بسم الله و الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله و بعد :
فيجب أن نفرق بين من وقع في بدعة أو خطأ من علماء السلف -أهل السنة والجماعة- وبين من وقع في بدعة من أهل الأهواء والبدع السائرين على منهج غير منهج أهل السنة و الجماعة في أصولهم.
فأقول و بالله أستعين؛ إن مخالفة من خالف على قسمين :
القسم الأول : مخالفة في الأصول ، الأصول العامة ؛ مثل تقرير أن أصول الاستدلال هي الكتاب و السنة على فهم السلف واعتقاد أن طريقة السلف هي الأسلم و الأحكم و الأعلم، و تقديم النقل على العقل و أن الأصل في الغيبيات الإثبات، الأصل في صفات الله عزوجل الإثبات ، الأصل في الإيمان هو أنه قول وعمل ، قول اللسان واعتقاد الجنان وعمل الجوارح والأركان وأنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، و الطاعة لولاة الأمور و ترك الخروج عليهم بالسيف أبرارا كانوا أو فجارا، في مسائل القدر إثبات القدر على المراتب التي جاءت في الكتاب و السنة و قررها السلف في كتبهم، و كذا من الأصول ترك البدع و عدم مجالسة أهلها و ترك الخصومة في الدين و حفظ كرامة أهل السنة و حبهم، و إن شئت فقل الولاء و البراء على السنة و حب الصحابة كلهم و سلامة قلوبنا و ألسنتنا لهم، كذلك من الاصول أنه لا يجوز اتخاذ شخص أو طائفة أو حزب يعقد عليه الولاء و البراء وهو ما يشار إليه في عصرنا بالحزبية او التعصب المقيت... الخ.
هذه هي الأصول العامة المتفق و المجمع عليها. فمن كان من أهل السنة والجماعة ملتزماً بأصول اعتقادهم في الأبواب التي خالفهم غيرهم فيها من أهل البدع، كالخوارج و الروافض والمعتزلة و الأشعرية والماتريدية وغيرهم، ولكنه وافق إحدى الطوائف الضالة في أصل من أصولهم، وخالف بذلك أصلا من أصول السنة؛ و كان لا يعلم بما قاله أهل السنة، فيقال في قوله ذلك أنه بدعة وأما هو فلا يقال له مبتدع حتى تقام عليه الحجة و يتم إشعاره بأنه قد خالف أهل السنة فيما ذهب إليه.
أما من خالف أصلا من أصول أهل السنة بعد قيام الحجة عليه عُدَّ من أهل الضلال والأهواء وخرج عن دائرة السنة -منهم من خروجه يكون خروجا عن الملة بعد إقامة الحجة لأن من البدع ما هو مكفر، ومنهم من يكون خروجه عن السنة مع بقاء مسمى الإسلام- و قيل فيه إنه مبتدع بمجرد المخالفة لأصل واحد، ولا يقال له إنه من أهل السنة لا بإطلاق ولا بقيد، إذ لو صح ذلك لصح تسمية جميع أهل البدع بأنهم أهل السنة لموافقتهم السنة في كثير من الأصول، بل ولصح تسمية غير المسلمين مسلمين لموافقتهم الإسلام في بعض الوجوه أو الأصول، فهذا اللفظ والإصطلاح وهو أهل السنة، لا يقال ولا يطلق إلا على أهل السنة المحضة الذين لم يخالفوا السنة في أصل واحد اتباعا للهوى.
أما ما ذهب إليه شيخ الإسلام في إطلاق مصطلح أهل السنة على فرق الإسلام المقابلة لفرق الشيعة، فهذا اصطلاح له وتبعه عليه كثير من أهل العلم بعده. والإصطلاحات التي لم يجمع عليها بل انفرد بها بعض أهل العلم ليست ملزمة للبعض الآخر ولكنها أمر اجتهادي، وإذا عُلم المراد فلا مشاحة في الاصطلاحات والله أعلم.
وأما أن يقال في المخالف المعاند في أصل من الأصول إنه من أهل السنة في كذا وليس من أهل السنة في كذا، فهذا ذهب إليه بعض أهل العلم في تعاملهم مع الأشاعرة لكثرة موافقتهم أهل السنة في أصولهم، ولكن الحق والله أعلم عدم استعمال هذا الأسلوب لعدم اطراده مع المعتزلة والجهمية والخوارج والشيعة وغلاة المرجئة والقدرية، إذ لا يقال إنه من أهل السنة فيما وافقوا فيه السنة، و لأن المتقدمين من القرون المفضلة لم يستخدموا هذا الأسلوب، فهديهم أقوم و منهجهم أعدل ومن بينهم الإمام أحمد المتوفى سنة 241 هـ عند قوله -كما في كتاب أصول السنة- : ((ومن السنة اللازمة التي من ترك منها خصلة - لم يقبلها ويؤمن بها - لم يكن من أهلها.......)) ثم شرع في تعديد خصال أهل السنة. و منهم أيضا الإمام أبو الحسن البربهاري المتوفى سنة 329 للهجرة و الذي نقل في كتابه شرح السنة عقيدة السلف ونقل منهجهم في التعامل مع البدع و أهلها وهو من أئمة القرون المفضلة و مما قاله في شرح السنة: ((ولا يحل لرجل أن يقول فلان صاحب سنة حتى يعلم أنه قد اجتمعت فيه خصال السنة فلا يقال له صاحب سنة حتى تجتمع فيه السنة كلها)).
إذن قولنا مثلا فلان سلفي العقيدة خارجي في المنهج أو حركي المنهج لا يصح إطلاقه إلا في مقام الترجمة او التأديب لفلان كما فعل الذهبي في السير، أما عند مقام الحكم على فلان أو نقد فلان فإنه لا يصح استخدام هذا الأسلوب في حق المعاند الذي أقيمت عليه الحجة.
و من خالف في أصل دون علمه أنه خالف السنة مع موافقته أهل السنة في باقي أصول اعتقادهم العامة و دون إقامة الحجة عليه فإنه يطلق عليه السني أو السلفي حكما و لا نخرجه من دائرة السنة كما سبق ذكره و لا نعلقه بين السنة و البدعة كما تفعل المعتزلة مع أصحاب الكبائر من المسلمين تعلقهم بين الكفر و الإيمان في الدنيا.
فالحق إذن عدم إطلاق هذا المصطلح على غير أهل السنة المحضة لا بإطلاق ولا بقيد. وأما العامي فيشمله عند الإطلاق اصطلاح علمائه وفرقته، وعند مناصحته وإرشاده لا يعامل معاملة الداعي العارف لأصول مذهبه.
و أشير إلى أن عوام المسلمين غير المتأثرين بمذاهب فرق البدعة و غير المحسنين لأصولها يدخلون في عموم أهل السنة، لأن جماهير الأمة الإسلامية تجذبهم الفطرة السليمة إلى العقيدة الصحيحة وإلى أهلها، لذلك وصف النبي صلى الله عليه وسلم الفرقة الناجية بالسواد الأعظم كما في حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، وهو من أحاديث الافتراق، و هو حديث حسن. قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (3/345) : ((و لهذا وصف الفرقة الناجية بأنها أهل السنة والجماعة، وهم الجمهور الأكبر و السواد الأعظم )) و الله تعالى أعلم.
و لا أريد أن يفهم من كلامي أن المراد بالجماعة هو جماعة الناس، و لكن الأمر كما قال إسحاق بن راهويه : ((لو سألت الجهال عن السواد الأعظم لقالوا : جماعة الناس، لا يعلمون أن الجماعة عالم متمسك بأثر النبي صلى الله عليه و سلم و طريقه، فمن كان معه وتبعه فهو الجماعة))
القسم الثاني : أن يتفق معه في الأصول لكن يخالف في بعض التفصيلات ، كمن يؤمن بأن الصفات لا نتجاوز فيها القرآن والحديث لكن يظهر له في صفة أنها غير مثبتة فيؤولها تأويلا فاسدا ظنا منه أن هذا هو مذهب السلف، مثل ابن قتيبة لما نفى حقيقة النزول وفسره بنزول الأمر أو نزول الرحمة فهذا خطأ، لكنه رحمه الله موافق في الأصل لأهل السنة ، أو مثل مافعل الشوكاني في بعض المسائل ،تجده يثبت مذهب السلف في الأسماء و الصفات لكنه يتأول في صفة أو صفتين، لأنه لم يعرف حقيقة كلام السلف فيها و ظن أن تأويلها هو الموافق لقول السلف.
وتحت هذا القسم يدخل أيضا قول بعض السلف بفناء النار و تفضيل بعضهم لعلي على عثمان رضي الله عنهما، وقول الألباني -رحمه الله- بأن أعمال الجوارح شرط كمال في الإيمان، و الصواب أنها كمال لأصل الإيمان و داخلة في مسماه و ليست شرطا فيه، لا يقال شرط كمال و لا شرط صحة لأن الشرط خارج من المشروط. وكثير من أئمة الدين لم يَسلَموا من الوقوع في جنس هذه الأخطاء.
قال الشاطبي رحمه الله في الاعتصام : " المسألة الخامسة : وذلك أن هذه الفرق إنما تصير فرقاً بخلافها للفرقة الناجية في معنىً كلي في الدين وقاعدة من قواعد الشريعة لا في جزئي من الجزئيات إذ الجزئي والفرع الشاذ لا ينشأ عنه مخالفة يقع بسببها التفرق شيعاً و إنما ينشأ التفرق عند وقوع المخالفة في الأمور الكلية لأن الكليات تقتضي عدداً من الجزئيات غير قليل و شأنها في الغالب أن لا يختص بمحل دون محل ولا باب دون باب " انتهى
فخلاصة القول في هذه المسألة إذن:
ليس كل من وقع في بدعة بدّعناه وأهنّاه ونبذناه، بل يُنظر إلى الرجل إن كان متحرياً للحق وباحثاً عنه وسائراً على طريقة السلف الصالح لكنه زل في مسألة عن اجتهاد فهذا يُبيّن خطأه ولا يُبدّع وتُحفظ كرامته و يدخل في قول الله جل وعلا: ربنا لاتؤاخذنا إن نسينا أو أخطانا.
و المقصود أيضا من هذا أن موافقة الأصول يكون بها المرء من أهل السنة و إذا أخطأ في مسألة أو مسألتين في التطبيق على الفروع لا ينفي أن يكون منهم، فيقال أخطا في هذا و لا إخراج له من دائرة السنة، أما من يقرر أصول أهل البدع من الجهمية والشيعة والأشاعرة والمعتزلة وغيرهم ولاءً وبراءً عليها، فهذا لا تفصيل فيه، وحكمه حكم الفرق الضالة الهالكة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (( وسبب الفرق بين أهل العلم وأهل الأهواء – ومع وجود الاختلاف في قول كل منهما -: أنّ العالم قد فعل ما أمر به من حسن القصد والاجتهاد، وهو مأمور في الظاهر باعتقاد ما قام عنده دليله، وإن لم يكن مطابقاً، لكن اعتقاداً ليس بيقيني كما يؤمر الحاكم بتصديق الشاهدين ذوي العدل، وإن كانا في الباطن قد أخطآ أو كذبا، وكما يؤمر المفتي بتصديق المخبر العدل الضابط، أو باتباع الظاهر، فيعتقد ما يدل عليه ذلك، وإن لم يكن ذلك الاعتقاد مطابقاً. فالاعتقاد المطلوب هو الذي يغلب على الظن مما يؤمر به العباد، وإن كان قد يكون غير مطابق، وإن لم يكونوا مأمورين في الباطن باعتقاد غير مطابق قط. فإذا اعتقد العالم اعتقادين متناقضين في قضية أو قضيتين، مع قصده للحق واتباعه لما أمر باتباعه من الكتاب والحكمة: عذر بما لم يعلمه وهو الخطأ المرفوع عنا. بخلاف أصحاب الأهواء، فإنهم إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس، ويجزمون بما يقولونه بالظن والهوى جزماً لا يقبل النقيض، مع عدم العلم بجزمه، فيعتقدون ما لم يؤمروا باعتقاده لا باطناً ولا ظاهراً، ويقصدون ما لم يؤمروا بقصده، ويجتهدون اجتهاداً لم يؤمروا به، فلم يصدر عنهم من الاجتهاد والقصد ما يقتضي مغفرة ما لم يعلموه، فكانوا ظالمين، شبيهاً بالمغضوب عليهم، أو جاهلين، شبيها بالضالين. فالمجتهد الاجتهاد العلمي المحض ليس له غرض سوى الحق، وقد سـلك طريقــه، وأمــا متبـع الـهوى المحض فهو من يعلم الحق ويعاند عنه)) القواعد النورانية (151-152)
و ذهب بعض أهل العلم إلى تبديع من خالف في فرع من الفروع -أو في عدة فروع كما ذكره الشاطبي- إذا ما أقيمت عليه الحجة وأصبح يوالي و يعادي في ذلك .
سئل الشيخ عبيد الجابري ضمن أسئلة وجهت له في المنهج من شريط اسمه جناية التميـع على المنهج السلفي : س10 :متى يخرج الرجل من المنهج السلفي ويحكم عليه بأنه ليس سلفيا؟
فأجاب الشيخ : (هذا بينه أهل العلم, وضمنوه كتبهم ونصائحهم وهو ضمن منهجهم وذلك أن الرجل يخرج من السلفية إذا خالف أصلا من أصول أهل السنة وقامت الحجة عليه بذلك وأبى الرجوع ،هذا يخرج من السلفية .كذلك قالوا حتى في الفروع إذا خالف فرعا من فروع الدين فأصبح يوالي ويعادي في ذلك فإنه يخرج من السلفية ).
قال شيخ الإسلام:
( ومما ينبغي أيضًا أن يعرف أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدين والكلام على درجات، منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة، ومنهم من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة.. إلى أن قال: ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولًا يفارقون به جماعة المسلمين يوالون عليه ويعادون كان من نوع الخطأ، والله يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك.. إلى أن قال: بخلاف من والى موافقه وعادى مخالفه وفرق بين جماعة المسلمين وكفر وفسق مخالفه دون موافقه في مسائل الآراء والاجتهادات واستحل قتل مخالفه دون موافقه؛ فهؤلاء من أهل التفرق والاختلافات ولهذا .. ) المجلد الثالث صفحة 348.
هذا ما تيسر ذكره و جمعه تحت هذه المسألة مما كان و ما زال عليه علماؤنا الأكابر رحم الله الأموات منهم و حفظ الأحياء و الله تعالى أعلم.
و إذا كان عند إخواني تعقيب أو تصويب أو إضافة فلا يبخلوا علينا و الله المستعان.
و صلى الله و سلم و بارك على محمد و آله وصحبه.