تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 7 من 15 الأولىالأولى 123456789101112131415 الأخيرةالأخيرة
النتائج 121 إلى 140 من 282

الموضوع: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام

  1. #121
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,763

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الرابع
    الحلقة (119)

    من صــ 125 الى صـ
    ـ 132






    وهذا بناه الشافعي على أن العقود وإن كان معناها واحدا فإن حكمها يختلف باختلاف الألفاظ. وفي مذهبه في نزاع في الأصل وأما أحمد بن حنبل فإن أصوله ونصوصه وقول جمهور أصحابه أن الاعتبار في العقود بمعانيها لا بالألفاظ وفي مذهبه قول آخر: أنه تختلف الأحكام باختلاف الألفاظ وهذا يذكر في التكلم بلفظ البيع وفي المزارعة بلفظ الإجارة وغير ذلك.
    وقد ذكرنا ألفاظ ابن عباس وأصحابه وألفاظ أحمد وغيره وبينا أنها بينة في عدم التفريق.
    وأن أصول الشرع لا تحتمل التفريق وكذلك أصول أحمد. وسببه ظن الشافعي أنهم يفرقون. وقد ذكرنا في غير هذا الموضع وبينا أن الآثار الثابتة في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم وابن عباس وغيره تدل دلالة بينة أنه خلع؛ وإن كان بلفظ الطلاق وهذه الفرقة توجب البينونة. والطلاق الذي ذكره الله تعالى في كتابه هو الطلاق الرجعي.
    قال هؤلاء وليس في كتاب الله طلاق بائن محسوب من الثلاث أصلا بل كل طلاق ذكره الله تعالى في القرآن فهو الطلاق الرجعي. وقال هؤلاء: ولو قال لامرأته: أنت طالق طلقة بائنة لم يقع بها إلا طلقة رجعية؛ كما هو مذهب أكثر العلماء؛ وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه. قالوا: وتقسيم الطلاق إلى رجعي وبائن تقسيم مخالف لكتاب الله وهذا قول فقهاء الحديث وهو مذهب الشافعي وظاهر مذهب أحمد؛ فإن كل طلاق بغير عوض لا يقع إلا رجعيا وإن قال: أنت طالق طلقة بائنة أو طلاقا بائنا: لم يقع به عندهما إلا طلقة رجعية.
    وأما الخلع ففيه نزاع في مذهبهما. فمن قال بالقول الصحيح طرد هذا الأصل واستقام قوله ولم يتناقض كما يتناقض غيره؛ إلا من قال من أصحاب الشافعي وأحمد: إن الخلع بلفظ الطلاق يقع طلاقا بائنا فهؤلاء أثبتوا في الجملة طلاقا بائنا محسوبا من الثلاث فنقضوا أصلهم الصحيح الذي دل عليه الكتاب والسنة.

    وقال بعض الظاهرية: إذا وقع بلفظ الطلاق كان طلاقا رجعيا؛ لا بائنا؛ لأنه لم يمكنه أن يجعله طلاقا بائنا لمخالفة القرآن؛ وظن أنه بلفظ الطلاق يكون طلاقا فجعله رجعيا وهذا خطأ؛ فإن مقصود الافتداء لا يحصل إلا مع البينونة؛ ولهذا كان حصول البينونة بالخلع مما لم يعرف فيه خلاف بين المسلمين؛ لكن بعضهم جعله جائزا؛ فقال: للزوج أن يرد العوض ويراجعها؛ والذي عليه الأئمة الأربعة والجمهور أنه لا يملك الزوج وحده أن يفسخه ولكن لو اتفقا على فسخه كالتقايل: فهذا فيه نزاع آخر كما بسط في موضعه.

    والمقصود هنا أن كتاب الله يبين أن الطلاق بعد الدخول لا يكون إلا رجعيا وليس في كتاب الله طلاق بائن إلا قبل الدخول. وإذا انقضت العدة فإذا طلقها ثلاثا فقد حرمت عليه وهذه البينونة الكبرى وهي إنما تحصل بالثلاث لا بطلقة واحدة مطلقة؛ لا يحصل بها لا بينونة كبرى ولا صغرى. وقد ثبت عن ابن عباس أنه قيل له. إن أهل اليمن عامة طلاقهم الفداء فقال ابن عباس: ليس الفداء بطلاق.

    ورد المرأة على زوجها بعد طلقتين وخلع مرة. وبهذا أخذ أحمد بن حنبل في ظاهر مذهبه والشافعي في أحد قوليه؛ لكن تنازع أهل هذا القول: هل يختلف الحكم باختلاف الألفاظ؟ والصحيح أن المعنى إذا كان واحدا فالاعتبار بأي لفظ وقع؛ وذلك أن الاعتبار بمقاصد العقود وحقائقها لا باللفظ وحده فما كان خلعا فهو خلع بأي لفظ كان وما كان طلاقا فهو طلاق بأي لفظ كان وما كان يمينا فهو يمين بأي لفظ كان وما كان إيلاء فهو إيلاء بأي لفظ كان وما كان ظهارا فهو ظهار بأي لفظ كان.

    والله تعالى ذكر في كتابه " الطلاق " و " اليمين " و " الظهار " و " الإيلاء " و " الافتداء " وهو الخلع وجعل لكل واحد حكما فيجب أن نعرف حدود ما أنزل الله على رسوله وندخل في الطلاق ما كان طلاقا وفي اليمين ما كان يمينا وفي الخلع ما كان خلعا وفي الظهار ما كان ظهارا؛ وفي الإيلاء ما كان إيلاء. وهذا هو الثابت عن أئمة الصحابة وفقهائهم والتابعين لهم بإحسان.
    ومن العلماء من اشتبه عليه بعض ذلك ببعض فيجعل ما هو ظهار طلاقا: فيكثر بذلك وقوع الطلاق الذي يبغضه الله ورسوله ويحتاجون إما إلى دوام المكروه؛ وإما إلى زواله بما هو أكره إلى الله ورسوله منه وهو " نكاح التحليل ".

    (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون (230)

    وقد ثبت في الصحيح {أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لامرأة رفاعة القرظي. لما أرادت أن ترجع إلى رفاعة بدون الوطء لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك} وليس في هذا خلاف إلا عن سعيد بن المسيب فإنه - مع أنه أعلم التابعين - لم تبلغه السنة في هذه المسألة. " والنكاح المبيح " هو النكاح المعروف عند المسلمين وهو النكاح الذي جعل الله فيه بين الزوجين مودة ورحمة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: {حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك} فأما " نكاح المحلل " فإنه لا يحلها للأول عند جماهير السلف وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لعن الله المحلل والمحلل له} وقال عمر بن الخطاب: لا أوتى بمحلل ومحلل له إلا رجمتهما. وكذلك قال عثمان وعلي وابن عباس وابن عمر وغيرهم: إنه لا يبيحها إلا بنكاح رغبة؛ لا نكاح محلل. ولم يعرف عن أحد من الصحابة أنه رخص في نكاح التحليل.
    ولكن تنازعوا في " نكاح المتعة " فإن نكاح المتعة خير من نكاح التحليل من ثلاثة أوجه. " أحدها " أنه كان مباحا في أول الإسلام بخلاف التحليل. " الثاني " أنه رخص فيه ابن عباس وطائفة من السلف؛ بخلاف التحليل فإنه لم يرخص فيه أحد من الصحابة.
    " الثالث " أن المتمتع له رغبة في المرأة وللمرأة رغبة فيه إلى أجل؛ بخلاف المحلل فإن المرأة ليس لها رغبة فيه بحال وهو ليس له رغبة فيها بل في أخذ ما يعطاه وإن كان له رغبة فهي من رغبته في الوطء؛ لا في اتخاذها زوجة من جنس رغبة الزاني؛ ولهذا قال ابن عمر: لا يزالان زانيين؛ وإن مكثا عشرين سنة.
    إذ الله علم من قلبه أنه يريد أن يحلها له.
    ولهذا تعدم فيه خصائص النكاح؛ فإن النكاح المعروف كما قال تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة}والتحليل فيه البغضة والنفرة؛ ولهذا لا يظهره أصحابه؛ بل يكتمونه كما يكتم السفاح.

    ومن شعائر النكاح إعلانه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف} ولهذا يكفي في إعلانه الشهادة عليه عند طائفة من العلماء وطائفة أخرى توجب الإشهاد والإعلان؛ فإذا تواصوا بكتمانه بطل. ومن ذلك الوليمة عليه والنثار والطيب والشراب ونحو ذلك مما جرت به عادات الناس في النكاح.

    وأما " التحليل " فإنه لا يفعل فيه شيء من هذا؛ لأن أهله لم يريدوا أن يكون المحلل زوج المرأة ولا أن تكون المرأة امرأته؛ وإنما المقصود استعارته لينزو عليها كما جاء في الحديث المرفوع تسميته بالتيس المستعار؛ ولهذا شبه بحمار العشريين الذي يكترى للتقفيز على الإناث؛ ولهذا لا تبقى المرأة مع زوجها بعد التحليل كما كانت قبله؛ بل يحصل بينهما نوع من النفرة. ولهذا لما لم يكن في التحليل مقصود صحيح يأمر به الشارع: صار الشيطان يشبه به أشياء مخالفة للإجماع فصار طائفة من عامة الناس يظنون أن ولادتها لذكر يحلها أو أن وطأها بالرجل على قدمها أو رأسها أو فوق سقف أو سلم هي تحته يحلها. ومنهم من يظن أنهما إذا التقيا بعرفات كما التقى آدم وامرأته أحلها ذلك.

    ومنهن من إذا تزوجت بالمحلل به لم تمكنه من نفسها؛ بل تمكنه من أمة لها. ومنهن من تعطيه شيئا وتوصيه بأن يقر بوطئها. ومنهم من يحلل الأم وبنتها. إلى أمور أخر قد بسطت في غير هذا الموضع بيناها في " كتاب بيان الدليل على بطلان التحليل " ولا ريب أن المنسوخ من الشريعة وما تنازع فيه السلف خير من مثل هذا؛ فإنه لو قدر أن الشريعة تأتي بأن الطلاق لا عدد له لكان هذا ممكنا وإن كان هذا منسوخا. وإما أن يقال: إن من طلق امرأته لا تحل له حتى يستكري من يطؤها فهذا لا تأتي به شريعة.

    وكثير من أهل التحليل يفعلون أشياء محرمة باتفاق المسلمين؛ فإن المرأة المعتدة لا يحل لغير زوجها أن يصرح بخطبتها سواء كانت معتدة من عدة طلاق أو عدة وفاة قال تعالى " {ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله} فنهى الله تعالى عن المواعدة سرا وعن عزم عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله. وإذا كان هذا في عدة الموت فهو في عدة الطلاق أشد باتفاق المسلمين؛ فإن المطلقة قد ترجع إلى زوجها؛ بخلاف من مات عنها.
    وأما " التعريض " فإنه يجوز في عدة المتوفى عنها ولا يجوز في عدة الرجعية وفيما سواهما. فهذه المطلقة ثلاثا لا يحل لأحد أن يواعدها سرا ولا يعزم عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله باتفاق المسلمين وإذا تزوجت بزوج ثان وطلقها ثلاثا لم يحل للأول أن يواعدها سرا ولا يعزم عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله باتفاق المسلمين. وذلك أشد وأشد.
    وإذا كانت مع زوجها لم يحل لأحد أن يخطبها لا تصريحا ولا تعريضا: باتفاق المسلمين فإذا كانت لم تتزوج بعد لم يحل للمطلق ثلاثا أن يخطبها؛ لا تصريحا ولا تعريضا. باتفاق المسلمين. وخطبتها في هذه الحال أعظم من خطبتها بعد أن تتزوج بالثاني.
    وهؤلاء " أهل التحليل " قد يواعد أحدهم المطلقة ثلاثا ويعزمان قبل أن تنقضي عدتها وقبل نكاح الثاني على عقدة النكاح بعد النكاح الثاني نكاح المحلل ويعطيها ما تنفقه على شهود عقد التحليل وللمحلل وما ينفقه عليها في عدة التحليل والزوج المحلل لا يعطيها مهرا ولا نفقة عدة ولا نفقة طلاق؛ فإذا كان المسلمون متفقين على أنه لا يجوز في هذه وقت نكاحها بالثاني أن يخطبها الأول - لا تصريحا ولا تعريضا - فكيف إذا خطبها قبل أن تتزوج بالثاني؟ أو إذا كان بعد أن يطلقها الثاني لا يحل للأول أن يواعدها سرا ولا يعزم عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله:
    فكيف إذا فعل ذلك من قبل أن يطلق بل قبل أن يتزوج بل قبل أن تنقضي عدتها منه فهذا كله يحرم باتفاق المسلمين. وكثير من أهل التحليل يفعله وليس في التحليل صورة اتفق المسلمون على حلها ولا صورة أباحها النص؛ بل من صور التحليل ما أجمع المسلمون على تحريمه ومنها ما تنازع فيه العلماء.

    وأما الصحابة فلم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن المحلل والمحلل له منهم؛ وهذا وغيره يبين أن من التحليل ما هو شر من نكاح المتعة وغيره من الأنكحة التي تنازع فيها السلف؛ وبكل حال فالصحابة أفضل هذه الأمة وبعدهم التابعون كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم} فنكاح تنازع السلف في جوازه أقرب من نكاح أجمع السلف كل تحريمه. وإذا تنازع فيه الخلف فإن أولئك أعظم علما ودينا؛ وما أجمعوا على تعظيم تحريمه كان أمره أحق مما اتفقوا على تحريمه وإن اشتبه تحريمه على من بعدهم. والله تعالى أعلم.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #122
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,763

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الرابع
    الحلقة (120)

    من صــ 133 الى صـ
    ـ 140




    وسئل - رحمه الله تعالى -:
    عن هذا " التحليل " الذي يفعله الناس اليوم: إذا وقع على الوجه الذي يفعلونه من الاستحقاق والإشهاد وغير ذلك من سائر الحيل المعروفة: هل هو صحيح أم لا؟ وإذا قلد من قال به هل: يفرق بين اعتقاد واعتقاد؟ وهل الأولى إمساك المرأة أم لا؟

    فأجاب:
    التحليل الذي يتواطئون فيه مع الزوج - لفظا أو عرفا - على أن يطلق المرأة أو ينوي الزوج ذلك: محرم. لعن النبي صلى الله عليه وسلم فاعله في أحاديث متعددة وسماه " التيس المستعار " وقال: {لعن الله المحلل والمحلل له}.
    وكذلك مثل عمر وعثمان وعلي وابن عمر وغيرهم لهم بذلك آثار مشهورة: يصرحون فيها بأن من قصد التحليل بقلبه فهو محلل؛ وإن لم يشترطه في العقد. وسموه " سفاحا ". ولا تحل لمطلقها الأول بمثل هذا العقد ولا يحل للزوج المحلل إمساكها بهذا التحليل بل يجب عليه فراقها؛ لكن إذا كان قد تبين باجتهاد أو تقليد جواز ذلك؛ فتحللت وتزوجها بعد ذلك ثم تبين له تحريم ذلك: فالأقوى أنه لا يجب عليه فراقها؛ بل يمنع من ذلك في المستقبل وقد عفا الله في الماضي عما سلف.

    (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير (233)

    قال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
    في قوله تعالى {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها} إلى قوله: {واعلموا أن الله بما تعملون بصير} مع قوله: {وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} إلى قوله: {سيجعل الله بعد عسر يسرا} وفي ذلك أنواع من الأحكام بعضها مجمع عليه وبعضها متنازع فيه. وإذا تدبرت كتاب الله تبين أنه يفصل النزاع بين من يحسن الرد إليه وأن من لم يهتد إلى ذلك؛ فهو إما لعدم استطاعته فيعذر. أو لتفريطه فيلام.
    وقوله تعالى {حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} يدل على أن هذا تمام الرضاعة وما بعد ذلك فهو غذاء من الأغذية. وبهذا يستدل من يقول: الرضاع بعد الحولين بمنزلة رضاع الكبير. وقوله: {حولين كاملين} يدل على أن لفظ " الحولين " يقع على حول وبعض آخر. وهذا معروف في كلامهم يقال: لفلان عشرون عاما إذا أكمل ذلك. قال الفراء والزجاج وغيرهما: لما جاز أن يقول: " حولين " ويريد أقل منهما كما قال تعالى: {فمن تعجل في يومين} ومعلوم أنه يتعجل في يوم وبعض آخر؛ وتقول: لم أر فلانا يومين. وإنما تريد يوما وبعض آخر. قال " كاملين " ليبين أنه لا يجوز أن ينقص منهما. وهذا بمنزلة قوله تعالى {تلك عشرة كاملة} فإن لفظ " العشرة " يقع على تسعة وبعض العاشر. فيقال: أقمت عشرة أيام. وإن لم يكملها. فقوله هناك {كاملة} بمنزلة قوله هنا {كاملين} وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: قال {الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به كاملا موفورا طيبة به نفسه أحد المتصدقين} " فالكامل الذي لم ينقص منه شيء؛ إذ الكمال ضد النقصان.
    وأما " الموفر " فقد قال: أجرهم موفرا. يقال: الموفر. للزائد؛ ويقال: لم يكلم. أي يجرح كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في " كتاب الزهد " عن وهب بن منبه: {أن الله تعالى قال لموسى وما ذاك لهوانهم علي ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالما موفرا؛ لم تكلمه الدنيا ولم تكلمه نطعة الهوى} وكان هذا تغيير الصفة وذاك نقصان القدر وذكر " أبو الفرج " هل هو عام في جميع الوالدات؟ أو يختص بالمطلقات؟ على قولين. والخصوص قول سعيد بن جبير ومجاهد والضحاك والسدي ومقاتل في آخرين. والعموم قول أبي سليمان الدمشقي والقاضي أبي يعلى في آخرين. قال القاضي ولهذا نقول: لها أن تؤجر نفسها لرضاع ولدها سواء كانت مع الزوج أو مطلقة. " قلت " الآية حجة عليهم؛ فإنها أوجبت للمرضعات رزقهن وكسوتهن بالمعروف؛ لا زيادة على ذلك.

    وهو يقول: تؤجر نفسها بأجرة غير النفقة. والآية لا تدل على هذا؛ بل إذا كانت الآية عامة دلت على أنها ترضع ولدها مع إنفاق الزوج عليها كما لو كانت حاملا فإنه ينفق عليها وتدخل نفقة الولد في نفقة الزوجية؛ لأن الولد يتغذى بغذاء أمه وكذلك في حال الرضاع فإن نفقة الحمل هي نفقة المرتضع. وعلى هذا فلا منافاة بين القولين؛ فالذين خصوه بالمطلقات أوجبوا نفقة جديدة بسبب الرضاع كما ذكر في " سورة الطلاق " وهذا مختص بالمطلقة وقوله تعالى {حولين كاملين} قد علم أن مبدأ الحول من حين الولادة والكمال إلى نظير ذلك.

    فإذا كان من عاشر المحرم كان الكمال في عاشر المحرم في مثل تلك الساعة؛ فإن الحول المطلق هو اثنا عشر شهرا من الشهر الهلالي كما قال تعالى: {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله} وهكذا ما ذكره من العدة أربعة أشهر وعشرا أولها من حين الموت وآخرها إذا مضت عشر بعد نظيره؛ فإذا كان في منتصف المحرم فآخرها خامس عشر المحرم وكذلك الأجل المسمى في البيوع وسائر ما يؤجل بالشرع وبالشرط. وللفقهاء هنا قولان آخران ضعيفان.

    " أحدهما " قول من يقول: إذا كان في أثناء الشهر كان جميع الشهور بالعدد فيكون الحولان ثلثمائة وستين. وعلى هذا القول تزيد المدة اثني عشر يوما وهو غلط بين.

    و " القول الثاني " قول من يقول: منها واحد بالعدد وسائرها بالأهلة. وهذا أقرب؛ لكن فيه غلط؛ فإنه على هذا إذا كان المبدأ عاشر المحرم وقد نقص المحرم كان تمامه تاسعه فيكون التكميل أحد عشر فيكون المنتهي حادي عشر المحرم وهو غلط أيضا. وظاهر القرآن يدل على أن على الأم إرضاعه لأن قوله: {يرضعن} خبر في معنى الأمر.

    وهي مسألة نزاع؛ ولهذا تأولها من ذهب إلى القول الآخر. قال القاضي أبو يعلى: وهذا الأمر انصرف إلى الآباء؛ لأن عليهم الاسترضاع؛ لا على الوالدات؛ بدليل قوله: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن} وقوله: {فآتوهن أجورهن} فلو كان متحتما على الوالدة لم يكن عليه الأجرة.
    فيقال: بل القرآن دل على أن للابن على الأم الفعل وعلى الأب النفقة ولو لم يوجد غيرها تعين عليها وهي تستحق الأجرة والأجنبية تستحق الأجرة ولو لم يوجد غيرها.
    وقوله تعالى {لمن أراد أن يتم الرضاعة} دليل على أنه لا يجوز أن يريد إتمام الرضاع ويجوز الفطام قبل ذلك إذا كان مصلحة وقد بين ذلك بقوله تعالى: {فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما} وذلك يدل على أنه لا يفصل إلا برضى الأبوين فلو أراد أحدهما الإتمام والآخر الفصال قبل ذلك كان الأمر لمن أراد الإتمام؛ لأنه قال تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن} وقوله تعالى {يرضعن} صيغة خبر ومعناه الأمر.
    والتقدير والوالدة مأمورة بإرضاعه حولين كاملين إذا أريد إتمام الرضاعة؛ فإذا أرادت الإتمام كانت مأمورة بذلك وكان على الأب رزقها وكسوتها وإن أراد الأب الإتمام كان له ذلك؛ فإنه لم يبح الفصال إلا بتراضيهما جميعا. يدل على ذلك قوله تعالى {لمن أراد أن يتم الرضاعة}. ولفظة (من) إما أن يقال: هو عام يتناول هذا وهذا ويدخل فيه الذكر والأنثى فمن أراد الإتمام أرضعن له. وإما أن يقال: قوله تعالى {لمن أراد أن يتم الرضاعة} إنما هو المولود له وهو المرضع له. فالأم تلد له وترضع له كما قال تعالى: {فإن أرضعن لكم}.

    والأم كالأجير مع المستأجر. فإن أراد الأب الإتمام أرضعن له وإن أراد أن لا يتم فله ذلك وعلى هذا التقدير فمنطوق الآية أمرهن بإرضاعه عند إرادة الأب ومفهومها أيضا جواز الفصل بتراضيهما. يبقى إذا أرادت الأم دون الأب مسكوتا عنه؛ لكن مفهوم قوله تعالى {عن تراض} أنه لا يجوز كما ذكر ذلك مجاهد وغيره؛ ولكن تناوله قوله تعالى {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} فإنها إذا أرضعت تمام الحول فله أرضعت وكفته بذلك مؤنة الطفل فلولا رضاعها لاحتاج إلى أن يطعمه شيئا آخر.

    ففي هذه الآية بين أن على الأم الإتمام إذا أراد الأب وفي تلك بين أن على الأب الأجر إذا أبت المرأة. قال مجاهد: " التشاور " فيما دون الحولين: إن أرادت أن تفطم وأبى فليس لها وإن أراد هو ولم ترد فليس له ذلك حتى يقع ذلك على تراض منهما وتشاور يقول: غير مسيئين إلى أنفسهما ولا رضيعهما. وقوله تعالى {إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف} قال إذا أسلمتم أيها الآباء إلى أمهات الأولاد أجر ما أرضعن قبل امتناعهن: روي عن مجاهد والسدي. وقيل: إذا أسلمتم إلى الظئر أجرها: بالمعروف: روي عن سعيد بن جبير ومقاتل. وقرأ ابن كثير: (أتيتم) بالقصر.
    وقوله تعالى {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} ولم يقل: وعلى الوالد كما قال {والوالدات} لأن المرأة هي التي تلده وأما الأب فلم يلده؛ بل هو مولود له لكن إذا قرن بينهما قيل: {وبالوالدين إحسانا} فأما مع الإفراد فليس في القرآن تسميته والدا بل أبا. وفيه بيان أن الولد ولد للأب؛ لا للأم؛ ولهذا كان عليه نفقته حملا وأجرة رضاعه.
    وهذا يوافق قوله تعالى {يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور} فجعله موهوبا للأب. وجعل بيته بيته في قوله: {ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم} وإذا كان الأب هو المنفق عليه جنينا ورضيعا والمرأة وعاء: فالولد زرع للأب قال تعالى: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} فالمرأة هي الأرض المزروعة والزرع فيها للأب وقد {نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسقي الرجل ماءه زرع غيره} " يريد به النهي عن وطء الحبالى فإن ماء الواطئ يزيد في الحمل كما يزيد الماء في الزرع وفي الحديث الآخر الصحيح: " {لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه في قبره كيف يورثه وهو لا يحل له وكيف يستعبده وهو لا يحل له}؟ " وإذا كان الولد للأب وهو زرعه كان هذا مطابقا لقوله صلى الله عليه وسلم {أنت ومالك لأبيك} "
    وقوله صلى الله عليه وسلم {إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه} " فقد حصل الولد من كسبه كما دلت عليه هذه الآية؛ فإن الزرع الذي في الأرض كسب المزدرع له الذي بذره وسقاه وأعطى أجرة الأرض فإن الرجل أعطى المرأة مهرها وهو أجر الوطء كما قال تعالى: {ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن} وهو مطابق لقوله تعالى {ما أغنى عنه ماله وما كسب} وقد فسر {وما كسب} بالولد.
    فالأم هي الحرث وهي الأرض التي فيها زرع والأب استأجرها بالمهر كما يستأجر الأرض وأنفق على الزرع بإنفاقه لما كانت حاملا ثم أنفق على الرضيع كما ينفق المستأجر على الزرع والثمر إذا كان مستورا وإذا برز؛ فالزرع هو الولد وهو من كسبه.

    وهذا يدل على أن للأب أن يأخذ من ماله ما لا يضر به؛ كما جاءت به السنة وأن ماله للأب مباح وإن كان ملكا للابن فهو مباح للأب أن يملكه وإلا بقي للابن؛ فإذا مات ولم يتملكه ورث عن الابن. وللأب أيضا أن يستخدم الولد ما لم يضر به. وفي هذا وجوب طاعة الأب على الابن إذا كان العمل مباحا لا يضر بالابن؛ فإنه لو استخدم عبده في معصية أو اعتدى عليه لم يجز فالابن أولى.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #123
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,763

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الرابع
    الحلقة (121)

    من صــ 141 الى صـ
    ـ 148




    ونفع الابن له إذا لم يأخذه الأب؛ بخلاف نفع المملوك فإنه لمالكه كما أن ماله لو مات لمالكه لا لوارثه. ودل ما ذكره على أنه لا يجوز للرجل أن يطأ حاملا من غيره وأنه إذا وطئها كان كسقي الزرع يزيد فيه وينميه ويبقى له شركة في الولد فيحرم عليه استعباد هذا الولد فلو ملك أمة حاملا من غيره ووطئها حرم استعباد هذا الولد؛ لأنه سقاه؛ ولقوله صلى الله عليه وسلم {: كيف يستعبده وهو لا يحل له. وكيف يورثه أي يجعله موروثا منه وهو لا يحل له}.
    ومن ظن أن المراد: كيف يجعله وارثا. فقد غلط؛ لأن تلك المرأة كانت أمة للواطئ والعبد لا يجعل وارثا إنما يجعل موروثا. فأما إذا استبرئت المرأة علم أنه لا زرع هناك. ولو كانت بكرا أو عند من لا يطؤها ففيه نزاع والأظهر جواز الوطء؛ لأنه لا زرع هناك وظهور براءة الرحم هنا أقوى من براءتها من الاستبراء بحيضة؛ فإن الحامل قد يخرج منها من الدم مثل دم الحيض؛ وإن كان نادرا. وقد تنازع العلماء هل هو حيض أو لا؟ فالاستبراء ليس دليلا قاطعا على براءة الرحم؛ بل دليل ظاهر. والبكارة وكونها كانت مملوكة لصبي أو امرأة أدل على البراءة. وإن كان البائع صادقا وأخبره أنه استبرأها حصل المقصود واستبراء الصغيرة التي لم تحض والعجوز والآيسة في غاية البعد.
    ولهذا اضطرب القائلون هل تستبرأ بشهر؟ أو شهر ونصف؟ أو شهرين؟ أو ثلاثة أشهر؟ وكلها أقوال ضعيفة. وابن عمر رضي الله عنهما لم يكن يستبرئ البكر ولا يعرف له مخالف من الصحابة والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالاستبراء إلا في المسبيات كما قال في سبايا أوطاس: " {لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تستبرأ بحيضة} " لم يأمر كل من ورث أمة أو اشتراها أن يستبرئها مع وجود ذلك في زمنه فعلم أنه أمر بالاستبراء عند الجهل بالحال؛ لإمكان أن تكون حاملا. وكذلك من ملكت وكان سيدها يطؤها ولم يستبرئها؛ لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر مثل هذا؛ إذ لم يكن المسلمون يفعلون مثل هذا؛ لا يرضى لنفسه أحد أن يبيع أمته الحامل منه؛ بل لا يبيعها إذا وطئها حتى يستبرئها فلا يحتاج المشتري إلى استبراء ثان. ولهذا لم ينه عن وطء الحبالى من السادات إذا ملكت ببيع أو هبة؛ لأن هذا لم يكن يقع؛ بل هذه دخلت في نهيه صلى الله عليه وسلم {أن يسقي الرجل ماءه زرع غيره}.
    وقوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} وقال تعالى في تلك الآية: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} يدل على أن هذا الأجر هو رزقهن وكسوتهن بالمعروف إذا لم يكن بينهما مسمى ترجعان إليه. " وأجرة المثل " إنما تقدر بالمسمى إذا كان هناك مسمى يرجعان إليه كما في البيع والإجارة لما كان السلعة هي أو مثلها بثمن مسمى وجب ثمن المثل إذا أخذت بغير اختياره وكما قال: النبي صلى الله عليه وسلم {من أعتق شركا له في عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل فأعطى شركاءه حصصهم وعتق العبد} فهناك أقيم العبد؛ لأنه ومثله يباع في السوق فتعرف القيمة التي هي السعر في ذلك الوقت وكذلك الأجير والصانع كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لعلي {أن يعطي الجازر من البدن شيئا وقال: نحن نعطيه من عندنا} " فإن الذبح وقسمة اللحم على المهدي؛ فعليه أجرة الجازر الذي فعل ذلك وهو يستحق نظير ما يستحقه مثله إذا عمل ذلك؛ لأن الجزارة معروفة ولها عادة معروفة. وكذلك سائر الصناعات: كالحياكة والخياطة والبناء. وقد كان من الناس من يخيط بالأجرة على عهده فيستحق هذا الخياط ما يستحقه نظراؤه وكذلك أجير الخدمة يستحق ما يستحقه نظيره؛ لأن ذلك عادة معروفة عند الناس.
    (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها ... (233)
    وسئل:

    عن رجل متزوج بامرأة وسافر عنها سنة كاملة؛ ولم يترك عندها شيئا ولا لها شيء تنفقه عليها وهلكت من الجوع فحضر من يخطبها ودخل بها وحملت منه فعلم الحاكم أن الزوج الأول موجود ففرق بينهما ووضعت الحمل من الزوج الثاني؛ والزوج الثاني ينفق عليها إلى أن صار عمر المولود أربع سنين ولم يحضر الزوج الأول ولا عرف له مكان: فهل لها أن تراجع الزوج الثاني؟ أو تنتظر الأول.
    فأجاب:
    إذا تعذرت النفقة من جهته فلها فسخ النكاح فإذا انقضت عدتها تزوجت بغيره. والفسخ للحاكم؛ فإذا فسخت هي نفسها لتعذر فسخ الحاكم أو غيره: ففيه نزاع.
    وأما إذا لم يفسخ الحاكم بل شهد لها أنه قد مات وتزوجت لأجل ذلك ولم يمت الزوج: فالنكاح باطل؛ لكن إذا اعتقد الزوج الثاني أنه صحيح لظنه موت الزوج الأول وانفساخ النكاح أو نحو ذلك فإنه يلحق به النسب؛ وعليه المهر ولا حد عليه؛ لكن تعتد له حتى تنقضي عدتها منه ثم بعد ذلك ينفسخ نكاح الأول إن أمكن وتتزوج بمن شاءت.
    وسئل - رحمه الله تعالى -:
    عن رجل زوج ابنته لرجل وأراد الزوج السفر إلى بلاده فقال له وكيل الأب في قبول النكاح: لا تسافر إما أن تعطي الحال من الصداق وتنتقل بالزوجة أو ترضي الأب. فسافر ولم يجب إلى ذلك وهو غائب عن الزوجة المذكورة مدة سنة ولم يصل منه نفقة: فهل لوالد الزوجة أن يطلب فسخ النكاح.
    فأجاب:
    نعم إذا عرضت المرأة عليه فبذل له تسليمها؛ وهي ممن يوطأ مثلها وجب عليه النفقة بذلك؛ فإذا تعذرت النفقة من جهته كان للزوجة المطالبة بالفسخ؛ إذا كان محجورا عليها على وجهين.
    (فصل: السبب المأمور به أو المباح لا ينافي وجوب التوكل على الله في وجود السبب)
    قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
    فصل:

    وأما قوله: " {يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم وكلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم} " فيقتضي أصلين عظيمين:
    أحدهما: وجوب التوكل على الله في الرزق المتضمن جلب المنفعة كالطعام ودفع المضرة كاللباس وأنه لا يقدر غير الله على الإطعام والكسوة قدرة مطلقة. وإنما القدرة التي تحصل لبعض العباد تكون على بعض أسباب ذلك؛ ولهذا قال: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} وقال: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم} فالمأمور به هو المقدور للعباد وكذلك قوله: {أو إطعام في يوم ذي مسغبة} {يتيما ذا مقربة} {أو مسكينا ذا متربة} وقوله: {وأطعموا القانع والمعتر} وقوله: {فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير} وقال: {وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه} فذم من يترك المأمور به اكتفاء بما يجري به القدر.
    ومن هنا يعرف أن السبب المأمور به أو المباح لا ينافي وجوب التوكل على الله في وجود السبب؛ بل الحاجة والفقر إلى الله ثابتة مع فعل السبب؛ إذ ليس في المخلوقات ما هو وحده سبب تام لحصول المطلوب؛ ولهذا لا يجب أن تقترن الحوادث بما قد يجعل سببا إلا بمشيئة الله تعالى؛ فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. فمن ظن الاستغناء بالسبب عن التوكل فقد ترك ما أوجب الله عليه من التوكل؛ وأخل بواجب التوحيد ولهذا يخذل أمثال هؤلاء إذا اعتمدوا على الأسباب. فمن رجا نصرا أو رزقا من غير الله خذله الله كما قال علي رضي الله عنه لا يرجون عبد إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه. وقد قال تعالى: {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم} وقال تعالى: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده} وقال: {قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون}.
    وهذا كما أن من أخذ يدخل في التوكل تاركا لما أمر به من الأسباب فهو أيضا جاهل ظالم؛ عاص لله بترك ما أمره؛ فإن فعل المأمور به عبادة لله. وقد قال تعالى: {فاعبده وتوكل عليه} وقال: {إياك نعبد وإياك نستعين} وقال: {قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب} وقال شعيب عليه السلام {عليه توكلت وإليه أنيب} وقال: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب}. وقال: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير} فليس من فعل شيئا أمر به وترك ما أمر به من التوكل بأعظم ذنبا ممن فعل توكلا أمر به وترك فعل ما أمر به من السبب؛ إذ كلاهما مخل ببعض ما وجب عليه وهما مع اشتراكهما في جنس الذنب فقد يكون هذا ألوم وقد يكون الآخر مع أن التوكل في الحقيقة من جملة الأسباب. وقد روى أبو داود في سننه {أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بين رجلين. فقال المقضي عليه: حسبي الله ونعم الوكيل فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله يلوم على العجز ولكن عليك بالكيس فإن غلبك أمر فقل: حسبي الله ونعم الوكيل} ".

    وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " {المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان} " ففي قوله صلى الله عليه وسلم " {احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز} " أمر بالتسبب المأمور به وهو الحرص على المنافع. وأمر مع ذلك بالتوكل وهو الاستعانة بالله فمن اكتفى بأحدهما فقد عصى أحد الأمرين ونهى عن العجز الذي هو ضد الكيس.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #124
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,763

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الرابع
    الحلقة (122)

    من صــ 149 الى صـ
    ـ 156




    (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين (238)
    أمر بالقنوت في القيام لله والقنوت: دوام الطاعة لله عز وجل سواء كان في حال الانتصاب أو في حال السجود كما قال تعالى {أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه} وقال تعالى {فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله} وقال {ومن يقنت منكن لله ورسوله} وقال: {وله من في السماوات والأرض كل له قانتون}. فإذا كان ذلك كذلك فقوله تعالى: {وقوموا لله قانتين} إما أن يكون أمرا بإقامة الصلاة مطلقا كما في قوله: {كونوا قوامين بالقسط} فيعم أفعالها ويقتضي الدوام في أفعالها وإما أن يكون المراد به: القيام المخالف للقعود فهذا يعم ما قبل الركوع وما بعده ويقتضي الطول وهو القنوت المتضمن للدعاء كقنوت النوازل وقنوت الفجر عند من يستحب المداومة عليه.
    وإذا ثبت وجوب هذا ثبت وجوب الطمأنينة في سائر الأفعال. بطريق الأولى. ويقوي الوجه الأول: حديث زيد بن أرقم الذي في الصحيحين عنه قال: {كان أحدنا يكلم الرجل إلى جنبه إلى الصلاة فنزلت {وقوموا لله قانتين} قال فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام} حيث أخبر أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة. ومعلوم أن السكوت عن خطاب الآدميين واجب في جميع الصلاة فاقتضى ذلك الأمر بالقنوت في جميع الصلاة ودل الأمر بالقنوت على السكوت عن مخاطبة الناس لأن القنوت هو دوام الطاعة فالمشتغل بمخاطبة العباد تارك للاشتغال بالصلاة التي هي عبادة الله وطاعته فلا يكون مداوما على طاعته ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سلم عليه ولم يرد بعد أن كان يرد {إن في الصلاة لشغلا} فأخبر أن في الصلاة ما يشغل المصلي عن مخاطبة الناس وهذا هو القنوت فيها وهو دوام الطاعة.
    ولهذا جاز عند جمهور العلماء تنبيه الناسي بما هو مشروع فيها من القراءة والتسبيح لأن ذلك لا يشغله عنها. ولا ينافي القنوت فيها.
    (فصل)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

    نزلت لما أخرت العصر عام الخندق قال النبي صلى الله عليه وسلم {ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس}.
    وبهذا يظهر أن الاحتجاج بذلك على أن تارك الصلاة لا يكفر حجة ضعيفة لكنه يدل على أن تارك المحافظة لا يكفر فإذا صلاها بعد الوقت لم يكفر؛ ولهذا جاءت في " {الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها قيل: يا رسول الله ألا نقاتلهم؟ قال: لا ما صلوا} وكذلك لما سئل ابن مسعود عن قوله تعالى {أضاعوا الصلاة} قال هو تأخيرها عن وقتها فقيل له: كنا نظن ذلك تركها فقال: لو تركوها كانوا كفارا.
    والمقصود أنه قد يدخل في " الاسم المطلق " أمور كثيرة وإن كانت قد تخص بالذكر.
    وقال شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية - رحمه الله -:
    فصل:

    تنازع الناس: أيما أفضل كثرة الركوع والسجود؟ أو طول القيام؟
    وقد ذكر عن أحمد في ذلك ثلاث روايات: إحداهن: أن كثرة الركوع والسجود أفضل وهي التي اختارها طائفة من أصحابه. والثانية أنهما سواء. والثالثة: أن طول القيام أفضل وهذا يحكى عن الشافعي. فنقول: هذه المسألة لها صورتان: إحداهما: أن يطيل القيام مع تخفيف الركوع والسجود. فيقال: أيما أفضل؟ هذا أم تكثير الركوع والسجود مع تخفيف القيام؟ ويكون هذا قد عدل بين القيام وبين الركوع والسجود فخفف الجميع.

    والصورة الثانية: أن يطيل القيام فيطيل معه الركوع والسجود فيقال:
    أيما أفضل؟ هذا أم أن يكثر من الركوع والسجود والقيام؟ وهذا قد عدل بين القيام والركوع والسجود في النوعين لكن أيما أفضل تطويل الصلاة قياما وركوعا وسجودا أم تكثير ذلك مع تخفيفها؟ فهذه الصورة ذكر أبو محمد وغيره فيها ثلاث روايات وكلام غيره يقتضي أن النزاع في الصورة الأولى أيضا. والصواب في ذلك: أن الصورة الأولى تقليل الصلاة مع كثرة الركوع والسجود وتخفيف القيام أفضل من تطويل القيام وحده مع تخفيف الركوع والسجود.

    ومن فضل تطويل القيام احتجوا بالحديث الصحيح {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي الصلاة أفضل فقال: طول القنوت}. وظنوا أن المراد بطول القنوت طول القيام وإن كان مع تخفيف الركوع والسجود وليس كذلك. فإن القنوت هو دوام العبادة والطاعة ويقال لمن أطال السجود: إنه قانت. قال تعالى: {أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه} فجعله قانتا في حال السجود كما هو قانت في حال القيام وقدم السجود على القيام.
    وفي الآية الأخرى قال: {والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما} ولم يقل قنوتا فالقيام ذكره بلفظ القيام لا بلفظ القنوت.
    وقال تعالى: {وقوموا لله قانتين} فالقائم قد يكون قانتا وقد لا يكون وكذلك الساجد. فالنبي صلى الله عليه وسلم بين أن طول القنوت أفضل الصلاة وهو يتناول القنوت في حال السجود وحال القيام. وهذا الحديث يدل على الصورة الثانية وأن تطويل الصلاة قياما وركوعا وسجودا أولى من تكثيرها قياما وركوعا وسجودا؛ لأن طول القنوت يحصل بتطويلها لا بتكثيرها وأما تفضيل طول القيام مع تخفيف الركوع والسجود على تكثير الركوع والسجود فغلط. فإن جنس السجود أفضل من جنس القيام من وجوه متعددة:
    أحدها: أن السجود بنفسه عبادة لا يصلح أن يفعل إلا على وجه العبادة لله وحده والقيام لا يكون عبادة إلا بالنية فإن الإنسان يقوم في أمور دنياه ولا ينهى عن ذلك. الثاني: أن الصلاة المفروضة لا بد فيها من السجود وكذلك كل صلاة فيها ركوع لا بد فيها من سجود لا يسقط السجود فيها بحال من الأحوال فهو عماد الصلاة وأما القيام فيسقط في التطوع دائما وفي الصلاة على الراحلة في السفر وكذلك يسقط القيام في الفرض عن المريض وكذلك المأموم إذا صلى إمامه جالسا. كما جاءت به الأحاديث الصحيحة. وسواء قيل: إنه عام للأمة أو مخصوص بالرسول فقد سقط القيام عن المأموم في بعض الأحوال والسجود لا يسقط لا عن قائم ولا قاعد والمريض إذا عجز عن إيمائه أتى منه بقدر الممكن وهو الإيماء برأسه وهو سجود مثله ولو عجز عن الإيماء برأسه ففيه قولان هما روايتان عن أحمد.
    أحدهما: أنه يومئ بطرفه فجعلوا إيماءه بطرفه هو ركوعه وسجوده فلم يسقطوه. والثاني: أنه تسقط الصلاة في هذه الحال ولا تصح على هذا الوجه وهو قول أبي حنيفة وهذا القول أصح في الدليل؛ لأن الإيماء بالعين ليس من أعمال الصلاة ولا يتميز فيه الركوع عن السجود ولا القيام عن القعود بل هو من نوع العبث الذي لم يشرعه الله تعالى.
    وأما الإيماء. بالرأس: فهو خفضه وهذا بعض ما أمر به المصلي وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: {إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم} وهو لا يستطيع من السجود إلا هذا الإيماء وأما تحريك العين فليس من السجود في شيء. وعلى القولين فقد اتفقوا على أنه لا بد في الصلاة من السجود وهذا يقول الإيماء بطرفه هو سجود وهذا يقول ليس بسجود فلا يصلي. فلو كانت الصلاة تصح مع القدرة بلا سجود لأمكن أن يكبر ويقرأ ويتشهد ويسلم فيأتي بالأقوال دون الأفعال وما علمت أحدا قال إن الصلاة تصح بمجرد الأقوال بل لا بد من السجود.
    وأما القيام والقراءة فيسقطان بالعجز باتفاق الأئمة فعلم أن السجود هو أعظم أركان الصلاة القولية والفعلية. الوجه الثالث: أن القيام إنما صار عبادة بالقراءة أو بما فيه من ذكر ودعاء كالقيام في الجنازة فأما القيام المجرد فلم يشرع قط عبادة مع إمكان الذكر فيه. بخلاف السجود فإنه مشروع بنفسه عبادة حتى خارج الصلاة شرع سجود التلاوة والشكر وغير ذلك.
    وأما المأموم إذا لم يقرأ فإنه يستمع قراءة إمامه واستماعه عبادة وإن لم يسمع فقد اختلف في وجوب القراءة عليه والأفضل له أن يقرأ. والذين قالوا لا قراءة عليه أو لا تستحب له القراءة قالوا قراءة الإمام له قراءة فإنه تابع للإمام.
    فإن قيل: إذا عجز الأمي عن القراءة والذكر قيل: هذه الصورة نادرة أو ممتنعة فإن أحدا لا يعجز عن ذكر الله وعليه أن يأتي بالتكبير وما يقدر عليه من تحميد وتهليل وعلى القول بتكرار ذلك؛ هل يكون بقدر الفاتحة؟ فيه وجهان لقول النبي صلى الله عليه وسلم {إذا قمت إلى الصلاة فإن كان معك قرآن فاقرأ به وإلا فاحمد الله وكبره وهلله ثم اركع} رواه أبو داود والترمذي. قال أحمد: إنه إذا قام إلى الثانية وقد نسي بعض أركان الأولى إن ذكر قبل الشروع في القراءة مضى وصارت هذه بدل تلك. فإن المقصود بالقيام هو القراءة؛ ولهذا قالوا: ما كان عبادة نفسه لم يحتج إلى ركن قولي كالركوع والسجود وما لم يكن عبادة بنفسه احتاج إلى ركن قولي كالقيام والقعود. وإذا كان السجود عبادة بنفسه علم أنه أفضل من القيام.

    الوجه الرابع: أن يقال القيام يمتاز بقراءة القرآن فإنه قد نهي عن القراءة في الركوع والسجود وقراءة القرآن أفضل من التسبيح فمن هذا الوجه تميز القيام وهو حجة من سوى بينهما فقال السجود بنفسه أفضل وذكر القيام أفضل فصار كل منهما أفضل من وجه أو تعادلا. لكن يقال قراءة القرآن تسقط في مواضع وتسقط عن المسبوق القراءة والقيام أيضا. كما في حديث أبي بكرة.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #125
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,763

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الرابع
    الحلقة (123)

    من صــ 157 الى صـ
    ـ 164




    وفي السنن {من أدرك الركعة فقد أدرك السجدة} وهذا قول جماهير العلماء والنزاع فيه شاذ.
    وأيضا فالأمي تصح صلاته بلا قراءة باتفاق العلماء كما في السنن {أن رجلا قال: يا رسول الله؛ إني لا أستطيع أن آخذ شيئا من القرآن فعلمني ما يجزيني منه. فقال: قل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله فقال: هذا لله فما لي؟ قال: تقول: اللهم اغفر لي وارحمني وارزقني واهدني}. وأيضا فلو نسي القراءة في الصلاة قد قيل: تجزئه الصلاة وروي ذلك عن الشافعي.

    وقيل: إذا نسيها في الأولى قرأ في الثانية قراءة الركعتين وروي هذا عن أحمد.
    وأما السجود فلا يسقط بحال فعلم أن السجود أفضل من القراءة كما أنه أفضل من القيام والمسبوق في الصلاة يبني على قراءة الإمام الذي استخلفه كما قد بنى النبي صلى الله عليه وسلم على قراءة أبي بكر. الوجه الخامس: أنه قد ثبت في الصحيح {أن النار تأكل من ابن آدم كل شيء إلا موضع السجود} فتأكل القدم وإن كان موضع القيام.
    الوجه السادس: إن الله تعالى قال: {يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون} {خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون} وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة: أنه إذا تجلى لهم يوم القيامة سجد له المؤمنون ومن كان يسجد في الدنيا رياء يصير ظهره مثل الطبق ". فقد أمروا بالسجود في عرصات القيامة دون غيره من أجزاء الصلاة. فعلم أنه أفضل من غيره.
    الوجه السابع: أنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة: أن الرسول إذا طلب منه الناس الشفاعة يوم القيامة قال: {فأذهب فإذا رأيت ربي خررت له ساجدا وأحمد ربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن} فهو إذا رآه سجد وحمد وحينئذ يقال له: {أي محمد ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع}. فعلم أنه أفضل من غيره. الوجه الثامن: إن الله تعالى قال: {كلا لا تطعه واسجد واقترب} وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد} وهذا نص في أنه في حال السجود أقرب إلى الله منه في غيره وهذا صريح في فضيلة السجود على غيره.
    والحديث رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء}. الوجه التاسع: ما رواه مسلم في صحيحه عن {معدان بن أبي طلحة قال: لقيت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أخبرني بعمل يدخلني الله به الجنة أو قال: بأحب الأعمال إلى الله فسكت ثم سألته الثانية فقال: سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: عليك بكثرة السجود لله فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة} قال معدان: ثم لقيت أبا الدرداء فسألته فقال لي مثلما قال لي ثوبان.
    فإن كان سأله عن أحب الأعمال فهو صريح في أن السجود أحب إلى الله من غيره وإن كان سأله عما يدخله الله به الجنة فقد دله على السجود دون القيام فدل على أنه أقرب إلى حصول المقصود. وهذا الحديث يحتج به من يرى أن كثرة السجود أفضل من تطويله لقوله: {فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة} ولا حجة فيه؛ لأن كل سجدة يستحق بها ذلك لكن السجدة أنواع. فإذا كانت إحدى السجدتين أفضل من الأخرى كان ما يرفع به من الدرجة أعظم وما يحط به عنه من الخطايا أعظم كما أن السجدة التي يكون فيها أعظم خشوعا وحضورا هي أفضل من غيرها فكذلك السجدة الطويلة التي قنت فيها لربه هي أفضل من القصيرة. الوجه العاشر: ما روى مسلم أيضا عن {ربيعة بن كعب قال: كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فآتيه بوضوئه وحاجته فقال لي: سل فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة فقال: أوغير ذلك؟ فقلت:
    هو ذاك قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود}. فهذا قد سأل عن مرتبة علية وإنما طلب منه كثرة السجود. وهذا أدل على أن كثرة السجود أفضل لكن يقال المكثر من السجود قد يكثر من سجود طويل وقد يكثر من سجود قصير وذاك أفضل.
    وأيضا فالإكثار من السجود لا بد فإذا صلى إحدى عشرة ركعة طويلة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم فإذا صلى المصلي في مثل زمانهن عشرين ركعة فقد أكثر السجود لكن سجود ذاك أفضل وأتم وهذا أكثر من ذاك وليس لأحد أن يقول: إنما كان أكثر مع قصرها فهو أفضل مما هو كثير أيضا وهو أتم وأطول كصلاة النبي صلى الله عليه وسلم.

    الوجه الحادي عشر: أن مواضع الساجد تسمى مساجد. كما قال تعالى: {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا} وقال تعالى: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه} وقال تعالى: {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله} وقال تعالى: {قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد} ولا تسمى مقامات إلا بعد فعل السجود فيها. فعلم أن أعظم أفعال الصلاة هو السجود الذي عبر عن مواضع السجود بأنها مواضع فعله. الوجه الثاني عشر: أنه تعالى قال: {إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون} وهذا وإن تناول سجود التلاوة فتناوله لسجود الصلاة أعظم؛ فإن احتياج الإنسان إلى هذا السجود أعظم على كل حال فقد جعل الخرور إلى السجود مما لا يحصل الإيمان إلا به وخصه بالذكر وهذا مما تميز به وكذلك أخبر عن أنبيائه أنهم: {إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا} وقال في تلك الآية:

    {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا}. والدعاء في السجود أفضل من غيره كما ثبت في الأحاديث الصحيحة مثل قوله في حديث أبي هريرة {أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء} ومثل ما روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال: {كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر. فقال أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا فأما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم} وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء في السجود في عدة أحاديث وفي غير حديث تبين أن ذلك في صلاته بالليل فعلم أن قوله: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا} وإن كان يتناول الدعاء في جميع أحوال الصلاة فالسجود له مزية على غيره كما لآخر الصلاة مزية على غيرها؛ ولهذا جاء في السنن: {أفضل الدعاء جوف الليل الآخر ودبر الصلوات المكتوبات}.

    فهذه الوجوه وغيرها مما يبين أن جنس السجود أفضل من جنس القيام والقراءة ولو أمكن أن يكون أطول من القيام لكان ذلك أفضل؛ لكن هذا يشق مشقة عظيمة فلهذا خفف السجود عن القيام مع أن السنة تطويله إذا طول القيام كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فروي: {أنه كان يخفف القيام والقعود ويطيل الركوع والسجود} ولما أطال القيام في صلاة الكسوف أطال الركوع والسجود. وكذلك في حديث حذيفة الصحيح: {أنه لما قرأ بالبقرة والنساء وآل عمران قال: ركع نحوا من قيامه وسجد نحوا من ركوعه} وفي حديث البراء الصحيح أنه قال: {كان قيامه فركعته فاعتداله فسجدته فجلوسه بين السجدتين فجلسته ما بين السلام والانصراف قريبا من السواء}. وفي رواية: {ما خلا القيام والقعود}.

    وثبت في الصحيح عن عائشة: {أنه كان يسجد السجدة بقدر ما يقرأ الإنسان خمسين آية} " فهذه الأحاديث تدل على أن تطويل الصلاة قيامها وركوعها وسجودها أفضل من تكثير ذلك مع تخفيفه وهو القول الثالث في الصورة الثانية ومن سوى بينهما قال: إن الأحاديث تعارضت في ذلك وليس كذلك؛ فإن قوله: {أفضل الصلاة طول القنوت} يتناول التطويل في القيام والسجود وكذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة} " وقال: {من أم الناس فليخفف فإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء} ". وأحاديث تفضيل السجود قد بينا أنها لا تنافي ذلك. ومعلوم: أن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
    وأيضا فإنه لما صلى الكسوف كان يمكنه أن يصلي عشر ركعات أو عشرين ركعة يكثر فيها قيامها وسجودها فلم يفعل؛ بل صلى ركعتين أطال فيهما القيام والركوع والسجود وجعل في كل ركعة قيامين وركوعين وعلى هذا فكثرة الركوع والسجود أفضل من طول القيام الذي ليس فيه تطويل الركوع والسجود.
    وأما إذا أطال القيام والركوع والسجود فهذا أفضل من إطالة القيام فقط وأفضل من تكثير الركوع والسجود والقيام بقدر ذلك. والكلام إنما هو في الوقت الواحد: كثلث الليل أو نصفه أو سدسه أو الساعة. هل هذا أفضل من هذا أو هذا أفضل من هذا.
    وفي الصحيحين عن {أم هانئ لما صلى الثماني ركعات يوم الفتح قالت: ما رأيته صلى صلاة قط أخف منها غير أنه كان يتم الركوع والسجود} " وفي رواية لمسلم {ثم قام فركع ثماني ركعات لا أدري أقيامه فيها أطول أم ركوعه أم سجوده كل ذلك متقارب} " فهذا يبين أنه طول الركوع، والسجود قريبا من القيام وأن قولها:

    {لم أره صلى صلاة أخف منها} إخبار منها عما رأته وأم هانئ لم تكن مباشرة له في جميع الأحوال ولعلها أرادت منع كثرة الركعات فإنه لم يصل ثمانيا جميعا أخف منها فإن صلاته بالليل كانت أطول من ذلك وهو بالنهار لم يصل ثمانيا متصلة قط؛ بل إنما كان يصلي المكتوبة والظهر كان يصلي بعدها ركعتين وقبلها أربعا أو ركعتين أو لعله خففها لضيق الوقت فإنه صلاها بالنهار وهو مشتغل بأمور فتح مكة كما كان يخفف المكتوبة في السفر حتى يقرأ في الفجر بالمعوذتين.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #126
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,763

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الرابع
    الحلقة (124)

    من صــ 165 الى صـ
    ـ 172




    وروي أنه قرأ في الفجر بالزلزلة في الركعتين فهذا التخفيف لعارض. وقد احتج من فضل التكثير على التطويل بحديث {ابن مسعود قال: إني لأعرف السور التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بهن من المفصل كل سورتين في ركعة} يدل على أنه لم يكن يطيل القيام وهذا لا حجة فيه؛ لأنه أولا جمع بين سورتين من المفصل وأيضا فإنه كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها.
    وأيضا فإن حذيفة روى عنه: {أنه قام بالبقرة والنساء وآل عمران في ركعة} وابن مسعود ذكر أنه طول حتى هممت بأمر سوء: أن أجلس وأدعه. ومعلوم أن هذا لا يكون بسورتين فعلم أنه كان يفعله أحيانا ولا ريب أنه كان يطيل بعض الركعات أطول من بعض كما روت عائشة وغيرها والله أعلم.
    (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ... (255)

    (فصل)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

    وأما من سلك في دفع عداوتهم [الجن] مسلك العدل الذي أمر الله به ورسوله فإنه لم يظلمهم بل هو مطيع لله ورسوله في نصر المظلوم وإغاثة الملهوف والتنفيس عن المكروب بالطريق الشرعي التي ليس فيها شرك بالخلق ولا ظلم للمخلوق ومثل هذا لا تؤذيه الجن إما لمعرفتهم بأنه عادل؛ وإما لعجزهم عنه. وإن كان الجن من العفاريت وهو ضعيف فقد تؤذيه فينبغي لمثل هذا أن يحترز بقراءة العوذ مثل آية الكرسي والمعوذات والصلاة والدعاء ونحو ذلك مما يقوي الإيمان ويجنب الذنوب التي بها يسلطون عليه فإنه مجاهد في سبيل الله وهذا من أعظم الجهاد فليحذر أن ينصر العدو عليه بذنوبه وإن كان الأمر فوق قدرته فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها فلا يتعرض من البلاء لما لا يطيق. ومن أعظم ما ينتصر به عليهم آية الكرسي فقد ثبت في صحيح البخاري حديث {أبي هريرة قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته وقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة قال: فخليت عنه فأصبحت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت:

    يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته وخليت سبيله قال: أما أنه قد كذبك وسيعود فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فرصدته فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال لا أعود فرحمته فخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا هريرة ما فعل أسيرك؟ قلت: يا رسول الله شكا حاجة وعيالا فرحمته فخليت سبيله قال: أما إنه قد كذبك وسيعود فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا آخر ثلاث مرات تزعم أنك لا تعود ثم تعود قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها قلت: ما هن؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} حتى تختم الآية فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح فخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله قال:

    ما هي؟ قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح وكانوا أحرص شيء على الخير فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما إنه قد صدقك وهو كذوب تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟ قلت: لا. قال: ذاك شيطان}.
    ومع هذا فقد جرب المجربون الذين لا يحصون كثرة أن لها من التأثير في دفع الشياطين وإبطال أحوالهم ما لا ينضبط من كثرته وقوته فإن لها تأثيرا عظيما في دفع الشيطان عن نفس الإنسان وعن المصروع وعن من تعينه الشياطين مثل أهل الظلم والغضب وأهل الشهوة والطرب وأرباب السماع المكاء والتصدية إذا قرئت عليهم بصدق دفعت الشياطين وبطلت الأمور التي يخيلها الشيطان ويبطل ما عند إخوان الشياطين من مكاشفة شيطانية وتصرف شيطاني إذ كانت الشياطين يوحون إلى أوليائهم بأمور يظنها الجهال من كرامات أولياء الله المتقين وإنما هي من تلبيسات الشياطين على أوليائهم المغضوب عليهم والضالين.
    والصائل المعتدي يستحق دفعه سواء كان مسلما أو كافرا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم {من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد} فإذا كان المظلوم له أن يدفع عن مال المظلوم ولو بقتل الصائل العادي فكيف لا يدفع عن عقله وبدنه وحرمته فإن الشيطان يفسد عقله ويعاقبه في بدنه وقد يفعل معه فاحشة إنسي بإنسي وإن لم يندفع إلا بالقتل جاز قتله.

    (ياأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين (264)
    وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
    فصل:

    لما ذكر سبحانه ما يبطل الصدقة من المن والأذى ومن الرياء ومثله بالتراب على الصفوان إذا أصابه المطر ولهذا قال: {ولا يؤمن بالله واليوم الآخر} لأن الإيمان بأحدهما لا ينفع هنا بخلاف قوله في النساء: {إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا} إلى قوله: {والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر}. فإنه في معرض الذم فذكر غايته وذكر ما يقابله وهم الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم. فالأول الإخلاص.
    و " التثبيت " هو التثبت كقوله: {ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا} كقوله: {وتبتل إليه تبتيلا} ويشبه - والله أعلم - أن يكون هذا من باب قدم وتقدم كقوله: {لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} فتبتل وتثبت لازم بمعنى ثبت لأن التثبت هو القوة والمكنة وضده الزلزلة والرجفة فإن الصدقة من جنس القتال فالجبان يرجف والشجاع يثبت ولهذا {قال النبي صلى الله عليه وسلم وأما الخيلاء التي يحبها الله فاختيال الرجل بنفسه عند الحرب واختياله بنفسه عند الصدقة} لأنه مقام ثبات وقوة فالخيلاء تناسبه وإنما الذي لا يحبه الله المختال الفخور البخيل الآمر بالبخل فأما المختال مع العطاء أو القتال فيحبه. وقوله {من أنفسهم} أي ليس المقوي له من خارج كالذي يثبت وقت الحرب لإمساك أصحابه له وهذا كقوله: {وإذا ما غضبوا هم يغفرون} بل تثبته ومغفرته من جهة نفسه.
    وقد ذكر الله سبحانه في البقرة والنساء الأقسام الأربعة في العطاء. إما أن لا يعطي فهو البخيل المذموم في النساء أو يعطي مع الكراهة والمن والأذى فلا يكون بتثبيت وهو المذموم في البقرة أو مع الرياء فهو المذموم في السورتين فبقي القسم الرابع: ابتغاء رضوان الله وتثبيتا من أنفسهم.
    ونظيره " الصلاة " إما أن لا يصلي أو يصلي رياء أو كسلان أو يصلي مخلصا والأقسام الثلاثة الأول مذمومة وكذلك " الزكاة " ونظير ذلك " الهجرة والجهاد " فإن الناس فيهما أربعة أقسام وكذلك {إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا} في الثبات والذكر وكذلك: {وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة}. في الصبر والمرحمة أربعة أقسام وكذلك {استعينوا بالصبر والصلاة} فهم. . . (1) في الصبر والصلاة فعامة هذه الأشفاع التي في القرآن: إما عملان وإما وصفان في عمل: انقسم الناس فيها قسمة رباعية ثم إن كانا عملين منفصلين كالصلاة والصبر والصلاة والزكاة ونحو ذلك نفع أحدهما ولو ترك الآخر وإن كانا شرطين في عمل كالإخلاص والتثبت لم ينفع أحدهما فإن المن والأذى محبط كما أن الرياء محبط كما دل عليه القرآن ومن هذا تقوى الله وحسن الخلق فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون والبر والتقوى والحق والصبر وأفضل الإيمان السماحة والصبر.

    بخلاف الأشفاع في الذم كالإفك والإثم والاختيال والفخر والشح والجبن والإثم والعدوان؛ فإن الذم ينال أحدهما مفردا ومقرونا لأن الخير من باب المطلوب وجوده لمنفعته فقد لا تحصل المنفعة إلا بتمامه والشر يطلب عدمه لمضرته وبعض المضار يضر في الجملة غالبا ولهذا فرق في الأسماء بين الأمر والنهي والإثبات والنفي فإذا أمر بالشيء اقتضى كماله وإذا نهى عنه اقتضى النهي عن جميع أجزائه ولهذا حيث أمر الله بالنكاح - كما في المطلقة ثلاثا حتى تنكح زوجا غيره وكما في الإحصان - فلا بد من الكمال بالعقد والدخول وحيث نهى عنه كما في ذوات المحارم فالنهي عن كل منهما على انفراده وهذا مذهب مالك وأحمد المنصوص عنه أنه إذا حلف ليتزوجن لم يبر إلا بالعقدة والدخول بخلاف ما إذا حلف لا يتزوج فإنه يحنث بالعقدة وكذلك إذا حلف لا يفعل شيئا حنث بفعل بعضه بخلاف ما إذا حلف ليفعلنه فإن دلالة الاسم على كل وبعض تختلف باختلاف النفي والإثبات.
    __________
    Q (1) هنا كلمات غير متضحة



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #127
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,763

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الرابع
    الحلقة (125)

    من صــ 173 الى صـ
    ـ 180






    ولهذا لما أمر الله بالطهارة والصلاة والزكاة والحج كان الواجب الإتمام كما قال تعالى: {بكلمات فأتمهن} وقال: {وإبراهيم الذي وفى}. ولما نهى عن القتل والزنا والسرقة والشرب كان ناهيا عن أبعاض ذلك؛ بل وعن مقدماته أيضا وإن كان الاسم لا يتناوله في الإثبات ولهذا فرق في الأسماء النكرات بين النفي والإثبات والأفعال كلها نكرات وفرق بين الأمر والنهي بين التكرار وغيره {وقال صلى الله عليه وسلم إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه}. وإنما اختلف في المعارف المنفية على روايتين كما في قوله: لا تأخذ الدراهم ولا تكلم الناس.
    (ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير (265)

    قال قتادة: تثبيتا من أنفسهم احتسابا من عند أنفسهم. وقال الشعبي: يقينا وتصديقا من أنفسهم. وقيل يخرجونها طيبة بها أنفسهم على يقين بالثواب وتصديق بوعد الله يعلمون أن ما أخرجوه خير لهم مما تركوه. قلت: إذا كان المعطي محتسبا للأجر من الله لا من الذي أعطاه فلا يمن عليه.

    (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم (273)
    (فصل في أن المسلمين أربعة أصناف)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

    السالكون طريق الله منهم من يكون مع قيامه بما أمره الله به من الجهاد والعلم والعبادة وغير ذلك عاجزا عن الكسب كالذين ذكرهم الله في قوله: {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا} والذين ذكرهم الله في قوله: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون}. فالصنف الأول أهل صدقات والصنف الثاني أهل الفيء كما قال تعالى في الصنف الأول: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير} إلى قوله: {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله} وقال في " الصنف الثاني ": {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} إلى قوله: {للفقراء المهاجرين} ثم قال: {والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم}.

    فذكر المهاجرين والأنصار وكان المهاجرون تغلب عليهم التجارة؛ والأنصار تغلب عليهم الزراعة وقد قال للطائفتين: {أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض}

    فذكر زكاة التجارة وزكاة الخارج من الأرض وهو العشر أو نصف العشر أو ربع العشر. ومن السالكين من يمكنه الكسب مع ذلك وقد قال تعالى لما أمرهم بقيام الليل: {علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله} فجعل المسلمين أربعة أصناف صنفا أهل القرآن والعلم والعبادة وصنفا يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وصنفا يجاهدون في سبيل الله والرابع المعذرون.
    (فصل في العفة والغنى)
    قال شيخ الإسلام:

    جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين العفة والغنى في عدة أحاديث منها قوله في حديث أبي سعيد المخرج في الصحيحين: {من يستغن يغنه الله ومن يستعفف يعفه الله} ومنها قوله في حديث عياض بن حمار في صحيح مسلم: {أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط ورجل غني عفيف متصدق} ومنها قوله في حديث الخيل الذي في الصحيح: {ورجل ارتبطها تغنيا وتعففا. ولم ينس حق الله في رقابها وظهورها فهي له ستر} ومنها ما روي عنه: {من طلب المال استغناء عن الناس واستعفافا عن المسألة لقي الله ووجهه كالقمر ليلة البدر}. ومنها قوله في حديث عمر وغيره: {ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مشرف فخذه} فالسائل بلسانه وهو ضد المتعفف والمشرف بقلبه وهو ضد الغنى. قال في حق الفقراء: {يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف}
    أي عن السؤال للناس. وقال: {ليس الغنى عن كثرة العرض وإنما الغنى غنى النفس} فغنى النفس الذي لا يستشرف إلى المخلوق فإن الحر عبد ما طمع والعبد حر ما قنع. وقد قيل: أطعت مطامعي فاستعبدتني. فكره أن يتبع نفسه ما استشرفت له لئلا يبقى في القلب فقر وطمع إلى المخلوق؛ فإنه خلاف التوكل المأمور به وخلاف غنى النفس.
    وسئل:
    عن السؤال في الجامع: هل هو حلال؟ أم حرام؟ أو مكروه؟ وأن تركه أوجب من فعله؟.
    فأجاب:

    الحمد لله، أصل السؤال محرم في المسجد وخارج المسجد إلا لضرورة فإن كان به ضرورة وسأل في المسجد ولم يؤذ أحدا بتخطيه رقاب الناس ولا غير تخطيه ولم يكذب فيما يرويه ويذكر من حاله ولم يجهر جهرا يضر الناس مثل أن يسأل والخطيب يخطب أو وهم يسمعون علما يشغلهم به ونحو ذلك جاز والله أعلم.

    (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (274)

    [فصل البرهان السابع والعشرون " الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية " والجواب عليه]
    فصل
    قال الرافضي: " البرهان السابع والعشرون: قوله تعالى: {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية} [سورة البقرة: 274]. من طريق أبي نعيم بإسناده إلى ابن عباس نزلت في علي، كان معه أربعة دراهم، فأنفق درهما بالليل، ودرهما بالنهار، ودرهما سرا، ودرهما علانية، وروى الثعلبي ذلك. ولم يحصل ذلك لغيره، فيكون أفضل، فيكون هو الإمام ".

    والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بصحة النقل. ورواية أبي نعيم والثعلبي لا تدل على الصحة.
    الثاني: أن هذا كذب ليس بثابت.
    الثالث: أن الآية عامة في كل من ينفق بالليل والنهار سرا وعلانية، فمن عمل بها دخل فيها، سواء كان عليا أو غيره، ويمتنع أن لا يراد بها إلا واحد معين.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #128
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,763

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الرابع
    الحلقة (126)

    من صــ 181 الى صـ
    ـ 188




    الرابع: أن ما ذكر من الحديث يناقض مدلول الآية ; فإن الآية تدل على الإنفاق في الزمانين اللذين لا يخلو الوقت عنهما، وفي الحالين اللذين لا يخلو الفعل منهما. فالفعل لا بد له من زمان، والزمان إما ليل وإما نهار. والفعل إما سرا وإما علانية ; فالرجل إذا أنفق بالليل سرا، كان قد أنفق ليلا سرا. وإذا أنفق علانية نهارا، كان قد أنفق علانية نهارا. وليس الإنفاق سرا وعلانية خارجا عن الإنفاق بالليل والنهار. فمن قال: إن المراد من أنفق درهما بالسر، ودرهما في العلانية، ودرهما بالليل، ودرهما بالنهار - كان جاهلا، فإن الذي أنفقه سرا وعلانية قد أنفقه ليلا ونهارا، والذي قد أنفقه ليلا ونهارا قد أنفقه سرا وعلانية. فعلم أن الدرهم الواحد يتصف بصفتين، لا يجب أن يكون المراد أربعة.
    لكن هذه التفاسير الباطلة يقول مثلها كثير من الجهال، كما يقولون:
    محمد رسول الله والذين معه (أبو بكر) أشداء على الكفار (عمر) رحماء بينهم (عثمان) تراهم ركعا سجدا (علي) يجعلون هذه الصفات لموصوفات متعددة ويعينون الموصوف في هؤلاء الأربعة.

    والآية صريحة في إبطال هذا وهذا، فإنها صريحة في أن هذه الصفات كلها لقوم يتصفون بها كلها، وإنهم كثيرون ليسوا واحدا. ولا ريب أن الأربعة أفضل هؤلاء، وكل من الأربعة موصوف بهذا كله، وإن كان بعض الصفات في بعض أقوى منها في آخر.
    وأغرب من ذلك قول بعض جهال المفسرين: {والتين والزيتون - وطور سينين - وهذا البلد الأمين} [سورة التين: 1 - 3] إنهم الأربعة ; فإن هذا مخالف للعقل والنقل. لكن الله أقسم بالأماكن الثلاثة التي أنزل فيها كتبه الثلاثة التوراة والإنجيل والقرآن، وظهر منها موسى وعيسى ومحمد، كما قال في التوراة: جاء الله من طور سينا، وأشرق من ساعين، واستعلن من جبال فاران.
    فالتين والزيتون: الأرض التي بعث فيها المسيح، وكثيرا ما تسمى الأرض بما ينبت فيها، فيقال: فلان خرج إلى الكرم وإلى الزيتون وإلى الرمان، ونحو ذلك، ويراد الأرض التي فيها ذلك، فإن الأرض تتناول ذلك، فعبر عنها ببعضها.

    وطور سينين حيث كلم الله موسى، وهذا البلد الأمين مكة أم القرى التي بعث بها محمد - صلى الله عليه وسلم -.
    والجاهل بمعنى الآية، لتوهمه أن الذي أنفقه سرا وعلانية غير الذي أنفقه في الليل والنهار - يقول: نزلت فيمن أنفق أربعة دراهم، إما علي وإما غيره، ولهذا قال: {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية} * لم يعطف بالواو، فيقول: وسرا وعلانية. بل هذان داخلان في الليل والنهار، سواء * قيل: هما منصوبان على المصدر ; لأنهما نوعان من الإنفاق، أو قيل: على الحال. فسواء قدرا سرا وعلانية، أو مسرا ومعلنا، فتبين أن الذي كذب هذا كان جاهلا بدلالة القرآن. والجهل في الرافضة ليس بمنكر.

    الخامس: أنا لو قدرنا أن عليا فعل ذلك، ونزلت فيه الآية، فهل هنا إلا إنفاق أربعة دراهم في أربعة أحوال؟! وهذا عمل مفتوح بابه ميسر إلى يوم القيامة. والعاملون بهذا وأضعافه أكثر من أن يحصوا، وما من أحد فيه خير إلا ولا بد أن ينفق إن شاء الله تارة بالليل وتارة بالنهار، وتارة في السر وتارة في العلانية. فليس هذا من الخصائص، فلا يدل على فضيلة الإمامة.
    (فائدة)
    قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:

    وقد ذكر الله في آخر البقرة أحكام الأموال وهي ثلاثة أصناف: عدل؛ وفضل؛ وظلم؛ فالعدل: البيع؛ والظلم: الربا؛ والفضل: الصدقة. فمدح المتصدقين وذكر ثوابهم وذم المربين وبين عقابهم وأباح البيع والتداين إلى أجل مسمى؛ فالعقل من جنس ما أوجبه من الحقوق لبعض الناس على بعض كحق المسلم؛ وحق ذي الرحم وحق الجار؛ وحق المملوك والزوجة.

    (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا ... (275)
    (فصل)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

    والناس في هذا الباب ثلاثة أصناف: قوم يكذبون بدخول الجني في الإنس. وقوم يدفعون ذلك بالعزائم المذمومة فهؤلاء يكذبون بالموجود وهؤلاء يعصون بل يكفرون بالمعبود. والأمة الوسط تصدق بالحق الموجود وتؤمن بالإله الواحد المعبود وبعبادته ودعائه وذكره وأسمائه وكلامه فتدفع شياطين الإنس والجن.
    وأما سؤال الجن وسؤال من يسألهم فهذا إن كان على وجه التصديق لهم في كل ما يخبرون به والتعظيم للمسئول فهو حرام كما ثبت في صحيح مسلم وغيره {عن معاوية بن الحكم السلمي قال: قلت: يا رسول الله أمورا كنا نصنعها في الجاهلية كنا نأتي الكهان قال: فلا تأتوا الكهان} وفي صحيح مسلم أيضا عن عبيد الله؛ عن نافع؛ عن صفية؛ عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما}.
    وأما إن كان يسأل المسئول ليمتحن حاله ويختبر باطن أمره وعنده ما يميز به صدقه من كذبه فهذا جائز كما ثبت في الصحيحين: {أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ابن صياد فقال: ما يأتيك؟ فقال: يأتيني صادق وكاذب قال: ما ترى؟ قال: أرى عرشا على الماء قال: فإني قد خبأت لك خبيئا قال: الدخ الدخ قال: اخسأ فلن تعدو قدرك فإنما أنت من إخوان الكهان}. وكذلك إذا كان يسمع ما يقولونه ويخبرون به عن الجن كما يسمع المسلمون ما يقول الكفار والفجار ليعرفوا ما عندهم فيعتبروا به وكما يسمع خبر الفاسق ويتبين ويتثبت فلا يجزم بصدقه ولا كذبه إلا ببينة كما قال تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا}
    وقد ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة: {أن أهل الكتاب كانوا يقرءون التوراة ويفسرونها بالعربية فقال النبي صلى الله عليه وسلم إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه وقولوا: {آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون} فقد جاز للمسلمين سماع ما يقولونه ولم يصدقوه ولم يكذبوه.
    وقد روي عن أبي موسى الأشعري أنه أبطأ عليه خبر عمر وكان هناك امرأة لها قرين من الجن فسأله عنه فأخبره أنه ترك عمر يسم إبل الصدقة. وفي خبر آخر أن عمر أرسل جيشا فقدم شخص إلى المدينة فأخبر أنهم انتصروا على عدوهم وشاع الخبر فسأل عمر عن ذلك فذكر له فقال: هذا أبو الهيثم بريد المسلمين من الجن وسيأتي بريد الإنس بعد ذلك فجاء بعد ذلك بعدة أيام.
    فصل:
    ويجوز أن يكتب للمصاب وغيره من المرضى شيئا من كتاب الله وذكره بالمداد المباح ويغسل ويسقى كما نص على ذلك أحمد وغيره قال عبد الله بن أحمد: قرأت على أبي ثنا يعلى بن عبيد؛ ثنا سفيان؛ عن محمد بن أبي ليلى عن الحكم؛ عن سعيد بن جبير؛ عن ابن عباس قال: إذا عسر على المرأة ولادتها فليكتب: بسم الله لا إله إلا الله الحليم الكريم سبحان الله رب العرش العظيم الحمد لله رب العالمين {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها} {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون}. قال أبي: ثنا أسود بن عامر بإسناده بمعناه وقال: يكتب في إناء نظيف فيسقى قال أبي: وزاد فيه وكيع فتسقى وينضح ما دون سرتها قال عبد الله: رأيت أبي يكتب للمرأة في جام أو شيء نظيف. وقال أبو عمرو محمد بن أحمد بن حمدان الحيري:
    أنا الحسن بن سفيان النسوي؛ حدثني عبد الله بن أحمد بن شبوية؛ ثنا علي بن الحسن بن شقيق؛ ثنا عبد الله بن المبارك؛ عن سفيان؛ عن ابن أبي ليلى؛ عن الحكم؛ عن سعيد بن جبير؛ عن ابن عباس قال: إذا عسر على المرأة ولادها فليكتب: بسم الله لا إله إلا الله العلي العظيم لا إله إلا الله الحليم الكريم؛ سبحان الله وتعالى رب العرش العظيم؛ والحمد لله رب العالمين {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها} {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون}. قال علي: يكتب في كاغدة فيعلق على عضد المرأة قال علي: وقد جربناه فلم نر شيئا أعجب منه فإذا وضعت تحله سريعا ثم تجعله في خرقة أو تحرقه.
    (واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم (282)
    وقد شاع في لسان العامة أن قوله: {واتقوا الله ويعلمكم الله} من الباب الأول؛ حيث يستدلون بذلك على أن التقوى سبب تعليم الله وأكثر الفضلاء يطعنون في هذه الدلالة لأنه لم يربط الفعل الثاني بالأول ربط الجزاء بالشرط فلم يقل؛ واتقوا الله ويعلمكم ولا قال فيعلمكم. وإنما أتى بواو العطف وليس من العطف ما يقتضي أن الأول سبب الثاني وقد يقال العطف قد يتضمن معنى الاقتران والتلازم كما يقال: زرني وأزورك؛ وسلم علينا ونسلم عليك ونحو ذلك مما يقتضي اقتران الفعلين والتعاوض من الطرفين كما لو قال لسيده: أعتقني ولك علي ألف؛ أو قالت المرأة لزوجها طلقني ولك ألف؛ أو اخلعني ولك ألف؛ فإن ذلك بمنزلة قولها بألف أو علي ألف.

    وكذلك أيضا لو قال: أنت حر وعليك ألف أو أنت طالق وعليك ألف؛ فإنه كقوله: علي ألف أو بألف عند جمهور الفقهاء. والفرق بينهما قول شاذ ويقول أحد المتعاوضين للآخر: أعطيك هذا وآخذ هذا ونحو ذلك من العبارات فيقول الآخر: نعم وإن لم يكن أحدهما هو السبب للآخر دون العكس. فقوله: {واتقوا الله ويعلمكم الله} قد يكون من هذا الباب فكل من تعليم الرب وتقوى العبد يقارب الآخر ويلازمه ويقتضيه فمتى علمه الله العلم النافع اقترن به التقوى بحسب ذلك ومتى اتقاه زاده من العلم وهلم جرا.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #129
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,763

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الرابع
    الحلقة (127)

    من صــ 189 الى صـ
    ـ 196






    (فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم (283)
    فصل:
    قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:

    القسم الثاني من الأمانات: الأموال كما قال تعالى في الديون: {فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه}. ويدخل في هذا القسم: الأعيان والديون الخاصة والعامة: مثل رد الودائع ومال الشريك والموكل والمضارب ومال المولى من اليتيم وأهل الوقف ونحو ذلك وكذلك وفاء الديون من أثمان المبيعات وبدل القرض وصدقات النساء وأجور المنافع ونحو ذلك. وقد قال الله تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعا} {إذا مسه الشر جزوعا} {وإذا مسه الخير منوعا} {إلا المصلين} {الذين هم على صلاتهم دائمون} {والذين في أموالهم حق معلوم} {للسائل والمحروم} إلى قوله: {والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون} وقال تعالى:
    {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما} أي لا تخاصم عنهم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم {أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك} وقال النبي صلى الله عليه وسلم {المؤمن من أمنه المسلمون على دمائهم وأمولهم والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه والمجاهد من جاهد نفسه في ذات الله}. وهو حديث صحيح بعضه في الصحيحين وبعضه في سنن الترمذي وقال صلى الله عليه وسلم {من أخذ أموال الناس يريد أداءها أداها الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله} رواه البخاري. وإذا كان الله قد أوجب أداء الأمانات التي قبضت بحق؛ ففيه تنبيه على وجوب أداء الغصب والسرقة والخيانة ونحو ذلك من المظالم كذلك أداء العارية. وقد {خطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وقال في خطبته: العارية مؤداة والمنحة مردودة والدين مقضي والزعيم غارم؛ إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث}.
    وهذا القسم يتناول الولاة والرعية فعلى كل منهما: أن يؤدي إلى الآخر ما يجب أداؤه إليه فعلى ذي السلطان ونوابه في العطاء أن يؤتوا كل ذي حق حقه. وعلى جباة الأموال كأهل الديوان أن يؤدوا إلى ذي السلطان ما يجب إيتاؤه إليه؛ كذلك على الرعية الذين تجب عليهم الحقوق؛ وليس للرعية أن يطلبوا من ولاة الأموال ما لا يستحقونه فيكونون من جنس من قال الله تعالى فيه: {ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون} {ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون} ثم بين سبحانه لمن تكون بقوله: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم}.

    ولا لهم أن يمنعوا السلطان ما يجب دفعه إليه من الحقوق وإن كان ظالما؛ كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر جور الولاة فقال: {أدوا إليهم الذي لهم؛ فإن الله سائلهم عما استرعاهم}. ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وأنه لا نبي بعدي وسيكون خلفاء ويكثرون.

    قالوا: فما تأمرنا؟ فقال: أوفوا ببيعة الأول فالأول؛ ثم أعطوهم حقهم؛ فإن الله سائلهم عما استرعاهم}. وفيهما عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إنكم سترون بعدي أثرة وأمورا تنكرونها قالوا: فما تأمرنا به يا رسول الله؟ قال: أدوا إليهم حقهم؛ واسألوا الله حقكم}. وليس لولاة الأمور أن يقسموها بحسب أهوائهم كما يقسم المالك ملكه؛ فإنما هم أمناء ونواب ووكلاء ليسوا ملاكا؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إني - والله - لا أعطي أحدا ولا أمنع أحدا؛ وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت}. رواه البخاري وعن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
    فهذا رسول رب العالمين قد أخبر أنه ليس المنع والعطاء بإرادته واختياره كما يفعل ذلك المالك الذي أبيح له التصرف في ماله وكما يفعل ذلك الملوك الذين يعطون من أحبوا ويمنعون من أبغضوا وإنما هو عبد الله يقسم المال بأمره فيضعه حيث أمره الله تعالى. وهكذا قال رجل لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين - لو وسعت على نفسك في النفقة من مال الله تعالى. فقال له عمر: أتدري ما مثلي ومثل هؤلاء؟ كمثل قوم كانوا في سفر فجمعوا منهم مالا وسلموه إلى واحد ينفقه عليهم فهل يحل لذلك الرجل أن يستأثر عنهم من أموالهم؟. وحمل مرة إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مال عظيم من الخمس؛ فقال: إن قوما أدوا الأمانة في هذا لأمناء.
    فقال له بعض الحاضرين: إنك أديت الأمانة إلى الله تعالى فأدوا إليك الأمانة ولو رتعت لرتعوا. وينبغي أن يعرف أن أولي الأمر كالسوق ما نفق فيه جلب إليه؛ هكذا قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. فإن نفق فيه الصدق والبر والعدل والأمانة جلب إليه ذلك؛ وإن نفق فيه الكذب والفجور والجور والخيانة جلب إليه ذلك. والذي على ولي الأمر أن يأخذ المال من حله ويضعه في حقه ولا يمنعه من مستحقه؛ وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا بلغه أن بعض نوابه ظلم يقول: اللهم إني لم آمرهم أن يظلموا خلقك ولا يتركوا حقك.
    (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير (284)
    قال شيخ الإسلام:

    وهذه الآية وإن كان قد قال طائف من السلف إنها منسوخة كما روى البخاري في صحيحه عن مروان الأصفر عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - وهو ابن عمر - إنها نسخت فالنسخ في لسان السلف أعم مما هو في لسان المتأخرين يريدون به رفع الدلالة مطلقا وإن كان تخصيصا للعام أو تقييدا للمطلق وغير ذلك كما هو معروف في عرفهم وقد أنكر آخرون نسخها لعدم دليل ذلك وزعم قوم: أن ذلك خبر والخبر لا ينسخ.
    ورد آخرون بأن هذا خبر عن حكم شرعي. كالخبر الذي بمعنى الأمر والنهي. والقائلون بنسخها يجعلون الناسخ لها الآية التي بعدها وهي قوله: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} كما روى مسلم في صحيحه من حديث أنس في هذه الآية فيكون المرفوع عنهم ما فسرت به الأحاديث وهو ما هموا به وحدثوا به أنفسهم من الأمور المقدورة ما لم يتكلموا به أو يعملوا به ورفع عنهم الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه. كما روى ابن ماجه وغيره بإسناد حسن {إن الله تجاوز لأمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه}.
    و " حقيقة الأمر " أن قوله سبحانه: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} لم يدل على المؤاخذة بذلك؛ بل دل على المحاسبة به ولا يلزم من كونه يحاسب أن يعاقب؛ ولهذا قال: {فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} لا يستلزم أنه قد يغفر ويعذب بلا سبب ولا ترتيب ولا أنه يغفر كل شيء أو يعذب على كل شيء مع العلم بأنه لا يعذب المؤمنين وأنه لا يغفر أن يشرك به إلا مع التوبة. ونحو ذلك.
    والأصل أن يفرق بين ما كان مجامعا لأصل الإيمان وما كان منافيا له ويفرق أيضا بين ما كان مقدورا عليه فلم يفعل وبين ما لم يترك إلا للعجز عنه فهذان الفرقان هما فصل في هذه المواضيع المشتبهة. وقد ظهر بهذا التفصيل أن أصل النزاع في " المسألة " إنما وقع لكونهم رأوا عزما جازما لا يقترن به فعل قط وهذا لا يكون إلا إذا كان الفعل مقارنا للعزم وإن كان العجز مقارنا للإرادة امتنع وجود المراد لكن لا تكون تلك إرادة جازمة فإن الإرادة الجازمة لما هو عاجز عنه ممتنعة أيضا فمع الإرادة الجازمة يوجد ما يقدر عليه من مقدمات الفعل ولوازمه وإن لم يوجد الفعل نفسه.
    والإنسان يجد من نفسه: أن مع قدرته على الفعل يقوى طلبه والطمع فيه وإرادته ومع العجز عنه يضعف ذلك الطمع وهو لا يعجز عما يقوله ويفعله على السواء ولا عما يظهر على صفحات وجهه وفلتات لسانه. مثل بسط الوجه وتعبسه وإقباله على الشيء والإعراض عنه وهذه وما يشبهها من أعمال الجوارح التي يترتب عليها الذم والعقاب كما يترتب عليها الحمد والثواب. وبعض الناس يقدر عزما جازما لا يقترن به فعل قط وهذا لا يكون إلا لعجز يحدث بعد ذلك من موت أو غيره فسموا التصميم على الفعل في المستقبل عزما جازما ولا نزاع في إطلاق الألفاظ؛ فإن من الناس من يفرق بين العزم والقصد فيقول: ما قارن الفعل فهو قصد وما كان قبله فهو عزم. ومنهم من يجعل الجميع سواء.
    وقال شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين ابن تيمية - قدس الله روحه ونور ضريحه -:
    فصل:

    في قوله تعالى {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير} قد ثبت في صحيح مسلم عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن {أبي هريرة قال: لما أنزل الله: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} اشتد ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب وقالوا: أي رسول الله كلفنا من العمل ما نطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة؛ وقد نزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير فلما قرأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها:
    {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل الله {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} قال: نعم {ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا} قال: نعم {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} قال: نعم.

    {واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} قال: نعم}. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس معناه وقال: قد فعلت قد فعلت بدل نعم. ولهذا قال كثير من السلف والخلف: إنها منسوخة بقوله: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}كما نقل ذلك عن ابن مسعود وأبي هريرة وابن عمر وابن عباس في رواية عنه والحسن والشعبي وابن سيرين وسعيد بن جبير وقتادة وعطاء الخراساني والسدي ومحمد بن كعب ومقاتل والكلبي وابن زيد ونقل عن آخرين أنها ليست منسوخة بل هي ثابتة في المحاسبة على العموم فيأخذ من يشاء ويغفر لمن يشاء كما نقل ذلك عن ابن عمر والحسن واختاره أبو سليمان الدمشقي والقاضي أبو يعلى وقالوا: هذا خبر والأخبار لا تنسخ.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #130
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,763

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الرابع
    الحلقة (128)

    من صــ 197 الى صـ
    ـ 204




    و " فصل الخطاب ": أن لفظ " النسخ " مجمل فالسلف كانوا يستعملونه فيما يظن دلالة الآية عليه من عموم أو إطلاق أو غير ذلك كما قال من قال: إن قوله: {اتقوا الله حق تقاته} {وجاهدوا في الله حق جهاده} نسخ بقوله: {فاتقوا الله ما استطعتم} وليس بين الآيتين تناقض لكن قد يفهم بعض الناس من قوله: {حق تقاته} و {حق جهاده} الأمر بما لا يستطيعه العبد فينسخ ما فهمه هذا كما ينسخ الله ما يلقي الشيطان ويحكم الله آياته.
    وإن لم يكن نسخ ذلك نسخ ما أنزله بل نسخ ما ألقاه الشيطان إما من الأنفس أو من الأسماع أو من اللسان. وكذلك ينسخ الله ما يقع في النفوس من فهم معنى وإن كانت الآية لم تدل عليه لكنه محتمل وهذه الآية من هذا الباب؛ فإن قوله: {وإن تبدوا ما في أنفسكم} الآية إنما تدل على أن الله يحاسب بما في النفوس لا على أنه يعاقب على كل ما في النفوس وقوله: {لمن يشاء} يقتضي أن الأمر إليه في المغفرة والعذاب لا إلى غيره.
    ولا يقتضي أنه يغفر ويعذب بلا حكمة ولا عدل كما قد يظنه من يظنه من الناس حتى يجوزوا أنه يعذب على الأمر اليسير من السيئات مع كثرة الحسنات وعظمها وأن الرجلين اللذين لهما حسنات وسيئات يغفر لأحدهما مع كثرة سيئاته وقلة حسناته ويعاقب الآخر على السيئة الواحدة مع كثرة حسناته ويجعل درجة ذاك في الجنة فوق درجة الثاني. وهؤلاء يجوزون أن يعذب الله الناس بلا ذنب وأن يكلفهم ما لا يطيقون ويعذبهم على تركه والصحابة إنما هربوا وخافوا أن يكون الأمر من هذا الجنس فقالوا: لا طاقة لنا بهذا؛ فإنه إن كلفنا ما لا نطيق عذبنا فنسخ الله هذا الظن وبين أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها وبين بطلان قول هؤلاء الذين يقولون إنه يكلف العبد ما لا يطيقه ويعذبه عليه وهذا القول لم يعرف عن أحد من السلف والأئمة؛ بل أقوالهم تناقض ذلك حتى إن سفيان بن عيينة سئل عن قوله: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} قال: إلا يسرها ولم يكلفها طاقتها.

    قال البغوي: وهذا قول حسن؛ لأن الوسع ما دون الطاقة وإنما قاله طائفة من المتأخرين لما ناظروا المعتزلة في " مسائل القدر " وسلك هؤلاء مسلك الجبر جهم وأتباعه فقالوا هذا القول وصاروا فيه على مراتب وقد بسط هذا في غير هذا الموضع. قال ابن الأنباري في قوله: {ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} أي لا تحملنا ما يثقل علينا أداؤه وإن كنا مطيقين له على تجشم وتحمل مكروه. قال: فخاطب العرب على حسب ما تعقل؛ فإن الرجل منهم يقول للرجل ما أطيق النظر إليك وهو مطيق لذلك؛ لكنه ثقيل عليه النظر إليه قال: ومثله قوله: {ما كانوا يستطيعون السمع}. قلت ليست هذه لغة العرب وحدهم؛ بل هذا مما اتفق عليه العقلاء.

    و " الاستطاعة في الشرع " هي ما لا يحصل معه للمكلف ضرر راجح كاستطاعة الصيام والقيام فمتى كان يزيد في المرض أو يؤخر البرء لم يكن مستطيعا؛ لأن في ذلك مضرة راجحة؛ بخلاف هؤلاء فإنهم كانوا لا يستطيعون السمع لبغض الحق وثقله عليهم: إما حسدا لقائله وإما اتباعا للهوى ورين الكفر والمعاصي على القلوب وليس هذا عذرا فلو لم يأمر العباد إلا بما يهوونه لفسدت السموات والأرض ومن فيهن.
    والمقصود أن السلف لم يكن فيهم من يقول: إن العبد لا يكون مستطيعا إلا في حال فعله وأنه قبل الفعل لم يكن مستطيعا فهذا لم يأت الشرع به قط ولا اللغة ولا دل عليه عقل؛ بل العقل يدل على نقيضه كما قد بسط في غير هذا الموضع. والرب تعالى يعلم أن العبد لا يفعل الفعل مع أنه مستطيع له والمعلوم أنه لا يفعله ولا يريده لا أنه لا يقدر عليه والعلم يطابق المعلوم فالله يعلم ممن استطاع الحج والقيام والصيام أنه مستطيع ويعلم أن هذا مستطيع يفعل مستطاعه فالمعلوم هو عدم الفعل لعدم إرادة العبد؛ لا لعدم استطاعته كالمقدورات له التي يعلم أنه لا يفعلها لعدم إرادته لها لا لعدم قدرته عليها والعبد قادر على أن يفعل وقد علم الله أنه لا يفعل مع القدرة؛ ولهذا يعذبه لأنه إنما أمره بما استطاع لا بما لا يستطيع ومن لم يستطع لم يأمره ولا يعذبه على ما لم يستطعه. وإذا قيل: فيلزم أن يكون قادرا على تغيير علم الله لأن الله علم أنه لا يفعل فإذا قدر على الفعل قدر على تغيير علم الله.

    قيل: هذه مغلطة؛ وذلك أن مجرد قدرته على الفعل لا يلزم فيها تغيير العلم وإنما يظن من يظن تغيير العلم إذا وقع الفعل ولو وقع الفعل لكان المعلوم وقوعه؛ لا عدم وقوعه فيمتنع أن يحصل وقوع الفعل مع علم الله بعدم وقوعه؛ بل إن وقع كان الله قد علم أنه يقع وإن لم يقع كان الله قد علم أنه لا يقع ونحن لا نعرف علم الله إلا بما يظهر وعلم الله مطابق للواقع فيمتنع أن يقع شيء يستلزم تغيير العلم بل أي شيء وقع كان هو المعلوم والعبد الذي لم يفعل لم يأت بشيء يغير العلم؛ بل هو قادر على فعل ما لم يقع ولو وقع لكان الله قد علم أنه يقع لا أنه لا يقع.

    وإذا قيل: فمع عدم وقوعه يعلم الله أنه لا يقع فلو قدر العبد على وقوعه قدر على تغيير العلم. قيل ليس الأمر كذلك؛ بل العبد يقدر على وقوعه وهو لم يوقعه ولو أوقعه لم يكن المعلوم إلا وقوعه فمقدور العبد إذا وقع لم يكن المعلوم إلا وقوعه فإذا وقع كان الله عالما أنه سيقع وإذا لم يقع كان الله عالما بأنه لا يقع ألبتة فإذا فرض وقوعه مع انتفاء لازم الوقوع صار محالا من جهة إثبات الملزوم بدون لازمه وكل الأشياء بهذا الاعتبار هي محال.
    ومما يلزم هؤلاء أن لا يبقى أحد قادرا على شيء إلا الرب؛ فإن الأمور نوعان: " نوع " علم الله أنه سيكون و " نوع " علم الله أنه لا يكون. ف " الأول " لا بد من وقوعه. و " الثاني " لا يقع ألبتة. فما علم الله أنه سيقع يعلم أنه يقع بمشيئته وقدرته وما علم أنه لا يقع يعلم أنه لا يشاؤه وهو سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
    وأما " المعتزلة " فعندهم أنه يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء وأولئك " المجبرة " في جانب وهؤلاء في جانب وأهل السنة وسط. وما يفعله العباد باختيارهم يعلم سبحانه أنهم فعلوه بقدرتهم ومشيئتهم وما لم يفعلوه مع قدرتهم عليه يعلم أنهم لم يفعلوه لعدم إرادتهم له لا لعدم قدرتهم عليه وهو سبحانه الخالق للعباد ولقدرتهم وإرادتهم وأفعالهم وكل ذلك مقدور للرب وليس هذا مقدورا بين قادرين بل القادر المخلوق هو وقدرته ومقدوره مقدور للخالق مخلوق له.

    و " المقصود هنا " أن قوله تعالى {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} حق والنسخ فيها هو رفع فهم من فهم من الآية ما لم تدل عليه فمن فهم أن الله يكلف نفسا ما لا تسعه فقد نسخ الله فهمه وظنه ومن فهم منها أن المغفرة والعذاب بلا حكمة وعدل فقد نسخ فهمه وظنه فقوله: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} رد للأول وقوله: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} رد للثاني وقوله: {فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} كقوله في آل عمران:

    {ولله ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم} وقوله: {ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير} ونحو ذلك. وقد علمنا أنه لا يغفر أن يشرك به وأنه لا يعذب المؤمنين وأنه يغفر لمن تاب كذلك قوله: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} الآية. ودلت هذه الآية على أنه سبحانه يحاسب بما في النفوس وقد قال عمر: زنوا أنفسكم قبل أن توزنوا وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا.
    و " المحاسبة " تقتضي أن ذلك يحسب ويحصى. وأما " المغفرة والعذاب " فقد دل الكتاب والسنة على أن من في قلبه الكفر وبغض الرسول وبغض ما جاء به أنه كافر بالله ورسوله وقد عفا الله لهذه الأمة - وهم المؤمنون حقا الذين لم يرتابوا - عما حدثت به أنفسها ما لا تتكلم به أو تعمل كما هو في الصحيحين من حديث أبي هريرة وابن عباس وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم {أن الذي يهم بالحسنة تكتب له والذي يهم بالسيئة لا تكتب عليه حتى يعملها} إذا كان مؤمنا من عادته عمل الحسنات وترك السيئات فإن ترك السيئة لله كتبت له حسنة فإذا أبدى العبد ما في نفسه من الشر بقول أو فعل صار من الأعمال التي يستحق عليها الذم والعقاب وإن أخفى ذلك وكان ما أخفاه متضمنا لترك الإيمان بالله والرسول مثل الشك فيما جاء به الرسول أو بغضه كان معاقبا على ما أخفاه في نفسه من ذلك؛ لأنه ترك الإيمان الذي لا نجاة ولا سعادة إلا به وأما إن كان وسواسا والعبد يكرهه فهذا صريح الإيمان كما هو مصرح به في الصحيح.

    وهذه " الوسوسة " هي مما يهجم على القلب بغير اختيار الإنسان فإذا كرهه العبد ونفاه كانت كراهته صريح الإيمان وقد خاف من خاف من الصحابة من العقوبة على ذلك فقال تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #131
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,763

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الرابع
    الحلقة (129)

    من صــ 205 الى صـ
    ـ 212




    و " الوسع " فعل بمعنى المفعول أي ما يسعه لا يكلفها ما تضيق عنه فلا تسعه وهو المقدور عليه المستطاع وقال بعض الناس: إن " الوسع " اسم لما يسع الإنسان ولا يضيق عليه. وليس كذلك؛ بل ما يسع الإنسان هو مباح له وما لم يسعه ليس مأمورا به فما يسعه قد يؤمر به وأما ما لا يسعه فهو المباح يقال: يسعني أن أفعل كذا ولا يسعني أن أفعل كذا والمباح هو الواسع ومنه باحة الدار فالمباح لك أن تفعله هو يسعك ولا تخرج عنه ومنه يقال: رحم الله من وسعته السنة فلم يتعدها إلى البدعة: أي فيما أمر الله به وما أباحه ما يكفي المؤمن المتبع في دينه ودنياه لا يحتاج أن يخرج عنه إلى ما نهي عنه.
    وأما ما كلفت به فهو ما أمرت بفعله وذلك يكون مما تسعه أنت لا مما يسعك هو وقد يقال: لا يسعني تركه؛ بل تركه محرم وقد قال تعالى: {تلك حدود الله فلا تقربوها} وهو أول الحرام وقال: {تلك حدود الله فلا تعتدوها} وهي آخر الحلال وقال: {ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} وهذا التغيير نوعان: أحدهما: أن يبدوا ذلك فيبقى قولا وعملا يترتب عليه الذم والعقاب.
    والثاني أن يغيروا الإيمان الذي في قلوبهم بضده من الريب والشك والبغض ويعزموا على ترك فعل ما أمر الله به ورسوله فيستحقون العذاب هنا على ترك المأمور وهناك على فعل المحظور. وكذلك ما في النفس مما يناقض محبة الله والتوكل عليه والإخلاص له والشكر له يعاقب عليه؛ لأن هذه الأمور كلها واجبة فإذا خلي القلب عنها واتصف بأضدادها استحق العذاب على ترك هذه الواجبات.
    وبهذا التفصيل تزول شبه كثيرة ويحصل الجمع بين النصوص فإنها كلها متفقة على ذلك فالمنافقون الذين يظهرون خلاف ما يبطنون يعاقبون على أنهم لم تؤمن قلوبهم؛ بل أضمرت الكفر قال تعالى: {يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم} وقال: {في قلوبهم مرض} وقال: {أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم} فالمنافق لا بد أن يظهر في قوله وفعله ما يدل على نفاقه وما أضمره كما قال عثمان بن عفان: ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه وقد قال تعالى عن المنافقين: {ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم} ثم قال: {ولتعرفنهم في لحن القول} وهو جواب قسم محذوف أي: والله لتعرفهم في لحن القول فمعرفة المنافق في لحن القول لا بد منها وأما معرفته بالسيما فموقوفة على المشيئة.
    ولما كانت هذه الآية: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} خبرا من الله؛ ليس فيها إثبات إيمان للعبد بخلاف الآيتين بعدها كما {قال النبي صلى الله عليه وسلم الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه} متفق عليه وهما قوله: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون} إلى آخرها. وكلام السلف يوافق ما ذكرناه قال ابن عباس: هذه الآية لم تنسخ ولكن الله إذا جمع الخلائق يقول: إني أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم تطلع عليه ملائكتي فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم وهو قوله: {يحاسبكم به الله} يقول: يخبركم به الله وأما أهل الشرك والريب فيخبرهم بما أخفوه من التكذيب وهو قوله: {فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء}.
    وقد روي عن ابن عباس: أنها نزلت في كتمان الشهادة وروي ذلك عن عكرمة والشعبي وكتمان الشهادة من باب ترك الواجب وذلك ككتمان العيب الذي يجب إظهاره وكتمان العلم الذي يجب إظهاره وعن مجاهد أنه الشك واليقين وهذا أيضا من باب ترك الواجب؛ لأن اليقين واجب وروي عن عائشة: ما أعلنت فإن الله يحاسبك به وأما ما أخفيت فما عجلت لك به العقوبة في الدنيا.

    وهذا قد يكون مما يعاقب فيه العبد بالغم كما سئل سفيان بن عيينة عن غم لا يعرف سببه قال هو ذنب هممت به في سرك ولم تفعله فجزيت هما به. فالذنوب لها عقوبات: السر بالسر والعلانية بالعلانية وروي عنها مرفوعا {قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} فقال يا عائشة هذه معاتبة الله العبد مما يصيبه من النكبة والحمى حتى الشوكة والبضاعة يضعها في كمه فيفقدها فيروع لها فيجدها في جيبه حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير}.

    قلت: هذا المرفوع هو والله أعلم بيان ما يعاقب به المؤمن في الدنيا؛ وليس فيه أن كل ما أخفاه يعاقب به بل فيه أنه إذا عوقب على ما أخفاه عوقب بمثل ذلك وعلى هذا دلت الأحاديث الصحيحة. وقد روى الروياني في مسنده من طريق الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن سعيد بن سنان عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه العقوبة بذنبه حتى يوافيه بها يوم القيامة} وقد قال تعالى: {فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون} {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور}. فهؤلاء كانوا في ظنهم ظن الجاهلية ظنا ينافي اليقين بالقدر وظنا ينافي بأن الله ينصر رسوله فكان عقابهم على ترك اليقين ووجود الشك وظن الجاهلية ومثل هذا كثير.
    ومما يدخل في ذلك نيات الأعمال فإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى. و " النية " هي مما يخفيه الإنسان في نفسه فإن كان قصده ابتغاء وجه ربه الأعلى استحق الثواب وإن كان قصده رياء الناس استحق العقاب كما قال تعالى: {فويل للمصلين} {الذين هم عن صلاتهم ساهون} {الذين هم يراءون} وقال: {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس}. وفي حديث أبي هريرة الصحيح في الثلاثة الذين أول من تسعر بهم النار في الذي تعلم وعلم ليقال: عالم قارئ والذي قاتل ليقال جريء وشجاع.
    والذي تصدق ليقال جواد وكريم فهؤلاء إنما كان قصدهم مدح الناس لهم وتعظيمهم لهم وطلب الجاه عندهم؛ لم يقصدوا بذلك وجه الله وإن كانت صور أعمالهم صورا حسنة فهؤلاء إذا حوسبوا كانوا ممن يستحق العذاب كما في الحديث: {من طلب العلم ليباهي به العلماء أو ليماري به السفهاء أو ليصرف به وجوه الناس إليه فله من عمله النار} وفي الحديث الآخر: {من طلب علما مما يبتغى به وجه الله لا يطلبه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام}. وفي " الجملة " القلب هو الأصل كما قال أبو هريرة: القلب ملك الأعضاء والأعضاء جنوده فإذا طاب الملك طابت جنوده وإذا خبث خبثت جنوده وهذا كما في حديث النعمان بن بشير المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب} فصلاحه وفساده يستلزم صلاح الجسد وفساده فيكون هذا مما أبداه لا مما أخفاه.

    وكل ما أوجبه الله على العباد لا بد أن يجب على القلب فإنه الأصل وإن وجب على غيره تبعا فالعبد المأمور المنهي إنما يعلم بالأمر والنهي قلبه وإنما يقصد بالطاعة والامتثال القلب والعلم بالمأمور والامتثال يكون قبل وجود الفعل المأمور به كالصلاة والزكاة والصيام وإذا كان العبد قد أعرض عن معرفة الأمر وقصد الامتثال كان أول المعصية منه؛ بل كان هو العاصي وغيره تبع له في ذلك؛ ولهذا قال في حق الشقي: {فلا صدق ولا صلى} {ولكن كذب وتولى} الآيات وقال في حق السعداء: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات} في غير موضع والمأمور نوعان. " نوع " هو عمل ظاهر على الجوارح وهذا لا يكون إلا بعلم القلب وإرادته. فالقلب هو الأصل فيه كالوضوء والاغتسال وكأفعال الصلاة: من القيام والركوع والسجود. وأفعال الحج: من الوقوف والطواف وإن كانت أقوالا فالقلب أخص بها فلا بد أن يعلم القلب وجود ما يقوله أو بما يقول ويقصده.

    ولهذا كانت الأقوال في الشرع لا تعتبر إلا من عاقل يعلم ما يقول ويقصده فأما المجنون والطفل الذي لا يميز فأقواله كلها لغو في الشرع لا يصح منه إيمان ولا كفر ولا عقد من العقود ولا شيء من الأقوال باتفاق المسلمين وكذلك النائم إذا تكلم في منامه فأقواله كلها لغو سواء تكلم المجنون والنائم بطلاق أو كفر أو غيره وهذا بخلاف الطفل؛ فإن المجنون والنائم إذا أتلف مالا ضمنه ولو قتل نفسا وجبت ديتها كما تجب دية الخطأ. وتنازع العلماء في السكران مع اتفاقهم أنه لا تصح صلاته لقوله صلى الله عليه وسلم {مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع} وهو معروف في السنن.
    وتنازعوا في عقود السكران كطلاقه وفي أفعاله المحرمة كالقتل والزنا هل يجرى مجرى العاقل أو مجرى المجنون أو يفرق بين أقواله وأفعاله وبين بعض ذلك وبعض؟ على عدة أقوال معروفة. والذي تدل عليه النصوص والأصول وأقوال الصحابة: أن أقواله هدر - كالمجنون - لا يقع بها طلاق ولا غيره؛ فإن الله تعالى قد قال:{حتى تعلموا ما تقولون} فدل على أنه لا يعلم ما يقول والقلب هو الملك الذي تصدر الأقوال والأفعال عنه فإذا لم يعلم ما يقول لم يكن ذلك صادرا عن القلب؛ بل يجري مجرى اللغو والشارع لم يرتب المؤاخذة إلا على ما يكسبه القلب من الأقوال والأفعال الظاهرة كما قال: {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} ولم يؤاخذ على أقوال وأفعال لم يعلم بها القلب ولم يتعمدها وكذلك ما يحدث به المرء نفسه لم يؤاخذ منه إلا بما قاله أو فعله وقال قوم: إن الله قد أثبت للقلب كسبا فقال: {بما كسبت قلوبكم} فليس لله عبد أسر عملا أو أعلنه من حركة في جوارحه أو هم في قلبه إلا يخبره الله به ويحاسبه عليه ثم يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء.

    واحتجوا بقوله تعالى: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا} وهذا القول ضعيف شاذ؛ فإن قوله: {يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} إنما ذكره لبيان أنه يؤاخذ في الأعمال بما كسب القلب لا يؤاخذ بلغو الأيمان كما قال: {بما عقدتم الأيمان} فالمؤاخذة لم تقع إلا بما اجتمع فيه كسب القلب مع عمل الجوارح فأما ما وقع في النفس؛ فإن الله تجاوز عنه ما لم يتكلم به أو يعمل وما وقع من لفظ أو حركة بغير قصد القلب وعلمه فإنه لا يؤاخذ به.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #132
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,763

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الرابع
    الحلقة (130)

    من صــ 205 الى صـ
    ـ 212






    و " أيضا " فإذا كان السكران لا يصح طلاقه والصبي المميز تصح صلاته ثم الصبي لا يقع طلاقه فالسكران أولى وقد {قال النبي صلى الله عليه وسلم لماعز لما اعترف بالحد: أبك جنون؟ قال: لا ثم أمر باستنكاهه لئلا يكون سكران} فدل على أن إقرار السكران باطل وقضية ماعز متأخرة بعد تحريم الخمر فإن الخمر حرمت سنة ثلاث بعد أحد باتفاق الناس وقد ثبت عن عثمان وغيره من الصحابة كعبد الله بن عباس أن طلاق السكران لا يقع ولم يثبت عن صحابي خلافه.
    والذين أوقعوا طلاقه لم يذكروا إلا مأخذا ضعيفا وعمدتهم أنه عاص بإزالة عقله وهذا صحيح يوجب عقوبته على المعصية التي هي الشرب فيحد على ذلك وأما الطلاق فلا يعاقب به مسلم على المعصية ولو كان كذلك لكان كل من شرب الخمر أو سكر طلقت امرأته وإنما قال من قال: إذا تكلم به طلقت فهم اعتبروا كلامه لا معصيته ثم إنه في حال سكره قد يعتق والعتق قربة فإن صححوا عتقه بطل الفرق وإن ألغوه فإلغاء الطلاق أولى فإن الله يحب العتق ولا يحب الطلاق.
    ثم من علل ذلك بالمعصية لزمه طرد ذلك فيمن زال عقله بغير مسكر كالبنج وهو قول من يسوي بين البنج والسكران من أصحاب الشافعي وموافقيه كأبي الخطاب والأكثرون على الفرق وهو منصوص أحمد وأبي حنيفة وغيرهما؛ لأن الخمر تشتهيها النفس وفيها الحد؛ بخلاف البنج فإنه لا حد فيه؛ بل فيه التعزير؛ لأنه لا يشتهى كالميتة والدم ولحم الخنزير فيها التعزير وعامة العلماء على أنه لا حد فيها إلا قولا نقل عن الحسن فهذا فيمن زال عقله. وأما إذا كان يعلم ما يقول فإن كان مختارا قاصدا لما يقوله فهذا هو الذي يعتبر قوله وإن كان مكرها فإن أكره على ذلك بغير حق فهذا عند جمهور العلماء أقواله كلها لغو مثل كفره وإيمانه وطلاقه وغيره وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم.

    وأبو حنيفة وطائفة يفرقون بين ما يقبل الفسخ وما لا يقبله. قالوا: فما يقبل الفسخ لا يلزم من المكره كالبيع؛ بل يقف على إجازته له وما لا يقبل الفسخ كالنكاح والطلاق واليمين فإنه يلزم من المكره. والجمهور ينازعون في هذا الفرق: في ثبوت الوصف وفي تعلق الحكم به؛ فإنهم يقولون: النكاح ونحوه يقبل الفسخ وكذلك العتق يقبل الفسخ عند الشافعي وأحد القولين في مذهب أحمد حتى إن المكاتب قد يحكمون بعتقه ثم يفسخون العتق ويعيدونه عبدا والأيمان المنعقدة تقبل التحلة كما قال تعالى: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم}.

    وبسط الكلام على هذا له موضع آخر.
    و " المقصود هنا " أن القلب هو الأصل في جميع الأفعال والأقوال فما أمر الله به من الأفعال الظاهرة فلا بد فيه من معرفة القلب وقصده وما أمر به من الأقوال وكل ما تقدم والمنهي عنه من الأقوال والأفعال إنما يعاقب عليه إذا كان بقصد القلب وأما ثبوت بعض الأحكام كضمان النفوس والأموال إذا أتلفها مجنون أو نائم أو مخطئ أو ناس فهذا من باب العدل في حقوق العباد ليس هو من باب العقوبة. فالمأمور به كما ذكرنا " نوعان " نوع ظاهر على الجوارح ونوع باطن في القلب.
    " النوع الثاني " ما يكون باطنا في القلب كالإخلاص وحب الله ورسوله والتوكل عليه والخوف منه وكنفس إيمان القلب وتصديقه بما أخبر به الرسول فهذا النوع تعلقه بالقلب ظاهر فإنه محله وهذا النوع هو أصل النوع الأول وهو أبلغ في الخير والشر من الأول فنفس إيمان القلب وحبه وتعظيمه لله وخوفه ورجائه والتوكل عليه وإخلاص الدين له لا يتم شيء من المأمور به ظاهرا إلا بها وإلا فلو عمل أعمالا ظاهرة بدون هذه كان منافقا وهي في أنفسها توجب لصاحبها أعمالا ظاهرة توافقها وهي أشرف من فروعها كما قال تعالى:
    {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم}. وكذلك تكذيب الرسول بالقلب وبغضه وحسده والاستكبار عن متابعته أعظم إثما من أعمال ظاهرة خالية عن هذا كالقتل والزنا والشرب والسرقة وما كان كفرا من الأعمال الظاهرة: كالسجود للأوثان وسب الرسول ونحو ذلك فإنما ذلك لكونه مستلزما لكفر الباطن وإلا فلو قدر أنه سجد قدام وثن ولم يقصد بقلبه السجود له بل قصد السجود لله بقلبه لم يكن ذلك كفرا وقد يباح ذلك إذا كان بين مشركين يخافهم على نفسه فيوافقهم في الفعل الظاهر ويقصد بقلبه السجود لله كما ذكر أن بعض علماء المسلمين وعلماء أهل الكتاب فعل نحو ذلك مع قوم من المشركين حتى دعاهم إلى الإسلام فأسلموا على يديه ولم يظهر منافرتهم في أول الأمر.
    وهنا " أصول " تنازع الناس فيها. منها أن القلب هل يقوم به تصديق أو تكذيب ولا يظهر قط منه شيء على اللسان والجوارح وإنما يظهر نقيضه من غير خوف؟ فالذي عليه السلف والأئمة وجمهور الناس أنه لا بد من ظهور موجب ذلك على الجوارح فمن قال: إنه يصدق الرسول ويحبه ويعظمه بقلبه ولم يتكلم قط بالإسلام ولا فعل شيئا من واجباته بلا خوف فهذا لا يكون مؤمنا في الباطن؛ وإنما هو كافر.
    وزعم جهم ومن وافقه أنه يكون مؤمنا في الباطن. . . (1) وأن مجرد معرفة القلب وتصديقه يكون إيمانا يوجب الثواب يوم القيامة بلا قول ولا عمل ظاهر وهذا باطل شرعا وعقلا كما قد بسط في غير هذا الموضع وقد كفر السلف ****ع وأحمد وغيرهما من يقول بهذا القول وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم {إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب} فبين أن صلاح القلب مستلزم لصلاح الجسد فإذا كان الجسد غير صالح دل على أن القلب غير صالح والقلب المؤمن صالح فعلم أن من يتكلم بالإيمان ولا يعمل به لا يكون قلبه مؤمنا حتى إن المكره إذا كان في إظهار الإيمان فلا بد أن يتكلم مع نفسه وفي السر مع من يأمن إليه ولا بد أن يظهر على صفحات وجهه وفلتات لسانه كما قال عثمان.

    وأما إذا لم يظهر أثر ذلك لا بقوله ولا بفعله قط فإنه يدل على أنه ليس في القلب إيمان. وذلك أن الجسد تابع للقلب فلا يستقر شيء في القلب إلا ظهر موجبه ومقتضاه على البدن ولو بوجه من الوجوه وإن لم يظهر كل موجبه لمعارض فالمقتضي لظهور موجبه قائم؛ والمعارض لا يكون لازما للإنسان لزوم القلب له؛ وإنما يكون في بعض الأحوال متعذرا إذا كتم ما في قلبه كمؤمن آل فرعون مع أنه قد دعا إلى الإيمان دعاء ظهر به من إيمان قلبه ما لا يظهر من إيمان من أعلن إيمانه بين موافقيه وهذا في معرفة القلب وتصديقه.

    ومنها قصد القلب وعزمه إذا قصد الفعل وعزم عليه مع قدرته على ما قصده هل يمكن أن لا يوجد شيء مما قصده وعزم عليه؟ فيه قولان أصحهما أنه إذا حصل القصد الجازم مع القدرة وجب وجود المقدور وحيث لم يفعل العبد مقدوره دل على أنه ليس هناك قصد جازم وقد يحصل قصد جازم مع العجز عن المقدور لكن يحصل معه مقدمات المقدور وقيل: بل قد يمكن حصول العزم التام بدون أمر ظاهر. وهذا نظير قول من قال ذلك في المعرفة والتصديق وهما من أقوال أتباع جهم الذين نصروا قوله في الإيمان كالقاضي أبي بكر وأمثاله فإنهم نصروا قوله وخالفوا السلف والأئمة وعامة طوائف المسلمين. وبهذا ينفصل النزاع في " مؤاخذة العبد بالهمة " فمن الناس: من قال: يؤاخذ بها إذا كانت عزما ومنهم من قال: لا يؤاخذ بها والتحقيق: أن الهمة إذا صارت عزما فلا بد أن يقترن بها قول أو فعل؛ فإن الإرادة مع القدرة تستلزم وجود المقدور.
    والذين قالوا: يؤاخذ بها احتجوا بقوله: {إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار} الحديث وهذا لا حجة فيه؛ فإنه ذكر ذلك في رجلين اقتتلا كل منهما يريد قتل الآخر وهذا ليس عزما مجردا؛ بل هو عزم مع فعل المقدور؛ لكنه عاجز عن إتمام مراده وهذا يؤاخذ باتفاق المسلمين فمن اجتهد على شرب الخمر وسعى في ذلك بقوله وعمله ثم عجز فإنه آثم باتفاق المسلمين وهو كالشارب وإن لم يقع منه شرب وكذلك من اجتهد على الزنا والسرقة ونحو ذلك بقوله وعمله ثم عجز فهو آثم كالفاعل ومثل ذلك في قتل النفس وغيره كما جعل الداعي إلى الخير له مثل أجر المدعو ووزره لأنه أراد فعل المدعو وفعل ما يقدر عليه فالإرادة الجازمة مع فعل المقدور من ذلك فيحصل له مثل أجر الفاعل ووزره وقد قال تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم} الآية.
    وفصل الخطاب في الآية أن {أولي الضرر} نوعان: نوع لهم عزم تام على الجهاد ولو تمكنوا لما قعدوا ولا تخلفوا وإنما أقعدهم العذر فهم كما {قال النبي صلى الله عليه وسلم إن بالمدينة رجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم قالوا: وهم بالمدينة قال: وهم بالمدينة حبسهم العذر} وهم أيضا كما قال في حديث أبي كبشة الأنماري {هما في الأجر سواء} وكما في حديث أبي موسى {إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمل صحيحا مقيما} فأثبت له مثل ذلك العمل؛ لأن عزمه تام وإنما منعه العذر.

    والنوع الثاني من " أولي الضرر " الذين ليس لهم عزم على الخروج فهؤلاء يفضل عليهم الخارجون المجاهدون وأولو الضرر العازمون عزما جازما على الخروج وقوله تعالى {غير أولي الضرر} سواء كان استثناء أو صفة دل على أنهم لا يدخلون مع القاعدين في نفي الاستواء فإذا فصل الأمر فيهم بين العازم وغير العازم بقيت الآية على ظاهرها ولو جعل قوله: {فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة} عاما في أهل الضرر وغيرهم لكان ذلك مناقضا لقوله: {غير أولي الضرر} فإن قوله: {لا يستوي القاعدون} {والمجاهدون} إنما فيها نفي الاستواء؛ فإن كان أهل الضرر كلهم كذلك لزم بطلان قوله: {غير أولي الضرر} ولزم أنه لا يساوي المجاهدين قاعد ولو كان من أولي الضرر وهذا خلاف مقصود الآية.
    __________
    Q (1) بياض بالأصل




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #133
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,763

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الرابع
    الحلقة (131)

    من صــ 221 الى صـ
    ـ 228




    و " أيضا " فالقاعدون إذا كانوا من غير أولي الضرر والجهاد ليس بفرض عين فقد حصلت الكفاية بغيرهم؛ فإنه لا حرج عليهم في القعود؛ بل هم موعودون بالحسنى كأولي الضرر وهذا مثل قوله: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل} الآية فالوعد بالحسنى شامل لأولي الضرر وغيرهم. فإن قيل: قد قال في الأولى في فضلهم درجة ثم قال في فضلهم {درجات منه ومغفرة ورحمة} كما قال: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين} {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون} {يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم}.

    فقوله: {أعظم درجة} كما قال في السابقين {أعظم درجة} وهذا نصب على التمييز: أي درجتهم أعظم درجة وهذا يقتضي تفضيلا مجملا يقال: منزلة هذا أعظم وأكبر كذلك قوله: {وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما} الآيات؛ ليس المراد به أنهم لم يفضلوا عليهم إلا بدرجة فإن في الحديث الصحيح الذي يرويه أبو سعيد وأبو هريرة: {إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض} الحديث وفي حديث أبي سعيد: {من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا وجبت له الجنة فعجب لها أبو سعيد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض فقال: وما هي يا رسول الله؟ قال الجهاد في سبيل الله} فهذا الحديث الصحيح بين أن المجاهد يفضل على القاعد الموعود بالحسنى من غير أولي الضرر مائة درجة وهو يبطل قول من يقول: إن الوعد بالحسنى والتفضيل بالدرجة مختص بأولي الضرر فهذا القول مخالف للكتاب والسنة.
    وقد يقال: إن (درجة منصوب على التمييز كما قال أعظم درجة أي فضل درجتهم على درجتهم أفضل كما يقال: فضل هذا على هذا منزلا ومقاما وقد يراد (بالدرجة جنس الدرج وهي المنزلة والمستقر لا يراد به درجة واحدة من العدد وقوله: {وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما} {درجات} منصوب (بفضل لأن التفضيل زيادة للمفضل فالتقدير زادهم عليهم أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة فهذا النزاع في العازم الجازم إذا فعل مقدوره هل يكون كالفاعل في الأجر والوزر أم لا؟ وأما في استحقاق الأجر والوزر فلا نزاع في ذلك وقوله: {إذا التقى المسلمان بسيفيهما} فيه حرص كل واحد منهما على قتل صاحبه وفعل مقدوره فكلاهما مستحق للنار ويبقى الكلام في تساوي القعودين بشيء آخر.

    وهكذا حال المقتتلين من المسلمين في الفتن الواقعة بينهم فلا تكون عاقبتهما إلا عاقبة سوء الغالب والمغلوب فإنه لم يحصل له دنيا ولا آخرة كما قال الشعبي: أصابتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء ولا فجرة أشقياء وأما الغالب فإنه يحصل له حظ عاجل ثم ينتقم منه في الآخرة وقد يعجل الله له الانتقام في الدنيا كما جرى لعامة الغالبين في الفتن فإنهم أصيبوا في الدنيا كالغالبين في الحرة وفتنة أبي مسلم الخراساني ونحو ذلك.

    وأما من قال: إنه لا يؤاخذ بالعزم القلبي فاحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم {إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها} وهذا ليس فيه أنه عاف لهم عن العزم بل فيه أنه عفا عن حديث النفس إلى أن يتكلم أو يعمل فدل على أنه ما لم يتكلم أو يعمل لا يؤاخذ؛ ولكن ظن من ظن أن ذلك عزما وليس كذلك؛ بل ما لم يتكلم أو يعمل لا يكون عزما؛ فإن العزم لا بد أن يقترن به المقدور وإن لم يعمل العازم إلى المقصود فالذي يعزم على القتل أو الزنا أو نحوه عزما جازما لا بد أن يتحرك ولو برأسه أو يمشي أو يأخذ آلة أو يتكلم كلمة أو يقول أو يفعل شيئا فهذا كله ما يؤاخذ به كزنا العين واللسان والرجل فإن هذا يؤاخذ به وهو من مقدمات الزنا التام بالفرج وإنما وقع العفو عما ما لم يبرز خارجا بقول أو فعل ولم يقترن به أمر ظاهر قط فهذا يعفى عنه لمن قام بما يجب على القلب من فعل المأمور به سواء كان المأمور به في القلب وموجبه في الجسد أو كان المأمور به ظاهرا في الجسد وفي القلب معرفته وقصده فهؤلاء إذا حدثوا أنفسهم بشيء كان عفوا مثل هم ثابت بلا فعل ومثل الوسواس الذي يكرهونه وهم يثابون على كراهته وعلى ترك ما هموا به وعزموا عليه لله تعالى وخوفا منه.
    (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير (285)
    وقال الشيخ - رحمه الله تعالى -:
    اعلم أن الله سبحانه وتعالى أعطى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وبارك خواتيم (سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يؤت منه نبي قبله ومن تدبر هذه الآيات وفهم ما تضمنته من حقائق الدين وقواعد الإيمان الخمس والرد على كل مبطل وما تضمنته من كمال نعم الله تعالى على هذا النبي صلى الله عليه وسلم وأمته ومحبة الله سبحانه لهم وتفضيله إياهم على من سواهم فليهنه العلم ولو ذهبنا نستوعب الكلام فيها لخرجنا عن مقصود الكتاب ولكن لا بد من كليمات يسيرة تشير إلى بعض ذلك فنقول: لما كانت (سورة البقرة) سنام القرآن وأكثر سوره أحكاما وأجمعها لقواعد الدين: أصوله وفروعه وهي مشتملة على ذكر " أقسام الخلق ": المؤمنين والكفار والمنافقين وذكر أوصافهم وأعمالهم. وذكر الأدلة الدالة على إثبات الخالق - سبحانه وتعالى - وعلى وحدانيته وذكر نعمه وإثبات نبوة رسوله صلى الله عليه وسلم،وتقرير المعاد وذكر الجنة والنار وما فيهما من النعيم والعذاب. ثم ذكر تخليق العالم العلوي والسفلي. ثم ذكر خلق آدم عليه السلام وإنعامه عليه بالتعليم وإسجاد ملائكته له وإدخاله الجنة ثم ذكر محنته مع إبليس وذكر حسن عاقبة آدم عليه السلام. ثم ذكر " المناظرة " مع أهل الكتاب من اليهود وتوبيخهم على كفرهم وعنادهم ثم ذكر النصارى والرد عليهم وتقرير عبودية المسيح ثم تقرير النسخ والحكمة في وقوعه.
    ثم بناء البيت الحرام وتقرير تعظيمه وذكر بانيه والثناء عليه ثم تقرير الحنيفية ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وتسفيه من رغب عنها ووصية بنيه بها وهكذا شيئا فشيئا إلى آخر السورة فختمها الله تعالى بآيات جوامع مقررة لجميع مضمون السورة فقال تعالى: {لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير}. فأخبر تعالى: أن ما في السموات وما في الأرض ملكه وحده لا يشاركه فيه مشارك وهذا يتضمن انفراده بالملك الحق والملك العام لكل موجود وذلك يتضمن توحيد ربوبيته وتوحيد إلهيته فتضمن نفي الولد والصاحبة والشريك؛ لأن ما في السموات وما في الأرض إذا كان ملكه وخلقه لم يكن له فيهم ولد ولا صاحبة ولا شريك.
    وقد استدل سبحانه بعين هذا الدليل في سورة الأنعام وسورة مريم فقال تعالى: {بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء} وقال تعالى في سورة مريم: {وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا} {إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا} ويتضمن ذلك أن الرغبة والسؤال والطلب والافتقار لا يكون إلا إليه وحده؛ إذ هو المالك لما في السموات والأرض.
    ولما كان تصرفه سبحانه في خلقه لا يخرج عن العدل والإحسان وهو تصرف بخلقه وأمره وأخبر أن ما في السموات وما في الأرض ملكه فما تصرف خلقا وأمرا إلا في ملكه الحقيقي وكانت سورة البقرة مشتملة من الأمر والخلق على ما لم يشتمل عليه سورة غيرها - أخبر تعالى أن ذلك صدر منه في ملكه قال تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} فهذا متضمن لكمال علمه سبحانه وتعالى بسرائر عباده وظواهرهم وأنه لا يخرج شيء من ذلك عن علمه كما لم يخرج شيء ممن في السموات والأرض عن ملكه فعلمه عام وملكه عام. ثم أخبر تعالى عن محاسبته لهم بذلك وهي تعريفهم ما أبدوه أو أخفوه فتضمن ذلك علمه بهم وتعريفهم إياه ثم قال: {فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} فتضمن ذلك قيامه عليهم بالعدل والفضل فيغفر لمن يشاء فضلا ويعذب من يشاء عدلا وذلك يتضمن الثواب والعقاب المستلزم للأمر والنهي المستلزم للرسالة والنبوة.
    ثم قال تعالى:
    {والله على كل شيء قدير} فتضمن ذلك أنه لا يخرج شيء عن قدرته ألبتة وأن كل مقدور واقع بقدره ففي ذلك رد على المجوس الثنوية والفلاسفة والقدرية المجوسية وعلى كل من أخرج شيئا من المقدورات عن خلقه وقدرته - وهم طوائف كثيرون. فتضمنت الآية إثبات التوحيد وإثبات العلم بالجزئيات والكليات وإثبات الشرائع والنبوات وإثبات المعاد والثواب والعقاب وقيام الرب على خلقه بالعدل والفضل وإثبات كمال القدرة وعمومها وذلك يتضمن حدوث العالم بأسره؛ لأن القديم لا يكون مقدورا ولا مفعولا.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #134
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,763

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الرابع
    الحلقة (132)

    من صــ 229 الى صـ
    ـ 236




    ثم إن إثبات كمال علمه وقدرته يستلزم إثبات سائر صفاته العلى وله من كل صفة اسم حسن فيتضمن إثبات أسمائه الحسنى وكمال القدرة يستلزم أن يكون فعالا لما يريد وذلك يتضمن تنزيهه عن كل ما يضاد كماله فيتضمن تنزيهه عن الظلم المنافي لكمال غناه وكمال علمه؛ إذ الظلم إنما يصدر عن محتاج أو جاهل وأما الغني عن كل شيء العالم بكل شيء سبحانه فإنه يستحيل منه الظلم كما يستحيل عليه العجز المنافي لكمال قدرته والجهل المنافي لكمال علمه.
    فتضمنت الآية هذه المعارف كلها بأوجز عبارة وأفصح لفظ وأوضح معنى. وقد عرفت بهذا أن الآية لا تقتضي العقاب على خواطر النفوس المجردة؛ بل إنما تقتضي محاسبة الرب عبده بها وهي أعم من العقاب والأعم لا يستلزم الأخص وبعد محاسبته بها يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وعلى هذا فالآية محكمة لا نسخ فيها ومن قال من السلف: نسخها ما بعدها فمراده بيان معناها والمراد منها وذلك يسمى نسخا في لسان السلف كما يسمون الاستثناء نسخا.
    ثم قال تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله} فهذه شهادة الله تعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام بإيمانه بما أنزل إليه من ربه وذلك يتضمن إعطاءه ثواب أكمل أهل الإيمان - زيادة على ثواب الرسالة والنبوة - لأنه شارك المؤمنين في الإيمان ونال منه أعلى مراتبه وامتاز عنهم بالرسالة والنبوة وقوله: {أنزل إليه من ربه} يتضمن أنه كلامه الذي تكلم به ومنه نزل لا من غيره كما قال تعالى: {قل نزله روح القدس من ربك} وقال: {تنزيل من رب العالمين}.
    وهذا أحد ما احتج به أهل السنة على المعتزلة القائلين بأن الله لم يتكلم بالقرآن قالوا: فلو كان كلاما لغير الله لكان منزلا من ذلك المحل لا من الله؛ فإن القرآن صفة لا تقوم بنفسها؛ بخلاف قوله: {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه} فإن تلك أعيان قائمة بنفسها فهي منه خلقا وأما " الكلام " فوصف قائم بالمتكلم فلما كان منه فهو كلامه؛ إذ يستحيل أن يكون منه ولم يتكلم به. ثم شهد تعالى للمؤمنين بأنهم آمنوا بما آمن به رسولهم ثم شهد لهم جميعا بأنهم آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله فتضمنت هذه الشهادة إيمانهم بقواعد الإيمان الخمسة التي لا يكون أحد مؤمنا إلا بها وهي: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
    وقد ذكر تعالى هذه الأصول الخمسة في أول السورة ووسطها وآخرها فقال في أولها: {والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون} فالإيمان بما أنزل إليه وما أنزل من قبله يتضمن الإيمان بالكتب والرسل والملائكة ثم قال: {وبالآخرة هم يوقنون} والإيمان بالله يدخل في الإيمان بالغيب وفي الإيمان بالكتب والرسل فتضمنت الإيمان بالقواعد الخمس. وقال في وسطها: {ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين} ثم حكى عن أهل الإيمان أنهم قالوا: {لا نفرق بين أحد من رسله} فنؤمن ببعض ونكفر ببعض فلا ينفعنا إيماننا بمن آمنا به منهم كما لم ينفع أهل الكتاب ذلك؛ بل نؤمن بجميعهم ونصدقهم ولا نفرق بينهم وقد جمعتهم رسالة ربهم فنفرق بين من جمع الله بينهم ونعادي رسله ونكون معادين له.

    فباينوا بهذا الإيمان جميع طوائف الكفار المكذبين لجنس الرسل. والمصدقين لبعضهم المكذبين لبعضهم. وتضمن إيمانهم بالله إيمانهم بربوبيته وصفات كماله ونعوت جلاله وأسمائه الحسنى وعموم قدرته ومشيئته وكمال علمه وحكمته فباينوا بذلك جميع طوائف أهل البدع والمنكرين لذلك أو لشيء منه؛ فإن كمال الإيمان بالله يتضمن إثبات ما أثبته لنفسه وتنزيهه عما نزه نفسه عنه فباينوا بهذين الأمرين جميع طوائف الكفر وفرق أهل الضلال الملحدين في أسماء الله وصفاته.

    ثم قالوا: {سمعنا وأطعنا} فهذا إقرار منهم بركني الإيمان الذي لا يقوم إلا بهما وهما السمع المتضمن للقبول؛ لا مجرد سمع الإدراك المشترك بين المؤمنين والكفار؛ بل سمع الفهم والقبول و " الثاني " الطاعة المتضمنة لكمال الانقياد وامتثال الأمر وهذا عكس قول الأمة الغضبية سمعنا وعصينا. فتضمنت هذه الكلمات كمال إيمانهم وكمال قبولهم وكمال انقيادهم ثم قالوا: {غفرانك ربنا وإليك المصير} لما علموا أنهم لم يوفوا مقام الإيمان حقه مع الطاعة والانقياد الذي يقتضيه منهم وأنهم لا بد أن تميل بهم غلبات الطباع ودواعي البشرية إلى بعض التقصير في واجبات الإيمان وأنه لا يلم شعث ذلك إلا مغفرة الله تعالى لهم سألوه غفرانه الذي هو غاية سعادتهم ونهاية كمالهم؛ فإن غاية كل مؤمن المغفرة من الله تعالى فقالوا: {غفرانك ربنا} ثم اعترفوا أن مصيرهم ومردهم إلى مولاهم الحق لا بد لهم من الرجوع إليه فقالوا: {وإليك المصير}.
    فتضمنت هذه الكلمات إيمانهم به ودخولهم تحت طاعته وعبوديته واعترافهم بربوبيته واضطرارهم إلى مغفرته واعترافهم بالتقصير في حقه وإقرارهم برجوعهم إليه. ثم قال تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} فنفى بذلك ما توهموه من أنه يعذبهم بالخطرات التي لا يملكون دفعها وأنها داخلة تحت تكليفه فأخبرهم أنه لا يكلفهم إلا وسعهم فهذا هو البيان الذي قال فيه ابن عباس وغيره فنسخها الله عنهم بقوله: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} وقد تضمن ذلك أن جميع ما كلفهم به أمرا ونهيا فهم مطيقون له قادرون عليه وأنه لم يكلفهم ما لا يطيقون وفي ذلك رد صريح على من زعم خلاف ذلك.
    والله تعالى أمرهم بعبادته وضمن أرزاقهم فكلفهم من الأعمال ما يسعونه وأعطاهم من الرزق ما يسعهم فتكليفهم يسعونه وأرزاقهم تسعهم فهم في الوسع في رزقه وأمره: وسعوا أمره ووسعهم رزقه ففرق بين ما يسع العبد وما يسعه العبد وهذا هو اللائق برحمته وبره وإحسانه وحكمته وغناه؛ لا قول من يقول إنه كلفهم ما لا قدرة لهم عليه ألبتة ولا يطيقونه ثم يعذبهم على ما لا يعملونه. وتأمل قوله عز وجل: {إلا وسعها} كيف تجد تحته أنهم في سعة ومنحة من تكاليفه؛ لا في ضيق وحرج ومشقة؛ فإن الوسع يقتضي ذلك فاقتضت الآية أن ما كلفهم به مقدور لهم من غير عسر لهم ولا ضيق ولا حرج؛ بخلاف ما يقدر عليه الشخص فإنه قد يكون مقدورا له ولكن فيه ضيق وحرج عليه وأما وسعه الذي هو منه في سعة فهو دون مدى الطاقة والمجهود؛ بل لنفسه فيه مجال ومتسع وذلك مناف للضيق والحرج {وما جعل عليكم في الدين من حرج} بل {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} قال سفيان بن عيينة في قوله: {إلا وسعها} إلا يسرها لا عسرها ولم يكلفها طاقتها ولو كلفها طاقتها لبلغ المجهود.

    فهذا فهم أئمة الإسلام وأين هذا من قول من قال إنه كلفهم ما لا يطيقونه ألبتة ولا قدرة لهم عليه؟ ثم أخبر تعالى أن ثمرة هذا التكليف وغايته عائدة عليهم وأنه تعالى يتعالى عن انتفاعه بكسبهم وتضرره باكتسابهم؛ بل لهم كسبهم ونفعه. وعليهم اكتسابهم وضرره فلم يأمرهم بما أمرهم به حاجة منه إليهم؛ بل رحمة وإحسانا وتكرما ولم ينههم عما نهاهم عنه بخلا منه عليهم بل حمية وحفظا وصيانة وعافية. وفيه أيضا أن نفسا لا تعذب باكتساب غيرها ولا تثاب بكسبه ففيه معنى قوله: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} {ولا تزر وازرة وزر أخرى}.

    وفيه أيضا إثبات كسب النفس المنافي للجبر.
    وفيه أيضا اجتماع الحكمة فيه فإما كسب خيرا أو اكتسب شرا لم يبطل اكتسابه كسبه كما يقوله أهل الإحباط والتخليد؛ فإنهم يقولون: إن عليه ما اكتسب وليس له ما كسب فالآية رد على جميع هذه الطوائف فتأمل كيف أتى فيما لها بالكسب الحاصل ولو لأدنى ملابسة وفيما عليها بالاكتساب الدال على الاهتمام والحرص والعمل؛ فإن اكتسب أبلغ من كسب ففي ذلك تنبيه على غلبة الفضل للعدل والرحمة للغضب. ثم لما كان ما كلفهم به عهودا منه ووصايا وأوامر تجب مراعاتها والمحافظة عليها وأن لا يخل بشيء منها؛ ولكن غلبة الطباع البشرية تأبى إلا النسيان والخطأ والضعف والتقصير أرشدهم الله تعالى إلى أن يسألوه مسامحته إياهم في ذلك كله ورفع موجبه عنهم بقولهم: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا} أي لا تكلفنا من الآصار التي يثقل حملها ما كلفته من قبلنا؛ فإنا أضعف أجسادا وأقل احتمالا. ثم لما علموا أنهم غير منفكين مما يقضيه ويقدره عليهم كما أنهم غير منفكين مما يأمرهم به وينهاهم عنه سألوه التخفيف في قضائه وقدره كما سألوه التخفيف في أمره ونهيه فقالوا: {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} فهذا في القضاء والقدر والمصائب وقولهم {ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا} في الأمر والنهي والتكليف فسألوه التخفيف في النوعين.

    ثم سألوه العفو والمغفرة والرحمة والنصر على الأعداء؛ فإن بهذه الأربعة تتم لهم النعمة المطلقة ولا يصفو عيش في الدنيا والآخرة إلا بها وعليها مدار السعادة والفلاح فالعفو متضمن لإسقاط حقه قبلهم ومسامحتهم به والمغفرة متضمنة لوقايتهم شر ذنوبهم وإقباله عليهم ورضاه عنهم؛ بخلاف العفو المجرد؛ فإن العافي قد يعفو ولا يقبل على من عفا عنه ولا يرضى عنه فالعفو ترك محض والمغفرة إحسان وفضل وجود والرحمة متضمنة للأمرين مع زيادة الإحسان والعطف والبر فالثلاثة تتضمن النجاة من الشر والفوز بالخير والنصرة تتضمن التمكين من إعلان عبادته وإظهار دينه وإعلاء كلمته وقهر أعدائه وشفاء صدورهم منهم وإذهاب غيظ قلوبهم وحزازات نفوسهم وتوسلوا في خلال هذا الدعاء إليه باعترافهم أنه مولاهم الحق الذي لا مولى لهم سواه فهو ناصرهم وهاديهم وكافيهم ومعينهم ومجيب دعواتهم ومعبودهم.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #135
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,763

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الرابع
    الحلقة (133)

    من صــ 237 الى صـ
    ـ 244




    فلما تحققت قلوبهم بهذه المعارف وانقادت وذلت لعزة ربها ومولاها وأجابتها جوارحهم أعطوا كلما سألوه من ذلك فلم يسألوا شيئا منه إلا قال الله تعالى: قد فعلت كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. فهذه كلمات قصيرة مختصرة في معرفة مقدار هذه الآيات العظيمة الشأن الجليلة المقدار التي خص الله بها رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته من كنز تحت العرش. وبعد ففيها من المعارف وحقائق العلوم ما تعجز عقول البشر عن الإحاطة به والله المرغوب إليه أن لا يحرمنا الفهم في كتابه إنه رحيم ودود. والحمد لله وحده وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده وآله وصحبه أجمعين.
    (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ... (286)
    (هل الأفعال الاختيارية من العباد تحصل بخلق الله تعالى وبخلق العبد؟)
    سئل شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:

    ما قول أهل الإسلام الراسخين في جذر الكلام الباسقين في فن الأحكام حياكم العلام في صدور دار السلام؛ وحباكم القيام بتوضيح ما استبهم على الأفهام في معتقد أهل السنة والجماعة. نضر الله أرواح السلف وكثر أعداد الخلف وأمدهم بأنواع اللطف. بأن الأفعال الاختيارية من العباد تحصل بخلق الله تعالى وبخلق العبد فحقيقة كسب العبد ما هي؟ وبعد هذا هل هو مؤثر في وجود الفعل؟ أم غير مؤثر؟. فإن كان فيصير العبد مشاركا للخالق في خلق الفعل فلا يكون العبد كاسبا؛ بل شريكا خالقا - وأهل السنة بررة برآء من هذا القول - وإن لم يكن مؤثرا في وجود الفعل فقد وجد الفعل بكماله بالحق سبحانه وتعالى وليس للعبد في ذلك شيء فلزم الجبر الذي يطوي بساط الشرع وأهل السنة الغراء والمحجة البيضاء فارون من هذه الكلمة الشنعاء والعقيدة العوراء. ولم ينسب إلى العبد الطاعة والعصيان والكفر والإيمان حتى يستحق الغضب والرضوان.
    فكيف السلوك أيها الهداة الأدلاء على اللحب المستقيم والمنهج القويم؟ وطرفي قصد الأمور ذميم. فبينوا بيانا يطلق العقول من هذا العقال ويشفي القلوب من هذا الداء العضال. أيدكم بروح القدس من له صفات الكمال فأجاب الشيخ الإمام العالم الرباني، المقذوف في قلبه النور الإلهي الجامع أشتات الفضائل، مفتي المسلمين تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية - رحمه الله تعالى -
    قال: رضي الله عنه تلخيص الجواب: أن الكسب هو الفعل الذي يعود على فاعله بنفع أو ضر كما قال تعالى: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} فبين سبحانه أن كسب النفس لها أو عليها والناس يقولون: فلان كسب مالا أو حمدا أو شرفا كما أنه ينتفع بذلك ولما كان العباد يكملون بأفعالهم ويصلحون بها إذ كانوا في أول الخلق خلقوا ناقصين صح إثبات السبب إذ كمالهم وصلاحهم عن أفعالهم والله سبحانه وتعالى فعله وصنعه عن كماله وجلاله فأفعاله عن أسمائه وصفاته ومشتقة منها كما قال سبحانه وتعالى: {أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها من اسمي} والعبد أسماؤه وصفاته عن أفعاله فيحدث له اسم العالم والكامل بعد حدوث العلم والكمال فيه. ومن هنا ضلت " القدرية " حيث شبهوا أفعاله - سبحانه وتعالى - عما يقولون علوا كبيرا - بأفعال العباد وكانوا هم المشبهة في الأفعال فاعتقدوا أن ما حسن منهم حسن منه مطلقا وما قبح منهم قبح منه مطلقا بقدر علمهم وعقلهم أو ما علموا أنها إنما حسنت منهم لإفضائها إلى ما فيه صلاحهم وفلاحهم؛ وقبحت لإفضائها إلى ما فيه فسادهم والله سبحانه متعال عن أن يلحقه ما لا يليق به سبحانه.

    وأما قوله: هل هو مؤثر في وجود الفعل أو غير مؤثر؟ فالكلام في مقامين:
    (أحدهما) أن هذا سؤال فاسد إن أخذ على ظاهره؛ لأن كسب العبد هو نفس فعله وصنعه فكيف يقال: هل يؤثر كسبه في فعله أو هل يكون الشيء مؤثرا في نفسه؟ وإن حسب حاسب أن الكسب هو التعاطي والمباشرة وقصد الشيء ومحاولته فهذه كلها أفعال يقال فيها ما يقال في أفعال البدن من قيام وقعود.

    وأظن السائل فهم هذا وتشبث بقول من يقول: إن فعل العبد يحصل بخلق الله عز وجل وكسب العبد. وتحقيق الكلام أن يقال: فعل العبد خلق لله - عز وجل - وكسب للعبد؛ إلا أن يراد أن أفعال بدنه تحصل بكسبه: أي بقصده وتأخيه. وكأنه قال: أفعاله الظاهرة تحصل بأفعاله الباطنة؛ وغير مستنكر عدم تجديد هذا السؤال فإنه مزلة أقدام ومضلة أفهام. وحسن المسألة نصف العلم. إذا كان السائل قد تصور السؤال. وإنما يطلب إثبات الشيء أو نفيه ولو حصل التصور التام لعلم أحد الطرفين.
    والمقام الثاني: في تحرير السؤال وجوابه - وهو أن يقال هل قدرة العبد المخلوقة مؤثرة في وجود فعله فإن كانت مؤثرة لزم الشرك؛ وإلا لزم الجبر والمقام مقام معروف؛ وقف فيه خلق من الفاحصين والباحثين والبصراء والمكاشفين وعامتهم فهموا صحيحا. ولكن قل منهم من عبر فصيحا. فنقول: التأثير اسم مشترك قد يراد بالتأثير الانفراد بالابتداع والتوحيد بالاختراع فإن أريد بتأثير قدرة العبد هذه القدرة فحاشا لله لم يقله سني وإنما هو المعزو إلى أهل الضلال. وإن أريد بالتأثير نوع معاونة إما في صفة من صفات الفعل. أو في وجه من وجوهه كما قاله كثير من متكلمي أهل الإثبات.

    فهو أيضا باطل بما به بطل التأثير في ذات الفعل؛ إذ لا فرق بين إضافة الانفراد بالتأثير إلى غير الله سبحانه في ذرة أو فيل. وهل هو إلا شرك دون شرك وإن كان قائل هذه المقالة ما نحا إلا نحو الحق. وإن أريد بالتأثير أن خروج الفعل من العدم إلى الوجود كان بتوسط القدرة المحدثة. بمعنى أن القدرة المخلوقة هي سبب وواسطة في خلق الله - سبحانه وتعالى - الفعل بهذه القدرة. كما خلق النبات بالماء وكما خلق الغيث بالسحاب.

    وكما خلق جميع المسببات والمخلوقات بوسائط وأسباب فهذا حق وهذا شأن جميع الأسباب والمسببات. وليس إضافة التأثير بهذا التفسير إلى قدرة العبد شركا وإلا فيكون إثبات جميع الأسباب شركا. وقد قال الحكيم الخبير: {فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات}. {فأنبتنا به حدائق ذات بهجة} وقال تعالى: {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم}.
    فبين أنه المعذب، وأن أيدينا أسباب وآلات وأوساط وأدوات في وصول العذاب إليهم وقال صلى الله عليه وسلم {لا يموتن أحد منكم إلا آذنتموني حتى أصلي عليه فإن الله جاعل بصلاتي عليه بركة ورحمة}. فالله سبحانه هو الذي يجعل الرحمة وذلك إنما يجعله بصلاة نبينا صلى الله عليه وسلم وعلى هذا التحرير فنقول: خلق الله سبحانه أعمال الأبدان بأعمال القلوب ويكون لأحد الكسبين تأثير في الكسب الآخر بهذا الاعتبار ويكون ذلك الكسب من جملة القدرة المعتبرة في الكسب الثاني؛ فإن القدرة هنا ليست إلا عبارة عما يكون الفعل به لا محالة: من قصد وإرادة وسلامة الأعضاء والقوى المخلوقة في الجوارح وغير ذلك ولهذا وجب أن تكون مقارنة للفعل وامتنع تقديمها على الفعل بالزمان.
    وأما القدرة التي هي مناط الأمر والنهي فذاك حديث آخر ليس هذا موضعه.
    وبالتمييز بين هاتين القدرتين يظهر لك قول من قال: القدرة مع الفعل ومن قال: قبله، ومن قال: الأفعال كلها تكليف ما لا يطاق، ومن منع ذلك؛ وتقف على أسرار المقالات وإذا أشكل عليك هذا البيان فخذ مثلا من نفسك: أنت إذا كتبت بالقلم وضربت بالعصا ونجرت بالقدوم هل يكون القلم شريكك أو يضاف إليه شيء من نفس الفعل وصفاته؟ أم هل يصلح أن تلغي أثره وتقطع خبره، وتجعل وجوده كعدمه؟ أم يقال: به فعل وبه صنع - ولله المثل الأعلى - فإن الأسباب بيد العبد ليست من فعله وهو محتاج إليها لا يتمكن إلا بها والله سبحانه خلق الأسباب ومسبباتها وجعل خلق البعض شرطا وسببا في خلق غيره وهو مع ذلك غني عن الاشتراط والتسبب ونظم بعضها ببعض لكن لحكمة تتعلق بالأسباب وتعود إليها والله عزيز حكيم.
    وأما قوله: إذا نفينا التأثير لزم انفراد الله سبحانه بالفعل. ولزم الجبر، وطي بساط الشرع الأمر والنهي.
    فنقول: إن أردت بالتأثير المنفي التأثير على سبيل الانفراد في نفس الفعل أو في شيء من صفاته فلقد قلت الحق وإن كان بعض أهل الاستنان يخالفك في القسم الثاني.
    وإن أردت به أن القدرة وجودها كعدمها وأن الفعل لم يكن بها ولم يصنع بها فهذا باطل كما تقدم بيانه وحينئذ لا يلزم الجبر بل ينبسط بساط الشرع وينشر علم الأمر والنهي ويكون لله الحجة البالغة. فقد بان لك أن إطلاق القول بإثبات التأثير أو نفيه دون الاستفصال، وبيان معنى التأثير ركوب جهالات واعتقاد ضلالات ولقد صدق القائل: أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء وبأن لك ارتباط الفعل المخلوق بالقدرة المخلوقة. ارتباط الأسباب بمسبباتها ويدخل في عموم ذلك جميع ما خلقه الله تعالى في السموات والأرض والدنيا والآخرة فإن اعتقاد تأثير الأسباب على الاستقلال دخول في الضلال، واعتقاد نفي أثرها وإلغاؤه ركوب المحال وإن كان لقدرة الإنسان شأن ليس لغيرها كما سنومئ إليه إن شاء الله تعالى. فلعلك أن تقول بعد هذا البيان: أنا لا أفهم الأسباب ولا أخرج عن دائرة التقسيم والمطالبة بأحد القسمين وما أنت إن قلت هذا:

    إلا مسبوق بخلق من الضلال: {كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم} وموقفك هذا مفرق طرق إما إلى الجنة وإما إلى النار فيعاد عليك البيان بأن لها تأثيرا من حيث هي سبب كتأثير القلم وليس لها تأثير من حيث الابتداع والاختراع ونضرب لك الأمثال لعلك تفهم صورة الحال ويبين لك أن إثبات الأسباب مبتدعات هو الإشراك وإثباتها أسبابا موصولات هو عين تحقيق التوحيد عسى الله أن يقذف بقلبك نورا ترى هذا البيان {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور}.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #136
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,763

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الرابع
    الحلقة (134)

    من صــ 245 الى صـ
    ـ 252



    فإن قلت: إثبات القدرة سبب نفي للتأثير في الحقيقة فما بال الفعل يضاف إلى العبد؟ وما باله يؤمر وينهى؟ ويثاب ويعاقب وهل هذا إلا محض الجبر؟ وإذا كنت مشبها لقدرة الإنسان بقلم الكاتب وعصا الضارب فهل رأيت القلم يثاب أو العصا تعاقب؟ وأقول لك الآن إن شاء الله وجب هداك بمعونة مولاك وإن لم تطلع من أسرار القدر إلا على مثل ضرب الأثر وألق السمع وأنت شهيد عسى الله أن يمدك بالتأييد.
    اعلم أن العبد فاعل على الحقيقة وله مشيئة ثابتة وله إرادة جازمة وقوة صالحة وقد نطق القرآن بإثبات مشيئة العباد في غير ما آية كقوله:
    {لمن شاء منكم أن يستقيم} {وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين} {فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا} {فمن شاء ذكره} {وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة} ونطق بإثبات فعله في عامة آيات القرآن: {يعملون} {يفعلون} {يؤمنون} {يكفرون} {يتفكرون} {يحافظون} {يتقون}. وكما أنا فارقنا مجوس الأمة بإثبات أنه تعالى خالق فارقنا الجبرية بإثبات أن العبد كاسب فاعل صانع عامل والجبر المعقول الذي أنكره سلف الأمة وعلماء السنة هو أن يكون الفعل صادرا على الشيء من غير إرادة ولا مشيئة ولا اختيار مثل حركة الأشجار بهبوب الرياح وحركة. . . (1) بإطباق الأيدي ومثله في الأناسي حركة المحموم والمفلوج والمرتعش فإن كل عاقل يجد تفرقة بديهية بين قيام الإنسان وقعوده وصلاته وجهاده وزناه وسرقته وبين ارتعاش المفلوج وانتفاض المحموم ونعلم أن الأول قادر على الفعل مريد له مختار وأن الثاني غير قادر عليه ولا مريد له ولا مختار.
    والمحكي عن جهم وشيعته " الجبرية " أنهم زعموا: أن جميع أفاعيل العباد قسم واحد وهو قول ظاهر الفساد وبما بين القسمين من الفرقان انقسمت الأفعال: إلى اختياري واضطراري واختص المختار منها بإثبات الأمر والنهي عليه ولم يجئ في الشرائع ولا في كلام حكيم أمر الأعمى بنقط المصحف والمقعد بالاشتداد أو المحموم بالسكون وشبه ذلك وإن اختلفوا في تجويزه عقلا أو سمعا فإنما منع وقوعه بإجماع العقلاء أولى العقل من جميع الأصناف.
    فإن قيل: هب أن فعلي الذي أردته واخترته هو واقع بمشيئتي وإرادتي أليست تلك الإرادة وتلك المشيئة من خلق الله تعالى؟ وإذا خلق الأمر الموجب للفعل. فهل يتأتى ترك الفعل معه؟ أقصى ما في الباب أن الأول جبر بغير توسط الإرادة من العبد وهذا جبر بتوسط الإرادة.
    فنقول: الجبر المنفي هو الأول كما فسرناه وأما إثبات القسم الثاني فلا ريب فيه عند أهل الاستنان والآثار وأولي الألباب والأبصار لكن لا يطلق عليه اسم الجبر خشية الالتباس بالقسم الأول وفرارا من تبادر الأفهام إليه وربما سمي جبرا إذا أمن من اللبس وعلم القصد قال علي رضي الله عنه في الدعاء المشهور عنه في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم اللهم داحي المدحوات وباري المسموكات جبار القلوب على فطراتها شقاها أو سعدها.
    فبين أنه سبحانه جبر القلوب على ما فطرها عليه: من شقاوة أو سعادة وهذه الفطرة الثانية ليست الفطرة الأولى وبكلا الفطرتين فسر قوله صلى الله عليه وسلم {كل مولود يولد على الفطرة} وتفسيره بالأولى واضح قاله محمد بن كعب القرظي - وهو من أفاضل تابعي أهل المدينة وأعيانهم وربما فضل على أكثرهم - في قوله {الجبار} قال جبر العباد على ما أراد وروي ذلك عن غيره وشهادة القرآن والأحاديث ورؤية أهل البصائر والاستدلال التام لتقليب الله سبحانه وتعالى قلوب العباد وتصريفه إياها وإلهامه فجورها وتقواها وتنزيل القضاء النافذ من عند العزيز الحكيم في أدنى من لمح البصر على قلوب العالمين حتى تتحرك الجوارح بما قضي لها وعليها بين غاية البيان إلا لمن أعمى الله بصره وقلبه.
    فإن قلت: أنا أسألك على هذا التقدير بعد خروجي عن تقدير الجبر الذي نفوه وأبطلوه وثباتي على ما قالوه وبينوه كيف انبنى الثواب والعقاب على فعله وصح تسميته فاعلا على حقيقته وانبنى فعله على قدرته؟.

    فأقول: - والله الهادي إلى سواء الصراط - اعلم أن الله تعالى خلق فعل العبد سببا مقتضيا لآثار محمودة أو مذمومة والعمل الصالح مثل صلاة أقبل عليها بقلبه ووجهه وأخلص فيها وراقب وفقه ما بنيت عليه من الكلمات الطيبات والأعمال الصالحات يعقبه في عاجل الأمر نور في قلبه وانشراح في صدره وطمأنينة في نفسه ومزيد في علمه وتثبيت في يقينه وقوة في عقله إلى غير ذلك من قوة بدنه وبهاء وجهه وانتهائه عن الفحشاء والمنكر وإلقاء المحبة له في قلوب الخلق ودفع البلاء عنه وغير ذلك مما يعلمه ولا نعلمه. ثم هذه الآثار التي حصلت له من النور والعلم واليقين وغير ذلك أسباب مفضية إلى آثار أخر من جنسها ومن غير جنسها أرفع منها وهلم جرا.

    ولهذا قيل: إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها وإن من عقوبة السيئة السيئة بعدها وكذلك العمل السيئ مثل الكذب - مثلا - يعاقب صاحبه في الحال بظلمة في القلب وقسوة وضيق في صدره ونفاق واضطراب ونسيان ما تعلمه وانسداد باب علم كان يطلبه ونقص في يقينه وعقله واسوداد وجهه وبغضه في قلوب الخلق واجترائه على ذنب آخر من جنسه أو غير جنسه وهلم جرا. إلا أن يتداركه الله برحمته.
    فهذه الآثار هي التي تورثها الأعمال هي الثواب والعقاب وإفضاء العمل إليها واقتضاؤه إياها كإفضاء جميع الأسباب التي جعلها الله - سبحانه وتعالى - أسبابا إلى مسبباتها والإنسان إذا أكل أو شرب حصل له الري والشبع وقد ربط الله سبحانه وتعالى الري والشبع بالشرب والأكل ربطا محكما ولو شاء أن لا يشبعه ويرويه مع وجود الأكل والشرب فعل إما أن لا يجعل في الطعام قوة أو يجعل في المحل قوة مانعة أو بما يشاء سبحانه وتعالى ولو شاء أن يشبعه ويرويه بلا أكل ولا شرب أو بأكل شيء غير معتاد فعل. كذلك في الأعمال: المثوبات والعقوبات حذو القذة بالقذة فإنه إنما سمي الثواب ثوابا؛ لأنه يثوب إلى العامل من عمله:
    أي يرجع والعقاب عقابا لأنه يعقب العمل: أي يكون بعده ولو شاء الله أن لا يثيبه على ذلك العمل إما بأن لا يجعل في العمل خاصة تفضي إلى الثواب أو لوجود أسباب تنفي ذلك الثواب أو غير ذلك لفعل - سبحانه وتعالى - وكذلك في العقوبات. وبيان ذلك أن نفس الأكل والشرب باختيار العبد ومشيئته. التي هي من فعل الله سبحانه وتعالى أيضا وحصول الشبع عقب الأكل ليس للعبد فيه صنع ألبتة حتى لو أراد دفع الشبع بعد تعاطي الأسباب الموجبة له لم يطق وكذلك نفس العمل هو بإرادته واختياره فلو شاء أن يدفع أثر ذلك العمل وثوابه بعد وجود موجبه لم يقدر.
    فهذه حكمة الله تعالى ومشيئته في جميع الأسباب في الدنيا والآخرة لكن العلم بالأعمال النافعة في الدار الآخرة والأعمال الضارة أكثره غيب عن عقول الخلق وكذلك مصير العباد ومنقلبهم بعد فراق هذه الدار. فبعث الله سبحانه وتعالى رسله وأنزل كتبه مبشرين ومنذرين؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وحكمته في ذلك تضارع حكمته في جميع خلق الأسباب والمسببات. وما ذاك إلا أن علمه الأزلي ومشيئته النافذة وقدرته القاهرة اقتضت ما اقتضته وأوجبت ما أوجبته من مصير أقوام إلى الجنة بأعمال موجبة لذلك منهم. وخلق أعمالهم وساقهم بتلك الأعمال إلى رضوانه وكذلك أهل النار كما قال: الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم لما قيل: له {ألا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ فقال: لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له. أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة وأما من كان من أهل الشقاوة فييسر لعمل أهل الشقاوة}. فبين صلى الله عليه وسلم أن السعيد قد ييسر للعمل الذي يسوقه الله تعالى به إلى السعادة وكذلك الشقي.

    وتيسيره له هو نفس إلهامه ذلك العمل وتهيئة أسبابه وهذا هو تفسير خلق أفعال العباد فنفس خلق ذلك العمل هو السبب المفضي إلى السعادة أو الشقاوة. ولو شاء لفعله بلا عمل بل هو فاعله فإنه ينشئ للجنة خلقا لما يبقى فيها من الفضل. يبقى أن يقال: فالحكمة الكلية التي اقتضت ما اقتضته من الأسباب الأول وحقائق ما الأمر صائر إليه في العواقب والتخصيصات والتمييزات الواقعة في الأشخاص والأعيان إلى غير ذلك من كليات القدر التي لا تختص بمسألة خلق أفعال العباد. وليس هذا الاستفتاء معقودا لها وتفسير جمل ذلك لا يليق بهذا الموضع. فضلا عن بعض تفصيله. ويكفي العاقل أن يعلم أن الله عز وجل عليم حكيم رحيم بهرت الألباب حكمته ووسعت كل شيء رحمته.

    وأحاط بكل شيء علمه وأحصاه لوحه وقلمه وأن لله تعالى في قدره سرا مصونا وعلما مخزونا احترز به دون جميع خلقه واستأثر به على جميع بريته؛ وإنما يصل به أهل العلم وأرباب ولايته إلى جمل من ذلك وقد لا يؤذن لهم في ذكر ما وربما كلم الناس في ذلك على قدر عقولهم وقد سأل موسى وعيسى وعزير ربنا - تبارك وتعالى - عن شيء من سر القدر وأنه لو شاء أن يطاع لأطيع وأنه مع ذلك يعصى فأخبرهم - سبحانه وتعالى - أن هذا سره. وفي هذا المقام تاهت عقول كثير من الخلائق وفيه ضل القائلون بقدم العالم، وأن صانعه موجب بذاته ومقتضي بنفسه اقتضاء العلة للمعلول وأنه ليس في الإمكان أبدع مما صنع ودب بعض هذا الداء إلى بعض أهل الكتاب وأتباع الرسل فقد قرروا انحصار الممكن في الموجود وكل ذلك طلبا للاستراحة من مؤمنة تعليل الأفعال الإلهية ووجود الأسباب الحادثة للأمور الحادثة وعلله أهل القدر بعللهم العائلة في التعديل والتجويز ووجوب رعاية الصالح أو الأصلح؛ ولم يستقم لواحد من الفريقين أصلهم ولم يطرد لهم.
    ومن هنا ذهب أهل التثنية والتمجس إلى الأصلين والقول بقدم النور والظلمة وسلم بعض السلامة - وإن كان فيه نوع من ظن السوء بالله وضرب من الجفاء - أكثر متكلمي أهل الإثبات حيث ردوا الأمر إلى محض المشيئة وصرف الإرادة وأن إنشاءها جميع الجائزات واقتضاءها كل الممكنات على نحو واحد ووتيرة واحدة وأنها بذاتها تخصص وتميز.

    ولو خلط بهذا الكلام ضرب من وجوه الرحمة وأنواع الحكمة - علمناها أو جهلناها - لكان أقرب إلى القبول. وبكل حال فلام التعليل في فعله - سبحانه وتعالى - ليست على ما يعقله أكثر الخلق من لام التعليل في أفعالهم ووراء ما يعلمه هؤلاء ويقولون: مما أنار الله - سبحانه وتعالى - به قلوب أوليائه وقذف في أفئدة أصفيائه ممن استمسك فيما يظهر من الكلام بسبيل أهل الآثار، واعتصم فيما يبطن عن الأفهام بحبل أهل الأبصار.

    __________
    Q (1) بياض في الأصل




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #137
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,763

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الرابع
    الحلقة (135)

    من صــ 253 الى صـ
    ـ 262




    وفي هذا المقام تعرف أولوا الألباب سر قوله: {سبقت رحمتي غضبي} وقوله: {الشر ليس إليك} وقوله: {بيدك الخير} وقوله: {من شر ما خلق} وقوله: {وإذا مرضت فهو يشفين}. {وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا}؟ وما شاكل ذلك من أن الشر إما أن يحذف فاعله أو يضاف إلى الأسباب أو يندرج في العموم وأما إفراده بالذكر مضافا إلى خالق كل شيء فلا يقتضيه كلام حكيم لما توجبه الحقيقة المقتضية للأدب المؤسس لا لمحض. . . (1) متميز. وهنا يعرف سبب دخول خلق كثير الجنة بلا عمل وإنشاء خلق لها.
    وأما النار فلا تدخل إلا بعمل ولن يدخلها إلا أهل الدنيا ويعرف حقيقة: {وما أصابك من سيئة فمن نفسك} {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} مع أن السيئة من القدر، وقول الصديق وغيره من الصحابة: إن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان إلى غير ذلك مما فيه ما قد لحظ كل ناظر منه شعبة من الحق وتعلق بسبب من الصواب وما يتبع وجوه الحق ويؤمن بالكتاب كله إلا أولو الألباب وقليل ما هم فهذه إشارة يسيرة إلى كلي التقدير.
    وأما كون قدرة العبد وكسبه له شأن من بين سائر الأسباب. فإن الله - عز وجل - خص الإنسان بأن علمه يورثه في الدنيا أخلاقا وأحوالا وآثارا. وفي الآخرة أيضا أمورا أخر لم يحصل هذا لغيره من مخلوقاته والوجوه التي خص بها الإنسان في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله شخصا ونوعا أكثر من أن تحصى وما من عاقل إلا وعنده منها طرف ولهذا حسن توجيه الأمر والنهي إليه. وصح إضافة الفعل إليه حقيقة وكسبا مع أنه خلق الله تعالى فإن الله تعالى خلق العبد وعمله وجعل هذا العمل له عملا قام به وصدر عنه وحدث بقدرته الحادثة. وأدنى أحوال " الفعل " أن يكون بمنزلة الصفات والأخلاق المخلوقة في العبد إذا جعلت مفضية إلى أمور أخر فهل يصح تجريد العبد عنها؟ كلا ولم؟.
    وأما " الأمر " فإنه في حق المطيعين من الأسباب التي بها يكون الفعل منهم؛ فإنه يبعث داعيتهم ثم إنه يوجب لهم الطاعة ومحض الانقياد والاستسلام فهو من جملة القدر السابق لهم إلى السعادة وفي حق العاصين هو السبب الذي يستحقون به العصيان إذ لولا هو لما تميز مطيع من عاص. و " أيضا " في حقهم من القدر السابق لهم إلى المعصية؛ ليضل به كثيرا ويهدي به كثيرا عن إدخال الأمر والنهي في جملة المقادير. . . (2) يحل عقدة كثيرة هذا. . . (3) سبحانه وتعالى لعلمه بالعواقب.
    وأما أمر العباد فظاهر العدم. . . (4) من المعاصي في علمهم وأن قصدهم نفس صدور الفعل من الجميع فهو. . . (5) في ظاهر الأمر الشرعي على لسان المرسلين بالكتب المنزلة والله كله. . . (6) مظهر أمر وحكم يمضيه فالإرادة والأمر كل منهما منقسم. . . (7) عام الوقوع جامع للقسمين وإلى شرع وربما بعد وربما وقف. . . (8) القدر له والخير كل الخير في نفوذه وهو خاص الوقوع بفرق إلى القسمين واضع الأشياء في مراتبها.

    وإذا صح نسبة الطاعة والمعصية إلى من خلقت فيه ولو أنه يخلق الصفات. أفيحسن بالإنسان أن يقول: أسود وأحمر وطويل وقصير وذكي وبليد وعربي وعجمي فيضيف إليه جميع الصفات التي ليس للإنسان فيها إرادة أصلا ألبتة لقيامها به، وتأثيرها فيه تارة بما يلائمه وتارة بما ينافره ثم يستبعد أن يضاف إليه ما خلق فيه من الفعل بواسطة قصده وإرادته المخلوقين أيضا؟ ثم يقول: ليس للعبد في السيئ شيء فهل الجميع إلا له؟ بل ليست لأحد غيره؛ لكن الله سبحانه وتعالى خلقها له وإضافة الفعل إلى خالقه ومبدعه لا تنافي إضافته إلى صاحبه ومحله الذي هو فاعله وكاسبه وقد بينا الجبر المذموم ما هو.

    ونختم الكلام بكلام وجيز في سبب الفرق بين الخلق والكسب.
    فنقول: الخلق يجمع معنيين: أحدهما: الإبداع والبرء، والثاني: التقدير والتصوير.
    فإذا قيل: خلق فلا بد أن يكون أبدع إبداعا مقدرا ولما كان - سبحانه وتعالى - أبدع جميع الأشياء من العدم وجعل لكل شيء قدرا صح إضافة الخلق إليه بالقول المطلق. والتقدير في المخلوق لازم إذ هو عبارة عن تحديده والإحاطة به وهذا لازم لجميع الكائنات لا كما زعم من حسب أن الخلق في. . . (10) ذوات المساحة وهي الأجسام مفرقا بين الخلق والأمر بذلك فإنه قول باطل مبتدع والأمر هو كلامه كما فسره الأولون والخلق مفسر. . . (11) يجعل الخلق بإزاء إبداع الصور الذهنية وتقديرها ومنه تسمية. . . (12) اختلافا إذ هو صور ذهنية ليس لها حقيقة خارجة عن الذهن و. . . (13) جعل الخلق بمعنى التقدير فقط مقطوعا عنه النظر إلى الإبداع بما قال. . . (14) سدى ما خلقت وكما قال علي في تمثال صنعه: أنا خلقته والفرق. . . (15) الأولى من حيث إن تلك الصورة مبتدعة لكان قولا. . . (16) يكون إلا الله سبحانه وتعالى صح وصفه سبحانه بأنه خالق كل شيء.
    وأما الكسب فقد ذكرنا أنه إنما ينظر فيه إلى تأثيره في محله ولو لم يكن له عليه قدرة حتى يقال: الثوب قد اكتسب من ريح المسك، والمسجد قد اكتسب الحرمة من أفعال العابدين والجلد قد اكتسب الحرمة لمجاورة المصحف والثمرة قد اكتسبت لونا وريحا وطعما فكل محل تأثر عن شيء مؤثرا وملائما ومنافرا صح وصفه بالاكتساب بناء على تأثره وتغيره وتحوله من حال إلى حال والإنسان يتأثر عن الأفعال الاختيارية ولا يتأثر عن الأفعال الاضطرارية فتورثه أخلاقا وأحوالا على أي حال كان حتى على رأي من يطلق اسم الجبر على مجموع أفعاله فإنه يستيقن تأثير الأفعال الاختيارية في نفسه بخلاف الاضطرارية اللهم إلا من حيث قد توجب الأفعال الاضطرارية أمرا في نفسه فيكون ذلك اختيارا.
    ثم اعلم أن الاضطرار إنما يكون في بدنه دون قلبه إما بفعل الله تعالى كالأمراض والأسقام وإما بفعل العباد كالقيد والحبس وأما أفعال روحه المنفوخة فيه؛ إذا حركت يديه فهي كلها اختيارية ومن وجه قد بيناه كلها اضطرارية فاضطرارها هو عين. . . (17) واختيارها إنما هو بالاضطرار وحقيقة الاضطرار هو أن اضطرار. . . (18) وربما أحبت من وجه وكرهت من وجه آخر وهذا كله لا يمنع ورود التكليف واقتضاء الثواب والعقاب. هذا الذي تيسر كتابته في الحال: {والله يقول الحق وهو يهدي السبيل} والحمد لله وحده.

    (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين (286)
    وقال - رحمه الله -:
    فصل:

    في الدعاء المذكور في آخر (سورة البقرة) وهو قوله: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} إلى آخرها.
    قد ثبت في صحيح مسلم: {أنه قال قد فعلت} وكذلك في صحيحه من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {أعطيت فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم تقرأ بحرف منها إلا أعطيته} وفي صحيحه أيضا عن ابن مسعود قال: {لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهي به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السابعة إليها ينتهي ما يعرج من الأرض فيقبض منها وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها فيقبض منها قال: {إذ يغشى السدرة ما يغشى} قال: فراش من ذهب قال: فأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا أعطي الصلوات الخمس وأعطي خواتيم سورة البقرة وغفر لمن مات من أمته لا يشرك بالله شيئا المقحمات}.
    قال بعض الناس إذا كان هذا الدعاء قد أجيب فطلب ما فيه من باب تحصيل الحاصل وهذا لا فائدة فيه فيكون هذا الدعاء عبادة محضة ليس المقصود به السؤال وهذا القول قد قاله طائفة في جميع الدعاء أنه إن كان المطلوب مقدرا فلا حاجة إلى سؤاله وطلبه وإن كان غير مقدر لم ينفع الدعاء - دعوت أو لم تدع - فجعلوا الدعاء تعبدا محضا كما قال ذلك طائفة أخرى في التوكل. وقد بسطنا الكلام على هؤلاء في غير هذا الموضع وذكرنا قول من جعل ذلك أمارة أو علامة بناء على أنه ليس في الوجود سبب يفعل به؛ بل يقترن أحد الحادثين بالآخر قاله طائفة من القدرية النظار وأول من عرف عنه ذلك الجهم بن صفوان ومن وافقه وذكرنا أن " القول الثالث " هو الصواب وهو أن الدعاء والتوكل والعمل الصالح سبب في حصول المدعو به من خير الدنيا والآخرة والمعاصي سبب وأن الحكم المعلق بالسبب قد يحتاج إلى وجود الشرط وانتفاء الموانع فإذا حصل ذلك حصل المسبب بلا ريب. والمقصود هنا الكلام في الدعاء الذي قد علم أنه أجيب فقال بعض الناس: هذا تعبد محض لحصول المطلوب بدون دعائنا فلا يبقى سببا ولا علامة وهذا ضعيف.

    أما أولا فإن العمل الذي لا مصلحة للعبد فيه لا يأمر الله به وهذا بناء على قول السلف: إن الله لم يخلق ولم يأمر إلا لحكمة كما لم يخلق ولم يأمر إلا لسبب. والذين ينكرون الأسباب والحكم يقولون بل يأمر بما لا منفعة فيه للعباد ألبتة وإن أطاعوه وفعلوا ما أمرهم به كما بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع. والمقصود أن كل ما أمر الله به أمر به لحكمة وما نهى عنه نهى لحكمة وهذا مذهب أئمة الفقهاء قاطبة وسلف الأمة وأئمتها وعامتها فالتعبد المحض بحيث لا يكون فيه حكمة لم يقع.

    نعم قد تكون الحكمة في المأمور به وقد تكون في الأمر وقد تكون في كليهما فمن المأمور به ما لو فعله العبد بدون الأمر حصل له منفعة: كالعدل والإحسان إلى الخلق وصلة الرحم وغير ذلك. فهذا إذ أمر به صار فيه " حكمتان " حكمة في نفسه وحكمة في الأمر فيبقى له حسن من جهة نفسه ومن جهة أمر الشارع وهذا هو الغالب على الشريعة وما أمر الشرع به بعد أن لم يكن إنما كانت حكمته لما أمر به. وكذلك ما نسخ زالت حكمته وصارت في بدله كالقبلة.
    وإذا قدر أن الفعل ليست فيه حكمة أصلا فهل يصير بنفس الأمر فيه حكمة الطاعة؟ وهذا جائز عند من يقول بالتعبد المحض وإن لم يقل بجواز الأمر لكل شيء؛ لكن يجعل من باب الابتلاء والامتحان فإذا فعل صار العبد به مطيعا كنهيهم عن الشرب إلا من اغترف غرفة بيده. والتحقيق أن الأمر الذي هو ابتلاء وامتحان يحض عليه من غير منفعة في الفعل متى اعتقده العبد وعزم على الامتثال حصل المقصود وإن لم يفعله كإبراهيم لما أمر بذبح ابنه وكحديث أقرع وأبرص وأعمى لما طلب منهم إعطاء ابن السبيل فامتنع الأبرص والأقرع فسلبا النعمة وأما الأعمى فبذل المطلوب فقيل له أمسك مالك فإنما ابتليتم فقد رضي عنك وسخط على صاحبيك وهذا هو الحكمة الناشئة من نفس الأمر والنهي لا من نفس الفعل فقد يؤمر العبد وينهى وتكون الحكمة طاعته للأمر وانقياده له وبذله للمطلوب كما كان المطلوب من إبراهيم تقديم حب الله على حبه لابنه حتى تتم خلته به قبل ذبح هذا المحبوب لله فلما أقدم عليه وقوي عزمه بإرادته لذلك تحقق بأن الله أحب إليه من الولد وغيره ولم يبق في قلبه محبوب يزاحم محبة الله. وكذلك أصحاب طالوت ابتلوا بالامتناع من الشرب ليحصل من إيمانهم وطاعتهم ما تحصل به الموافقة والابتلاء هاهنا كان بنهي لا بأمر وأما رمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة فالفعل في نفسه مقصود لما تضمنه من ذكر الله.
    وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا بقوله في الحديث الذي في السنن {إنما جعل السعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله} رواه أبو داود والترمذي وغيرهما فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا له حكمة فكيف يقال لا حكمة؛ بل هو تعبد وابتلاء محض. وأما فعل مأمور في الشرع ليس فيه مصلحة ولا منفعة ولا حكمة إلا مجرد الطاعة والمؤمنون يفعلونه فهذا لا أعرفه بل ما كان من هذا القبيل نسخ بعد العزم كما نسخ إيجاب الخمسين صلاة إلى خمس.

    و " المعتزلة " تنكر الحكمة الناشئة من نفس الأمر؛ ولهذا لم يجوزوا النسخ قبل التمكن وقد وافقهم على ذلك طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم كأبي الحسن التميمي وبنوه على أصلهم وهو أن الأمر عندهم كاشف عن حسن الفعل الثابت في نفسه لا مثبت لحسن الفعل وأن الأمر لا يكون إلا بحسن وغلطوا في المقدمتين فإن الأمر وإن كان كاشفا عن حسن الفعل فالفعل بالأمر يصير له حسن آخر غير الحسن الأول وإذا كان مقصود الآمر الامتحان للطاعة فقد يأمر بما ليس بحسن في نفسه وينسخه قبل التمكن إذا حصل المقصود من طاعة المأمور وعزمه وانقياده وهذا موجود في أمر الله وأمر الناس بعضهم بعضا.
    __________
    Q (1) سقط بالأصل
    Q (5، 2) هكذا بالأصل
    Q (9، 6) هكذا بالأصل
    Q (16، 10) بياض بالأصل
    Q (18، 17) بياض بالأصل



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #138
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,763

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الرابع
    الحلقة (136)

    من صــ 263 الى صـ
    ـ 270




    والجهمية تنكر أن يكون في الفعل حكمة أصلا في نفسه ولا في نفس الأمر بناء على أصلهم أنه لا يأمر لحكمة وعلى أن الأفعال بالنسبة إليه سواء ليس بعضها حسنا وبعضها قبيحا وكلا الأصلين قد وافقتهم عليه الأشعرية ومن اتبعهم من الفقهاء كأصحاب الشافعي ومالك وأحمد وغيرهم وهما أصلان مبتدعان؛ فإن مذهب السلف والأئمة أن الله يخلق لحكمة ويأمر لحكمة ومذهب السلف والأئمة أن الله يحب الإيمان والعمل الصالح ويرضى ذلك ولا يحب الكفر والفسوق والعصيان؛ وإن كان قد شاء وجود ذلك وقد بسط هذا في موضع آخر.
    وقد قال تعالى: {وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة} فإن نفس السجود خضوع لله ولو فعله الإنسان لله مع عدم علمه أنه أمر به انتفع كالسحرة الذين سجدوا قبل الأمر بالسجود. وكذلك قول العبد حط عنا خطايانا دعاء لله وخضوع وقد قال تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} وهذه الأفعال المدعو بها في آخر البقرة أمور مطلوبة للعباد. وقد أجيب بجواب آخر وهو أن الله تعالى إذا قدر أمرا فإنه يقدر أسبابه والدعاء من جملة أسبابه كما أنه لما قدر النصر يوم بدر وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم قبل وقوعه أصحابه بالنصر وبمصارع القوم كان من أسباب ذلك استغاثة النبي صلى الله عليه وسلم ودعاؤه وكذلك ما وعده به ربه من الوسيلة وقد قضى بها له وقد أمر أمته بطلبها له وهو سبحانه قدرها بأسباب منها ما سيكون من الدعاء.
    وعلى هذا فالداخل في السبب هو ما وقع من الدعاء المأمور به والله أعلم بذلك فيثيب هذا الداعي على ما فعله من الدعاء بجعله تمام السبب ولا يكون على هذا الدعاء سببا في اختصاصه بشيء من ذلك؛ بل في حصوله لمجموع الأمة؛ لكن هو يثاب على الدعاء لكونه من جملة الأسباب وهذا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من عبد يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى خصال ثلاث:
    إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدخر له من الخير مثلها وإما أن يكفر عنه من الذنوب مثلها وإما أن يدفع عنه من البلاء مثلها قالوا يا رسول الله إذا نكثر قال: الله أكثر} (1) فالداعي بهذا كالداعي بالوسيلة يحصل له من الأجر ما يخصه كالداعي للأمة ولأخيه الغائب ودعاؤه من أسباب الخير التي بها رحمة الأمة كما يثاب على سؤاله الوسيلة للنبي صلى الله عليه وسلم بأن تحل عليه الشفاعة يوم القيامة. وهنا " جواب ثالث " وهو أن كل من دعا بهذا الدعاء حصل له من المدعو المطلوب ما لا يحصل بدون المطلوب من الدعاء فيكون الدعاء به كدعائه بسائر مطالبه من المغفرة والرحمة وليس هو كدعاء الغائب للغائب؛ فإن الملك يقول هناك: ولك بمثله فيدعو له الملك بمثل ما دعا به للغائب وهنا هو داع لنفسه وللمؤمنين. وبيان هذا أن الشرع وإن كان قد استقر بموت النبي صلى الله عليه وسلم وقد أخبر أن الله تجاوز لأمته عن الخطأ والنسيان وقد أخبر أن الرسول يضع عن أمته إصرهم والأغلال التي كانت عليهم وسأل ربه لأمته أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فيجتاحهم فأعطاه ذلك؛ لكن ثبوت هذا الحكم في حق آحاد الأمة قد لا يحصل إلا بطاعة الله ورسوله فإذا عصى الله ذلك الشخص العاصي عوقب عن ذلك بسلب هذه النعمة وإن كانت الشريعة لم تنسخ.

    يبين هذا أن في هذا الدعاء سؤال الله بالعفو والمغفرة والرحمة والنصر على الكفار ومعلوم أن هذا ليس حاصلا لكل واحد من أفراد الأمة بل منهم من يدخل النار ومنهم من ينصر عليه الكفار ومنهم من يسلب الرزق لكونهم فرطوا في طاعة الله ورسوله فيسلبون ذلك بقدر ما فرطوا أو قصروا وقول الله: " قد فعلت " يقال فيه شيئان.

    أحدهما: أنه قد فعل ذلك بالمؤمنين المذكورين في الآية والإيمان المطلق يتضمن طاعة الله ورسوله. فمن لم يكن كذلك نقص إيمانه الواجب فيستحق من سلب هذه النعم بقدر النقص ويعوق الله عليه ملاذ ذلك ولم يستحق من الجزاء ما يستحقه من قام بالإيمان الواجب.
    الثاني: أن يقال: هذا الدعاء استجيب له في جملة الأمة ولا يلزم من ذلك ثبوته لكل فرد وكلا الأمرين صحيح؛ فإن ثبوت هذا المطلوب لجملة الأمة حاصل ولولا ذلك لأهلكوا بعذاب الاستئصال كما أهلكت الأمم قبلهم. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {سألت ربي لأمتي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألته أن لا يهلك أمتي بسنة عامة فأعطانيها وسألته أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فيجتاحهم فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها. وقال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء لم يرد}.
    وكذلك في الصحيحين: {لما نزل قوله تعالى {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم} قال النبي صلى الله عليه وسلم أعوذ بوجهك {أو من تحت أرجلكم} قال: أعوذ بوجهك {أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض} قال: هاتان أهون} وهذا لأنه لا بد أن تقع الذنوب من هذه الأمة ولا بد أن يختلفوا؛ فإن هذا من لوازم الطبع البشري لا يمكن أن يكون بنو آدم إلا كذلك ولهذا لم يكن ما وقع فيها من الاختلاف والقتال والذنوب دليلا على نقصها؛ بل هي أفضل الأمم وهذا الواقع بينهم من لوازم البشرية وهو في غيرها أكثر وأعظم وخير غيرها أقل والخير فيها أكثر والشر فيها أقل فكل خير في غيرها فهو فيها أعظم وكل شر فيها فهو في غيرها أعظم.

    وأما حصول المطلوب للآحاد منها فلا يلزم حصوله لكل عاص؛ لأنه لم يقم بالواجب ولكن قد يحصل للعاصي من ذلك بحسب ما معه من طاعة الله تعالى أما حصول المغفرة والعفو والرحمة بحسب الإيمان والطاعة فظاهر؛ لأن هذا من الأحكام القدرية الخلقية من جنس الوعد والوعيد وهذا يتنوع بتنوع الإيمان والعمل الصالح. وأما دفع المؤاخذة بالخطأ والنسيان ودفع الآصار فإن هذا قد يشكل لأنه من باب الأحكام الشرعية أحكام الأمر والنهي.

    فيقال: الخطأ والنسيان المرفوع عن الأمة مرفوع عن عصاة الأمة؛ فإن العاصي لا يأثم بالخطأ والنسيان؛ فإنه إذا أكل ناسيا أتم صومه سواء كان مطيعا في غير ذلك أو عاصيا فهذا هو الذي يشكل وعنه جوابان. (أحدهما أن الذنوب والمعاصي قد تكون سببا لعدم العلم بالحنيفية السمحة؛ فإن الإنسان قد يفعل شيئا ناسيا أو مخطئا ويكون لتقصيره في طاعة الله علما وعملا لا يعلم أن ذلك مرفوع عنه؛ إما لجهله وإما لكونه ليس هناك من يفتيه بالرخصة في الحنيفية السمحة. والعلماء قد تنازعوا في كثير من مسائل الخطأ والنسيان واعتقد كثير منهم بطلان العبادات أو بعضها به كمن يبطل الصوم بالنسيان وآخرون بالخطأ وكذلك الإحرام وكذلك الكلام في الصلاة وكذلك إذا فعل المخلوق عليه ناسيا أو مخطئا فإذا كان الله سبحانه قد نفى المؤاخذة بالخطأ والنسيان وخفي ذلك في مواضع كثيرة على كثير من علماء المسلمين كان هذا عقوبة لمن لم يجد في نفسه ثقة إلا هؤلاء فيفتونه بما يقتضي مؤاخذته بالخطأ والنسيان فلا يكون مقتضى هذا الدعاء حاصلا في حقه لعدم العلم لا لنسخ الشريعة.
    والله سبحانه جعل مما يعاقب به الناس على الذنوب سلب الهدى والعلم النافع كقوله: {وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم} وقال: {وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم} وقال: {وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون} {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة} وقال: {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا} وقال: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم}وهذا كما أنه حرم على بني إسرائيل طيبات أحلت لهم لأجل ظلمهم وبغيهم فشريعة محمد لا تنسخ ولا تعاقب أمته كلها بهذا ولكن قد تعاقب ظلمتهم بهذا بأن يحرموا الطيبات أو بتحريم الطيبات: إما تحريما كونيا بأن لا يوجد غيثهم وتهلك ثمارهم وتقطع الميرة عنهم أو أنهم لا يجدون لذة مأكل ولا مشرب ولا منكح ولا ملبس ونحوه كما كانوا يجدونها قبل ذلك وتسلط عليهم الغصص وما ينغص ذلك ويعوقه ويجرعون غصص المال والولد والأهل كما قال تعالى: {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا} وقال: {أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين} {نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون} وقال: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} فيكون هذا كابتلاء أهل السبت بالحيتان.
    وإما أن يعاقبوا باعتقاد تحريم ما هو طيب حلال لخفاء تحليل الله ورسوله عندهم كما قد فعل ذلك كثير من الأمة اعتقدوا تحريم أشياء فروج عليهم بما يقعون فيه من الأيمان والطلاق وإن كان الله ورسوله لم يحرم ذلك؛ لكن لما ظنوا أنها محرمة عليهم عوقبوا بحرمان العلم الذي يعلمون به الحل فصارت محرمة عليهم تحريما كونيا وتحريما شرعيا في ظاهر الأمر؛ فإن المجتهد عليه أن يقول ما أدى إليه اجتهاده فإذا لم يؤد اجتهاده إلا إلى تحريم هذه الطيبات لعجزه عن معرفة الأدلة الدالة على الحل كان عجزه سببا للتحريم في حق المقصرين في طاعة الله.
    وكذلك اعتقدوا تحريم كثير من المعاملات التي يحتاجون إليها كضمان البساتين والمشاركات وغيرها وذلك لخفاء أدلة الشرع فثبت التحريم في حقهم بما ظنوه من الأدلة وهذا كما أن الإنسان يعاقب بأن يخفى عليه من الطعام الطيب والشراب الطيب ما هو موجود وهو مقدور عليه لو علمه؛ لكن لا يعرف بذلك عقوبة له وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه وقد قال تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا} {ويرزقه من حيث لا يحتسب} فهو سبحانه إنما ضمن الأشياء على وجهها واستقامتها للمتقين كما ضمن هذا للمتقين.

    فتبين أن المقصرين في طاعته من الأمة قد يؤاخذون بالخطأ والنسيان ومن غير نسخ بعد الرسول لعدم علمهم بما جاء به الرسول من التيسير ولعدم علم من عندهم من العلماء بذلك؛ ولهذا يوجد كثير ممن لا يصلي في السفر قصرا يرى الفطر في السفر حراما فيصوم في السفر مع المشقة العظيمة عليه وهذا عقوبة له لتقصيره في الطاعة؛ لكنه مما يكفر الله به من خطاياه ما يكفره كما يكفر خطايا المؤمنين بسائر مصائب الدنيا.
    __________
    Q (1) في الأصل والمطبوعة زيادة خصلة وهي: " وإما أن يكفر عنه من الذنوب مثلها " وعليه فالخصال أربع، وهو ما يتعارض مع مقدمة الحديث " خصال ثلاث ". والصواب ما أثبتناه من أحمد وابن أبي شيبة والطبراني.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #139
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,763

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الرابع
    الحلقة (137)

    من صــ 271 الى صـ
    ـ 278




    وكذلك منهم من يعتقد التربيع في السفر واجبا فيربع فيبتلى بذلك لتقصيره في الطاعة ومنهم من يعتقد تحريم أمور كثيرة من المباحات التي بعضها مباح بالاتفاق وبعضها متنازع فيه؛ لكن الرسول لم يحرمه؛ فهؤلاء الذين اعتقدوا وجوب ما لم يوجبه الله ورسوله وتحريم ما لم يحرمه حمل عليهم إصرا ولم توضع عنهم جميع الآصار والأغلال وإن كان الرسول قد وضعها لكنهم لم يعلموها.
    وقد يبتلون بمطاع يلزمهم ذلك فيكون آصارا وأغلالا من جهة مطاعهم: مثل حاكم ومفت وناظر وقف وأمير ينسب ذلك إلى الشرع؛ لاعتقاده الفاسد أن ذلك من الشرع ويكون عدم علم مطاعيهم تيسير الله عليهم عقوبة في حقهم لذنوبهم كما لو قدر أنه سار بهم في طريق يضرهم وعدل بهم عن طريق فيه الماء والمرعى لجهله لا لتعمده مضرتهم أو أقام بهم في بلد غالي الأسعار مع إمكان المقام ببلد آخر.
    وهذا لأن الناس كما قد يبتلون بمطاع يظلمهم ويقصد ظلمهم يبتلون أيضا بمطاع يجهل مصلحتهم الشرعية والكونية فيكون جهل هذا من أسباب عقوبتهم كما أن ظلم ذلك من أسباب مضرتهم فهؤلاء لم ترفع عنهم الآصار والأغلال لذنوبهم ومعاصيهم وإن كان الرسول ليس في شرعه آصار وأغلال فلهذا تسلط عليهم حكام الجور والظلم وتساق إليهم الأعداء وتقاد بسلاسل القهر والقدر وذلك من الآصار والأغلال التي لم ترفع عنهم مع عقوبات لا تحصى؛ وذلك لضعف الطاعة في قلوبهم وتمكن المعاصي وحب الشهوات فيها فإذا قالوا {ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا} دخل فيه هذا.
    (فصل في أن الخطأ في دقيق العلم مغفور للأمة وإن كان ذلك في المسائل العلمية)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

    ولا ريب أن الخطأ في دقيق العلم مغفور للأمة وإن كان ذلك في المسائل العلمية ولولا ذلك لهلك أكثر فضلاء الأمة. وإذا كان الله يغفر لمن جهل تحريم الخمر لكونه نشأ بأرض جهل؛ مع كونه لم يطلب العلم فالفاضل المجتهد في طلب العلم بحسب ما أدركه في زمانه ومكانه إذا كان مقصوده متابعة الرسول بحسب إمكانه هو أحق بأن يتقبل الله حسناته ويثيبه على اجتهاداته ولا يؤاخذه بما أخطأ تحقيقا لقوله: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}. وأهل السنة جزموا بالنجاة لكل من اتقى الله تعالى؛ كما نطق به القرآن وإنما توقفوا في شخص معين؛ لعدم العلم بدخوله في المتقين.
    وحال سائر أهل الأقوال الضعيفة الذين يحتجون بظاهر القرآن على ما يخالف السنة إذا خفي الأمر عليهم مع أنه لم يوجد في ظاهر القرآن ما يخالف السنة كمن قال: من الخوارج: لا يصلي في السفر إلا أربعا. ومن قال إن الأربع أفضل. ومن قال: لا نحكم بشاهد ويمين. وما دل عليه ظاهر القرآن حق وأنه ليس بعام مخصوص فإنه ليس هناك عموم لفظي وإنما هو مطلق كقوله: {فاقتلوا المشركين} فإنه عام في الأعيان مطلق في الأحوال وقوله: {يوصيكم الله في أولادكم} عام في الأولاد مطلق في الأحوال. ولفظ الظاهر يراد به ما يظهر للإنسان وقد يراد به ما يدل عليه اللفظ. فالأول يكون بحسب مفهوم الناس وفي القرآن مما يخالف الفهم الفاسد شيء كثير.
    وأما قوله: {ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} فعلى قولين:
    قيل: هو من باب التحميل القدري لا من باب التكليف الشرعي أي: لا تبتلينا بمصائب لا نطيق حملها كما يبتلى الإنسان بفقر لا يطيقه أو مرض لا يطيقه أو حدث أو خوف أو حب أو عشق لا يطيقه ويكون سبب ذلك ذنوبه.
    وهذا مما يبين أن الذنوب عواقبها مذمومة مطلقا. وقوله: {من يعمل سوءا يجز به} و {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} {ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} قول حق وقال تعالى في قصة قوم لوط: {وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم}.
    فما من أحد يبتلى بجنس عملهم إلا ناله شيء من العذاب الأليم حتى تعمد النظر يورث القلب علاقة يتعذب بها الإنسان وإن قويت حتى صارت غراما وعشقا زاد العذاب الأليم سواء قدر أنه قادر على المحبوب أو عاجز عنه؛ فإن كان عاجزا فهو في عذاب أليم من الحزن والهم والغم وإن كان قادرا فهو في عذاب أليم من خوف فراقه ومن السعي في تأليفه وأسباب رضاه فإن نزل به الموت أو افتقر تضاعف عليه العذاب وإن صار إلى غيره استبدالا به أو مشاركة قوي عذابه فإن هذا الجنس يحصل فيه من العذاب ما لا يحصل في عشق البغايا وما يحصل مثله في الحلال وإن حصل في الحلال نوع عذاب كان أخف من نظيره وكان ذلك سبب ذنوب أخرى. فإذا دعا الإنسان بهذا الدعاء يخص نفسه ويعم المسلمين فله من ذلك أعظم نصيب كيف لا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم {الآيتان من آخر سورة البقرة ما قرأ بهما أحد في ليلة إلا كفتاه} وكيف لا تكفيانه وما دعا به من ذلك لم يحصل له إلا ما حصل لسائر المؤمنين الذين لم يقرءوهما فإن الداعي بهذا الدعاء له منه نصيب يخصه كسائر الأدعية. ومما يبين ذلك أن الصحابة إنما استجيب لهم هذا الدعاء لما التزموا الطاعة لله مطلقا بقولهم:

    {سمعنا وأطعنا} ثم أنزل هذا الدعاء فدعوا به فاستجيب لهم. ولهذا كانوا في الحنيفية السمحة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا فيها على عهد أبي بكر خيرا مما كانوا فيها على عهد عمر فلما كانوا في زمن عمر حدث من بعضهم ذنوب أوجبت اجتهاد الإمام في نوع من التشديد عليهم كمنعهم من متعة الحج وكإيقاع الثلاث إذا قالوها بكلمة وكتغليظ العقوبة في الخمر وكان أطوعهم لله وأزهدهم مثل أبي عبيدة ينقاد له عمر ما لا ينقاد لغيره وخفي عليهم بعض مسائل الفرائض وغيرها حتى تنازعوا فيها وهم مؤتلفون متحابون كل منهم يقر الآخر على اجتهاده.

    فلما كان في آخر خلافة " عثمان " زاد التغير والتوسع في الدنيا وحدثت أنواع من الأعمال لم تكن على عهد عمر فحصل بين بعض القلوب تنافر حتى قتل عثمان فصاروا في فتنة عظيمة قد قال تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} أي هذه الفتنة لا تصيب الظالم فقط؛ بل تصيب الظالم والساكت عن نهيه عن الظلم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه}.
    وصار ذلك سببا لمنعهم كثيرا من الطيبات وصاروا يختصمون في متعة الحج ونحوها مما لم تكن فيه خصومة على عهد عمر فطائفة تمنع المتعة مطلقا كابن الزبير وطائفة تمنع الفسخ كبني أمية وأكثر الناس وصاروا يعاقبون من تمتع وطائفة أخرى توجب المتعة وكل منهم لا أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم}. والمقصود هنا أن من الذنوب ما يكون سببا لخفاء العلم النافع أو بعضه؛ بل يكون سببا لنسيان ما علم ولاشتباه الحق بالباطل تقع الفتن بسبب ذلك.
    والله سبحانه كان أسكن آدم وزوجه الجنة وقال لهما: {وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين} {فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو} فكل عداوة كانت في ذريتهما وبلاء ومكروه تكون إلى قيام الساعة وفي النار يوم القيامة سببها الذنوب ومعصية الرب تعالى. فالإنسان إذا كان مقيما على طاعة الله باطنا وظاهرا كان في نعيم الإيمان والعلم وارد عليه من جهاته وهو في جنة الدنيا كما في الحديث: {إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا. قيل: وما رياض الجنة؟ قال: مجالس الذكر} وقال:
    {ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة} فإنه كان يكون هنا في رياض العلم والإيمان. وكلما كان قلبه في محبة الله وذكره وطاعته كان معلقا بالمحل الأعلى فلا يزال في علو ما دام كذلك فإذا أذنب هبط قلبه إلى أسفل فلا يزال في هبوط ما دام كذلك ووقعت بينه وبين أمثاله عداوة؛ فإن أراد الله به خيرا ثاب وعمل في حال هبوط قلبه إلى أن يستقيم فيصعد قلبه قال تعالى: {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم} فتقوى القلوب هي التي تنال الله كما قال: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} فأما الأمور المنفصلة عنا من اللحوم والدماء فإنها لا تنال الله.

    و " الباطنية " المنكرون لخلق العالم في ستة أيام ومعاد الأبدان الذين يجعلون للقرآن تأويلا يوافق قولهم عندهم ما ثم " جنة " إلا لذة ما تتصف بها النفس من العلم والأخلاق الحميدة وما ثم " نار " إلا ألم ما تتصف به النفس من الجهل والأخلاق الذميمة السيئة فنار النفوس ألمها القائم بها كحسراتها لفوات العلم أو لفوات الدنيا المحبوبة لها وحجبها إنما هي ذنوبها.
    وهذا الكلام مما يذكره أبو حامد في " المضنون به على غير أهله " لكن قد يقول هذا: ليس هو عذاب القبر المذكور في الأجسام؛ بل ذاك أمر آخر مما بينه أهل السنة. ولا نعيم عندهم إلا ما يقوم بالنفس من هذا ولهذا ليس عندهم نعيم منفصل عن النفس ولا عذاب.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #140
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,763

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
    المجلد الرابع
    الحلقة (138)

    من صــ 279 الى صـ
    ـ 288





    وهذا القول من أفسد الأقوال شرعا وعقلا؛ فإن الناس في الدنيا يثابون ويعاقبون بأمور منفصلة عنهم فكيف في دار الجزاء. ولكن الذي أثبتوه من هذا وهذا منه ما هو حق ولكن الباطل جحدهم ما جحدوه مما أخبر الله به ورسوله فهؤلاء عندهم أن آدم لم يكن إلا في جنة العلم وهبوطه انخفاض درجته في العلم وهذا كذب؛ ولكن ما أثبتوه من الحق حق وقصة آدم تدل عليه بطريق الاعتبار الذي تسميه الصوفية الإشارة؛ لا أنه هو المراد بالآية؛ لكن قد دل عليه آيات أخر تدل على أن من كذب بالحق عوقب بأن يطبع على قلبه فلا يفهم العلم أو لا يفهم المراد منه وأنه يسلط عليه عدوه ويجد ذلا كما قال تعالى عن اليهود:
    {وضربت عليهم الذلة والمسكنة} {ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون}. ولا ريب أن لذة العلم أعظم اللذات و " اللذة " التي تبقى بعد الموت وتنفع في الآخرة هي لذة العلم بالله والعمل له وهو الإيمان به وهم يجعلون ذلك الوجود المطلق.
    وأيضا فنفس العلم به إن لم يكن معه حب له وعبادة له بل كان مع حب لغيره كائنا من كان فإن عذاب هذا قد يكون من أعظم العذاب في الدنيا والآخرة وهم لا يجعلون كمال اللذة إلا في نفس العلم.
    و" أيضا " فاقتصارهم على اللذة العقلية خطأ والنصارى زادوا عليهم السمع والشم فقالوا: يتمتعون بالأرواح المتعشقة والنغمات المطربة ولم يثبتوا هم ولا اليهود الأكل والشرب ولا النكاح - وهي لذة اللمس - والمسلمون أثبتوا جميع أنواع اللذات: سمعا وبصرا وشما وذوقا ولمسا للروح والبدن جميعا وكان هذا هو الكمال؛ لا ما يثبته أهل الكتاب ومن هو شر منهم من الفلاسفة الباطنية وأعظم لذات الآخرة لذة النظر إلى الله سبحانه كما في الحديث الصحيح: {فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه} وهو ثمرة معرفته وعبادته في الدنيا فأطيب ما في الدنيا معرفته وأطيب ما في الآخرة النظر إليه سبحانه؛ ولهذا كان التجلي يوم الجمعة في الآخرة على مقدار صلاة الجمعة في الدنيا.
    وأبو حامد يذكر في كتبه هو وأمثاله " الرؤية " وأنها أفضل أنواع النعيم ويذكر كشف الحجب وأنهم يرون وجه الله ولكن هذا كله يريد به ما تقوله الجهمية والفلاسفة؛ فإن " الرؤية " عندهم ليست إلا العلم؛ لكن كما أن الإنسان قد يرى الشيء بعينيه وقد يمثل له خياله إذا غاب عنه فهكذا العلم ففي الدنيا ليس عندهم من العلم إلا مثال كالخيال في الحساب وفي الآخرة يعلمونه بلا مثال وهو عندهم " وجود لا داخل العالم ولا خارجه " و " كشف الحجاب "عندهم رفع المانع الذي في الإنسان من الرؤية وهو أمر عدمي فحقيقته جعل العبد عالما وهذا كله مما تقول به الفلاسفة والباطنية.
    وهؤلاء إنما يأمرون بالزهد في الدنيا لينقطع تعلق النفس بها وقت فراق النفس فلا تبقى النفس مفارقة لشيء يحبه؛ لكن أبو حامد لا يبيح محظورات الشرع قط؛ بل يقول قتل واحد من هؤلاء خير من قتل عدد كثير من الكفار. وأما هؤلاء فالواصل عندهم إلى العلم المطلوب قد يبيحون له محظورات الشرائع حتى الفواحش والخمر وغيرها إذا كانوا ممن يعتقد تحريم الخمر وإلا فغالب هؤلاء لا يوجبون شريعة الإسلام؛ بل يجوزون التهود والتنصر وكل من كان من هؤلاء واصلا إلى علمهم فهو سعيد.
    وهكذا تقول الاتحادية منهم: كابن سبعين؛ وابن هود والتلمساني ونحوهم ويدخلون مع النصارى بيعهم ويصلون معهم إلى الشرق ويشربون معهم ومع اليهود الخمر ويميلون إلى دين النصارى أكثر من دين المسلمين لما فيه من إباحة المحظورات؛ ولأنهم أقرب إلى الاتحاد والحلول ولأنهم أجهل فيقبلون ما يقولونه أعظم من قبولهم لقول المسلمين وعلماء النصارى جهال إذا كان فيهم متفلسف عظموه وهؤلاء يتفلسفون.

    والواحد من هؤلاء يفرح إذا قيل له لست بمسلم؛ ويحكي عن نفسه - كما كان أحمد المارديني وهو من أصحاب ابن عربي يحكي عن نفسه - أنه دخل إلى بعض ديارات النصارى ليأخذ منهم ما يأكله هو ورفيقه فأخذ بعضهم يتكلم في المسلمين ويقول: يقولون: كذا وكذا فقال له آخر: لا تتكلم في المسلمين فهذا واحد منهم فقال ذلك المتكلم هذا وجهه وجه مسلم؟ أي ليس هذا بمسلم فصار يحكيها المارديني أن النصراني قال عنه ليس هذا بمسلم ويفرح بقول النصراني ويصدقه فيما يقول أي ليس هو بمسلم. والمتفلسفة يصرحون بهذا.

    يقولون: قلنا: كذا وكذا وقال المسلمون: كذا وكذا وربما قالوا قلنا: كذا وقال المليون: أي أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى وكتبهم مشحونة بهذا ولا بد لأحدهم عند أهل الملل أن يكون على دينهم. لكن دخولهم في هذا كدخولهم في سياسة الملوك كما كانوا مع الترك الكفار وكانوا مع هولاكو " ملك المغول الكفار ومع القان " الذي هو أكبر منه خليفة جنكزخان " ببلاد الخطا وانتساب الواحد منهم هناك إلى الإسلام انتساب إلى إسلام يرضاه ذلك الملك بحسب غرضه كما كان النصير الطوسي " وأمثاله مع هولاكو " ملك الكفار وهو الذي أشار عليهم بقتل الخليفة ببغداد لما استولى عليها وأخذ كتب الناس: ملكها ووقفها وأخذ منها ما يتعلق بغرضه وأفسد الباقي وبنى الرصد ووضعها فيه وكان يعطي من وقف المسلمين لعلماء المشركين البخشية والطوينية ويعطي في رصده الفيلسوف والمنجم والطبيب أضعاف ما يعطي الفقيه ويشرب هو وأصحابه الخمر في شهر رمضان ولا يصلون.

    وكذلك كان بالشام ومصر طائفة مع تصوفهم وتألههم وتزهدهم يشرب أحدهم الخمر في نهار رمضان وتارة يصلون وتارة لا يصلون. فإنهم لا يدينون بإيجاب واجبات الإسلام وتحريم محرماته عليهم؛ بل يقولون: هذا للعامة والأنبياء وأما مثلنا فلا يحتاج إلى الأنبياء. ويحكون عن بعض الفلاسفة أنه قيل له: قد بعث نبي فقال: لو كان الناس كلهم مثلي ما احتاجوا إلى نبي. ومثل هذه الحكاية يحكيها من يكون رئيس الأطباء ولا يعرف الزندقة ولا يدري مضمون هذه الكلمة ما هو لجهله بالنبوات وقيل لرئيسهم الأكبر في زمن موسى ألا تأتيه فتأخذ عنه؟ فقال: نحن قوم مهديون فلا نحتاج إلى من يهدينا.

    وأما ما ذكروه من حصول اللذة في القلب والنعيم بالإيمان بالله والمعرفة به فهو حق وهو سبب دخول الجنة وقد قال صلى الله عليه وسلم {إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين} وما ذاك إلا لأنه في شهر رمضان تنبعث القلوب إلى الخير والأعمال الصالحة التي بها وبسببها تفتح أبواب الجنة ويمتنع من الشرور التي بها تفتح أبواب النار وتصفد الشياطين فلا يتمكنون أن يعملوا ما يعملونه في الإفطار فإن المصفد هو المقيد لأنهم إنما يتمكنون من بني آدم بسبب الشهوات فإذا كفوا عن الشهوات صفدت الشياطين.
    والجنة والنار التي تفتح وتغلق غير ما في القلوب؛ ولكن ما في القلوب سبب له ودليل عليه وأثر من آثاره وقد قال تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا} وقال صلى الله عليه وسلم {الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم} فقيل: يأكلون ويشربون ما سيصير نارا وقيل: هو سبب النار. والله سبحانه وتعالى أعلم.
    سورة آل عمران
    وقال شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين ابن تيمية - قدس الله روحه ونور ضريحه -:
    فصل:
    في قوله تعالى {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم} {إن الدين عند الله الإسلام}: قد تنوعت عبارات المفسرين في لفظ (شهد فقالت طائفة منهم مجاهد والفراء وأبو عبيدة: أي حكم وقضى. وقالت طائفة منهم ثعلب والزجاج: أي بين.
    وقالت طائفة: أي أعلم. وكذلك قالت طائفة معنى شهادة الله الإخبار والإعلام ومعنى شهادة الملائكة والمؤمنين الإقرار وعن ابن عباس أنه شهد بنفسه لنفسه قبل أن يخلق الخلق حين كان ولم يكن سماء ولا أرض ولا بر ولا بحر فقال: {شهد الله أنه لا إله إلا هو}. وكل هذه الأقوال وما في معناها صحيحة؛ وذلك أن الشهادة تتضمن كلام الشاهد وقوله وخبره عما شهد به وهذا قد يكون مع أن الشاهد نفسه يتكلم بذلك ويقوله ويذكره وإن لم يكن معلما به لغيره ولا مخبرا به لسواه. فهذه أول مراتب الشهادة. ثم قد يخبره ويعلمه بذلك فتكون الشهادة إعلاما لغيره وإخبارا له ومن أخبر غيره بشيء فقد شهد به سواء كان بلفظ الشهادة أو لم يكن كما في قوله تعالى {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون} قوله تعالى {وما شهدنا إلا بما علمنا} الآية. ففي كلا الموضعين إنما أخبروا خبرا مجردا وقد قال: {واجتنبوا قول الزور} {حنفاء لله غير مشركين به}.
    وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {عدلت شهادة الزور الإشراك بالله قالها مرتين أو ثلاثا ثم تلا هذه الآية: {واجتنبوا قول الزور} وهذا يعم كل قول زور بأي لفظ كان وعلى أي صفة وجد فلا يقوله العبد ولا يحضره ولا يسمعه من قول غيره. و " الزور " هو الباطل الذي قد ازور عن الحق والاستقامة أي تحول وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم شهادة الزور وقد قال في المظاهرين من نسائهم {وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا}.
    وفي الصحيحين عن {ابن عباس قال: شهد عندي رجال مرضيون - وأرضاهم عندي عمر - أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب الشمس} وهؤلاء حدثوه أنه نهى عن ذلك؛ ولم يقولوا: نشهد عندك؛ فإن الصحابة لم يكونوا يلتزمون هذا اللفظ في التحديث وإن كان أحدهم قد ينطق به ومنه قولهم في ماعز: فلما شهد على نفسه أربع مرات رجمه النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه كان إقرارا ولم يقل: أشهد.

    ومنه قوله تعالى {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم} وشهادة المرء على نفسه هي إقراره وهذا لا يشترط فيه لفظ الشهادة باتفاق العلماء وإنما تنازعوا في الشهادة عند الحاكم هل يشترط فيها لفظ أشهد؟ على قولين في مذهب أحمد وكلام أحمد يقتضي أنه لا يعتبر ذلك وكذلك مذهب مالك و " الثاني " يشترط ذلك كما يحكى عن مذهب أبي حنيفة والشافعي. و " المقصود هنا " الآية. فالشهادة تضمنت مرتبتين: " إحداهما " تكلم الشاهد وقوله وذكره لما شهد في نفسه به. و " الثاني " إخباره وإعلامه لغيره بما شهد به؛ فمن قال:حكم وقضى فهذا من باب اللازم فإن الحكم والقضاء هو إلزام وأمر.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •