بعض ومنها ما عمله أوائلهم ومنها ما فعله متأخروهم ولم يزالوا في التيه مع مشاهدتهم الأعاجيب ليلاً ونهاراً يخالفون موسى عليه السلام ويعترضون عليه ويلقونه بكل أذى ويجاهرون بالمعاصي في معسكرهم حتى لقد خسف ببعضهم وأحرقت النار بعضهم وعوقبوا بالطاعون وكل هذا مذكور في تراجم التوراة التي يقرّون بها ثم فعل متأخروهم مالا خفاء به حتى عوقبوا بتخريب بيت المقدس وكفروا بالمسيح وهموا بقتله.

ويذكر القرآن هذا الميثاق وما كان فيه من التكليف الموصل إلى أعظم النعم فيقول: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ)

وقد شرح الله في هذا التكاليف الثمانية التي تضمنها الميثاق الذي أخذ عليهم وقد تولوا فأساءوا إلى أنفسهم ولم يتلقوا نعم ربهم بالقبول مع توكيد الولاء والمواثيق عليهم وذلك يزيد في قبح ما هم عليه من الإعراض والتولي لأن الإقدام على المخالفة بعد العلم أعظم من المخالفة مع الجهالة.

وقد تضمن الميثاق أيضاً ما ذكر الله في قوله: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ، ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)
وفي هذا بيان مخالفتهم العهد بعد تأكيد الأمر وإقرارهم بلزومه ووجوبه ثم ذمهم على المناقضة إذ أتوا ببعض الواجب وتركوا البعض كما كان في قصة بني النضير وبني قريظة إذ افترقوا فكان كل فريق يقاتل مع حلفائه فإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه.

وقال تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ولا شك في أن إظلال الجبل كان من أعظم المخوفات ومع ذلك فقد أصروا على كفرهم.

وحكى الله تعالى إصرارهم هذا فقال: (وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً ، فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) وكانوا أعطوا الميثاق على أن لا يرجعوا عن الدين فإن هم هموا بذلك فالله يعذبهم بأن نوع من أنواع العذاب فلما فعلوا ذلك أظل الله عليهم الطور تخويفا قال تعالى: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ولا شك في أن جناياتهم كانت عظيمة جدا ومنها تحريفهم التوراة قال تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوه ُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّ كُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ، فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)

وكان بنوا إسرائيل اثني عشر سبطا فاختار الله من كل سبط رجلا حاكما فيهم وقد ذكروا أيضا أنهم بعثوا إلى مدينة الجبارين الذين أمر موسى عليه السلام بقتالهم معهم ليقفوا على أحوالهم ويرجعوا بذلك إلى نبيهم فرأوا شوكة هابوها فجاءوا يحدثون قومهم وقد نهوا عن ذلك فنكثوا الميثاق إلا كالب بن يوفنا من سبط يهوذا ويوشع بن نون من سبط افراثيم بن يوسف وهما اللذان قال الله فيهما: (قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ) الآية. وكان تحريفهم التوراة بكتمان صفة محمد عليه الصلاة والسلام وهو نوع من التكذيب وأما قوله (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) فهو منسوخ بآية السيف وقال تعالى أيضا: (لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) وقد بين في ذلك عتو بني إسرائيل وشدة تمردهم عن الوفاء بعد الله قال تعالى: (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ، وَقَطَّعْنَاهُم ْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ، فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)

ومعنى قطعناهم أي فرقنا في البلاد والمراد بالصالحين القوم الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام يهدون بالحق وذكروا أنهم الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم والعذاب ممدود إلى يوم القيامة للذين أقاموا اليهودية وكذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد ذكر الله ها هنا حرصهم على الدنيا وقبح فعلهم من تغيير الشرائع لأجل أخذ الرشوة وزعمهم أنه سيغفر لهم هذا الذنب.