زكاة الفطر وصلاة العيد - الشيخ صلاح البدير
خطبة المسجد النبوي - 28 رمضان 1430 هـ
الحمد لله الرحيم الرحمن العظيم المنان، العلي القوي السلطان، أحمده وما أقضي بالحمد حقا، وأشكره ولم يزل للشكر مستحقا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، المالك للرقاب رِقا، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبده ورسوله.. أشرف الخلائق خَلقاً وخُلُقا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين حازوا الفضائل سبقا وسلم تسليماً يدوم ويبقى.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون اتقوا الله؛ فإن تقواه أفضل مكتسب وطاعته أعلى نسب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
أيها المسلمون:
هذا رمضان قد دنا رحيله، وأزف تحويله؛ فهنيئاً لمن زكت فيه نفسه، ورق فيه قلبه، وتهذبت فيه أخلاقه، وعظُمت للخير فيه رغبته، هنيئاً لمن كان رمضان عنوان توبته، وساعة إيابه وعودته ولحظة رجوعه واستقامته، هنيئاً لمن غُفرت فيه زلته، وأُقيلت فيه عثرته، ومُحيت فيه خطيئته، وعفا عنه العفوُّ الكريم، وصفح عنه الغفور الرحيم، هنيئاً لمن حقق جائزته ونال غنيمته، فأُعتقت رقبته، وفُكَّ أسره، وفاز بالجنة وزُحزح عن النار.. جعلنا الله وإياكم منهم، ويا ضيعة من قطعه غافلاً ساهيا، وطواه عاصياً لاهيا، وبدده متكاسلاً متثاقلاً متشاغلاً.
يا من ألهته نفسه وأغواه شيطانه وأغواه قرناؤه، هذا شهر رمضانَ قد قارب الزوال، وأذن بساعة الانتقال؛ فاستدرك ما بقي منه قبل تمامه، وتيقظ بالإنابة قبل ختامه، وبادر بالتوبة قبل انصرامه، فكم متأهبٍ لفطره صار مرتهناً في قبره، وكم من أعد طياب لعيده جُعل في تلحيده، وكم من خاط ثياباً لتزينه صارت لتكفينه..كم من لا يصوم بعده سواه، يا من قمتم وصمتم بُشراكم رحمةٌ ورضوان، وعتقٌ وغفران؛ فربكم رحيم كريم، جوادٌ عظيم لا يضيع أجر من أحسن عملاً، فأحسنوا به الظن واحمدوه على بلوغ الختام، وسلوه قبول الصيام والقيام.
راقبوه بأداء حقوقه واستقيموا على عبادته، واستمروا على طاعته فشهركم قد ودع وحان الفراق، فيا شهر البركة..
يا شهر البركة غيرَ مودَّعٍ سنودعك وغير مقليٍّ سنفارقك
ولا ندري أتعود علينا؟ أم تخترمنا المنونُ فلا تعود علينا؟
سلام عليك يا شهر الصيام والقيام. سلام عليك يا شهر الصيام والقيام. سلام عليك يا شهر التلاوة والقرآن. سلام عليك يا شهر البركة والإحسان. سلام عليك يا شهر التجاوز والغفران. سلام عليك يا شهر التحف والغفران.
تفيض عيوني بالدموع السواكب ومالي لا أبكي على خير ذاهبِ
على أشرف الأوقات لمَّا غبنتها بأسواق غبن بين لاهٍ ولاعبِ
على أنفَس الساعات لمَّا أضعتها وقضيتها في غفلة ومعاطفي
على صرفي الأيام في غير طائنا ولا نافع من فعل فضل وواجبِ
إليه مآبي وهو حسبي وملجئي ولي أمل في عطفه غير خائبِ
وأسأله التوفيق فيما بقي لِمَا يحب ويرضى فهو أسمى المطالبِ
وأن يتغشانا بعفوٍ ورحمة وفضل وإحسان وسترِ المعائبِ
أيها المسلمون:
ومن لطيف حكمة الله - عز وجل - وتمام رحمته وكمال علمه، وجميل عفوه وإحسانه أن شرع زكاة الفطر عند تمام عدة الصيام؛ طُهرةً للصائم من الرفث واللغو والمأثم، وجبراً لما نقص من صومه، وطُعمة للمساكين، ومواساةً للفقراء، ومعونة لذوي الحاجات، وشكراً لله على بلوغ نهاية الشهر الكريم.. فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاةَ الفطر؛ طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين.. من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات"، أخرجه أبو داود وابن ماجه.
وتلزم الإنسانَ عن نفسه وعلى كل من تجب عليه نفقته، ومقدارها عن كل شخص صاعٌ من بُر أو شعير، أو تمر أو زبيب، أو أقط أو مما يقتاته الناس، كالأرز والبقل والذرة، فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر صاعا من تمر، أو صاعاً من شعير على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر أن تُؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة" متفق عليه، وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: "كنا نخرج زكاة الفطر إذ كان فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من زبيب، أو صاعاً من أَقِط " متفق عليه.
ومن أراد صاعاً وافيا وكيلاً ضافياً فليجعله ثلاثة كيلو، ويستحب إخراجها عن الجنين وهو الحمل لفعل عثمان - رضي الله عنه - ولا يجب، ومن أخرجها نقوداً أو قيمة أو كسوة لم تجزئه في أصح قولي العلماء؛ لعدوله عن المنصوص عليه في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ويبدأ وقتها من غروب شمس آخر يوم من رمضان، وينتهي بصلاة العيد ويجوز إخراجها قبل ذلك بيوم أو يومين، والأفضل أن تخرج يوم العيد قبل أن يخرج لصلاة العيد - إن أمكنه ذلك - ومن أخرها عن وقتها عامدا أثم وعليه التوبة وإخراجها فورا، وإن كان ناسياً فلا إثم عليه ويخرجها متى ذكر، وتعطى فقراء المسلمين في بلد مخرجها، ويجوز نقلها إلى فقراء بلد أخرى أهلها أشد حاجة، ولا تُدفع لكافر، ولا حرج في إعطاء الفقير الواحد فطرتين أو أكثر، وليس لزكاة الفطر أداء معين ولا ذكر معين يُقال عليها، ومن لم يكن لديه صاعٌ يوم العيد وليلته زائدٌ عن قوته وقوت عياله وضروراته وحاجاته الأصلية لم تجب عليه زكاة الفطر؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صدقةَ إلا عن ظهر غنى" متفق عليه.
وإذا أخذ الفقير زكاة الفطر من غيره وفضل عنده منها صاعٌ وجب عليه إخراجه عن نفسه، فإن فضل عنده منها عدو آصوع أخرجها عمن يومن وقدم الأقرب فالأقرب، فطيبوا بها نفساً وأخرجوها كاملة غير منقوصة، واختاروا أطيبها وأنفسها وأنفعها للفقراء.
أيها المسلمون:
ويشرع التكبير ليلة عيد الفطر وصباح يومها إلى انتهاء خطبة العيد؛ تعظيماً لله - سبحانه وتعالى - وشكراً له على هدايته وتوفيقه.. قال تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا ْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "حقٌّ على المسلمين إذا رأو هلال شوال أن يكبروا"، فاجهروا بالتكبير من غروب شمس ليلة العيد إلى صلاة العيد في مساجدكم وأسواقكم، ومنازلكم وطرقكم، مسافرين كنتم أو مقيمين، وأظهروا هذه الشعيرة العظيمة ولتكبر النساء سرا، وليُقصر أهل الغفلة عن آلات الطرب والموسيقى، والأغاني المحرمة الماجنة، ولا يُكدِّروا هذه الأوقات الشريفة بمزامر الشياطين وكلام الفاسقين.. أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه..وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون اتقوا الله حق تقواه، وراقبوه وأطيعوه ولا تعصوه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].
أيها المسلمون:
صلاة العيد من أعلام الدين الظاهرة وشعائره العظيمة، فاخرجوا إليها متطيبين متزينين متجملين لا بسين أحسن ثيابكم، حتى المعتَكِف يخرج إلى صلاة العيد في أحسن ثيابه.
وليس من السنة خروجُه في ثياب اعتكافه، ويخرج النساء إلى صلى العيد حتى الحُيَّض يشهدن بركة ذلك اليوم وطهرته، والخير ودعوة المسلمين، ويخرجن متسترات محتشمات غير متطيبات ولا متبرجات، ولا يلبسن ثوب فتنة ولا زينة.. قال رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم -: "لا تمنعوا إماءَ الله مساجدَ الله، وليَخرُجن تَفِلاتٍ".. يعني غير متطيبات، أخرجه أبو داود.
ويسن لمن فاتته صلاة العيد أو بعضها قضاؤها على صفتها، ويسن الأكل يوم الفطر قبل الخروج إلى صلاة العيد؛ فعن أنس - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات، ويأكلهن وترا " أخرجه البخاري.
ثم اعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبحة بقدسه، وأيَّه بكم أيها المؤمنون من جنه وأنسه، فقال قولا كريما: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56]. اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة أصحاب السنة المتبعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بفضلك وكرمك، وجودك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم وفق إمامنا ووليَّ أمرنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، وأصلح بطانته يا رب العالمين. اللهم وفق ولي عهده ونائبه الثاني وإخوانهم لما تحب وترضى، واحفظهم أجمعين، ومتعهم بالصحة والعافية يا رب العالمين، واجعلهم أنصاراً لدينك يا أرحم الراحمين. اللهم وفق جميع ولاة المسلمين في تحكيم شرعك واتباع سنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -.
اللهم طهر المسجد الأقصى من رجس اليهود. اللهم طهر المسجد الأقصى من رجس اليهود. اللهم عليك باليهود الغاصبين والصهاينة الغادرين. اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك.
اللهم اختم لنا شهر رمضان بغفرانك. اللهم اختم لنا شهر رمضان بغفرانك والعتق من نيرانك، وعُمَّنا بألطافك وإحسانك، واجعل شهرنا شاهداً لنا بأداء فضلك، ولا تخزنا بقبائح أعمالنا يوم عرضك يا رب العالمين. اللهم إنا قد تولينا صيام شهرنا وقيامه على تقصير، وأدينا فيه من حقك قليلاً من كثير، وقد أنخنا ببابك سائلين ولمعروفك طالبين.. اللهم تقبل ما قدمنا من الصيام والقيام، واغفر لنا ما اقترفنا فيه من الآثام.
اللهم إن كان في سابق علمك أن تجمعنا في مثله فبارك لنا فيه، وإن قضيت بقطع آجالنا وما يحول بيننا وبينه فأحسن الخلافة على باقينا، وأوسع الرحمة على ماضينا وعمنا جميعاً برحمتك وغفرانك، واجعل الموعد بحبوح جنتك ورضوانك. اللهم ما قسمت في آخر هذا الشهر الكريم من عتق وغفران، ورحمة ورضوان، وعفو وامتنان، وكرم وإحسان فاجعل لنا منه أوفرَ الحظ وأفضل الأقسام برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعد علينا شهر رمضان أعواماً عديدة وأزمنة مديدة ونحن في صحة وعافية وحياة سعيدة يا أرحم الراحمين. اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا. اللهم اجعل رزقنا رغدا، ولا تُشمت بنا أحدا، ولا تجعل لكافر علينا يدا.
اللهم في هذه الساعة المباركة لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا كرباً إلا كشفته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حقاً إلا استخلصته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا أسيراً إلا فككته، ولا حاسداً إلا خيبته، ولا عدواً إلا خذلته، ولا متربصاً لنا بالشر والحقد إلا عنا قد صرفته، وعن طريقنا أبعدته برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا، وقرابتنا ومشايخنا وعلمائنا يا أرحم الراحمين..
عباد الله:
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]. فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.