تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 11 من 15 الأولىالأولى ... 23456789101112131415 الأخيرةالأخيرة
النتائج 201 إلى 220 من 282

الموضوع: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام

  1. #201
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,763

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد الخامس
    الحلقة( 199)

    من صــ 341 الى صـ 350


    فإذا اجتهد الراعي في إصلاح دينهم ودنياهم بحسب الإمكان كان من أفضل أهل زمانه وكان من أفضل المجاهدين في سبيل الله؛ فقد روي: {يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة} وفي مسند الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {أحب الخلق إلى الله إمام عادل وأبغضهم إليه إمام جائر} وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل وشاب نشأ في طاعة الله ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه}. وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط ورجل رحيم رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلم ورجل غني عفيف متصدق}.

    وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {الساعي على الصدقة بالحق كالمجاهد في سبيل الله} وقد قال الله تعالى - لما أمر بالجهاد -: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} {وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله} أخرجاه في الصحيحين. فالمقصود أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الله: اسم جامع لكلماته التي تضمنها كتابه وهكذا قال الله تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} فالمقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب أن يقوم الناس بالقسط في حقوق الله وحقوق خلقه. ثم قال تعالى:

    {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب}. فمن عدل عن الكتاب قوم بالحديد؛ ولهذا كان قوام الدين بالمصحف والسيف. وقد روي {عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نضرب بهذا - يعني السيف - من عدل عن هذا - يعني المصحف} - فإذا كان هذا هو المقصود فإنه يتوسل إليه بالأقرب فالأقرب وينظر إلى الرجلين أيهما كان أقرب إلى المقصود ولي؛ فإذا كانت الولاية مثلا - إمامة صلاة فقط؛ قدم من قدمه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:
    {يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ولا يجلس في بيته على تكرمته إلا بإذنه} رواه مسلم فإذا تكافأ رجلان؛ وخفي أصلحهما أقرع بينهما كما أقرع سعد بن أبي وقاص بين الناس يوم القادسية لما تشاجروا على الأذان؛ متابعة لقوله صلى الله عليه وسلم {لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا}. فإذا كان التقديم بأمر الله إذا ظهر وبفعله - وهو ما يرجحه بالقرعة إذا خفي الأمر - كان المتولي قد أدى الأمانات في الولايات إلى أهلها.
    فصل:
    وأما قوله تعالى {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} فإن الحكم بين الناس يكون في الحدود والحقوق وهما قسمان: فالقسم الأول: الحدود والحقوق التي ليست لقوم معينين؛ بل منفعتها لمطلق المسلمين أو نوع منهم. وكلهم محتاج إليها.
    وتسمى حدود الله وحقوق الله: مثل حد قطاع الطريق والسراق والزناة ونحوهم ومثل الحكم في الأموال السلطانية والوقوف والوصايا التي ليست لمعين. فهذه من أهم أمور الولايات؛ ولهذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ولا بد للناس من إمارة: برة كانت أو فاجرة. فقيل: يا أمير المؤمنين هذه البرة قد عرفناها. فما بال الفاجرة؟ فقال: يقام بها الحدود وتأمن بها السبل ويجاهد بها العدو ويقسم بها الفيء. وهذا القسم يجب على الولاة البحث عنه وإقامته من غير دعوى أحد به وكذلك تقام الشهادة فيه من غير دعوى أحد به وإن كان الفقهاء قد اختلفوا في قطع يد السارق: هل يفتقر إلى مطالبة المسروق بما له؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره؛ لكنهم متفقون على أنه لا يحتاج إلى مطالبة المسروق بالحد وقد اشترط بعضهم المطالبة بالمال؛ لئلا يكون للسارق فيه شبهة. وهذا القسم يجب إقامته على الشريف والوضيع والضعيف ولا يحل تعطيله؛ لا بشفاعة ولا بهدية ولا بغيرهما ولا تحل الشفاعة فيه. ومن عطله لذلك - وهو قادر على إقامته - فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا وهو ممن اشترى بآيات الله ثمنا قليلا. وروى أبو داود في سننه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:
    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره. ومن خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع. ومن قال في مسلم دين ما ليس فيه حبس في ردغة الخبال حتى يخرج مما قال. قيل يا رسول الله: وما ردغة الخبال؟ قال عصارة أهل النار} فذكر النبي صلى الله عليه وسلم الحكماء والشهداء والخصماء وهؤلاء أركان الحكم. وفي الصحيحين {عن عائشة رضي الله عنها أن قريشا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد فقال: يا أسامة: أتشفع في حد من حدود الله؟ إنما هلك بنو إسرائيل أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها}. ففي هذه القصة عبرة؛ فإن أشرف بيت كان في قريش بطنان؛ بنو مخزوم وبنو عبد مناف. فلما وجب على هذه القطع بسرقتها - التي هي جحود العارية على قول بعض العلماء أو سرقة أخرى غيرها على قول آخرين - وكانت من أكبر القبائل وأشرف البيوت وشفع فيها حب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكر عليه دخوله فيما حرمه الله وهو الشفاعة في الحدود ثم ضرب المثل بسيدة نساء العالمين - وقد برأها الله من ذلك - فقال: {لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها}.
    وقد روي: أن هذه المرأة التي قطعت يدها تابت وكانت تدخل بعد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فيقضي حاجتها. فقد روي: {إن السارق إذا تاب سبقته يده إلى الجنة وإن لم يتب سبقته يده إلى النار}. وروى مالك في الموطأ: أن جماعة أمسكوا لصا ليرفعوه إلى عثمان رضي الله عنه فتلقاهم الزبير فشفع فيه فقالوا: إذا رفع إلى عثمان فاشفع فيه عنده فقال: " إذا بلغت الحدود السلطان فلعن الله الشافع والمشفع ". يعني الذي يقبل الشفاعة.
    {وكان صفوان بن أمية نائما على رداء له في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء لص فسرقه فأخذه فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بقطع يده فقال: يا رسول الله: أعلى ردائي تقطع يده؟ أنا أهبه له. فقال: فهلا قبل أن تأتيني به ثم قطع يده} رواه أهل السنن يعني صلى الله عليه وسلم أنك لو عفوت عنه قبل أن تأتيني به لكان فأما بعد أن رفع إلي فلا.

    فلا يجوز تعطيل الحد لا بعفو ولا بشفاعة ولا بهبة ولا غير ذلك. ولهذا اتفق العلماء - فيما أعلم - على أن قاطع الطريق واللص ونحوهما إذا رفعوا إلى ولي الأمر ثم تابوا بعد ذلك لم يسقط الحد عنهم؛ بل تجب إقامته وإن تابوا فإن كانوا صادقين في التوبة كان الحد كفارة لهم كان تمكينهم من ذلك من تمام التوبة - بمنزلة رد الحقوق إلى أهلها؛ والتمكين من استيفاء القصاص في حقوق الآدميين. وأصل هذا في قوله تعالى {من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا} فإن الشفاعة إعانة الطالب حتى يصير معه شفعا بعد أن كان وترا فإن أعانه على بر وتقوى كانت شفاعة حسنة وإن أعانه على إثم وعدوان كانت شفاعة سيئة والبر ما أمرت به والإثم ما نهيت عنه. وإن كانوا كاذبين فإن الله لا يهدي كيد الخائنين.

    وقد قال تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم} {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم} فاستثنى التائبين قبل القدرة عليهم فقط فالتائب بعد القدرة عليه باق فيمن وجب عليه الحد؛ للعموم والمفهوم والتعليل. هذا إذا كان قد ثبت بالبينة. فأما إذا كان بإقرار وجاء مقرا بالذنب تائبا: فهذا فيه نزاع مذكور في غير هذا الموضع. وظاهر مذهب أحمد:
    أنه لا تجب إقامة الحد في مثل هذه الصورة؛ بل إن طلب إقامة الحد عليه أقيم وإن ذهب لم يقم عليه حد. وعلى هذا حمل {حديث ماعز بن مالك لما قال: فهلا تركتموه} وحديث الذي قال " أصبت حدا فأقمه " مع آثار أخر. وفي سنن أبي داود والنسائي عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب} وفي سنن النسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {حد يعمل به في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحا}. وهذا لأن المعاصي سبب لنقص الرزق والخوف من العدو كما يدل عليه الكتاب والسنة.
    فإذا أقيمت الحدود ظهرت طاعة الله ونقصت معصية الله تعالى فحصل الرزق والنصر.
    ولا يجوز أن يؤخذ من الزاني أو السارق أو الشارب أو قاطع الطريق ونحوهم مال تعطل به الحدود؛ لا لبيت المال ولا لغيره. وهذا المال المأخوذ لتعطيل الحد سحت خبيث وإذا فعل ولي الأمر ذلك فقد جمع فسادين عظيمين:
    أحدهما: تعطيل الحد والثاني: أكل السحت. فترك الواجب وفعل المحرم. قال الله تعالى: {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون} وقال الله تعالى عن اليهود: {سماعون للكذب أكالون للسحت} لأنهم كانوا يأكلون السحت من الرشوة التي تسمى البرطيل وتسمى أحيانا الهدية وغيرها. ومتى أكل السحت ولي الأمر احتاج أن يسمع الكذب من شهادة الزور وغيرها.
    وقد {لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي والرائش - الواسطة - الذي بينهما} رواه أهل السنن. وفي الصحيحين: {أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما: يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله. فقال صاحبه - وكان أفقه منه - نعم يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله وائذن لي.
    فقال: قل. فقال: إن ابني كان عسيفا في أهل هذا - يعني أجيرا - فزنى بامرأته فافتديت منه بمائة شاة وخادم وإني سألت رجالا من أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجم. فقال: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله: المائة والخادم رد عليك. وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام واغد يا أنيس على امرأة هذا فاسألها فإن اعترفت فارجمها. فسألها فاعترفت فرجمها}. ففي هذا الحديث إنه لما بذل عن المذنب هذا المال لدفع الحد عنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بدفع المال إلى صاحبه وأمر بإقامة الحد ولم يأخذ المال للمسلمين: من المجاهدين والفقراء وغيرهم.
    وقد أجمع المسلمون على أن تعطيل الحد بمال يؤخذ أو غيرهم لا يجوز وأجمعوا على أن المال المأخوذ من الزاني والسارق والشارب والمحارب وقاطع الطريق ونحو ذلك لتعطيل الحد مال سحت خبيث.

    (ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا (59)

    قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
    فأمر بطاعة أولي الأمر من العلماء والأمراء إذا لم يتنازعوا وهو يقتضي أن اتفاقهم حجة وأمرهم بالرد عند التنازع إلى الله والرسول فأبطل الرد إلى إمام مقلد أو قياس عقلي فاضل.
    ثم قال - رحمه الله تعالى -:
    فليس عالم من المسلمين يشك في أن الواجب على الخلق طاعة الله ورسوله وأن ما سواه إنما تجب طاعته حيث أوجبها الله ورسوله.

    وفي الحقيقة فالواجب في الأصل إنما هو طاعة الله؛ لكن لا سبيل إلى العلم بمأموره وبخبره كله إلا من جهة الرسل والمبلغ عنه إما مبلغ أمره وكلماته فتجب طاعته وتصديقه في جميع ما أمر وأخبر، وإما ما سوى ذلك فإنما يطاع في حال دون حال كالأمراء الذين تجب طاعتهم في محل ولايتهم ما لم يأمروا بمعصية الله، والعلماء الذين تجب طاعتهم على المستفتي والمأمور فيما أوجبوه عليه مبلغين عن الله أو مجتهدين اجتهادا تجب طاعتهم فيه على المقلد ويدخل في ذلك مشايخ الدين ورؤساء الدنيا حيث أمر بطاعتهم كاتباع أئمة الصلاة فيها واتباع أئمة الحج فيه واتباع أمراء الغزو فيه واتباع الحكام في أحكامهم واتباع المشايخ المهتدين في هديهم ونحو ذلك.
    والمقصود بهذا الأصل أن من نصب إماما فأوجب طاعته مطلقا اعتقادا أو حالا فقد ضل في ذلك كأئمة الضلال الرافضة الإمامية حيث جعلوا في كل وقت إماما معصوما تجب طاعته فإنه لا معصوم بعد الرسول ولا تجب طاعة أحد بعده في كل شيء والذين عينوهم من أهل البيت منهم من كان خليفة راشدا تجب طاعته كطاعة الخلفاء قبله وهو علي. ومنهم أئمة في العلم والدين يجب لهم ما يجب لنظرائهم من أئمة العلم والدين كعلي بن الحسين.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #202
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,763

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد الخامس
    الحلقة( 200)

    من صــ 351 الى صـ 360


    وأبي جعفر الباقر؛ وجعفر ابن محمد الصادق. ومنهم دون ذلك.وكذلك من دعا لاتباع شيخ من مشايخ الدين في كل طريق من غير تخصيص ولا استثناء وأفرده عن نظرائه كالشيخ عدي؛ والشيخ أحمد؛ والشيخ عبد القادر؛ والشيخ حيوة؛ ونحوهم. وكذلك من دعا إلى اتباع إمام من أئمة العلم في كل ما قاله وأمر به ونهى عنه مطلقا كالأئمة الأربعة.
    وكذلك من أمر بطاعة الملوك والأمراء والقضاة والولاة في كل ما يأمرون وينهون عنه من غير تخصيص ولا استثناء لكن هؤلاء لا يدعون العصمة لمتبوعيهم إلا غالية أتباع المشايخ كالشيخ عدي وسعد المديني بن حمويه ونحوهما؛ فإنهم يدعون فيهم نحوا مما تدعيه الغالية في أئمة بني هاشم من العصمة ثم من الترجيح على النبوة ثم من دعوى الإلهية.

    وأما كثير من أتباع أئمة العلم ومشايخ الدين فحالهم وهواهم يضاهي حال من يوجب اتباع متبوعه لكنه لا يقول ذلك بلسانه ولا يعتقده علما فحاله يخالف اعتقاده بمنزلة العصاة أهل الشهوات وهؤلاء أصلح ممن يرى وجوب ذلك ويعتقده.
    وكذلك أتباع الملوك والرؤساء هم كما أخبر الله عنهم بقوله: {إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا} فهم مطيعون حالا وعملا وانقيادا وأكثرهم من غير عقيدة دينية وفيهم من يقرن بذلك عقيدة دينية. ولكن طاعة الرسول إنما تمكن مع العلم بما جاء به والقدرة على العمل به فإذا ضعف العلم والقدرة صار الوقت وقت فترة في ذلك الأمر فكان وقت دعوة ونبوة في غيره فتدبر هذا الأصل فإنه نافع جدا والله أعلم.

    وكذا من نصب القياس أو العقل أو الذوق مطلقا من أهل الفلسفة والكلام والتصوف أو قدمه بين يدي الرسول من أهل الكلام والرأي والفلسفة والتصوف؛ فإنه بمنزلة من نصب شخصا. فالاتباع المطلق دائر مع الرسول وجودا وعدما.
    (فصل: أولو الأمر صنفان: الأمراء والعلماء)
    قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
    وأولو الأمر صنفان: الأمراء والعلماء وهم الذين إذا صلحوا صلح الناس فعلى كل منهما أن يتحرى بما يقوله ويفعله طاعة الله ورسوله واتباع كتاب الله. ومتى أمكن في الحوادث المشكلة معرفة ما دل عليه الكتاب والسنة كان هو الواجب؛ وإن لم يمكن ذلك لضيق الوقت أو عجز الطالب أو تكافؤ الأدلة عنده أو غير ذلك فله أن يقلد من يرتضي علمه ودينه. هذا أقوى الأقوال.
    وقد قيل: ليس له التقليد بكل حال وقيل: له التقليد بكل حال. والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد وغيره. وكذلك ما يشترط في القضاة والولاة من الشروط يجب فعله بحسب الإمكان؛ بل وسائر العبادات من الصلاة والجهاد وغير ذلك كل ذلك واجب مع القدرة. فأما مع العجز فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها. ولهذا أمر الله المصلي أن يتطهر بالماء فإن عدمه أو خاف الضرر باستعماله لشدة البرد أو جراحة أو غير ذلك تيمم صعيدا طيبا فمسح بوجهه ويديه منه. {وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: صل قائما. فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب} فقد أوجب الله فعل الصلاة في الوقت على أي حال أمكن كما قال تعالى:
    {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين} {فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون}. فأوجب الله الصلاة على الآمن والخائف والصحيح والمريض والغني والفقير والمقيم والمسافر وخففها على المسافر والخائف والمريض كما جاء به الكتاب والسنة. وكذلك أوجب فيها واجبات:
    من الطهارة والستارة واستقبال القبلة وأسقط ما يعجز عنه العبد من ذلك. فلوا انكسرت سفينة قوم أو سلبهم المحاربون ثيابهم صلوا عراة بحسب أحوالهم وقام إمامهم وسطهم؛ لئلا يرى الباقون عورته. ولو اشتبهت عليهم القبلة اجتهدوا في الاستدلال عليها. فلو عميت الدلائل صلوا كيفما أمكنهم كما قد روى أنهم فعلوا ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهكذا الجهاد والولايات وسائر أمور الدين وذلك كله في قوله تعالى {فاتقوا الله ما استطعتم}. وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم {إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم}. كما أن الله تعالى لما حرم المطاعم الخبيثة قال: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} وقال تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج}.
    وقال تعالى: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج} فلم يوجب ما لا يستطاع ولم يحرم ما يضطر إليه إذا كانت الضرورة بغير معصية من العبد.
    فصل:

    يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين؛ بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها. فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم {إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم}. رواه أبو داود من حديث أبي سعيد وأبي هريرة.
    وروى الإمام أحمد في المسند عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم} فأوجب صلى الله عليه وسلم تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر تنبيها بذلك على سائر أنواع الاجتماع. ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة. وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم. وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة؛ ولهذا روي: {أن السلطان ظل الله في الأرض}.

    ويقال {ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان}.
    والتجربة تبين ذلك. ولهذا كان السلف - كالفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وغيرهما - يقولون: لو كان لنا دعوة مجابة لدعونا بها للسلطان. وقال النبي صلى الله عليه وسلم {إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم}. رواه مسلم. وقال: {ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله ومناصحة ولاة الأمور ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط من ورائهم}.
    رواه أهل السنن. وفي الصحيح عنه أنه قال: {الدين النصيحة الدين النصيحة الدين النصيحة. قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم}. فالواجب اتخاذ الأمارة دينا وقربة يتقرب بها إلى الله؛ فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات. وإنما يفسد فيها حال أكثر الناس لابتغاء الرياسة أو المال بها. وقد روى كعب بن مالك {عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه}. قال الترمذي حديث حسن صحيح. فأخبر أن حرص المرء على المال والرياسة يفسد دينه مثل أو أكثر من فساد الذئبين الجائعين لزريبة الغنم. وقد أخبر الله تعالى عن الذي يؤتى كتابه بشماله أنه يقول: {ما أغنى عني ماليه} {هلك عني سلطانيه}. وغاية مريد الرياسة أن يكون كفرعون وجامع المال أن يكون كقارون وقد بين الله تعالى في كتابه حال فرعون وقارون فقال تعالى: {أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق} وقال تعالى: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين}.
    فإن الناس أربعة أقسام:
    القسم الأول: يريدون العلو على الناس والفساد في الأرض وهو معصية الله وهؤلاء الملوك والرؤساء المفسدون كفرعون وحزبه. وهؤلاء هم شرار الخلق. قال الله تعالى: {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين} وروى مسلم في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:

    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ولا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان فقال رجل يا رسول الله: إني أحب أن يكون ثوبي حسنا ونعلي حسنا. أفمن الكبر ذاك؟ قال: لا؛ إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس} فبطر الحق دفعه وجحده. وغمط الناس احتقارهم وازدراؤهم وهذا حال من يريد العلو والفساد. والقسم الثاني: الذين يريدون الفساد بلا علو كالسراق والمجرمين من سفلة الناس. والقسم الثالث: يريدون العلو بلا فساد كالذين عندهم دين يريدون أن يعلوا به على غيرهم من الناس.

    وأما القسم الرابع: فهم أهل الجنة الذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا مع أنهم قد يكونون أعلى من غيرهم كما قال الله تعالى: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} وقال تعالى: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم} وقال: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}.
    فكم ممن يريد العلو ولا يزيده ذلك إلا سفولا وكم ممن جعل من الأعلين وهو لا يريد العلو ولا الفساد؛ وذلك لأن إرادة العلو على الخلق ظلم؛ لأن الناس من جنس واحد فإرادة الإنسان أن يكون هو الأعلى ونظيره تحته ظلم ومع أنه ظلم فالناس يبغضون من يكون كذلك ويعادونه؛ لأن العادل منهم لا يحب أن يكون مقهورا لنظيره وغير العادل منهم يؤثر أن يكون هو القاهر ثم إنه مع هذا لا بد له - في العقل والدين - من أن يكون بعضهم فوق بعض كما قدمناه كما أن الجسد لا يصلح إلا برأس. قال تعالى: {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم} وقال تعالى: {نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا}.
    فجاءت الشريعة بصرف السلطان والمال في سبيل الله. فإذا كان المقصود بالسلطان والمال هو التقرب إلى الله وإنفاق ذلك في سبيله كان ذلك صلاح الدين والدنيا. وإن انفرد السلطان عن الدين أو الدين عن السلطان فسدت أحوال الناس وإنما يمتاز أهل طاعة الله عن أهل معصيته بالنية والعمل الصالح كما في الصحيحين {عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم}. ولما غلب على كثير من ولاة الأمور إرادة المال والشرف وصاروا بمعزل عن حقيقة الإيمان في ولايتهم: رأى كثير من الناس أن الإمارة تنافي الإيمان وكمال الدين. ثم منهم من غلب الدين وأعرض عما لا يتم الدين إلا به من ذلك. ومنهم من رأى حاجته إلى ذلك؛ فأخذه معرضا عن الدين؛ لاعتقاده أنه مناف لذلك وصار الدين عنده في محل الرحمة والذل. لا في محل العلو والعز. وكذلك لما غلب على كثير من أهل الدين العجز عن تكميل الدين والجزع لما قد يصيبهم في إقامته من البلاء: استضعف طريقتهم واستذلها من رأى أنه لا تقوم مصلحته ومصلحة غيره بها.
    وهاتان السبيلان الفاسدتان - سبيل من انتسب إلى الذين ولم يكمله بما يحتاج إليه من السلطان والجهاد والمال وسبيل من أقبل على السلطان والمال والحرب ولم يقصد بذلك إقامة الدين - هما سبيل المغضوب عليهم والضالين. الأولى للضالين النصارى والثانية للمغضوب عليهم اليهود. وإنما الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين هي سبيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسبيل خلفائه وأصحابه ومن سلك سبيلهم. وهم {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم} فالواجب على المسلم أن يجتهد في ذلك بحسب وسعه؛ فمن ولي ولاية يقصد بها طاعة الله وإقامة ما يمكنه من دينه ومصالح المسلمين وأقام فيها ما يمكنه من الواجبات واجتناب ما يمكنه من المحرمات: لم يؤاخذ بما يعجز عنه؛ فإن تولية الأبرار خير للأمة من تولية الفجار.

    ومن كان عاجزا عن إقامة الدين بالسلطان والجهاد ففعل ما يقدر عليه من النصيحة بقلبه والدعاء للأمة ومحبة الخير وفعل ما يقدر عليه من الخير: لم يكلف ما يعجز عنه؛ فإن قوام الدين بالكتاب الهادي والحديد الناصر كما ذكره الله تعالى. فعلى كل أحد الاجتهاد في اتفاق القرآن والحديد لله تعالى ولطلب ما عنده مستعينا بالله في ذلك؛ ثم الدنيا تخدم الدين كما قال معاذ بن جبل رضي الله عنه يا ابن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج فإن بدأت بنصيبك من الآخرة مر بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظاما وإن بدأت بنصيبك من الدنيا فاتك نصيبك من الآخرة وأنت من الدنيا على خطر.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #203
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,763

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد الخامس
    الحلقة( 201)

    من صــ 361 الى صـ 370




    وَدَلِيلُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ أَصْبَحَ وَالْآخِرَةُ أَكْبَرُ هَمِّهِ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ شَمْلَهُ وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ؛ وَمَنْ أَصْبَحَ وَالدُّنْيَا أَكْبَرُ هَمِّهِ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له}.
    وأصل ذلك في قوله تعالى {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} {ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون} {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين}. فنسأل الله العظيم أن يوفقنا وسائر إخواننا وجميع المسلمين لما يحبه لنا ويرضاه من القول والعمل فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدين.
    (فصل في وجوب الاجتماع في الدين)
    قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
    إذا كان الله تعالى قد أمرنا بطاعة الله وطاعة رسوله وأولي الأمر منا وأمرنا عند التنازع في شيء أن نرده إلى الله وإلى الرسول وأمرنا بالاجتماع والائتلاف ونهانا عن التفرق والاختلاف وأمرنا أن نستغفر لمن سبقنا بالإيمان وسمانا المسلمين وأمرنا أن ندوم عليه إلى الممات. فهذه النصوص وما كان في معناها توجب علينا الاجتماع في الدين كاجتماع الأنبياء قبلنا في الدين وولاة الأمور فينا هم خلفاء الرسول قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {إن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي قام نبي وإنه لا نبي بعدي وسيكون خلفاء ويكثرون قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: أوفوا بيعة الأول فالأول وأدوا لهم الذي لهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم} وقال أيضا: {العلماء ورثة الأنبياء} وروي عنه أنه قال: {وددت أني قد رأيت خلفائي قالوا: ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يحيون سنتي يعلمونها الناس} فهؤلاء هم ولاة الأمر بعده وهم الأمراء والعلماء وبذلك فسرها السلف ومن تبعهم من الأئمة كالإمام أحمد وغيره وهو ظاهر قد قررناه في غير هذا الموضع.
    فالأصول الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع هي بمنزلة الدين المشترك بين الأنبياء ليس لأحد خروج عنها ومن دخل فيها كان من أهل الإسلام المحض وهم أهل السنة والجماعة. وما تنوعوا فيه من الأعمال والأقوال المشروعة فهو بمنزلة ما تنوعت فيه الأنبياء قال الله تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} وقال تعالى: {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين} {يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام} وقال: {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة}والتنوع قد يكون في الوجوب تارة وفي الاستحباب أخرى. فالأول مثل ما يجب على قوم الجهاد وعلى قوم الزكاة وعلى قوم تعليم العلم وهذا يقع في فروض الأعيان وفي فروض الكفايات. ففروض الأعيان مثل ما يجب على كل رجل إقامة الجماعة والجمعة في مكانه مع أهل بقعته ويجب عليه زكاة نوع ماله بصرفه إلى مستحقه لجيران ماله ويجب عليه استقبال الكعبة من ناحيته والحج إلى بيت الله من طريقه ويجب عليه بر والديه وصلته ذوي رحمه والإحسان إلى جيرانه وأصحابه ومماليكه ورعيته ونحو ذلك من الأمور التي تتنوع فيها أعيان الوجوب وإن اشتركت الأمة في جنس الوجوب وتارة تتنوع بالقدرة والعجز كتنوع صلاة المقيم والمسافر؛ والصحيح والمريض والآمن والخائف. وفروض الكفايات تتنوع تنوع فروض الأعيان ولها تنوع يخصها وهو أنها تتعين على من لم يقم بها غيره فقد تتعين في وقت ومكان وعلى شخص أو طائفة وفي وقت آخر أو مكان آخر على شخص آخر أو طائفة أخرى كما يقع مثل ذلك في الولايات والجهاد والفتيا والقضاء وغير ذلك.
    (فصل فيما تنازعوا فيه مما أقروا عليه وساغ لهم العمل به من اجتهاد العلماء والمشايخ والأمراء والملوك)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
    وأما ما يشبه ذلك من وجه دون وجه؛ فهو: ما تنازعوا فيه مما أقروا عليه وساغ لهم العمل به من اجتهاد العلماء والمشايخ والأمراء والملوك كاجتهاد الصحابة في قطع اللينة وتركها: واجتهادهم في صلاة العصر لما بعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة وأمرهم أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة فصلى قوم في الطريق في الوقت وقالوا: إنما أراد التعجل لا تفويت الصلاة. وأخرها قوم إلى أن وصلوا وصلوها بعد الوقت تمسكا بظاهر لفظ العموم فلم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم واحدة من الطائفتين {وقال صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر}.

    وقد اتفق الصحابة في مسائل تنازعوا فيها؛ على إقرار كل فريق للفريق الآخر على العمل باجتهادهم كمسائل في العبادات والمناكح والمواريث والعطاء والسياسة وغير ذلك وحكم عمر أول عام في الفريضة الحمارية بعدم التشريك وفي العام الثاني بالتشريك في واقعة مثل الأولى ولما سئل عن ذلك قال: تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي وهم الأئمة الذين ثبت بالنصوص أنهم لا يجتمعون على باطل ولا ضلالة ودل الكتاب والسنة على وجوب متابعتهم. وتنازعوا في مسائل علمية اعتقادية كسماع الميت صوت الحي وتعذيب الميت ببكاء أهله ورؤية محمد صلى الله عليه وسلم ربه قبل الموت مع بقاء الجماعة والألفة. وهذه المسائل منها ما أحد القولين خطأ قطعا ومنها ما المصيب في نفس الأمر واحد عند الجمهور أتباع السلف والآخر مؤد لما وجب عليه بحسب قوة إدراكه وهل يقال له: مصيب أو مخطئ؟ فيه نزاع. ومن الناس من يجعل الجميع مصيبين ولا حكم في نفس الأمر.
    ومذهب أهل السنة والجماعة أنه لا إثم على من اجتهد وإن أخطأ فهذا النوع يشبه النوع الأول من وجه دون وجه أما وجه المخالفة فلأن الأنبياء عليهم السلام معصومون عن الإقرار على الخطأ بخلاف الواحد من العلماء والأمراء؛ فإنه ليس معصوما من ذلك ولهذا يسوغ بل يجب أن نبين الحق الذي يجب اتباعه وإن كان فيه بيان خطأ من أخطأ من العلماء والأمراء وأما الأنبياء فلا يبين أحدهما ما يظهر به خطأ الآخر وأما المشابهة فلأن كلا مأمور باتباع ما بان له من الحق بالدليل الشرعي كأمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباع ما أوحي إليه وليس لأحدهما أن يوجب على الآخر طاعته كما ليس ذلك لأحد النبيين مع الآخر وقد يظهر له من الدليل ما كان خافيا عليه فيكون انتقاله بالاجتهاد عن الاجتهاد ويشبه النسخ في حق النبي؛ لكن هذا رفع للاعتقاد وذاك رفع للحكم حقيقة وعلى الأتباع اتباع من ولي أمرهم من الأمراء والعلماء فيما ساغ له اتباعه وأمر فيه باتباع اجتهاده كما على الأمة اتباع أي نبي بعث إليهم وإن خالف شرعه شرع الأول لكن تنوع الشرع لهؤلاء وانتقاله لم يكن لتنوع نفس الأمر النازل على الرسول ولكن تنوع أحوالهم وهو:

    إدراك هذا لما بلغه من الوحي سمعا وعقلا وعجز الآخر عن إدراك ذلك البلاغ إما سمعا لعدم تمكنه من سماع ذلك النص وإما عقلا لعدم فهمه لما فهمه الأول من النص وإذا كان عاجزا سقط عنه الإثم فيما عجز عنه وقد يتبين لأحدهما عجز الآخر وخطؤه ويعذره في ذلك وقد لا يتبين له عجزه؛ وقد لا يتبين لكل منهما أيهما الذي أدرك الحق وأصابه؟ ولهذا امتنع من امتنع من تسمية مثل هذا خطأ قال: لأن التكليف مشروط بالقدرة فما عجز عنه من العلم لم يكن حكم الله في حقه فلا يقال: أخطأه.

    وأما الجمهور فيقولون: أخطأه كما دلت عليه السنة والإجماع لكن خطؤه معذور فيه وهو معنى قوله: عجز عن إدراكه وعلمه لكن هذا لا يمنع أن يكون ذاك هو مراد الله ومأموره؛ فإن عجز الإنسان عن فهم كلام العالم لا يمنع أن يكون قد أراد بكلامه ذلك المعنى وأن يكون الذي فهمه هو المصيب الذي له الأجران. ولهذا تنازع أصحابنا فيمن لم يصب الحكم الباطن: هل يقال: إنه مصيب في الظاهر؛ لكونه أدى الواجب المقدور عليه من اجتهاده واقتصاره؟ أو لا يطلق عليه اسم الإصابة بحال وإن كان له أجر على اجتهاده وقصده الحق؟ على قولين هما روايتان عن أحمد وذلك لأنه لم يصب الحكم الباطن ولكن قصد الحق وهل اجتهد الاجتهاد المأمور به؟ التحقيق: أنه اجتهد الاجتهاد المقدور عليه فهو مصيب من هذا الوجه من جهة المأمور المقدور وإن لم يكن مصيبا من جهة إدراك المطلوب وفعل المأمور المطلق. يوضح ذلك أن السلطان نوعان: سلطان الحجة والعلم وهو أكثر ما سمي في القرآن سلطانا حتى روي عن ابن عباس أن كل سلطان في القرآن فهو الحجة. والثاني سلطان القدرة. والعمل الصالح لا يقوم إلا بالسلطانين فإذا ضعف سلطان الحجة كان الأمر بقدره وإذا ضعف سلطان القدرة كان الأمر بحسبه والأمر مشروط بالقدرة على السلطانين فالإثم ينتفي عن الأمر بالعجز عن كل منهما.

    وسلطان الله في العلم هو الرسالة وهو حجة الله على خلقه كما قال تعالى: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} وقال تعالى: {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان} وقال: {أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون} ونظائره متعددة.

    فالمذاهب والطرائق والسياسات للعلماء والمشايخ والأمراء إذا قصدوا بها وجه الله تعالى دون الأهواء ليكونوا مستمسكين بالملة والدين الجامع الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم من الكتاب والسنة بحسب الإمكان بعد الاجتهاد التام: هي لهم من بعض الوجوه بمنزلة الشرع والمناهج للأنبياء وهم مثابون على ابتغائهم وجه الله وعبادته وحده لا شريك له وهو الدين الأصلي الجامع كما يثاب الأنبياء على عبادتهم الله وحده لا شريك له ويثابون على طاعة الله ورسوله فيما تمسكوا به لا من شرعة رسوله ومنهاجه كما يثاب كل نبي على طاعة الله في شرعه ومنهاجه. ويتنوع شرعهم ومناهجهم مثل أن يبلغ أحدهم الأحاديث بألفاظ غير الألفاظ التي بلغت الآخر وتفسر له بعض آيات القرآن بتفسير يخالف لفظه لفظ التفسير الآخر ويتصرف في الجمع بين النصوص واستخراج الأحكام منها بنوع من الترتيب والتوفيق ليس هو النوع الذي سلكه غيره وكذلك في عباداته وتوجهاته وقد يتمسك هذا بآية أو حديث وهذا بحديث أو آية أخرى. وكذلك في العلم. من العلماء من يسلك بالاتباع طريقة ذلك العالم فتكون هي شرعهم حتى يسمعوا كلام غيره ويروا طريقته فيرجح الراجح منهما فتتنوع في حقهم الأقوال والأفعال السالفة لهم من هذا الوجه وهم مأمورون بأن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه كما أمرت الرسل بذلك ومأمورون بأن لا يفرقوا بين الأمة بل هي أمة واحدة كما أمرت الرسل بذلك وهؤلاء آكد؛ فإن هؤلاء تجمعهم الشريعة الواحدة والكتاب الواحد.
    وأما القدر الذي تنازعوا فيه فلا يقال: إن الله أمر كلا منهم باطنا وظاهرا بالتمسك بها هو عليه كما أمر بذلك الأنبياء وإن كان هذا قول طائفة من أهل الكلام فإنما يقال: إن الله أمر كلا منهم أن يطلب الحق بقدر وسعه وإمكانه فإن أصابه وإلا فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها وقد قال المؤمنون: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} وقال الله: قد فعلت وقال تعالى: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به} فمن ذمهم ولامهم على ما لم يؤاخذهم الله عليه فقد اعتدى ومن أراد أن يجعل أقوالهم وأفعالهم بمنزلة قول المعصوم وفعله وينتصر لها بغير هدى من الله فقد اعتدى واتبع هواه بغير هدى من الله ومن فعل ما أمر به بحسب حاله: من اجتهاد يقدر عليه أو تقليد إذا لم يقدر على الاجتهاد؛ وسلك في تقليده مسلك العدل فهو مقتصد.

    إذ الأمر مشروط بالقدرة {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} فعلى المسلم في كل موطن أن يسلم وجهه لله وهو محسن ويدوم على هذا الإسلام فإسلام وجهه إخلاصه لله وإحسان فعله الحسن. فتدبر هذا فإنه أصل جامع نافع عظيم.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #204
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,763

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد الخامس
    الحلقة( 202)

    من صــ 371 الى صـ 380




    وسئل - رضي الله عنه -:
    ما تقول السادة العلماء أئمة الدين - رضي الله عنهم أجمعين - في رجل سئل إيش مذهبك؟ فقال: محمدي أتبع كتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فقيل لا: ينبغي لكل مؤمن أن يتبع مذهبا ومن لا مذهب له فهو شيطان فقال: إيش كان مذهب أبي بكر الصديق والخلفاء بعده - رضي الله عنهم -؟ فقيل له: لا ينبغي لك إلا أن تتبع مذهبا من هذه المذاهب فأيهما المصيب؟ أفتونا مأجورين
    فأجاب:
    الحمد لله، إنما يجب على الناس طاعة الله والرسول وهؤلاء أولوا الأمر الذين أمر الله بطاعتهم في قوله: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} إنما تجب طاعتهم تبعا لطاعة الله ورسوله لا استقلالا ثم قال: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا}. وإذا نزلت بالمسلم نازلة فإنه يستفتي من اعتقد أنه يفتيه بشرع الله ورسوله من أي مذهب كان ولا يجب على أحد من المسلمين تقليد شخص بعينه من العلماء في كل ما يقول ولا يجب على أحد من المسلمين التزام مذهب شخص معين غير الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يوجبه ويخبر به بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    واتباع شخص لمذهب شخص بعينه لعجزه عن معرفة الشرع من غير جهته إنما هو مما يسوغ له ليس هو مما يجب على كل أحد إذا أمكنه معرفة الشرع بغير ذلك الطريق بل كل أحد عليه أن يتقي الله ما استطاع ويطلب علم ما أمر الله به ورسوله (1) فيفعل المأمور ويترك المحظور. والله أعلم.
    وسئل شيخ الإسلام - رحمه الله -:
    عن رجل تفقه في مذهب من المذاهب الأربعة وتبصر فيه واشتغل بعده بالحديث فرأى أحاديث صحيحة لا يعلم لها ناسخا ولا مخصصا ولا معارضا وذلك المذهب مخالف لها: فهل يجوز له العمل بذلك المذهب؟ أو يجب عليه الرجوع إلى العمل بالأحاديث ويخالف مذهبه؟
    فأجاب:

    الحمد لله، قد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن الله سبحانه وتعالى فرض على الخلق طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يوجب على هذه الأمة طاعة أحد بعينه في كل ما يأمر به وينهى عنه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان صديق الأمة وأفضلها بعد نبيها يقول: أطيعوني ما أطعت الله فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم. واتفقوا كلهم على أنه ليس أحد معصوما في كل ما يأمر به وينهى عنه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا قال غير واحد من الأئمة: كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وهؤلاء الأئمة الأربعة رضي الله عنهم قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل ما يقولونه وذلك هو الواجب عليهم؛ فقال أبو حنيفة: هذا رأيي وهذا أحسن ما رأيت؛ فمن جاء برأي خير منه قبلناه ولهذا لما اجتمع أفضل أصحابه أبو يوسف بمالك فسأله عن مسألة الصاع؛ وصدقة الخضراوات؛ ومسألة الأجناس؛ فأخبره مالك بما تدل عليه السنة في ذلك فقال: رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع إلى قولك كما رجعت. ومالك كان يقول: إنما أنا بشر أصيب وأخطئ فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة أو كلاما هذا معناه. والشافعي كان يقول: إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط وإذا رأيت الحجة موضوعة على الطريق فهي قولي. وفي مختصر المزني لما ذكر أنه اختصره من مذهب الشافعي لمن أراد معرفة مذهبه قال: مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره من العلماء. والإمام أحمد كان يقول: لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكا ولا الشافعي ولا الثوري وتعلموا كما تعلمنا. وكان يقول: من قلة علم الرجل أن يقلد دينه الرجال وقال: لا تقلد دينك الرجال فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين} ولازم ذلك أن من لم يفقهه الله في الدين لم يرد به خيرا فيكون التفقه في الدين فرضا. والتفقه في الدين: معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها السمعية. فمن لم يعرف ذلك لم يكن متفقها في الدين لكن من الناس من قد يعجز عن معرفة الأدلة التفصيلية في جميع أموره فيسقط عنه ما يعجز عن معرفته لا كل ما يعجز عنه من التفقه ويلزمه ما يقدر عليه.
    وأما القادر على الاستدلال؛ فقيل: يحرم عليه التقليد مطلقا وقيل: يجوز مطلقا وقيل: يجوز عند الحاجة؛ كما إذا ضاق الوقت عن الاستدلال وهذا القول أعدل الأقوال. والاجتهاد ليس هو أمرا واحدا لا يقبل التجزي والانقسام بل قد يكون الرجل مجتهدا في فن أو باب أو مسألة دون فن وباب ومسألة وكل أحد فاجتهاده بحسب وسعه فمن نظر في مسألة تنازع العلماء فيها ورأى مع أحد القولين نصوصا لم يعلم لها معارضا بعد نظر مثله فهو بين أمرين:إما أن يتبع قول القائل الآخر لمجرد كونه الإمام الذي اشتغل على مذهبه؛ ومثل هذا ليس بحجة شرعية بل مجرد عادة يعارضها عادة غيره واشتغال على مذهب إمام آخر.
    وإما أن يتبع القول الذي ترجح في نظره بالنصوص الدالة عليه وحينئذ فتكون موافقته لإمام يقاوم ذلك الإمام وتبقى النصوص سالمة في حقه عن المعارض بالعمل فهذا هو الذي يصلح.
    وإنما تنزلنا هذا التنزل لأنه قد يقال: إن نظر هذا قاصر وليس اجتهاده قائما في هذه المسألة؛ لضعف آلة الاجتهاد في حقه. أما إذا قدر على الاجتهاد التام الذي يعتقد معه أن القول الآخر ليس معه ما يدفع به النص فهذا يجب عليه اتباع النصوص وإن لم يفعل كان متبعا للظن وما تهوى الأنفس وكان من أكبر العصاة لله ولرسوله بخلاف من يقول: قد يكون للقول الآخر حجة راجحة على هذا النص وأنا لا أعلمها فهذا يقال له: قد قال الله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} وقال النبي صلى الله عليه وسلم {إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم} والذي تستطيعه من العلم والفقه في هذه المسألة قد دلك على أن هذا القول هو الراجح فعليك أن تتبع ذلك ثم إن تبين لك فيما بعد أن للنص معارضا راجحا كان حكمك في ذلك حكم المجتهد المستقل إذا تغير اجتهاده وانتقال الإنسان من قول إلى قول لأجل ما تبين له من الحق هو محمود فيه بخلاف إصراره على قول لا حجة معه عليه وترك القول الذي وضحت حجته أو الانتقال عن قول إلى قول لمجرد عادة واتباع هوى فهذا مذموم.

    (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما (64)

    وسئل شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
    هل يجوز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟.
    فأجاب:
    الحمد لله، أما التوسل بالإيمان به ومحبته وطاعته والصلاة والسلام عليه وبدعائه وشفاعته ونحو ذلك مما هو من أفعاله وأفعال العباد المأمور بها في حقه. فهو مشروع باتفاق المسلمين وكان الصحابة رضي الله عنهم يتوسلون به في حياته وتوسلوا بعد موته بالعباس عمه كما كانوا يتوسلون به. وأما قول القائل: اللهم إني أتوسل إليك به. فللعلماء فيه قولان: كما لهم في الحلف به قولان: وجمهور الأئمة كمالك؛ والشافعي؛ وأبي حنيفة: على أنه لا يسوغ الحلف بغيره من الأنبياء والملائكة ولا تنعقد اليمين بذلك باتفاق العلماء وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، والرواية الأخرى تنعقد اليمين به خاصة دون غيره؛ ولذلك قال أحمد في منسكه الذي كتبه للمروذي صاحبه: إنه يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في دعائه؛ ولكن غير أحمد قال: إن هذا إقسام على الله به ولا يقسم على الله بمخلوق وأحمد في إحدى الروايتين قد جوز القسم به فلذلك جوز التوسل به. ولكن الرواية الأخرى عنه: هي قول جمهور العلماء أنه لا يقسم به.
    فلا يقسم على الله به كسائر الملائكة والأنبياء فإنا لا نعلم أحدا من السلف والأئمة قال إنه يقسم به على الله؛ كما لم يقولوا إنه يقسم بهم مطلقا؛ ولهذا أفتى أبو محمد ابن عبد السلام: أنه لا يقسم على الله بأحد من الملائكة والأنبياء وغيرهم؛ لكن ذكر له أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث في الإقسام به فقال: إن صح الحديث كان خاصا به والحديث المذكور لا يدل على الإقسام به وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم {من كان حالفا فليحلف بالله وإلا فليصمت} وقال: {من حلف بغير الله فقد أشرك} والدعاء عبادة والعبادة مبناها على التوقيف والاتباع لا على الهوى والابتداع والله أعلم.

    (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما (65)

    فإذا كان هؤلاء لا يؤمنون فالذين لا يحكمونه ويردون حكمه ويجدوا حرجا مما قضى؛ لاعتقادهم أن غيره أصح منه أو أنه ليس بحكم سديد أشد وأعظم.
    (فصل)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
    والمقصود هنا أن كل ما نفاه الله ورسوله من مسمى أسماء الأمور الواجبة كاسم الإيمان والإسلام والدين والصلاة والصيام والطهارة والحج وغير ذلك؛ فإنما يكون لترك واجب من ذلك المسمى ومن هذا قوله تعالى {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} فلما نفى الإيمان حتى توجد هذه الغاية دل على أن هذه الغاية فرض على الناس؛ فمن تركها كان من أهل الوعيد لم يكن قد أتى بالإيمان الواجب الذي وعد أهله بدخول الجنة بلا عذاب، فإن الله إنما وعد بذلك من فعل ما أمر به وأما من فعل بعض الواجبات وترك بعضها؛ فهو معرض للوعيد.

    ومعلوم باتفاق المسلمين أنه يجب " تحكيم الرسول " في كل ما شجر بين الناس في أمر دينهم ودنياهم في أصول دينهم وفروعه وعليهم كلهم إذا حكم بشيء ألا يجدوا في أنفسهم حرجا مما حكم ويسلموا تسليما. قال تعالى: {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا} {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا}. وقوله: {إلى ما أنزل الله} وقد أنزل الله الكتاب والحكمة وهي السنة قال تعالى: {واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به}.

    وقال تعالى: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما}.
    والدعاء إلى ما أنزل يستلزم الدعاء إلى الرسول، والدعاء إلى الرسول يستلزم الدعاء إلى ما أنزله الله، وهذا مثل طاعة الله والرسول؛ فإنهما متلازمان فمن يطع الرسول فقد أطاع الله ومن أطاع الله فقد أطاع الرسول. وكذلك قوله تعالى {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين}. فإنهما متلازمان؛ فكل من شاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى فقد اتبع غير سبيل المؤمنين وكل من اتبع غير سبيل المؤمنين فقد شاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى. فإن كان يظن أنه متبع سبيل المؤمنين وهو مخطئ؛ فهو بمنزلة من ظن أنه متبع للرسول وهو مخطئ.
    (فصل)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
    قوله سبحانه وتعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} أقسم سبحانه بنفسه أنهم لا يؤمنون حتى يحكموه في الخصومات التي بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم ضيقا من حكمه بل يسلموا لحكمه ظاهرا وباطنا وقال قبل ذلك: {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا} فبين سبحانه أن من دعي إلى التحاكم إلى كتاب الله وإلى رسوله فصد عن رسوله كان منافقا وقال سبحانه: {ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا} فبين سبحانه أن من تولى عن طاعة الرسول وأعرض عن حكمه فهو من المنافقين وليس بمؤمن وأن المؤمن هو الذي يقول: سمعنا وأطعنا فإذا كان النفاق يثبت ويزول الإيمان بمجرد الإعراض عن حكم الرسول وإرادة التحاكم إلى غيره مع أن هذا ترك محض وقد يكون سببه قوة الشهوة فكيف بالتنقص والسب ونحوه؟.

    ويؤيد ذلك ما رواه أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن دحيم في تفسيره: حدثنا شعيب بن شعيب حدثنا أبو المغيرة حدثنا عتبة بن ضمرة حدثني أبي: "أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للمحق على المبطل فقال المقضي عليه: لا أرضى فقال صاحبه: فما تريد؟ قال: أن نذهب إلى أبي بكر الصديق فذهبا إليه فقال الذي قضي له: قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى لي عليه فقال أبو بكر: فأنتما على ما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم فأبى صاحبه أن يرضى وقال: نأتي عمر بن الخطاب فأتياه فقال المقضي له: قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى لي عليه فأبى أن يرضى ثم أتينا أبا بكر الصديق فقال: أنتما على ما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم فأبى أن يرضى فسأله عمر فقال كذلك فدخل عمر منزله فخرج والسيف في يده قد سله فضرب به رأس الذي أبى أن يرضى فقتله" فأنزل الله تبارك وتعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} الآية.

    وهذا المرسل له شاهد من وجه آخر يصلح للاعتبار.
    قال ابن دحيم: حدثنا الجوزجاني حدثنا أبو الأسود حدثنا ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير قال: "اختصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان فقضى لأحداهما فقال الذي قضى عليه: ردنا إلى عمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نعم انطلقوا إلى عمر" فانطلقا فلما أتيا عمر قال الذي قضي له: يا ابن الخطاب إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى لي وإن هذا قال: ردنا إلى عمر فردنا إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: أكذلك؟ للذي قضي عليه قال: نعم فقال عمر: مكانك حتى أخرج فأقضي بينكما فخرج مشتملا على سيفه فضرب الذي قال "ردنا إلى عمر" فقتله وأدبر الآخر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله قتل عمر صاحبي ولولا ما أعجزته لقتلني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما كنت أظن أن عمر يجتري على قتل مؤمن" فأنزل الله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} فبرأ الله عمر من قتله".

    وقد رويت هذه القصة من غير هذين الوجهين قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل: "ما أكتب حديث ابن لهيعة إلا للاعتبار والاستدلال وقد أكتب حديث هذا الرجل على هذا المعنى كأني أستدل به مع غيره يشده لا أنه حجة إذا انفرد".
    __________
    Q (1) في المطبوعة: " ورسول " وأظن أن ما أثبتناه هو الصواب حتى يستقيم المعنى







    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #205
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,763

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد الخامس
    الحلقة( 203)

    من صــ 381 الى صـ 390





    (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا (69)
    فصل:
    وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أولياء الله تعالى على أن الأنبياء أفضل من الأولياء الذين ليسوا بأنبياء وقد رتب الله عباده السعداء المنعم عليهم " أربع مراتب " فقال تعالى: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا}. وفي الحديث: " {ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر} وأفضل الأمم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} وقال تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في المسند " {أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله} وأفضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم القرن الأول. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال:
    " {خير القرون القرن الذي بعثت فيه ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم} وهذا ثابت في الصحيحين من غير وجه. وفي الصحيحين أيضا عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " {لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه}. والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار أفضل من سائر الصحابة قال تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى} وقال تعالى: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه} والسابقون الأولون الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا والمراد بالفتح صلح الحديبية فإنه كان أول فتح مكة وفيه {أنزل الله تعالى {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} فقالوا يا رسول الله أوفتح هو قال: نعم}.

    وأفضل السابقين الأولين " الخلفاء الأربعة " وأفضلهم أبو بكر ثم عمر وهذا هو المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الأمة وجماهيرها وقد دلت على ذلك دلائل بسطناها في " منهاج أهل السنة النبوية في نقض كلام أهل الشيعة والقدرية ".
    وبالجملة اتفقت طوائف السنة والشيعة على أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها واحد من الخلفاء ولا يكون من بعد الصحابة أفضل من الصحابة وأفضل أولياء الله تعالى أعظمهم معرفة بما جاء به الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم واتباعا له كالصحابة الذين هم أكمل الأمة في معرفة دينه واتباعه وأبو بكر الصديق أكمل معرفة بما جاء به وعملا به فهو أفضل أولياء الله إذ كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأمم وأفضلها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وأفضلهم أبو بكر رضي الله عنه.

    وقد ظن طائفة غالطة أن " خاتم الأولياء " أفضل الأولياء قياسا على خاتم الأنبياء ولم يتكلم أحد من المشايخ المتقدمين بخاتم الأولياء إلا محمد بن علي الحكيم الترمذي فإنه صنف مصنفا غلط فيه في مواضع ثم صار طائفة من المتأخرين يزعم كل واحد منهم أنه خاتم الأولياء ومنهم من يدعي أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء من جهة العلم بالله وأن الأنبياء يستفيدون العلم بالله من جهته كما يزعم ذلك ابن عربي صاحب " كتاب الفتوحات المكية " و " كتاب الفصوص " فخالف الشرع والعقل مع مخالفة جميع أنبياء الله تعالى وأوليائه كما يقال لمن قال: فخر عليهم السقف من تحتهم لا عقل ولا قرآن.
    ذلك أن الأنبياء أفضل في الزمان من أولياء هذه الأمة والأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام أفضل من الأولياء فكيف الأنبياء كلهم؟ والأولياء إنما يستفيدون معرفة الله ممن يأتي بعدهم ويدعي أنه خاتم الأولياء وليس آخر الأولياء أفضلهم كما أن آخر الأنبياء أفضلهم؛ فإن فضل محمد صلى الله عليه وسلم ثبت بالنصوص الدالة على ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم " {أنا سيد ولد آدم ولا فخر}. وقوله: " {آتي باب الجنة فأستفتح فيقول الخازن:
    من أنت؟ فأقول محمد فيقول بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك} و " ليلة المعراج " رفع الله درجته فوق الأنبياء كلهم فكان أحقهم بقوله تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات} إلى غير ذلك من الدلائل كل منهم يأتيه الوحي من الله لا سيما محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن في نبوته محتاجا إلى غيره فلم تحتج شريعته إلى سابق ولا إلى لاحق؛ بخلاف المسيح أحالهم في أكثر الشريعة على التوراة وجاء المسيح فكملها؛ ولهذا كان النصارى محتاجين إلى النبوات المتقدمة على المسيح: كالتوراة والزبور وتمام الأربع وعشرين نبوة وكان الأمم قبلنا محتاجين إلى محدثين؛ بخلاف أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله أغناهم به فلم يحتاجوا معه إلى نبي ولا إلى محدث؛ بل جمع له من الفضائل والمعارف والأعمال الصالحة ما فرقه في غيره من الأنبياء؛ فكان ما فضله الله به من الله بما أنزله إليه وأرسله إليه لا بتوسط بشر.
    وهذا بخلاف " الأولياء " فإن كل من بلغه رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لا يكون وليا لله إلا باتباع محمد صلى الله عليه وسلم وكل ما حصل له من الهدى ودين الحق هو بتوسط محمد صلى الله عليه وسلم وكذلك من بلغه رسالة رسول إليه لا يكون وليا لله إلا إذا اتبع ذلك الرسول الذي أرسل إليه. ومن ادعى أن من الأولياء الذين بلغتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم من له طريق إلى الله لا يحتاج فيه إلى محمد فهذا كافر ملحد وإذا قال: أنا محتاج إلى محمد في علم الظاهر دون علم الباطن أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة؛ فهو شر من اليهود والنصارى الذين قالوا: إن محمدا رسول إلى الأميين دون أهل الكتاب. فإن أولئك آمنوا ببعض وكفروا ببعض فكانوا كفارا بذلك وكذلك هذا الذي يقول إن محمدا بعث بعلم الظاهر دون علم الباطن آمن ببعض ما جاء به وكفر ببعض فهو كافر وهو أكفر من أولئك؛ لأن علم الباطن الذي هو علم إيمان القلوب ومعارفها وأحوالها هو علم بحقائق الإيمان الباطنة وهذا أشرف من العلم بمجرد أعمال الإسلام الظاهرة.

    فإذا ادعى المدعي أن محمدا صلى الله عليه وسلم إنما علم هذه الأمور الظاهرة دون حقائق الإيمان؛ وأنه لا يأخذ هذه الحقائق عن الكتاب والسنة فقد ادعى أن بعض الذي آمن به مما جاء به الرسول دون البعض الآخر وهذا شر ممن يقول: أؤمن ببعض وأكفر ببعض ولا يدعي أن هذا البعض الذي آمن به أدنى القسمين. وهؤلاء الملاحدة يدعون أن " الولاية " أفضل من " النبوة " ويلبسون على الناس فيقولون: ولايته أفضل من نبوته وينشدون: مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي ويقولون نحن شاركناه في ولايته التي هي أعظم من رسالته وهذا من أعظم ضلالهم فإن ولاية محمد لم يماثله فيها أحد لا إبراهيم ولا موسى فضلا عن أن يماثله هؤلاء الملحدون.

    وكل رسول نبي ولي فالرسول نبي ولي. ورسالته متضمنة لنبوته ونبوته متضمنة لولايته وإذا قدروا مجرد إنباء الله إياه بدون ولايته لله فهذا تقدير ممتنع فإنه حال إنبائه إياه ممتنع أن يكون إلا وليا لله ولا تكون مجردة عن ولايته ولو قدرت مجردة لم يكن أحد مماثلا للرسول في ولايته.
    (فصل: فيما يتناوله لفظ " الصالح " و " الشهيد " و " الصديق " مفردا ومع غيره)
    قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
    وكذلك لفظ " الصالح " و " الشهيد " و " الصديق ": يذكر مفردا؛ فيتناول النبيين قال تعالى في حق الخليل: {وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين}. وقال: {وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين}. وقال الخليل: {رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين}. وقال يوسف: {توفني مسلما وألحقني بالصالحين}. وقال سليمان: {وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المتفق على صحته {لما كانوا يقولون في آخر صلاتهم: السلام على الله قبل عباده السلام على فلان فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إن الله هو السلام فإذا قعد أحدكم في الصلاة؛ فليقل: التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإذا قالها أصابت كل عبد صالح لله في السماء والأرض}. . الحديث. وقد يذكر " الصالح مع غيره " كقوله تعالى: {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين}. قال الزجاج وغيره: الصالح: القائم بحقوق الله وحقوق عباده.

    ولفظ " الصالح " خلاف الفاسد؛فإذا أطلق فهو الذي أصلح جميع أمره فلم يكن فيه شيء من الفساد فاستوت سريرته وعلانيته وأقواله وأعماله على ما يرضي ربه؛ وهذا يتناول النبيين ومن دونهم. ولفظ " الصديق " قد جعل هنا معطوفا على النبيين؛ وقد وصف به النبيين في مثل قوله: {واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا} - {واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا}.

    وكذلك " الشهيد " قد جعل هنا قرين الصديق والصالح وقد قال: {وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق}. ولما قيدت الشهادة على الناس وصفت به الأمة كلها في قوله: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}. فهذه شهادة مقيدة بالشهادة على الناس كالشهادة المذكورة في قوله: {لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء}. وقوله {واستشهدوا شهيدين من رجالكم}. وليست هذه الشهادة المطلقة في الآيتين بل ذلك كقوله: {ويتخذ منكم شهداء}.
    (وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا (78) ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا (79)
    والمراد بالحسنات والسيئات هنا النعم والمصائب، كما قد سمى الله ذلك حسنات وسيئات في غير هذا الموضع من القرآن كقوله: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات} [سورة الأعراف 168] وقوله: {إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون} [سورة التوبة 50].
    ولهذا قال: ما أصابك ولم يقل: ما أصبت. وهكذا قال السلف. ففي رواية أبي صالح عن ابن عباس: أن الحسنة: الخصب والمطر، والسيئة: الجدب والغلاء. وفي رواية الوالبي عنه: أن الحسنة: الفتح والغنيمة، والسيئة الهزيمة والجراح ونحو ذلك. وقال في هذه الرواية: ما أصابك من حسنة: ما فتح الله عليه يوم بدر، والسيئة ما أصابه يوم أحد. وكذلك قال ابن قتيبة: الحسنة: الغنيمة والنعمة، والسيئة البلية. وروي ذلك عن أبي العالية، وروي عنه أن الحسنة: الطاعة، والسيئة: المعصية.
    وهذا يظنه طائفة من المتأخرين، ثم اختلف هؤلاء، فقال مثبتة القدر هذا حجة لنا، لقوله سبحانه: {قل كل من عند الله} [سورة النساء 78].
    وقال نفاته: بل هو حجة لنا لقوله: {وما أصابك من سيئة فمن نفسك} [سورة النساء 79]. وحجة كل فريق تدل على فساد قول الآخر.
    والقولان باطلان في هذه الآية ; فإن المراد: النعم والمصائب ولهذا قال: وإن تصبهم والضمير قد قيل: إنه يعود على المنافقين، وقيل: على اليهود، وقيل: على الطائفتين.
    والتحقيق أنه يعود على من قال هذا من أي صنف كان. ولهذا قيل: هذا لا يعين قائله ; لأنه دائما يقوله بعض الناس، فكل من قاله تناولته الآية ; فإن الطاعنين فيما جاء به الرسول من كافر ومنافق، بل ومن في قلبه مرض أو عنده جهل يقول مثل ذلك، وكثير من الناس يقول ذلك في بعض ما جاء به الرسول، ولا يعلم أنه جاء به، لظنه خطأ صاحبه، ويكون هو المخطئ، فإذا أصابهم نصر ورزق، قالوا: هذا من عند الله، لا يضيفه إلى ما جاء به الرسول، وإن كان سببا له. وإن أصابهم نقص رزق وخوف من العدو وظهوره، قالوا: هذا من عندك، لأنه أمر بالجهاد فجرى ما جرى، وأنهم تطيروا بما جاء به، كما تطير قوم فرعون بما جاء به موسى.
    والسلف ذكروا المعنيين، فعن ابن عباس، قال: بشؤمك. وعن ابن زيد قال: بسوء تدبيرك. قال تعالى: {قل كل من عند الله} [سورة النساء 78]. وعن ابن عباس: الحسنة والسيئة، أما الحسنة فأنعم بها عليك، وأما السيئة فابتلاك بها. فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا!؟ وقد قيل في مثل هذا: لم يفقهوه ولم يكادوا، وأن النفي مقابل الإثبات. وقيل: بل معناه فقهوه بعد أن كادوا لا يفقهونه.
    كقوله: {فذبحوها وما كادوا يفعلون} [سورة البقرة 71]، فالمنفي بها مثبت، والمثبت بها منفي، وهذا هو المشهور وعليه عامة الاستعمال. وقد يقال: يراد بها هذا تارة وهذا تارة ; فإذا صرحت بإثبات الفعل فقد وجد، فإذا لم يؤت إلا بالنفي المحض كقوله: {لم يكد يراها} و {لا يكادون يفقهون حديثا} فهذا نفي مطلق، ولا قرينة معه تدل على الإثبات فيفرق بين مطلقها ومقيدها.
    وهذه الأقوال الثلاثة للنحاة، وقال بكل قول طائفة. وقد وصف الله تعالى المنافقين بعدم الفقه في مثل قوله تعالى: {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون} [سورة المنافقون 7].

    وفي مثل قوله: {ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم} [سورة محمد 16]. فدل على أنهم لم يكونوا يفقهون القرآن.
    لكن قوله {حديثا} نكرة في سياق النفي فتعم، كما قال في الكهف: {وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا} [سورة الكهف 93]. ومعلوم أنهم لا بد أن يفقهوا بعض الأقوال، وإلا فلا يعيش الإنسان بدون ذلك، فعلم أن المراد أنهم يفقهون بعد أن كادوا لم يفقهوه.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #206
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,763

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد الخامس
    الحلقة( 204)

    من صــ 391 الى صـ 400




    وكذلك في الرواية، وهذا أظهر أقوال النحاة وأشهرها.
    والمقصود أن هؤلاء لو فقهوا القرآن لعلموا أنك ما أمرتهم إلا بخير، وما نهيتهم إلا عن شر، وأنه لم تكن المصيبة الحاصلة لهم بسببك، بل بسبب ذنوبهم. ثم قال الله تعالى: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} [سورة النساء 79]. قال ابن عباس: وأنا كتبتها عليك. وقيل: إنها في حرف عند الله وأنا قدرتها عليك.
    وهذا كقوله: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} [سورة الشورى 30]، وقوله: {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم} [سورة آل عمران 165] وقوله: {وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور} [سورة الشورى 48].
    وأما رواية كردم عن يعقوب: فمن نفسك، فمعناها يناقض القراءة المتواترة فلا يعتمد عليها.
    ومعنى هذه الآية كما في الحديث الصحيح الإلهي: " «يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» ".

    ومعنى هذه الآية متناول لكل من نسب ما أصابه من المصيبة إلى ما أمر الله به ورسوله كائنا من كان. فمن قال: إنه بسبب تقديمه لأبي بكر وعمر، واستخلافه في الصلاة، أو بسبب ولايتهما، حصل لهم مصيبة. قيل: مصيبتكم بسبب ذنوبكم: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا - ويرزقه من حيث لا يحتسب} [سورة الطلاق 2 - 3]، بل هذا كله من أذى المؤمنين بغير ما اكتسبوا وقد قال تعالى: {ولا يغتب بعضكم بعضا} [سورة الحجرات: 12].

    وثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " «الغيبة ذكرك أخاك بما يكره ". قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: " إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته» ". فمن رمى أحدا بما ليس فيه فقد بهته، فكيف إذا كان ذلك في الصحابة؟.
    (فصل: قال شيخ الإسلام)
    قوله: {ما أصابك من حسنة فمن الله} الآية بعد قوله: {كل من عند الله} لو اقتصر على الجمع أعرض العاصي عن ذم نفسه والتوبة من الذنب والاستعاذة من شره وقام بقلبه حجة إبليس فلم تزده إلا طردا كما زادت المشركين ضلالا حين قالوا: {لو شاء الله ما أشركنا}. ولو اقتصر على الفرق لغابوا عن التوحيد والإيمان بالقدر واللجأ إلى الله في الهداية كما في خطبته صلى الله عليه وسلم {الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره} فيشكره ويستعينه على طاعته ويستغفره من معصيته ويحمده على إحسانه. ثم قال: {ونعوذ بالله من شرور أنفسنا} إلى آخره. لما استغفر من المعاصي استعاذه من الذنوب التي لم تقع. ثم قال: {ومن سيئات أعمالنا} أي ومن عقوباتها. ثم قال {من يهد الله فلا مضل له} إلخ. شهادة بأنه المتصرف في خلقه ففيه إثبات القضاء الذي هو نظام التوحيد هذا كله مقدمة بين يدي الشهادتين فإنما يتحققان بحمد الله وإعانته واستغفاره واللجأ إليه،والإيمان بأقداره. فهذه الخطبة عقد نظام الإسلام والإيمان. وقال كون الحسنات من الله والسيئات من النفس له وجوه: " الأول " أن النعم تقع بلا كسب. " الثاني " أن عمل الحسنات من إحسان الله إلى عبده فخلق الحياة وأرسل الرسل وحبب إليهم الإيمان.

    وإذا تدبرت هذا شكرت الله فزادك وإذا علمت أن الشر لا يحصل إلا من نفسك تبت فزال. " الثالث " أن الحسنة تضاعف. " الرابع " أن الحسنة يحبها ويرضاها فيحب أن ينعم ويحب أن يطاع؛ ولهذا تأدب العارفون فأضافوا النعم إليه والشر إلى محله كما قال إمام الحنفاء: {الذي خلقني فهو يهدين} إلى قوله: {وإذا مرضت فهو يشفين}. " الخامس " أن الحسنة مضافة إليه؛ لأنه أحسن بها بكل اعتبار وأما السيئة فما قدرها إلا لحكمة.
    " السادس " أن الحسنات أمور وجودية متعلقة بالرحمة والحكمة؛لأنها إما فعل مأمور أو ترك محظور والترك أمر وجودي فتركه لما عرف أنه ذنب وكراهته له ومنع نفسه منه أمور وجودية وإنما يثاب على الترك على هذا الوجه. وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم البغض في الله من أوثق عرى الإيمان وهو أصل الترك. وجعل المنع لله من كمال الإيمان وهو أصل الترك. وكذلك براءة الخليل من قومه المشركين ومعبوديهم ليست تركا محضا؛ بل صادرا عن بغض وعداوة. وأما السيئات فمنشؤها من الظلم والجهل.
    وفي الحقيقة كلها ترجع إلى الجهل وإلا فلو تم العلم بها لم يفعلها؛ فإن هذا خاصة العقل وقد يغفل عن هذا كله بقوة وارد الشهوة والغفلة والشهوة أصل الشر كما قال تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه} الآية. " السابع " أن ابتلاءه له بالذنوب عقوبة له على عدم فعل ما خلق له وفطر عليه. " الثامن " أن ما يصيبه من الخير والنعم لا تنحصر أسبابه من إنعام الله عليه؛ فيرجع في ذلك إلى الله ولا يرجو إلا هو؛ فهو يستحق الشكر التام الذي لا يستحقه غيره وأن ما يستحق من الشكر جزاء على ما يسره الله على يديه؛ ولكن لا يبلغ أن يشكر بمعصية الله فإنه المنعم بما لا يقدر عليه مخلوق ونعم المخلوق منه أيضا وجزاؤه على الشكر والكفر لا يقدر أحد على مثله. فإذا عرف أن {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده} صار توكله ورجاؤه إلى الله وحده وإذا عرف ما يستحقه من الشكر الذي يستحقه صار له. . . (1)
    والشر انحصر سببه في النفس؛ فعلم من أين يؤتى فتاب واستعان بالله كما قال بعض السلف: لا يرجون عبد إلا ربه ولا يخاف إلا ذنبه. وقد تقدم قول السلف ابن عباس وغيره: أن ما أصابهم يوم أحد مطلقا كان بذنوبهم لم يستثن أحد وهذا من فوائد تخصيص الخطاب؛ لئلا يظن أنه عام مخصوص ". التاسع " أن السيئة إذا كانت من النفس والسيئة خبيثة: كما قال تعالى: {الخبيثات للخبيثين} الآية.
    قال جمهور السلف: الكلمات {الخبيثات للخبيثين} وقال: {ومثل كلمة خبيثة} وقال: {إليه يصعد الكلم الطيب} والأقوال والأفعال صفات للقائل الفاعل فإذا اتصفت النفس بالخبث فمحلها ما يناسبها فمن أراد أن يجعل الحيات يعاشرن الناس كالسنانير لم يصلح؛ بل إذا كان في النفس خبث طهرت حتى تصلح للجنة كما في حديث أبي سعيد الذي في الصحيح وفيه: {حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة} فإذا علم الإنسان أن السيئة من نفسه لم يطمع في السعادة التامة مع ما فيه من الشر بل علم تحقيق قوله: {من يعمل سوءا يجز به} {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} إلخ. وعلم أن الرب عليم حكيم رحيم عدل وأفعاله على قانون العدل والإحسان كما في الصحيح {يمين الله ملآى} إلى قوله: {والقسط بيده الأخرى} وعلم فساد قول الجهمية الذين يجعلون الثواب والعقاب بلا حكمة ولا عدل. إلى أن قال: ومن سلك مسلكهم غايته إذا عظم الأمر والنهي أن يقول - كما نقل عن الشاذلي - يكون الجمع في قلبك مشهودا والفرق على لسانك موجودا كما يوجد في كلامه وكلام غيره أقوال وأدعية تستلزم تعطيل الأمر والنهي مما يوجب أن يجوز عنده أن يجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض ويدعون بأدعية فيها اعتداء كما في حزب الشاذلي. وآخرون من عوامهم يجوزون أن يكرم الله بكرامات الأولياء لمن هو فاجر وكافر ويقولون: هذه موهبة ويظنونها من الكرامات وهي من الأحوال الشيطانية التي يكون مثلها للسحرة والكهان كما قال تعالى: {ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم} إلى قوله: {هاروت وماروت} وصح قوله:{لتتبعن سنن من كان قبلكم}.
    فعدل كثير من المنتسبين إلى الإسلام إلى أن نبذ القرآن وراء ظهره واتبع ما تتلو الشياطين فلا يعظم أمر القرآن ونهيه ولا يوالي من أمر القرآن بموالاته ولا يعادي من أمر القرآن بمعاداته؛ بل يعظم من يأتي ببعض الخوارق. ثم منهم من يعرف أنه من الشياطين؛ لكن يعظمه لهواه ويفضله على طريقة القرآن وهؤلاء كفار قال الله تعالى فيهم: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت} إلخ.
    قال: وفي قوله تعالى {فمن نفسك} من الفوائد: أن العبد لا يطمئن إلى نفسه ولا يشتغل بملام الناس وذمهم؛ بل يسأل الله أن يعينه على طاعته؛ ولهذا كان أنفع الدعاء وأعظمه دعاء الفاتحة وهو محتاج إلى الهدى كل لحظة ويدخل فيه من أنواع الحاجات ما لا يمكن حصره ويبينه أن الله سبحانه لم يقص علينا قصة في القرآن إلا لنعتبر وإنما يكون الاعتبار إذا قسنا الثاني بالأول؛ فلولا أن في النفوس ما في نفوس المكذبين للرسل لم يكن بنا حاجة إلى الاعتبار بمن لا نشبهه قط؛ ولكن الأمر كما قال تعالى: {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك} وقوله: {أتواصوا به} وقوله: {تشابهت قلوبهم} ولهذا في الحديث: {لتسلكن سنن من كان قبلكم}. وقد بين القرآن أن السيئات من النفس وأعظم السيئات جحود الخالق والشرك به وطلب أن يكون شريكا له وكلا هذين وقع. وقال بعضهم ما من نفس إلا وفيها ما في نفس فرعون وذلك أن الإنسان إذا اعتبر وتعرف أحوال الناس رأى ما يبغض نظيره وأتباعه حسدا كما فعلت اليهود لما بعث الله من يدعو إلى مثل ما دعا إليه موسى؛ ولهذا أخبر عنهم بنظير ما أخبر به عن فرعون.

    وقال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني - تغمده الله تعالى برحمته -:
    الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له. ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
    __________
    Q (1) بياض بالأصل



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #207
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,763

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد الخامس
    الحلقة( 205)

    من صــ 401 الى صـ 410





    فصل:
    في قوله تعالى {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} وبعض ما تضمنته من الحكم العظيمة.
    هذه الآية: ذكرها الله في سياق الأمر بالجهاد وذم الناكثين عنه،قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا} الآيات إلى أن ذكر صلاة الخوف وقد ذكر قبلها طاعة الله وطاعة الرسول والتحاكم إلى الله وإلى الرسول. ورد ما تنازع فيه الناس إلى الله وإلى الرسول. وذم الذين يتحاكمون ويردون ما تنازعوا فيه إلى غير الله والرسول. فكانت تلك الآيات: تبيينا للإيمان بالله وبالرسول. ولهذا قال فيها: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}. وهذا جهاد عما جاء به الرسول. وقد قال تعالى {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله} وقال تعالى {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} وقال {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين} {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون} {يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات} الآية.

    وقال تعالى {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم} {تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} {يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم} {وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين} {يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين}.

    وذكر بعد آيات الجهاد إنزال الكتاب على رسول الله ليحكم بين الناس بما أراه الله ونهيه عن ضد ذلك. وذكره فضل الله عليه ورحمته في حفظه وعصمته من إضلال الناس له وتعليمه ما لم يكن يعلم. وذم من شاق الرسول واتبع غير سبيل المؤمنين. وتعظيم أمر الشرك وشديد خطره وأن الله لا يغفره. ولكن يغفر ما دونه لمن يشاء - إلى أن بين أن أحسن الأديان: دين من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا. بشرط أن تكون عبادته بفعل الحسنات التي شرعها لا بالبدع والأهواء. وهم أهل ملة إبراهيم الذين اتبعوا ملة إبراهيم حنيفا {واتخذ الله إبراهيم خليلا}. فكان في الأمر بطاعة الرسول والجهاد عليها: اتباع التوحيد وملة إبراهيم. وهو إخلاص الدين لله وأن يعبد الله بما أمر به على ألسن رسله من الحسنات. وقد ذكر تعالى في ضمن آيات الجهاد: ذم من يخاف العدو ويطلب الحياة. وبين أن ترك الجهاد: لا يدفع عنهم الموت.

    بل أينما كانوا أدركهم الموت ولو كانوا في بروج مشيدة. فلا ينالون بترك الجهاد منفعة. بل لا ينالون إلا خسارة الدنيا والآخرة. فقال تعالى {ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا}. وهذا الفريق قد قيل: إنهم منافقون. وقيل: نافقوا لما كتب عليهم القتال. وقيل: بل حصل منهم جبن وفشل. فكان في قلوبهم مرض. كما قال تعالى: {فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم} {طاعة وقول معروف} الآية وقال تعالى {وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا}. والمعنى متناول لهؤلاء ولهؤلاء. ولكل من كان بهذه الحال.

    ثم قال: {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا}. فالضمير في قوله " وإن تصبهم " يعود إلى من ذكر. وهم الذين {يخشون الناس} أو يعود إلى معلوم وإن لم يذكر. كما في مواضع كثيرة. وقد قيل: إن هؤلاء كانوا كفارا من اليهود. وقيل: كانوا منافقين. وقيل: بل كانوا من هؤلاء وهؤلاء. والمعنى يعم كل من كان كذلك. ولكن تناوله لمن أظهر الإسلام وأمر بالجهاد: أولى. ثم إذا تناول الذم هؤلاء: فهو للكفار الذين لا يظهرون الإسلام أولى وأحرى. والذي عليه عامة المفسرين: أن " الحسنة " و " السيئة " يراد بهما النعم والمصائب. ليس المراد: مجرد ما يفعله الإنسان باختياره باعتباره من الحسنات أو السيئات.
    فصل:
    ولفظ " الحسنات " و " السيئات " في كتاب الله: يتناول هذا وهذا قال الله تعالى عن المنافقين {إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا} وقال تعالى: {إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون} وقال تعالى {وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون} وقال تعالى {وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور} وقال تعالى في حق الكفار المتطيرين بموسى ومن معه: {فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه} ذكر هذا بعد قوله: {ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون}. وأما الأعمال المأمور بها والمنهي عنها: ففي مثل قوله تعالى {من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون} وقوله تعالى {إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين} وقوله تعالى {فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما}. وهنا قال {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} ولم يقل: وما فعلت وما كسبت. كما قال: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} وقال تعالى: {فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم} وقال تعالى:
    {قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا} وقال تعالى: {ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم} وقال تعالى: {فأصابتكم مصيبة الموت} وقال تعالى: {وبشر الصابرين} {الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون}. فلهذا كان قول {ما أصابك من حسنة} و {من سيئة} متناول لما يصيب الإنسان ويأتيه من النعم التي تسره ومن المصائب التي تسوءه. فالآية متناولة لهذا قطعا. وكذلك قال عامة المفسرين. قال أبو العالية: {وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله}قال: هذه في السراء {وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك} قال: وهذه في الضراء. وقال السدي: {وإن تصبهم حسنة} قالوا والحسنة الخصب ينتج خيولهم وأنعامهم ومواشيهم ويحسن حالهم وتلد نساؤهم الغلمان {يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة} قالوا - والسيئة: الضرر في أموالهم تشاؤما بمحمد - قالوا: {هذه من عندك} يقولون: بتركنا ديننا واتباعنا محمدا أصابنا هذا البلاء. فأنزل الله {قل كل من عند الله} الحسنة والسيئة {فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا} قال: القرآن. وقال الوالبي عن ابن عباس {ما أصابك من حسنة فمن الله} قال: ما فتح الله عليك يوم بدر. وكذلك قال الضحاك. وقال الوالبي أيضا عن ابن عباس " من حسنة " قال: ما أصاب من الغنيمة والفتح فمن الله.
    قال: " والسيئة " ما أصابه يوم أحد. إذ شج في وجهه وكسرت رباعيته. وقال: أما " الحسنة " فأنعم الله بها عليك وأما " السيئة " فابتلاك الله بها.
    وروي أيضا عن حجاج عن عطية عن ابن عباس {ما أصابك من حسنة فمن الله} قال: هذا يوم بدر {وما أصابك من سيئة فمن نفسك} قال: هذا يوم أحد. يقول: ما كان من نكبة: فمن ذنبك وأنا قدرت ذلك عليك.

    وكذلك روى ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح فمن " نفسك " قال: فبذنبك وأنا قدرتها عليك. روى هذه الآثار ابن أبي حاتم وغيره. وروي أيضا عن مطرف بن عبد الله بن الشخير. قال: ما تريدون من القدر؟ أما تكفيكم هذه الآية التي في سورة النساء {وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك} ؟ أي من نفسك. والله ما وكلوا إلى القدر. وقد أمروا به. وإليه يصيرون. وكذلك في تفسير أبي صالح عن ابن عباس {وإن تصبهم حسنة} الخصب والمطر {وإن تصبهم سيئة} الجدب والبلاء. وقال ابن قتيبة {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} قال: الحسنة النعمة. والسيئة البلية.

    وقد ذكر أبو الفرج في قوله " {ما أصابك من حسنة} - ومن سيئة " ثلاثة أقوال. أحدها: أن " الحسنة " ما فتح الله عليهم يوم بدر. و " السيئة " ما أصابهم يوم أحد. قال: رواه ابن أبي طلحة - وهو الوالبي - عن ابن عباس. قال: والثاني " الحسنة " الطاعة. و " السيئة " المعصية. قاله أبو العالية. والثالث " الحسنة " النعمة. و " السيئة " البلية. قاله ابن منبه. قال: وعن أبي العالية نحوه. وهو أصح. قلت: هذا هو القول المعروف بالإسناد عن أبي العالية كما تقدم من تفسيره المعروف الذي يروى عنه هو وغيره من طريق أبي جعفر الداري عن الربيع بن أنس عنه وأمثاله. وأما الثاني: فهو لم يذكر إسناده. ولكن ينقل من كتب المفسرين الذين يذكرون أقوال السلف بلا إسناد. وكثير منها ضعيف. بل كذب لا يثبت عمن نقل عنه. وعامة المفسرين المتأخرين أيضا يفسرونه على مثل أقوال السلف وطائفة منهم تحملها على الطاعة والمعصية.

    فأما الصنف الأول: فهي تتناوله قطعا. كما يدل عليه لفظها وسياقها ومعناها وأقوال السلف. وأما المعنى الثاني: فليس مرادا دون الأول قطعا. ولكن قد يقال: إنه مراد مع الأول باعتبار أن ما يهديه الله إليه من الطاعة: هو نعمة في حقه من الله أصابته. وما يقع منه من المعصية: هو سيئة أصابته. ونفسه التي عملت السيئة. وإذا كان الجزاء من نفسه فالعمل الذي أوجب الجزاء: أولى أن يكون من نفسه. فلا منافاة أن تكون سيئة العمل وسيئة الجزاء من نفسه. مع أن الجميع مقدر كما تقدم. وقد روي عن مجاهد عن ابن عباس: أنه كان يقرأ " فمن نفسك وأنا قدرتها عليك ".




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #208
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,763

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد الخامس
    الحلقة( 206)

    من صــ 411 الى صـ 420




    فصل:
    والمعصية الثانية: قد تكون عقوبة الأولى. فتكون من سيئات الجزاء مع أنها من سيئات العمل. قال النبي صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق على صحته -عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم {عليكم بالصدق. فإن الصدق يهدي إلى البر. والبر يهدي إلى الجنة. ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا. وإياكم والكذب. فإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار. ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا}. وقد ذكر في غير موضع من القرآن ما يبين أن الحسنة الثانية قد تكون من ثواب الأولى.

    وكذلك السيئة الثانية: قد تكون من عقوبة الأولى. قال تعالى {ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا} {وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما} {ولهديناهم صراطا مستقيما} وقال تعالى {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} وقال تعالى: {والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم} {سيهديهم ويصلح بالهم} {ويدخلهم الجنة عرفها لهم} وقال تعالى: {ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى} وقال تعالى: {وكتاب مبين} {يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام} وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم} وقال تعالى: {وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون} وقال تعالى: {هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين}

    وقال تعالى: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى} وقال تعالى {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} {وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون} وقال تعالى {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين} وقال تعالى {ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين} وقال تعالى {ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين} وقال تعالى {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم} {والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم} {ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم} وقال تعالى {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا} {يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم} وقال تعالى {قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين}. قال أبو عثمان النيسابوري: من أمر السنة على نفسه - قولا وفعلا - نطق بالحكمة. ومن أمر الهوى على نفسه - قولا وفعلا - نطق بالبدعة. لأن الله تعالى يقول {وإن تطيعوه تهتدوا}

    قلت: وقد قال في آخر السورة {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}. وقال تعالى {وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون} {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة} وقال تعالى {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم} وقال تعالى {وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين} - إلى قوله - {ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين} وقال تعالى {وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون} وقال تعالى أيضا {وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا}.

    وقال تعالى {فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين} وقال تعالى {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين} {ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا} وقال تعالى في النوعين {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان} {ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله} وقال تعالى {سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين}.
    وقال تعالى {هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار} {ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار} {ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب}.
    وقال تعالى {لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون} {ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} وقال تعالى {ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون} {ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون} وقال تعالى {ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون} وقال تعالى {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم} {أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم} {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} {إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم} {ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم}.

    وقال تعالى {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين} {فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون} {فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون} وقال تعالى {فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين} وقال تعالى في ضد هذا {وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم صراطا مستقيما} - إلى قوله - {ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا} {سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا}. وتوليتهم الأدبار: ليس مما نهوا عنه ولكن هو من جزاء أعمالهم. وهذا باب واسع.

    فصل:
    وإذا كانت السيئات التي يعملها الإنسان قد تكون من جزاء سيئات تقدمت - وهي مضرة - جاز أن يقال: هي مما أصابه من السيئات وهي بذنوب تقدمت. وعلى كل تقدير: فالذنوب التي يعملها؛ هي من نفسه. وإن كانت مقدرة عليه.
    فإنه إذا كان الجزاء الذي هو مسبب عنها من نفسه فعمله الذي هو ذلك الجزاء: من نفسه بطريق الأولى. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته {نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا}. {وقال له أبو بكر رضي الله عنه علمني دعاء. فقال قل: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه. أشهد أن لا إله إلا أنت. أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه وأن أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم. قله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك}.
    فقد بين أن قوله {فمن نفسك} يتناول العقوبات على الأعمال ويتناول الأعمال. مع أن الكل بقدر الله.
    فصل:
    وليس للقدرية أن يحتجوا بالآية لوجوه: منها: أنهم يقولون: فعل العبد - حسنة كان أو سيئة - هو منه لا من الله. بل الله قد أعطى كل واحد من الاستطاعة ما يفعل به الحسنات والسيئات. لكن هذا عندهم: أحدث إرادة فعل بها الحسنات. وهذا أحدث إرادة فعل بها السيئات. وليس واحد منهما من إحداث الرب عندهم. والقرآن قد فرق بين الحسنات والسيئات. وهم لا يفرقون في الأعمال بين الحسنات والسيئات إلا من جهة الأمر. لا من جهة كون الله خلق فيه الحسنات دون السيئات. بل هو عندهم لم يخلق لا هذا ولا هذا. لكن منهم من يقول: بأنه يحدث من الأعمال الحسنة والسيئة: ما يكون جزاء. كما يقوله أهل السنة.

    لكن على هذا: فليست عندهم كل الحسنات من الله. ولا كل السيئات. بل بعض هذا وبعض هذا. الثاني: أنه قال {كل من عند الله} فجعل الحسنات من عند الله كما جعل السيئات من عند الله. وهم لا يقولون بذلك في الأعمال. بل في الجزاء. وقوله - بعد هذا - {ما أصابك من حسنة} و {من سيئة} مثل قوله {وإن تصبهم حسنة} وقوله {وإن تصبهم سيئة}. الثالث: أن الآية أريد بها: النعم والمصائب. كما تقدم. وليس للقدرية المجبرة أن تحتج بهذه الآية على نفي أعمالهم التي استحقوا بها العقاب. فإن قوله {كل من عند الله} هو النعم والمصائب. ولأن قوله {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} حجة عليهم. وبيان أن الإنسان هو فاعل السيئات. وأنه يستحق عليها العقاب.

    والله ينعم عليه بالحسنات - عملها وجزائها - فإنه إذا كان ما أصابهم من حسنة فهو من الله: فالنعم من الله. سواء كانت ابتداء أو كانت جزاء. وإذا كانت جزاء - وهي من الله -: فالعمل الصالح الذي كان سببها: هو أيضا من الله. أنعم بهما الله على العبد. وإلا فلو كان هو من نفسه - كما كانت السيئات من نفسه - لكان كل ذلك من نفسه. والله تعالى قد فرق بين النوعين في الكتاب والسنة. كما في الحديث الصحيح الإلهي: {عن الله يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها.
    فمن وجد خيرا فليحمد الله. ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه} وقال تعالى {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم} وقال تعالى {وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون} وقال تعالى {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} وقال تعالى {وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم} وقال تعالى {وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين} وقال تعالى {لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} وقال تعالى للمؤمنين {ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون} وقد أمروا أن يقولوا في الصلاة {اهدنا الصراط المستقيم} {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين}.
    فصل:
    وقد ظن طائفة: أن في الآية إشكالا أو تناقضا في الظاهر حيث قال {كل من عند الله} ثم فرق بين الحسنات والسيئات. فقال {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك}.
    وهذا من قلة فهمهم وعدم تدبرهم الآية. وليس في الآية تناقض. لا في ظاهرها ولا في باطنها. لا في لفظها ولا معناها.

    فإنه ذكر عن المنافقين والذين في قلوبهم مرض الناكصين عن الجهاد. ما ذكره بقوله {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك} هذا يقولونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي بسبب ما أمرتنا به من دينك والرجوع عما كنا عليه: أصابتنا هذه السيئات. لأنك أمرتنا بما أوجبها. فالسيئات: هي المصائب والأعمال التي ظنوا أنها سبب المصائب: هو أمرهم بها. وقولهم " من عندك " تتناول مصائب الجهاد التي توجب الهزيمة لأنه أمرهم بالجهاد. وتتناول أيضا مصائب الرزق على جهة التشاؤم والتطير. أي هذا عقوبة لنا بسبب دينك. كما كان قوم فرعون يتطيرون بموسى وبمن معه.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #209
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,763

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد الخامس
    الحلقة( 207)

    من صــ 421 الى صـ 430





    وكما قال أهل القرية للمرسلين {إنا تطيرنا بكم} وكما قال الكفار من ثمود لصالح ولقومه: {اطيرنا بك وبمن معك} فكانوا يقولون عما يصيبهم - من الحرب والزلزال والجراح والقتل وغير ذلك مما يحصل من العدو -: هو منك. لأنك أمرتنا بالأعمال الموجبة لذلك. ويقولون عن هذا وعن المصائب السمائية: إنها منك. أي بسبب طاعتنا لك واتباعنا لدينك: أصابتنا هذه المصائب كما قال تعالى: {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة}. فهذا يتناول كل من جعل طاعة الرسول وفعل ما بعث به: مسببا لشر أصابه: إما من السماء. وإما من آدمي. وهؤلاء كثيرون. لم يقولوا " هذه من عندك " بمعنى: أنك أنت الذي أحدثتها. فإنهم يعلمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحدث شيئا من ذلك ولم يكن قولهم " من عندك " خطابا من بعضهم لبعض.
    بل هو خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم. ومن فهم هذا تبين له أن قوله {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} لا يناقض قوله {كل من عند الله} بل هو محقق له. لأنهم - هم ومن أشبههم إلى يوم القيامة - يجعلون ما جاء به الرسول والعمل به: سببا لما قد يصيبهم من مصائب. وكذلك من أطاعه إلى يوم القيامة. وكانوا تارة يقدحون فيما جاء به ويقولون: ليس هذا مما أمر الله به. ولو كان مما أمر الله به: لما جرى على أهله هذا البلاء.

    وتارة لا يقدحون في الأصل. لكن يقدحون في القضية المعينة. فيقولون: هذا بسوء تدبير الرسول. كما قال عبد الله بن أبي ابن سلول يوم أحد - إذ كان رأيه مع رأي النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يخرجوا من المدينة - فسأله صلى الله عليه وسلم ناس ممن كان لهم رغبة في الجهاد: أن يخرج. فوافقهم ودخل بيته ولبس لامته. فلما لبس لأمته ندموا. وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم أنت أعلم. فإن شئت أن لا نخرج فلا نخرج. فقال: {ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن ينزعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه} يعني: أن الجهاد يلزم بالشروع كما يلزم الحج. لا يجوز ترك ما شرع فيه منه إلا عند العجز بالإحصار في الحج.

    فصل:
    والمفسرون ذكروا في قوله {وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك} هذا وهذا. فعن ابن عباس، والسدي، وغيرهما: أنهم يقولون هذا، تشاؤما بدينه. وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. قال: بسوء تدبيرك - يعني كما قاله عبد الله بن أبي وغيره يوم أحد - وهم كالذين {قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا}. فبكل حال: قولهم " من عندك " هو طعن فيما أمر الله به ورسوله: من الإيمان والجهاد. وجعل ذلك: هو الموجب للمصائب التي تصيب المؤمنين المطيعين، كما أصابتهم يوم أحد.
    وتارة تصيب عدوهم. فيقول الكافرون: هذا بشؤم هؤلاء، كما قال أصحاب القرية للمرسلين {إنا تطيرنا بكم} وكما قال تعالى عن آل فرعون {فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون} وقال تعالى عن قوم صالح {قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون} ولما قال أهل القرية {إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم} {قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون}. قال الضحاك: في قوله {ألا إنما طائرهم عند الله} يقول: الأمر من قبل الله ما أصابكم من أمر فمن الله، بما كسبت أيديكم.
    وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: " معايبكم " وقال قتادة " عملكم عند الله ". وفي رواية غير علي: عملكم عند الله {بل أنتم قوم تفتنون} أي تبتلون بطاعة الله ومعصيته. رواهما ابن أبي حاتم وغيره. وعن ابن إسحاق قال: قالت الرسل " طائركم معكم " أي أعمالكم. فقد فسروا " الطائر " بالأعمال وجزائها، لأنهم كانوا يقولون: إنما أصابنا ما أصابنا من المصائب بذنوب الرسل وأتباعهم.

    فبين الله سبحانه: أن طائرهم - وهو الأعمال وجزاؤها - هو عند الله. وهو معهم. فهو معهم لأن أعمالهم وما قدر من جزائها معهم كما قال تعالى {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه} وهو من الله؛ لأن الله تعالى قدر تلك المصائب بأعمالهم. فمن عنده تتنزل عليهم المصائب. جزاء على أعمالهم، لا بسبب الرسل وأتباعهم. وفي هذا يقال: إنهم إنما يجزون بأعمالهم، لا بأعمال غيرهم. ولذلك قال في هذه الآية - لما كان المنافقون والكفار ومن في قلبه مرض يقول: هذا الذي أصابنا هو بسبب ما جاء به محمد، عقوبة دينية وصل إلينا - بين سبحانه: أن ما أصابهم من المصائب إنما هو بذنوبهم. ففي هذا رد على من أعرض عن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لئلا تصيبه تلك المصائب. وعلى من انتسب إلى الإيمان بالرسول، ونسبها إلى فعل ما جاء به الرسول، وعلى من أصابته مع كفره بالرسول ونسبها إلى ما جاء به الرسول.

    فصل:
    والمقصود: أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ليس سببا لشيء من المصائب. ولا تكون طاعة الله ورسوله قط سببا لمصيبة، بل طاعة الله والرسول لا تقتضي إلا جزاء أصحابها بخيري الدنيا والآخرة. ولكن قد تصيب المؤمنين بالله ورسوله مصائب بسبب ذنوبهم. لا بما أطاعوا فيه الله والرسول، كما لحقهم يوم أحد بسبب ذنوبهم. لا بسبب طاعتهم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وكذلك ما ابتلوا به في السراء والضراء والزلزال: ليس هو بسبب نفس إيمانهم وطاعتهم، لكن امتحنوا به، ليتخلصوا مما فيهم من الشر وفتنوا به كما يفتن الذهب بالنار، ليتميز طيبه من خبيثه. والنفوس فيها شر. والامتحان يمحص المؤمن من ذلك الشر الذي في نفسه. قال تعالى {وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين} {وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين} وقال تعالى {وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم} ولهذا قال صالح عليه السلام لقومه {طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون}.
    ولهذا كانت المصائب تكفر سيئات المؤمنين، وبالصبر عليها ترتفع درجاتهم وما أصابهم في الجهاد من مصائب بأيدي العدو، فإنه يعظم أجرهم بالصبر عليها. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {ما من غازية يغزون في سبيل الله، فيسلمون ويغنمون إلا تعجلوا ثلثي أجرهم. وإن أصيبوا وأخفقوا: تم لهم أجرهم}. وأما ما يلحقهم من الجوع والعطش والتعب: فذاك يكتب لهم به عمل صالح. كما قال تعالى {ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين}. وشواهد هذا كثيرة.
    فصل:
    والمقصود: أن قوله {وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله} فإنهم جعلوا ما يصيبهم من المصائب بسبب ما جاءهم به الرسول. وكانوا يقولون: النعمة التي تصيبنا هي من عند الله. والمصيبة من عند محمد. أي بسبب دينه وما أمر به. فقال تعالى: قل هذا وهذا من عند الله.

    لا من عند محمد. محمد لا يأتي لا بنعمة ولا بمصيبة ولهذا قال بعد هذا {فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا} قال: السدي وغيره: هو القرآن. فإن القرآن إذا هم فقهوا ما فيه: تبين لهم أنه إنما أمرهم بالخير، والعدل، والصدق، والتوحيد. لم يأمرهم بما يكون سببا للمصائب. فإنهم إذا فهموا ما في القرآن علموا: أنه لا يكون سببا للشر مطلقا. وهذا مما يبين أن ما أمر الله به: يعلم بالأمر به حسنه ونفعه، وأنه مصلحة للعباد. وليس كما يقول من يقول: قد يأمر الله العباد بما لا مصلحة لهم فيه إذا فعلوه.

    بل فيه مضرة لهم.
    فإنه لو كان كذلك لكان قد يصدقه المتطيرون بالرسل وأتباعهم. ومما يوضح ذلك: أنه لما قال {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} قال بعدها {وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا} فإنه قد شهد له بالرسالة بما أظهره على يديه من الآيات والمعجزات. وإذا شهد الله له كفى به شهيدا. ولم يضره جحد هؤلاء لرسالته بما ذكروه من الشبه التي هي عليهم لا لهم بما أرادوا أن يجعلوا سيئاتهم وعقوباتهم حجة على إبطال رسالته. والله تعالى قد شهد له: أنه أرسله للناس رسولا. فكان ختم الكلام بهذا إبطالا لقولهم: إن المصائب من عند الرسول. ولهذا قال، بعد هذا {من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا}.
    فصل:
    وكان فيما ذكره إبطال لقول الجهمية المجبرة ونحوهم، ممن يقول: إن الله قد يعذب العباد بلا ذنب. وأنه قد يأمر العباد بما لا ينفعهم، بل بما يضرهم. فإن فعلوا ما أمرهم به حصل لهم الضرر، وإن لم يفعلوه عاقبهم.
    يقولون هذا ومثله، ويزعمون أن هذا لأنه يفعل ما يشاء. والقرآن يرد على هؤلاء من وجوه كثيرة، كما يرد على المكذبين بالقدر. فالآية ترد على هؤلاء وهؤلاء، كما تقدم، مع احتجاج الفريقين بها. وهي حجة على الفريقين. فإن قال نفاة القدر: إنما قال في الحسنة " هي من الله " وفي السيئة " هي من نفسك " لأنه يأمر بهذا، وينهى عن هذا، باتفاق المسلمين. قالوا: ونحن نقول: المشيئة ملازمة للأمر.
    فما أمر به فقد شاءه وما لم يأمر به لم يشأه. فكانت مشيئته وأمره حاضة على الطاعة دون المعصية. فلهذا كانت هذه منه دون هذه. قيل: أما الآية: فقد تبين أن الذين قالوا " الحسنة من عند الله، والسيئة من عندك " أرادوا: من عندك يا محمد، أي بسبب دينك. فجعلوا رسالة الرسول هي سبب المصائب. وهذا غير مسألة القدر.

    وإذا كان قد أريد: أن الطاعة والمعصية - مما قد قيل - كان قوله {كل من عند الله} حجة عليكم كما تقدم. وقوله بعد هذا {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} لا ينافي ذلك. بل " الحسنة " أنعم الله بها وبثوابها و " السيئة " هي من نفس الإنسان ناشئة، وإن كانت بقضائه وقدره، كما قال تعالى {من شر ما خلق} فمن المخلوقات ما له شر، وإن كان بقضائه وقدره. وأنتم تقولون: الطاعة والمعصية هما من أحداث الإنسان، بدون أن يجعل الله هذا فاعلا وهذا فاعلا، وبدون أن يخص الله المؤمن بنعمة ورحمة أطاعه بها وهذا مخالف للقرآن.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #210
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,763

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد الخامس
    الحلقة( 208)

    من صــ 431 الى صـ 440



    فصل:
    فإن قيل: إذا كانت الطاعات والمعاصي مقدرة، والنعم والمصائب مقدرة. فلم فرق بين الحسنات، التي هي النعم، والسيئات، التي هي المصائب؟ فجعل هذه من الله، وهذه من نفس الإنسان؟. قيل: لفروق بينهما:

    " الفرق الأول ": أن نعم الله وإحسانه إلى عباده يقع ابتداء بلا سبب منهم أصلا. فهو ينعم بالعافية والرزق والنصر، وغير ذلك على من لم يعمل خيرا قط. وينشئ للجنة خلقا يسكنهم فضول الجنة. وقد خلقهم في الآخرة لم يعملوا خيرا. ويدخل أطفال المؤمنين ومجانينهم الجنة برحمته بلا عمل. وأما العقاب: فلا يعاقب أحدا إلا بعمله. " الفرق الثاني ": أن الذي يعمل الحسنات. إذا عملها، فنفس عمله الحسنات: هو من إحسان الله، وبفضله عليه بالهداية والإيمان، كما قال أهل الجنة {الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله}.

    وفي الحديث الصحيح {يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها. فمن وجد خيرا فليحمد الله. ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه}. فنفس خلق الله لهم أحياء، وجعله لهم السمع والأبصار والأفئدة: هو من نعمته ونفس إرسال الرسول إليهم، وتبليغه البلاغ المبين الذي اهتدوا به: هو من نعمته. وإلهامهم الإيمان، وهدايتهم إليه، وتخصيصهم بمزيد نعمة حصل لهم بها الإيمان دون الكافرين: هو من نعمته. كما قال تعالى {ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون} {فضلا من الله ونعمة}. فجميع ما يتقلب فيه العالم من خيري الدنيا والآخرة:
    هو نعمة محضة منه بلا سبب سابق يوجب لهم حقا. ولا حول ولا قوة لهم من أنفسهم إلا به. وهو خالق نفوسهم، وخالق أعمالها الصالحة، وخالق الجزاء. فقوله {ما أصابك من حسنة فمن الله} حق من كل وجه، ظاهرا وباطنا على مذهب أهل السنة. وأما " السيئة " فلا تكون إلا بذنب العبد. وذنبه من نفسه. وهو لم يقل: إني لم أقدر ذلك ولم أخلقه. بل ذكر للناس ما ينفعهم.
    فصل:
    فإذا تدبر العبد علم أن ما هو فيه من الحسنات من فضل الله، فشكر الله، فزاده الله من فضله عملا صالحا، ونعما يفيضها عليه.
    وإذا علم أن الشر لا يحصل له إلا من نفسه بذنوبه: استغفر وتاب. فزال عنه سبب الشر. فيكون العبد دائما شاكرا مستغفرا. فلا يزال الخير يتضاعف له، والشر يندفع عنه. كما {كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته الحمد لله فيشكر الله. ثم يقول نستعينه ونستغفره نستعينه على الطاعة. ونستغفره من المعصية. ثم يقول ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا} فيستعيذ به من الشر الذي في النفس، ومن عقوبة عمله. فليس الشر إلا من نفسه ومن عمل نفسه.

    فيستعيذ الله من شر النفس: أن يعمل بسبب سيئاته الخطايا. ثم إذا عمل استعاذ بالله من سيئات عمله، ومن عقوبات عمله. فاستعانه على الطاعة وأسبابها. واستعاذ به من المعصية وعقابها. فعلم العبد بأن ما أصابه من حسنة فمن الله، وما أصابه من سيئة فمن نفسه: يوجب له هذا وهذا. فهو سبحانه فرق بينهما هنا، بعد أن جمع بينهما في قوله {قل كل من عند الله}. فبين أن الحسنات والسيئات: النعم والمصائب، والطاعات والمعاصي، على قول من أدخلها في " من عند الله ". ثم بين الفرق الذي ينتفعون به. وهو أن هذا الخير: من نعمة الله، فاشكروه يزدكم. وهذا الشر: من ذنوبكم. فاستغفروه، يدفعه عنكم. قال الله تعالى {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} وقال تعالى {الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} {ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير} {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله}.

    والمذنب إذا استغفر ربه من ذنبه فقد تأسى بالسعداء من الأنبياء والمؤمنين، كآدم وغيره. وإذا أصر، واحتج بالقدر: فقد تأسى بالأشقياء، كإبليس ومن اتبعه من الغاوين. فكان من ذكره: أن السيئة من نفس الإنسان بذنوبه، بعد أن ذكر: أن الجميع من عند الله، تنبيها على الاستغفار والتوبة، والاستعاذة بالله من شر نفسه وسيئات عمله. والدعاء بذلك في الصباح والمساء، وعند المنام، كما {أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك أبا بكر الصديق، أفضل الأمة، حيث علمه أن يقول اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءا، أو أجره إلى مسلم}. فيستغفر مما مضى. ويستعيذ مما يستقبل. فيكون من حزب السعداء. وإذا علم أن الحسنة من الله - الجزاء والعمل - سأله أن يعينه على فعل الحسنات. بقوله {إياك نعبد وإياك نستعين} وبقوله {اهدنا الصراط المستقيم} وقوله {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا} ونحو ذلك. وأما إذا أخبر أن الجميع من عند الله فقط، ولم يذكر الفرق فإنه يحصل من هذا التسوية.
    فأعرض العاصي والمذنب عن ذم نفسه وعن التوبة من ذنوبها، والاستعاذة من شرها. بل وقام في نفسه: أن يحتج على الله بالقدر. وتلك حجة داحضة، لا تنفعه. بل تزيده عذابا وشقاء، كما زادت إبليس لما قال {فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم} وقال {رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين}. وكالذين يقولون يوم القيامة {لو أن الله هداني لكنت من المتقين} وكالذين قالوا {لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء}. فمن احتج بالقدر على ما فعله من ذنوبه، وأعرض عما أمر الله به، من التوبة والاستغفار، والاستعانة بالله، والاستعاذة به، واستهدائه: كان من أخسر الناس في الدنيا والآخرة. فهذا من فوائد ذكر الفرق بين الجمع.
    فصل:
    الفرق الثالث: أن الحسنة يضاعفها الله وينميها، ويثيب على الهم بها. والسيئة لا يضاعفها، ولا يؤاخذ على الهم بها فيعطي صاحب الحسنة: من الحسنات فوق ما عمل. وصاحب السيئة: لا يجزيه إلا بقدر عمله. قال تعالى {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون}. الفرق الرابع: أن الحسنة مضافة إليه، لأنه أحسن بها من كل وجه، كما تقدم. فما من وجه من وجوهها: إلا وهو يقتضي الإضافة إليه.
    وأما السيئة: فهو إنما يخلقها بحكمة. وهي باعتبار تلك الحكمة من إحسانه. فإن الرب لا يفعل سيئة قط. بل فعله كله حسن وحسنات. وفعله كله خير. ولهذا {كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعاء الاستفتاح والخير بيديك. والشر ليس إليك} فإنه لا يخلق شرا محضا. بل كل ما يخلقه: ففيه حكمة، هو باعتبارها خير. ولكن قد يكون فيه شر لبعض الناس.

    وهو شر جزئي إضافي. فأما شر كلي، أو شر مطلق: فالرب منزه عنه. وهذا هو الشر الذي ليس إليه. وأما الشر الجزئي الإضافي: فهو خير باعتبار حكمته. ولهذا لا يضاف الشر إليه مفردا قط. بل إما أن يدخل في عموم المخلوقات، كقوله {وخلق كل شيء}. وإما أن يضاف إلى السبب كقوله {من شر ما خلق}. وإما أن يحذف فاعله، كقول الجن {وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا}. وهذا الموضع ضل فيه فريقان من الناس الخائضين في القدر بالباطل:

    فرقة كذبت بهذا، وقالت: إنه لا يخلق أفعال العباد، ولا يشاء كل ما يكون. لأن الذنوب قبيحة، وهو لا يفعل القبيح. وإرادتها قبيحة، وهو لا يريد القبيح. وفرقة: لما رأت أنه خالق هذا كله ولم تؤمن أنه خلق هذا لحكمة بل قالت: إذا كان يخلق هذا: فيجوز أن يخلق كل شر، ولا يخلق شيئا لحكمة. وما ثم فعل تنزه عنه. بل كل ما كان ممكنا جاز أن يفعله. وجوزوا: أن يأمر بكل كفر ومعصية. وينهى عن كل إيمان وطاعة، وصدق وعدل.
    وأن يعذب الأنبياء، وينعم الفراعنة والمشركين وغير ذلك. ولم يفرقوا بين مفعول ومفعول. وهذا منكر من القول وزور، كالأول. قال تعالى {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون} وقال تعالى {أفنجعل المسلمين كالمجرمين} {ما لكم كيف تحكمون} وقال تعالى {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار} ونحو ذلك مما يوجب أنه يفرق بين الحسنات والسيئات، وبين المحسن والمسيء. وأن من جوز عليه التسوية بينهما: فقد أتى بقول منكر، وزور ينكر عليه. وليس إذا خلق ما يتأذى به بعض الحيوان: لا يكون فيه حكمة. بل فيه من الحكمة والرحمة ما يخفى على بعضهم مما لا يقدر قدره إلا الله. وليس إذا وقع في المخلوقات ما هو شر جزئي بالإضافة: يكون شرا كليا عاما. بل الأمور العامة الكلية: لا تكون إلا خيرا ومصلحة للعباد. كالمطر العام وكإرسال رسول عام. وهذا مما يقتضي: أنه لا يجوز أن يؤيد الله كذابا عليه بالمعجزات التي أيد بها أنبياءه الصادقين. فإن هذا شر عام للناس، يضلهم ويفسد عليهم دينهم ودنياهم وآخرتهم. وليس هذا كالملك الظالم، والعدو. فإن الملك الظالم: لا بد أن يدفع الله به من الشر أكثر من ظلمه.

    وقد قيل: ستون سنة بإمام ظالم: خير من ليلة واحدة بلا إمام. وإذا قدر كثرة ظلمه: فذاك ضرر في الدين، كالمصائب تكون كفارة لذنوبهم ويثابون عليها، ويرجعون فيها إلى الله، ويستغفرونه ويتوبون إليه. وكذلك ما يسلط عليهم من العدو. وأما من يكذب على الله، ويقول - أي يدعي - أنه نبي: فلو أيده الله تأييد الصادق: للزم أن يسوي بينه وبين الصادق. فيستوي الهدى والضلال، والخير والشر، وطريق الجنة وطريق النار. ويرتفع التمييز بين هذا وهذا.
    وهذا مما يوجب الفساد العام للناس في دينهم ودنياهم وآخرتهم. ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال من يقاتل على الدين الفاسد من أهل البدع، كالخوارج. وأمر بالصبر على جور الأئمة. ونهى عن قتالهم والخروج عليهم. ولهذا قد يمكن الله كثيرا من الملوك الظالمين مدة. وأما المتنبئون الكذابون: فلا يطيل تمكينهم. بل لا بد أن يهلكهم. لأن فسادهم عام في الدين والدنيا والآخرة.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #211
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,763

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد الخامس
    الحلقة( 209)

    من صــ 441 الى صـ 450





    قال تعالى {ولو تقول علينا بعض الأقاويل} {لأخذنا منه باليمين} {ثم لقطعنا منه الوتين} وقال تعالى {أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك} فأخبر: أنه - بتقدير الافتراء - لا بد أن يعاقب من افترى عليه.
    فصل:
    وهذا الموضع مما اضطرب فيه الناس، فاستدلت القدرية النفاة والمجبرة على أنه إذا جاز أن يضل شخصا: جاز أن يضل كل الناس. وإذا جاز أن يعذب حيوانا بلا ذنب ولا عوض: جاز أن يعذب كل حي بلا ذنب ولا عوض. وإذا جاز عليه أن لا يعين واحدا ممن أمره على طاعة أمره: جاز أن لا يعين كل الخلق. فلم تفرق الطائفتان بين الشر الخاص والعام. وبين الشر الإضافي، والشر المطلق. ولم يجعلوا في الشر الإضافي حكمة يصير بها من قسم الخير. ثم قال النفاة: وقد علم أنه منزه عن تلك الأفعال. فإنا لو جوزنا عليه هذا لجوزنا عليه تأييد الكذاب بالمعجزات، وتعذيب الأنبياء وإكرام الكفار، وغير ذلك، مما يستعظم العقلاء إضافته إلى الله تعالى.
    فقالت المثبتة من الجهمية المجبرة: بل كل الأفعال جائزة عليه، كما جاز ذلك الخاص. وإنما يعلم أنه لا يفعل ما لا يفعل، أو يفعل ما يفعل: بالخبر، خبر الأنبياء عنه. وإلا فمهما قدر: جاز أن يفعله، وجاز أن لا يفعله. ليس في نفس الأمر سبب ولا حكمة، ولا صفة تقتضي التخصيص ببعض الأفعال دون بعض. بل ليس إلا مشيئة، نسبتها إلى جميع الحوادث سواء. ترجح أحد المتماثلين بلا مرجح. فقيل لهم: فيجوز تأييد الكذاب بالمعجز. فلا يبقى المعجز دليلا على صدق الأنبياء. فلا يبقى خبر نبي يعلم به الفرق. فيلزم - مع الكفر بالأنبياء - أن لا يعلم الفرق، لا بسمع ولا بعقل.
    فاحتالوا للفرق بين المعجزات وغيرها. بأن تجويز إتيان الكذاب بالمعجزات يستلزم تعجيز الباري تعالى عما به يفرق بين الصادق والكاذب. أو لأن دلالتها على الصدق معلوم بالاضطرار. كما قد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع. وبين خطأ الطائفتين. وأن هؤلاء الذين اتبعوا جهما في الجبر - ونفوا حكمة الله ورحمته، والأسباب التي بها يفعل، وما خلقه من القوى وغيرها - هم مبتدعة مخالفون للكتاب والسنة وإجماع السلف، مع مخالفتهم لصريح المعقول. كما أن القدرية النفاة: مخالفون للكتاب والسنة وإجماع السلف، مع مخالفتهم لصريح المعقول.
    فصل:

    والمقصود هنا: الكلام على قوله {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} وأن هذا يقتضي، أن العبد لا يزال شاكرا مستغفرا. وقد ذكر: أن الشر لا يضاف إلى الله، إلا على أحد الوجوه الثلاثة. وقد تضمنت الفاتحة للأقسام الثلاثة هو سبحانه الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم {أنه أرحم بعباده من الوالدة بولدها} وقد سبقت وغلبت رحمته غضبه، وهو الغفور الودود، الحليم الرحيم.

    فإرادته: أصل كل خير ونعمة، وكل خير ونعمة فمنه {وما بكم من نعمة فمن الله}. وقد قال سبحانه {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم} ثم قال {وأن عذابي هو العذاب الأليم} وقال تعالى {اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم} فالمغفرة والرحمة من صفاته المذكورة بأسمائه. فهي من موجب نفسه المقدسة، ومقتضاها ولوازمها. وأما العذاب: فمن مخلوقاته، الذي خلقه بحكمة، هو باعتبارها حكمة ورحمة. فالإنسان لا يأتيه الخير إلا من ربه وإحسانه وجوده. ولا يأتيه الشر إلا من نفسه. فما أصابه من حسنة: فمن الله. وما أصابه من سيئة: فمن نفسه. وقوله {وما أصابك} إما أن تكون كاف الخطاب له صلى الله عليه وسلم - كما قال ابن عباس وغيره - وهو الأظهر. لقوله بعد ذلك {وأرسلناك للناس رسولا}.
    وإما أن تكون لكل واحد من الآدميين، كقوله {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم}. لكن هذا ضعيف. فإنه لم يتقدم هنا ذكر الإنسان ولا مكانه. وإنما تقدم ذكر طائفة قالوا ما قالوه. فلو أريد ذكرهم: لقيل ما أصابهم من حسنة فمن الله وما أصابهم من سيئة. لكن خوطب الرسول بهذا، لأنه سيد ولد آدم. وإذا كان هذا حكمه: كان هذا حكم غيره بطريق الأولى والأحرى. كما في مثل قوله {اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين} ، وقوله تعالى {لئن أشركت ليحبطن عملك} وقوله {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك}. ثم هذا الخطاب نوعان: نوع يختص لفظه به لكن يتناول غيره بطريق الأولى، كقوله {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك} ثم قال {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم}.
    ونوع: قد يكون خطابه خطابا به لجميع الناس، كما يقول كثير من المفسرين: الخطاب له والمراد غيره. وليس المعنى: أنه لم يخاطب بذلك. بل هو المقدم. فالخطاب له خطاب لجميع الجنس البشري. وإن كان هو لا يقع منه ما نهي عنه. ولا يترك ما أمر به. بل هذا يقع من غيره. كما يقول ولي الأمر للأمير: سافر غدا إلى المكان الفلاني. أي أنت ومن معك من العسكر. وكما ينهى أعز من عنده عن شيء. فيكون نهيا لمن دونه. وهذا معروف من الخطاب. فقوله {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} الخطاب له صلى الله عليه وسلم.

    وجميع الخلق داخلون في هذا الخطاب بالعموم، وبطريق الأولى. بخلاف قوله {وأرسلناك للناس رسولا} فإن هذا له خاصة. ولكن من يبلغ عنه يدخل في معنى الخطاب. كما قال صلى الله عليه وسلم {بلغوا عني ولو آية} وقال {نضر الله امرأ سمع منا حديثا فبلغه إلى من لم يسمعه} وقال {ليبلغ الشاهد الغائب} وقال {إن العلماء ورثة الأنبياء} وقد قال تعالى في القرآن {وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ}. والمقصود هنا: أن " الحسنة " مضافة إليه سبحانه من كل وجه. و " السيئة " مضافة إليه لأنه خلقها. كما خلق " الحسنة " فلهذا قال {كل من عند الله}.

    ثم إنه إنما خلقها لحكمة. ولا تضاف إليه من جهة أنها سيئة، بل تضاف إلى النفس التي تفعل الشر بها لا لحكمة. فتستحق أن يضاف الشر والسيئة إليها. فإنها لا تقصد بما تفعله من الذنوب خيرا يكون فعله لأجله أرجح. بل ما كان هكذا فهو من باب الحسنات. ولهذا كان فعل الله حسنا. لا يفعل قبيحا ولا سيئا قط. وقد دخل في هذا سيئات الجزاء والعمل. لأن المراد بقوله {ما أصابك من حسنة} و {من سيئة} النعم والمصائب، كما تقدم. لكن إذا كانت المصيبة من نفسه - لأنه أذنب - فالذنب من نفسه بطريق الأولى. فالسيئات من نفسه بلا ريب. وإنما جعلها منه مع الحسنة بقوله:
    {كل من عند الله} كما تقدم. لأنها لا تضاف إلى الله مفردة. بل في العموم، كقوله {كل من عند الله}. وكذلك الأسماء التي فيها ذكر الشر، لا تذكر إلا مقرونة، كقولنا " الضار النافع، المعطي المانع، المعز المذل " أو مقيدة، كقوله {إنا من المجرمين منتقمون}. وكل ما خلقه - مما فيه شر جزئي إضافي - ففيه من الخير العام والحكمة والرحمة أضعاف ذلك. مثل إرسال موسى إلى فرعون. فإنه حصل به التكذيب والهلاك لفرعون وقومه. وذلك شر بالإضافة إليهم.
    لكن حصل به - من النفع العام للخلق إلى يوم القيامة، والاعتبار بقصة فرعون - ما هو خير عام. فانتفع بذلك أضعاف أضعاف من استضر به. كما قال تعالى {فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين} {فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين} وقال تعالى بعد ذكر قصته {إن في ذلك لعبرة لمن يخشى}. وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم شقي برسالته طائفة من مشركي العرب وكفار أهل الكتاب، وهم الذين كذبوه، وأهلكهم الله تعالى بسببه. ولكن سعد بها أضعاف أضعاف هؤلاء. ولذلك من شقي به من أهل الكتاب كانوا مبدلين محرفين قبل أن يبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم. فأهلك الله بالجهاد طائفة. واهتدى به من أهل الكتاب أضعاف أضعاف أولئك. والذين أذلهم الله من أهل الكتاب بالقهر والصغار، أو من المشركين الذين أحدث فيهم الصغار، فهؤلاء كان قهرهم رحمة لهم.

    لئلا يعظم كفرهم، ويكثر شرهم. ثم بعدهم حصل من الهدى والرحمة لغيرهم ما لا يحصيهم إلا الله. وهم دائما يهتدي منهم ناس من بعد ناس ببركة ظهور دينه بالحجة واليد. فالمصلحة بإرساله وإعزازه، وإظهار دينه، فيها من الرحمة التي حصلت بذلك ما لا نسبة لها إلى ما حصل بذلك لبعض الناس من شر جزئي إضافي، لما في ذلك من الخير والحكمة أيضا. إذ ليس فيما خلقه الله سبحانه شر محض أصلا، بل هو شر بالإضافة.

    فصل:
    الفرق الخامس: أن ما يحصل للإنسان من الحسنات التي يعملها كلها أمور وجودية. أنعم الله بها عليه، وحصلت بمشيئة الله ورحمته وحكمته وقدرته وخلقه، ليس في الحسنات أمر عدمي غير مضاف إلى الله. بل كلها أمر وجودي. وكل موجود وحادث فالله هو الذي يحدثه. وذلك: أن الحسنات إما فعل مأمور به، أو ترك منهي عنه. والترك: أمر وجودي. فترك الإنسان لما نهي عنه، ومعرفته بأنه ذنب قبيح، وبأنه سبب للعذاب، وبغضه وكراهته له، ومنع نفسه منه إذا هويته، واشتهته وطلبته. كل هذه أمور وجودية. كما أن معرفته بأن الحسنات - كالعدل والصدق - حسنة، وفعله لها أمور وجودية. ولهذا إنما يثاب الإنسان على فعل الحسنات إذا فعلها محبا لها بنية وقصد فعلها ابتغاء وجه ربه.
    وطاعة لله ولرسوله، ويثاب على ترك السيئات إذا تركها بالكراهة لها، والامتناع منها. قال تعالى {ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون} وقال تعالى {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى} {فإن الجنة هي المأوى} وقال تعالى {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}. وفي الصحيحين عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال {ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله. ومن كان يكره أن يرجع في الكفر - بعد إذ أنقذه الله منه - كما يكره أن يلقى في النار}. وفي السنن عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم {أوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله}. وفيها عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم {من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان}.

    وفي الصحيح عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {من رأى منكم منكرا فليغيره بيده. فإن لم يستطع فبلسانه. فإن لم يستطع فبقلبه. وذلك أضعف الإيمان}. وفي الصحيح من حديث ابن مسعود رضي الله عنه - لما ذكر الخلوف - قال {من جاهدهم بيده فهو مؤمن. ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن. ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن. ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل} وقد قال تعالى {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء}.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #212
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,763

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد الخامس
    الحلقة( 210)

    من صــ 451 الى صـ 460



    وقال على لسان الخليل {إنني براء مما تعبدون} {إلا الذي فطرني فإنه سيهدين} وقال {أفرأيتم ما كنتم تعبدون} {أنتم وآباؤكم الأقدمون} {فإنهم عدو لي إلا رب العالمين} وقال {فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون} {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين} فهذا البغض والعداوة والبراءة مما يعبد من دون الله ومن عابديه: هي أمور موجودة في القلب، وعلى اللسان والجوارح، كما أن حب الله وموالاته وموالاة أوليائه: أمور موجودة في القلب، وعلى اللسان والجوارح. وهي تحقيق قول " لا إله إلا الله " وهو إثبات تأليه القلب لله حبا خالصا وذلا صادقا. ومنع تأليهه لغير الله، وبغض ذلك وكراهته. فلا يعبد إلا الله.
    ويحب أن يعبده، ويبغض عبادة غيره ويحب التوكل عليه وخشيته ودعاءه ويبغض التوكل على غيره وخشيته ودعاءه. فهذه كلها أمور موجودة في القلب. وهي الحسنات التي يثيب الله عليها. وأما مجرد عدم السيئات، من غير أن يعرف أنها سيئة، ولا يكرهها، بل لا يفعلها لكونها لم تخطر بباله، أو تخطر كما تخطر الجمادات التي لا يحبها ولا يبغضها - فهذا لا يثاب على عدم ما يفعله من السيئات. ولكن لا يعاقب أيضا على فعلها. فكأنه لم يفعلها. فهذا تكون السيئات في حقه بمنزلتها في حق الطفل والمجنون والبهيمة. لا ثواب ولا عقاب. ولكن إذا قامت عليه الحجة بعلمه تحريمها. فإن لم يعتقد تحريمها ويكرها وإلا عوقب على ترك الإيمان بتحريمها.

    فصل:
    وقد تنازع الناس في الترك: هل هو أمر وجودي أو عدمي؟. والأكثرون على أنه وجودي. وقالت طائفة - كأبي هاشم بن الجبائي - إنه عدمي وأن المأمور يعاقب على مجرد عدم الفعل، لا على ترك يقوم بنفسه. ويسمون " المذمية " لأنهم رتبوا الذم على العدم المحض. والأكثرون يقولون: الترك أمر وجودي. فلا يثاب من ترك المحظور إلا على ترك يقوم بنفسه. وتارك المأمور: إنما يعاقب على ترك يقوم بنفسه. وهو أن يأمره الرسول صلى الله عليه وسلم بالفعل فيمتنع. فهذا الامتناع أمر وجودي. ولذلك فهو يشتغل عما أمر به بفعل ضده، كما يشتغل عن عبادة الله وحده بعبادة غيره. فيعاقب على ذلك. ولهذا كان كل من لم يعبد الله وحده، فلا بد أن يكون عابدا لغيره. يعبد غيره فيكون مشركا. وليس في بني آدم قسم ثالث. بل إما موحد، أو مشرك، أو من خلط هذا بهذا كالمبدلين من أهل الملل: النصارى ومن أشبههم من الضلال، المنتسبين إلى الإسلام.
    قال الله تعالى {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} {إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون} {إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون} وقد قال تعالى {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} لما قال إبليس {لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين} {إلا عبادك منهم المخلصين} قال تعالى {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين}. فإبليس لا يغوي المخلصين. ولا سلطان له عليهم. إنما سلطانه على الغاوين. وهم الذين يتولونه، وهم الذين به مشركون.
    وقوله {الذين يتولونه والذين هم به مشركون} صفتان لموصوف واحد. فكل من تولاه فهو به مشرك، وكل من أشرك به فقد تولاه. قال تعالى {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين} {وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم}. وكل من عبد غير الله فإنما يعبد الشيطان، وإن كان يظن أنه يعبد الملائكة والأنبياء.
    وقال تعالى {ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون} {قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون}. ولهذا تتمثل الشياطين لمن يعبد الملائكة والأنبياء والصالحين ويخاطبونهم فيظنون أن الذي خاطبهم ملك أو نبي، أو ولي، وإنما هو شيطان، جعل نفسه ملكا من الملائكة، كما يصيب عباد الكواكب وأصحاب العزائم والطلسمات. يسمون أسماء، يقولون: هي أسماء الملائكة مثل منططرون وغيره، وإنما هي أسماء الجن. وكذلك الذين يدعون المخلوقين من الأنبياء والأولياء والملائكة قد يتمثل لأحدهم من يخاطبه، فيظنه النبي، أو الصالح الذي دعاه.

    وإنما هو شيطان تصور في صورته، أو قال: أنا هو، لمن لم يعرف صورة ذلك المدعو. وهذا كثير يجري لمن يدعو المخلوقين، من النصارى ومن المنتسبين إلى الإسلام يدعونهم عند قبورهم، أو مغيبهم. ويستغيثون بهم. فيأتيهم من يقول: إنه ذلك المستغاث به في صورة آدمي إما راكبا، وإما غير راكب. فيعتقد المستغيث: أنه ذلك النبي، أو الصالح، أو أنه سره، أو روحانيته، أو رقيقته أو المعنى تشكل، أو يقول: إنه ملك جاء على صورته.
    وإنما هو شيطان يغويه، لكونه أشرك بالله ودعا غيره: الميت فمن دونه. فصار للشيطان عليه سلطان بذلك الشرك.

    فظن أنه يدعو النبي، أو الصالح، أو الملك. وأنه هو الذي شفع له، أو هو الذي أجاب دعوته. وإنما هو الشيطان، ليزيده غلوا في كفره وضلاله. فكل من لم يعبد الله مخلصا له الدين، فلا بد أن يكون مشركا عابدا لغير الله. وهو في الحقيقة: عابد للشيطان. فكل واحد من بني آدم إما عابد للرحمن، وإما عابد للشيطان. قال تعالى {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين} {وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون} {حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين} {ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون} وقال تعالى {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد}. فبنو آدم منحصرون في الأصناف الستة. وبسط هذا له موضع آخر.
    فصل:
    والمقصود هنا: أن الثواب والعقاب إنما يكون على عمل وجودي بفعل الحسنات، كعبادة الله وحده، وترك السيئات، كترك الشرك أمر وجودي، وفعل السيئات، مثل ترك التوحيد، وعبادة غير الله أمر وجودي. قال تعالى {من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون} وقال تعالى {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها} وقال تعالى {من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها} وقال تعالى {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون} {والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة} - إلى قوله - {أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} وقال تعالى {ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون}. فأما عدم الحسنات والسيئات: فجزاؤه عدم الثواب والعقاب. وإذا فرض رجل آمن بالرسول مجملا، وبقي مدة لا يفعل كثيرا من المحرمات، ولا سمع أنها محرمة، فلم يعتقد تحريمها.

    مثل من آمن ولم يعلم أن الله حرم الميتة والدم ولحم الخنزير، ولا علم أنه حرم نكاح الأقارب سوى أربعة أصناف، ولا حرم بالمصاهرة أربعة أصناف - حرم على كل من الزوجين أصول الآخر وفروعه - فإذا آمن ولم يفعل هذه المحرمات، ولا اعتقد تحريمها، لأنه لم يسمع ذلك: فهذا لا يثاب ولا يعاقب. ولكن إذا علم التحريم فاعتقده: أثيب على اعتقاده. وإذا ترك ذلك - مع دعاء النفس إليه - أثيب ثوابا آخر، كالذي تدعوه نفسه إلى الشهوات فينهاها كالصائم الذي تشتهي نفسه الأكل والجماع فينهاها، والذي تشتهي نفسه شرب الخمر والفواحش فينهاها.

    فهذا يثاب ثوابا آخر، بحسب نهيه لنفسه، وصبره على المحرمات، واشتغاله بالطاعات التي هي ضدها. فإذا فعل تلك الطاعات كانت مانعة له عن المحرمات.
    وإذا تبين هذا: فالحسنات التي يثاب عليها كلها وجودية، نعمة من الله تعالى وما أحبته النفس من ذلك، وكرهته من السيئات: فهو الذي حبب الإيمان إلى المؤمنين، وزينه في قلوبهم. وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان.
    فصل:
    وأما السيئات: فمنشؤها الجهل والظلم. فإن أحدا لا يفعل سيئة قبيحة إلا لعدم علمه بكونها سيئة قبيحة، أو لهواه وميل نفسه إليها. ولا يترك حسنة واجبة إلا لعدم علمه بوجوبها، أو لبغض نفسه لها. وفي الحقيقة: فالسيئات كلها ترجع للجهل. وإلا فلو كان عالما علما نافعا بأن فعل هذا يضره ضررا راجحا لم يفعله. فإن هذا خاصية العاقل. ولهذا إذا كان من الحسنات ما يعلم أنه يضره ضررا راجحا، كالسقوط من مكان عال، أو في نهر يغرقه، أو المرور بجنب حائط مائل، أو دخول نار متأججة، أو رمي ماله في البحر ونحو ذلك،لم يفعله، لعلمه بأن هذا ضرر لا منفعة فيه. ومن لم يعلم أن هذا يضره - كالصبي، والمجنون، والساهي والغافل - فقد يفعل ذلك. ومن أقدم على ما يضره - مع علمه بما فيه من الضرر عليه - فلظنه أن منفعته راجحة. فإما أن يجزم بضرر مرجوح، أو يظن أن الخير راجح.

    فلا بد من رجحان الخير، إما في الظن وإما في المظنون، كالذي يركب البحر ويسافر الأسفار البعيدة للربح. فإنه لو جزم بأنه يغرق أو يخسر لما سافر، لكنه يترجح عنده السلامة والربح، وإن كان مخطئا في هذا الظن. وكذلك الذنوب: إذا جزم السارق بأنه يؤخذ ويقطع، لم يسرق. وكذلك الزاني: إذا جزم بأنه يرجم، لم يزن. والشارب يختلف حاله. فقد يقدم على جلد أربعين وثمانين، ويديم الشرب مع ذلك. ولهذا كان الصحيح: أن عقوبة الشارب غير محدودة، بل يجوز أن تنتهي إلى القتل، إذا لم ينته إلا بذلك. كما جاءت بذلك الأحاديث. كما هو مذكور في غير هذا الموضع. وكذلك العقوبات، متى جزم طالب الذنب بأنه يحصل له به الضرر الراجح لم يفعله. بل إما ألا يكون جازما بتحريمه، أو يكون غير جازم بعقوبته. بل يرجو العفو بحسنات، أو توبة، أو بعفو الله، أو يغفل عن هذا كله. ولا يستحضر تحريما، ولا وعيدا فيبقى غافلا. غير مستحضر للتحريم. والغفلة من أضداد العلم.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #213
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,763

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد الخامس
    الحلقة( 211)

    من صــ 461 الى صـ 470





    فَصْلٌ:
    فَالْغَفْلَةُ وَالشَّهْوَةُ أَصْلُ الشَّرِّ. قَالَ تَعَالَى {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} وَالْهَوَى وَحْدَهُ لَا يَسْتَقِلُّ بِفِعْلِ السَّيِّئَاتِ إلَّا مَعَ الْجَهْلِ. وَإِلَّا فَصَاحِبُ الْهَوَى، إذَا عَلِمَ قَطْعًا أَنَّ ذَلِك يَضُرُّهُ ضَرَرًا رَاجِحًا: انْصَرَفَتْ نَفْسُهُ عَنْهُ بِالطَّبْعِ. فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ فِي النَّفْسِ حُبًّا لِمَا يَنْفَعُهَا، وَبُغْضًا لِمَا يَضُرُّهَا. فَلَا تَفْعَلُ مَا تَجْزِمُ بِأَنَّهُ يَضُرُّهَا ضَرَرًا رَاجِحًا. بَلْ مَتَى فَعَلَتْهُ كَانَ لِضَعْفِ الْعَقْلِ. وَلِهَذَا يُوصَفُ هَذَا بِأَنَّهُ عَاقِلٌ، وَذُو نُهًى، وَذُو حِجًا. وَلِهَذَا كَانَ الْبَلَاءُ الْعَظِيمُ مِنْ الشَّيْطَانِ. لَا مِنْ مُجَرَّدِ النَّفْسِ. فَإِنَّ الشيطان يزين لها السيئات. ويأمرها بها، ويذكر لها ما فيها من المحاسن. التي هي منافع لا مضار. كما فعل إبليس بآدم وحواء. فقال {يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى} {فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما} {وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين}.
    ولهذا قال تعالى {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين} {وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون} وقال تعالى {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا} وقال تعالى {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون}. وقوله {زينا لكل أمة عملهم} هو بتوسيط تزيين الملائكة، والأنبياء، والمؤمنين للخير. وتزيين شياطين الجن والإنس للشر. قال تعالى {وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم} فأصل ما يوقع الناس في السيئات: الجهل، وعدم العلم بكونها تضرهم ضررا راجحا، أو ظن أنها تنفعهم نفعا راجحا. ولهذا قال الصحابة رضي الله عنهم " كل من عصى الله فهو جاهل " وفسروا بذلك قوله تعالى {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب} كقوله {وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم} ولهذا يسمى حال فعل السيئات: الجاهلية. فإنه يصاحبها حال من حال جاهلية.
    قال أبو العالية: سألت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية؟ {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب} فقالوا: كل من عصى الله فهو جاهل. ومن تاب قبيل الموت: فقد تاب من قريب. وعن قتادة قال " أجمع أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل من عصى ربه فهو في جهالة، عمدا كان أو لم يكن. وكل من عصى الله فهو جاهل " وكذلك قال التابعون ومن بعدهم. قال مجاهد: من عمل ذنبا - من شيخ، أو شاب - فهو بجهالة، وقال: من عصى ربه فهو جاهل. حتى ينزع عن معصيته. وقال أيضا: هو إعطاء الجهالة العمد. وقال مجاهد أيضا: من عمل سوءا خطأ، أو إثما عمدا: فهو جاهل. حتى ينزع منه.

    رواهن ابن أبي حاتم. ثم قال: وروي عن قتادة، وعمرو بن مرة، والثوري، ونحو ذلك " خطأ، أو عمدا ". وروي عن مجاهد والضحاك قالا: ليس من جهالته أن لا يعلم حلالا ولا حراما. ولكن من جهالته: حين دخل فيه. وقال عكرمة: الدنيا كلها جهالة وعن الحسن البصري: أنه سئل عنها؟ فقال: هم قوم لم يعلموا ما لهم مما عليهم. قيل له: أرأيت لو كانوا قد علموا؟ قال: فليخرجوا منها. فإنها جهالة. قلت: ومما يبين ذلك: قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} وكل من خشيه، وأطاعه، وترك معصيته: فهو عالم. كما قال تعالى {أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}. وقال رجل للشعبي: أيها العالم. فقال: إنما العالم من يخشى الله. قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} يقتضي أن كل من خشي الله فهو عالم. فإنه لا يخشاه إلا عالم.

    ويقتضي أيضا: أن العالم من يخشى الله. كما قال السلف. قال ابن مسعود " كفى بخشية الله علما، وكفى بالاغترار جهلا ". ومثل هذا الحصر يكون من الطرفين. حصر الأول في الثاني. وهو مطرد، وحصر الثاني في الأول نحو قوله {إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب} وقوله {إنما أنت منذر من يخشاها} وقوله {إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون} {تتجافى جنوبهم عن المضاجع}. وذلك: أنه أثبت الخشية للعلماء، ونفاها عن غيرهم. وهذا كالاستثناء. فإنه من النفي: إثبات، عند جمهور العلماء. كقولنا " لا إله إلا الله " قوله تعالى {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} وقوله {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} وقوله {ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا}. وقد ذهب طائفة إلى أن المستثنى مسكوت عنه. لم يثبت له ما ذكر. ولم ينف عنه. وهؤلاء يقولون ذلك في صيغة الحصر بطريق الأولى. فيقولون: نفى الخشية عن غير العلماء، ولم يثبتها لهم.
    والصواب: قول الجمهور. أن هذا كقوله {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق} فإنه ينفي التحريم عن غير هذه الأصناف ويثبتها لها.

    لكن أثبتها للجنس. أو لكل واحد من العلماء؟ كما يقال: إنما يحج المسلمون. ولا يحج إلا مسلم. وذلك أن المستثنى هل هو مقتض أو شرط؟ . ففي هذه الآية وأمثالها: هو مقتض. فهو عام. فإن العلم بما أنذرت به الرسل يوجب الخوف. فإذا كان العلم يوجب الخشية الحاملة على فعل الحسنات. وترك السيئات. وكل عاص فهو جاهل. ليس بتام العلم. يبين ما ذكرنا من أن أصل السيئات الجهل، وعدم العلم. وإذا كان كذلك. فعدم العلم ليس شيئا موجودا. بل هو مثل عدم القدرة، وعدم السمع والبصر، وسائر الأعدام.

    والعدم: لا فاعل له. وليس هو شيئا. وإنما الشيء الموجود. والله تعالى خالق كل شيء. فلا يجوز أن يضاف العدم المحض إلى الله. لكن قد يقترن به ما هو موجود. فإذا لم يكن عالما بالله، لا يدعوه إلى الحسنات، وترك السيئات. والنفس بطبعها متحولة. فإنها حية. والإرادة والحركة الإرادية من لوازم الحياة. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح {أصدق الأسماء: حارث وهمام} فكل آدمي حارث وهمام. أي عامل كاسب، وهو همام. أي يهم ويريد. فهو متحرك بالإرادة. وقد جاء في الحديث {مثل القلب: مثل ريشة ملقاة بأرض فلاة وللقلب أشد تقلبا من القدر إذا استجمعت غليانا}. فلما كانت الإرادة والعمل من لوازم ذاتها. فإذا هداها الله: علمها ما ينفعها وما يضرها. فأرادت ما ينفعها، وتركت ما يضرها.
    فصل:
    والله سبحانه قد تفضل على بني آدم بأمرين، هما أصل السعادة:
    أحدهما: أن كل مولود يولد على الفطرة كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال {كل مولود يولد على الفطرة. فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء. هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم {فطرة الله التي فطر الناس عليها} قال تعالى {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم}.

    وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {يقول الله تعالى: خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين. وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا}. فالنفس بفطرتها إذا تركت كانت مقرة لله بالإلهية محبة له تعبده لا تشرك به شيئا. ولكن يفسدها ما يزين لها شياطين الإنس والجن بما يوحي بعضهم إلى بعض من الباطل. قال تعالى {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين} {أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون}.

    وتفسير هذه الآية مبسوط في غير هذا الموضع. الثاني: أن الله تعالى قد هدى الناس هداية عامة بما جعل فيهم بالفطرة من المعرفة وأسباب العلم وبما أنزل إليهم من الكتب وأرسل إليهم من الرسل. قال تعالى {اقرأ باسم ربك الذي خلق} {خلق الإنسان من علق} {اقرأ وربك الأكرم} {الذي علم بالقلم} {علم الإنسان ما لم يعلم} وقال تعالى {الرحمن} {علم القرآن} {خلق الإنسان} {علمه البيان} وقال تعالى {سبح اسم ربك الأعلى} {الذي خلق فسوى} {والذي قدر فهدى} وقال تعالى {وهديناه النجدين}. ففي كل أحد ما يقتضي معرفته بالحق ومحبته له.
    وقد هداه ربه إلى أنواع من العلم يمكنه أن يتوصل بها إلى سعادة الأولى والآخرة. وجعل في فطرته محبة لذلك. لكن قد يعرض الإنسان - بجاهليته وغفلته - عن طلب علم ما ينفعه. وكونه لا يطلب ذلك ولا يريده: أمر عدمي لا يضاف إلى الله تعالى. فلا يضاف إلى الله: لا عدم علمه بالحق ولا عدم إرادته للخير. لكن النفس كما تقدم: الإرادة والحركة من لوازمها فإنها حية حياة طبيعية؛ لكن سعادتها ونجاتها إنما تتحقق بأن تحيى الحياة النافعة الكاملة. وكان ما لها من الحياة الطبيعية موجبا لعذابها. فلا هي حية متنعمة بالحياة. ولا هي ميتة مستريحة من العذاب. قال تعالى {فذكر إن نفعت الذكرى} {سيذكر من يخشى} {ويتجنبها الأشقى} {الذي يصلى النار الكبرى} {ثم لا يموت فيها ولا يحيا} فالجزاء من جنس العمل. لما كان في الدنيا: ليس بحي الحياة النافعة التي خلق لأجلها.
    بل كانت حياته من جنس حياة البهائم. ولم يكن ميتا عديم الإحساس: كان في الآخرة كذلك. فإن مقصود الحياة: هو حصول ما ينتفع به الحي ويستلذ به والحي لا بد له من لذة أو ألم. فإذا لم تحصل له اللذة: لم يحصل له مقصود الحياة فإن الألم ليس مقصودا. كمن هو حي في الدنيا وبه أمراض عظيمة لا تدعه يتنعم بشيء مما يتنعم به الأحياء. فهذا يبقى طول حياته يختار الموت ولا يحصل له. فلما كان من طبع النفس الملازم لها: وجود الإرادة والعمل إذ هو حارث همام. فإن عرفت الحق وأرادته وأحبته وعبدته: فذلك من تمام إنعام الله عليها.
    وإلا فهي بطبعها لا بد لها من مراد معبود غير الله. ومرادات سيئة تضرها. فهذا الشر قد تركب من كونها لم تعرف الله ولم تعبده. وهذا عدم لا يضاف إلى فاعل ومن كونها بطبعها لا بد لها من مراد معبود. فعبدت غيره. وهذا هو الشر الذي تعذب عليه. وهو من مقتضى طبعها مع عدم هداها. والقدرية يعترفون بهذا جميعه. وبأن الله خلق الإنسان مريدا. لكن يجعلون المخلوق كونه مريدا بالقوة والقبول. أي قابلا لأن يريد هذا وهذا.

    وأما كونه مريدا لهذا المعين وهذا المعين: فهذا عندهم ليس مخلوقا لله وغلطوا في ذلك غلطا فاحشا. فإن الله خالق هذا كله. وإرادة النفس لما تريده من الذنوب وفعلها: هو من جملة مخلوقات الله تعالى فإن الله خالق كل شيء. وهو الذي ألهم النفس - التي سواها - فجورها وتقواها. {وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها. أنت وليها ومولاها}. وهو سبحانه: جعل إبراهيم وآله أئمة يهدون بأمره. وجعل فرعون وآله أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون. لكن هذا لا يضاف مفردا إلى الله تعالى لوجهين: من جهة علته الغائية ومن جهة سببه وعلته الفاعلية. أما الغائية: فإن الله إنما خلقه لحكمة هو باعتبارها خير لا شر. وإن كان شرا إضافيا. فإذا أضيف مفردا: توهم المتوهم مذهب جهم: أن الله يخلق الشر المحض الذي لا خير فيه لأحد لا لحكمة ولا رحمة. والأخبار والسنة والاعتبار تبطل هذا المذهب.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #214
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,763

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد الخامس
    الحلقة( 212)

    من صــ 471 الى صـ 480




    كما أنه إذا قيل: محمد وأمته يسفكون الدماء ويفسدون في الأرض: كان هذا ذما لهم وكان باطلا. وإذا قيل: يجاهدون في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله ويقتلون من منعهم من ذلك: كان هذا مدحا لهم وكان حقا. فإذا قيل: إن الرب تبارك وتعالى حكيم رحيم. أحسن كل شيء خلقه وأتقن ما صنع وهو أرحم الراحمين. أرحم بعباده من الوالدة بولدها. والخير كله بيديه. والشر ليس إليه. بل لا يفعل إلا خيرا. وما خلقه من ألم لبعض الحيوانات أو من أعمالهم المذمومة: فله فيها حكمة عظيمة ونعمة جسيمة - كان هذا حقا. وهو مدح للرب وثناء عليه. وأما إذا قيل: إنه يخلق الشر الذي لا خير فيه ولا منفعة لأحد. ولا له فيها حكمة ولا رحمة.
    ويعذب الناس بلا ذنب: لم يكن هذا مدحا للرب ولا ثناء عليه. بل كان بالعكس. ومن هؤلاء من يقول: إن الله تعالى أضر على خلقه من إبليس. وبسط القول في بيان فساد قول هؤلاء له موضع آخر. وقد بينا بعض ما في خلق جهنم وإبليس والسيئات: من الحكمة والرحمة. وما لم نعلم أعظم مما علمناه. فتبارك الله أحسن الخالقين وأرحم الراحمين وخير الغافرين. ومالك يوم الدين. الأحد الصمد. الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. الذي لا يحصي العباد ثناء عليه. بل هو كما أثنى على نفسه الذي له الحمد في الأولى والآخرة. وله الحكم وإليه ترجعون. الذي يستحق الحمد والحب والرضا لذاته ولإحسانه إلى عباده. سبحانه وتعالى. يستحق أن يحمد لما له في نفسه من المحامد والإحسان إلى عباده. هذا حمد شكر وذاك حمد مطلقا.

    وقد ذكرنا - في غير هذا الموضع - ما قيل: من أن كل ما خلقه الله فهو نعمة على عباده المؤمنين. يستحق أن يحمدوه ويشكروه عليه وهو من آلائه. ولهذا قال في آخر سورة النجم {فبأي آلاء ربك تتمارى} وفي سورة الرحمن يذكر {كل من عليها فان} ونحو ذلك. ثم يقول عقب ذلك {فبأي آلاء ربكما تكذبان}. وقال آخرون: منهم الزجاج وأبو الفرج بن الجوزي {فبأي آلاء ربكما تكذبان} أي من هذه الأشياء المذكورة. لأنها كلها ينعم بها عليكم في دلالتها إياكم على وحدانيته وفي رزقه إياكم ما به قوامكم. وهذا قالوه في سورة الرحمن.
    وقالوا في قوله {فبأي آلاء ربك تتمارى} فبأي نعم ربك التي تدل على وحدانيته تتشكك؟ وقيل: تشك وتجادل؟ قال ابن عباس: تكذب؟ . قلت: قد ضمن {تتمارى} معنى تكذب. ولهذا عداه بالتاء. فإن التماري: تفاعل من المراء. يقال: تمارينا في الهلال. والمراء في القرآن كفر وهو يكون تكذيبا وتشكيكا. وقد يقال: لما كان الخطاب لهم. قال {تتمارى} أي تتمارون. ولم يقل: تمتري. فإن التفاعل يكون بين اثنين تماريا. قالوا: والخطاب للإنسان. قيل للوليد بن المغيرة. فإنه قال {أم لم ينبأ بما في صحف موسى} {وإبراهيم الذي وفى} {ألا تزر وازرة وزر أخرى} ثم التفت إليه فقال {فبأي آلاء ربك تتمارى} تكذب. كما قال {خلق الإنسان من صلصال كالفخار} {وخلق الجان من مارج من نار} {فبأي آلاء ربكما تكذبان}. ففي كل ما خلقه الله إحسان إلى عباده يحمد عليه حمد شكر وله فيه حكمة تعود إليه يستحق لأجلها أن يحمد عليه حمدا يستحقه لذاته.
    فجميع المخلوقات: فيها إنعام على العباد كالثقلين المخاطبين بقوله {فبأي آلاء ربكما تكذبان} من جهة أنها آيات للرب يحصل بها هدايتهم وإيمانهم الذي يسعدون به في الدنيا والآخرة. فيدلهم عليه وعلى وحدانيته وقدرته وعلمه وحكمته ورحمته. والآيات التي بعث بها الأنبياء وأيدهم بها ونصرهم. وإهلاك عدوهم - كما ذكره في سورة النجم {وأنه أهلك عادا الأولى} {وثمود فما أبقى} {وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى} {والمؤتفكة أهوى} {فغشاها ما غشى} - تدلهم على صدق الأنبياء فيما أخبروا به من الأمر والنهي والوعد والوعيد. ما بشروا به وأنذروا به. ولهذا قال عقيب ذلك {هذا نذير من النذر الأولى} قيل: هو محمد. وقيل: هو القرآن.
    فإن الله سمى كلا منهما بشيرا ونذيرا. فقال في رسول الله {إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون} وقال تعالى {إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا} وقال تعالى في القرآن {كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون} {بشيرا ونذيرا} وهما متلازمان. وكل من هذين المعنيين: مراد. يقال: هذا نذير أنذر بما أنذرت به الرسل الرسل المرسلين. ففي المخلوقات: نعم من جهة حصول الهدى والإيمان والاعتبار والموعظة بها. وهذه أفضل النعم. فأفضل النعم: نعمة الإيمان. وكل مخلوق من المخلوقات: فهو الآيات التي يحصل بها ما يحصل من هذه النعمة. قال تعالى {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} وقالي تعالى {تبصرة وذكرى لكل عبد منيب}. وما يصيب الإنسان إن كان يسره: فهو نعمة بينة. وإن كان يسوءه: فهو نعمة من جهة أنه يكفر خطاياه. ويثاب بالصبر عليه.

    ومن جهة أن فيه حكمة ورحمة لا يعلمها {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون}. وقد قال في الحديث {والله لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كانوالكتب الأولى. وقوله " من النذر " أي من جنسها. أي رسول من خيرا له. إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له. وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له}.
    وإذا كان هذا وهذا: فكلاهما من نعم الله عليه. وكلتا النعمتين تحتاج مع الشكر إلى الصبر. أما نعمة الضراء: فاحتياجها إلى الصبر ظاهر. وأما نعمة السراء: فتحتاج إلى الصبر على الطاعة فيها.
    فإن فتنة السراء أعظم من فتنة الضراء.

    كما قال بعض السلف: ابتلينا بالضراء فصبرنا. وابتلينا بالسراء فلم نصبر. وفي الحديث {أعوذ بك من فتنة الفقر. وشر فتنة الغنى}. والفقر: يصلح عليه خلق كثير.
    والغنى: لا يصلح عليه إلا أقل منهم. ولهذا كان أكثر من يدخل الجنة المساكين. لأن فتنة الفقر أهون وكلاهما يحتاج إلى الصبر والشكر. لكن لما كان في السراء: اللذة. وفي الضراء: الألم. اشتهر ذكر الشكر في السراء والصبر في الضراء. قال تعالى {ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور} {ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور} {إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير} ولأن صاحب السراء: أحوج إلى الشكر وصاحب الضراء: أحوج إلى الصبر. فإن صبر هذا وشكر هذا: واجب. إذا تركه استحق العقاب. وأما صبر صاحب السراء: فقد يكون مستحبا إذا كان عن فضول الشهوات. وقد يكون واجبا ولكن لإتيانه بالشكر - الذي هو حسنات - يغفر له ما يغفر من سيئاته. وكذلك صاحب الضراء: لا يكون الشكر في حقه مستحبا إذا كان شكرا يصير به من السابقين المقربين. وقد يكون تقصيره في الشكر: مما يغفر له لما يأتي به من الصبر. فإن اجتماع الشكر والصبر جميعا: يكون مع تألم النفس وتلذذها يصبر على الألم ويشكر على النعم.
    وهذا حال يعسر على كثير من الناس. وبسط هذا له موضع آخر. والمقصود هنا: أن الله تعالى منعم بهذا كله وإن كان لا يظهر الإنعام به في الابتداء لأكثر الناس. فإن الله يعلم وأنتم لا تعلمون. فكل ما يفعله الله فهو نعمة منه.

    وأما ذنوب الإنسان: فهي من نفسه. ومع هذا فهي - مع حسن العاقبة - نعمة وهي نعمة على غيره بما يحصل له بها من الاعتبار والهدى والإيمان. ولهذا كان من أحسن الدعاء قوله {اللهم لا تجعلني عبرة لغيري ولا تجعل أحدا أسعد بما علمتني مني}. وفي دعاء القرآن {ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين} {لا تجعلنا فتنة للذين كفروا} كما فيه {واجعلنا للمتقين إماما} أي فاجعلنا أئمة لمن يقتدي بنا ويأتم. ولا تجعلنا فتنة لمن يضل بنا ويشقى. و " الآلاء " في اللغة: هي النعم وهي تتضمن القدرة. قال ابن قتيبة: لما عدد الله في هذه السورة - سورة الرحمن - نعماءه وذكر عباده آلاءه ونبههم على قدرته. جعل كل كلمة من ذلك فاصلة بين نعمتين ليفهم النعم ويقررهم بها.

    وقد روى الحاكم في صحيحه والترمذي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحمن حتى ختمها. ثم قال: ما لي أراكم سكوتا؟ للجن كانوا أحسن منكم ردا. ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة - {فبأي آلاء ربكما تكذبان} - إلا قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب. فلك الحمد}.
    والله تعالى يذكر في القرآن بآياته الدالة على قدرته وربوبيته. ويذكر بآياته التي فيها نعمه وإحسانه إلى عباده. ويذكر بآياته المبينة لحكمته تعالى. وهي كلها متلازمة. فكل ما خلق: فهو نعمة ودليل على قدرته وعلى حكمته. لكن نعمة الرزق والانتفاع بالمآكل والمشارب والمساكن والملابس: ظاهرة لكل أحد. فلهذا يستدل بها كما في سورة النحل. وتسمى سورة النعم. كما قاله قتادة وغيره. وعلى هذا: فكثير من الناس يقول: الحمد أعم من الشكر. من جهة أسبابه. فإنه يكون على نعمة وعلى غير نعمة. والشكر أعم من جهة أنواعه. فإنه يكون بالقلب واللسان واليد. فإذا كان كل مخلوق فيه نعمة: لم يكن الحمد إلا على نعمة. والحمد لله على كل حال. لأنه ما من حال يقضيها إلا وهي نعمة على عباده. لكن هذا فهم من عرف ما في المخلوقات من النعم. والجهمية والجبرية: بمعزل عن هذا.

    وكذلك كل ما يخلقه: ففيه له حكمة. فهو محمود عليه باعتبار تلك الحكمة. والجهمية أيضا بمعزل عن هذا. وكذلك القدرية الذين يقولون: لا تعود الحكمة إليه. بل ما ثم إلا نفع الخلق.
    فما عندهم إلا شكر كما ليس عند الجهمية إلا قدرة. والقدرة المجردة عن نعمة وحكمة: لا يظهر فيها وصف حمد كالقادر الذي يفعل ما لا ينتفع به ولا ينفع به أحدا. فهذا لا يحمد. فحقيقة قول الجهمية أتباع جهم: أنه لا يستحق الحمد. فله عندهم ملك بلا حمد مع تقصيرهم في معرفة ملكه. كما أن المعتزلة له عندهم نوع من الحمد بلا ملك تام. إذ كان عندهم يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء. وتحدث حوادث بلا قدرته. وعلى مذهب السلف: له الملك وله الحمد تامين. وهو محمود على حكمته كما هو محمود على قدرته ورحمته.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #215
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,763

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد الخامس
    الحلقة( 213)

    من صــ 481 الى صـ 490



    وقد قال {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم} فله الوحدانية في إلهيته وله العدل وله العزة والحكمة. وهذه الأربعة إنما يثبتها السلف وأتباعهم. فمن قصر عن معرفة السنة فقد نقص الرب بعض حقه. والجهمي الجبري لا يثبت عدلا ولا حكمة ولا توحيد إلهية. بل توحيد ربوبيته. والمعتزلي أيضا لا يثبت في الحقيقة توحيد إلهية ولا عدلا في الحسنات والسيئات ولا عزة ولا حكمة في الحقيقة وإن قال: إنه يثبت الحكمة بما معناها يعود إلى غيره. وتلك لا يصلح أن تكون حكمة من فعل لا لأمر يرجع إليه بل لغيره هو عند العقلاء قاطبة بها ليس بحكيم بل سفيه. وإذا كان الحمد لا يقع إلا على نعمة فقد ثبت: أنه رأس الشكر.
    فهو أول الشكر. والحمد - وإن كان على نعمته وعلى حكمته - فالشكر بالأعمال هو على نعمته. وهو عبادة له لإلهيته التي تتضمن حكمته. فقد صار مجموع الأمور داخلا في الشكر. ولهذا عظم القرآن أمر الشكر. ولم يعظم أمر الحمد مجردا إذ كان نوعا من الشكر. وشرع الحمد - الذي هو الشكر المقول - أمام كل خطاب مع التوحيد. ففي الفاتحة: الشكر والتوحيد. والخطب الشرعية لا بد فيها من الشكر والتوحيد. والباقيات الصالحات نوعان. فسبحان الله وبحمده: فيها الشكر والتنزيه والتعظيم. ولا إله إلا الله. والله أكبر: فيها التوحيد والتكبير. وقد قال تعالى {فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين}.

    وهل الحمد على كل ما يحمد به الممدوح وإن لم يكن باختياره أو لا يكون الحمد إلا على الأمور الاختيارية. كما قيل في الذم؟ فيه نظر ليس هذا موضعه. وفي الصحيح {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول: ربنا ولك الحمد. ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد. أحق ما قال العبد - وكلنا لك عبد - لا مانع لما أعطيت. ولا معطي لما منعت. ولا ينفع ذا الجد منك الجد} هذا لفظ الحديث.
    " أحق " أفعل التفضيل. وقد غلط فيه طائفة من المصنفين فقالوا {حق ما قال العبد}. وهذا ليس لفظ الرسول. وليس هو بقول سديد. فإن العبد يقول الحق والباطل. بل حق ما يقوله الرب. كما قال تعالى {فالحق والحق أقول}. ولكن لفظه {أحق ما قال العبد} خبر مبتدأ محذوف. أي الحمد أحق ما قال العبد. أو هذا - وهو الحمد - أحق ما قال العبد. ففيه بيان: أن الحمد لله أحق ما قاله العباد. ولهذا أوجب قوله في كل صلاة وأن تفتتح به الفاتحة. وأوجب قوله في كل خطبة وفي كل أمر ذي بال. والحمد ضد الذم. والحمد يكون على محاسن المحمود مع المحبة له كما أن الذم يكون على مساويه مع البغض له. فإذا قيل: إنه سبحانه يفعل الخير والحسنات وهو حكيم رحيم بعباده أرحم بعباده من الوالدة بولدها: أوجب ذلك أن يحبه عباده ويحمدوه.

    وأما إذا قيل: بل يخلق ما هو شر محض لا نفع فيه ولا رحمة ولا حكمة لأحد. وإنما يتصف بإرادة ترجح مثلا على مثل. لا فرق عنده بين أن يرحم أو يعذب. وليست نفسه ولا إرادته مرجحة للإحسان إلى الخلق بل تعذيبهم وتنعيمهم سواء عنده. وهو - مع هذا - يخلق ما يخلق لمجرد العذاب والشر ويفعل ما يفعل لا لحكمة - ونحو ذلك مما يقوله الجهمية -: لم يكن هذا موجبا لأن يحبه العباد ويحمدوه. بل هو موجب للعكس. ولهذا فإن كثيرا من هؤلاء ينطقون بالذم والشتم والطعن. ويذكرون ذلك نظما ونثرا. وكثير من شيوخ هؤلاء وعلمائهم من يذكر في كلامه ما يقتضي هذا. ومن لم يقله بلسانه فقلبه ممتلئ به لكن يرى أن ليس في ذكره منفعة أو يخاف من عموم المسلمين. وفي شعر طائفة من الشيوخ ذكر نحو هذا. وهؤلاء يقيمون حجج إبليس وأتباعه على الله. ويجعلون الرب ظالما لهم.

    وهو خلاف ما وصف الله به نفسه في قوله تعالى {وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين} وقوله {وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم} وقوله {وما ربك بظلام للعبيد}.
    كيف يكون ظالما؟ وهم فيما بينهم لو أساء بعضهم إلى بعض أو قصر في حقه لكان يؤاخذه ويعاقبه وينتقم منه. ويكون ذلك عدلا إذا لم يعتد عليه. ولو قال: إن الذي فعلته قدر علي فلا ذنب لي فيه: لم يكن هذا عذرا له عندهم باتفاق العقلاء. فإذا كان العقلاء متفقين على أن حق المخلوق لا يجوز إسقاطه احتجاجا بالقدر. فكيف يجوز إسقاط حق الخالق احتجاجا بالقدر. وهو سبحانه الحكم العدل الذي لا يظلم مثقال ذرة. وإن تك حسنة يضاعفها. ويؤت من لدنه أجرا عظيما. وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. فقوله {أحق ما قال العبد} يقتضي: أن حمد الله أحق ما قاله العبد. فله الحمد على كل حال. لأنه لا يفعل إلا الخير والإحسان الذي يستحق الحمد عليه سبحانه وتعالى. وإن كان العباد لا يعلمون. وهو سبحانه خلق الإنسان وخلق نفسه متحركة بالطبع حركة لا بد فيها من الشر لحكمة بالغة ورحمة سابغة.
    فإذا قيل: فلم لم يخلقها على غير هذا الوجه؟ . قيل: كان يكون ذلك خلقا غير الإنسان. وكانت الحكمة التي خلقها بخلق الإنسان لا تحصل. وهذا سؤال الملائكة حيث قالوا {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} وما لم تعلمه الملائكة فكيف يعلمه آحاد الناس. ونفس الإنسان خلقت كما قال الله تعالى {إن الإنسان خلق هلوعا} {إذا مسه الشر جزوعا} {وإذا مسه الخير منوعا} وقال تعالى {خلق الإنسان من عجل}. فقد خلقت خلقة تستلزم وجود ما وجد منها لحكمة عظيمة ورحمة عميمة. فكان ذلك خيرا ورحمة. وإن كان فيه شر إضافي كما تقدم. فهذا من جهة الغاية مع أنه لا يضاف الشر إلى الله. وأما الوجه الثاني من جهة السبب: فإن هذا الشر إنما وجد لعدم العلم والإرادة التي تصلح النفس. فإنها خلقت بفطرتها تقتضي معرفة الله ومحبته.

    وقد هديت إلى علوم وأعمال تعينها على ذلك. وهذا كله من فضل الله وإحسانه. لكن النفس المذنبة لما لم يحصل لها من يكملها بل حصل لها من زين لها السيئات - من شياطين الإنس والجن - مالت إلى ذلك وفعلت السيئات. فكان فعلها للسيئات. مركبا من عدم ما ينفع وهو الأفضل. ووجود هؤلاء الذين حيروها. والعدم لا يضاف إلى الله. وهؤلاء: القول فيهم كالقول فيها: خلقهم لحكمة. فلما كان عدم ما تعمل به وتصلح: هو أحد السببين. وكان الشر المحض الذي لا خير فيه: هو العدم المحض والعدم لا يضاف إلى الله. فإنه ليس شيئا. والله خالق كل شيء: كانت السيئات منها باعتبار أن ذاتها في نفسها مستلزمة للحركة الإرادية التي تحصل منها - مع عدم ما يصلحها - تلك السيئات.

    والعبد إذا اعترف وأقر بأن الله خالق أفعاله كلها فهو على وجهين. إن اعترف به إقرارا بخلق الله كل شيء بقدرته ونفوذ مشيئته وإقرارا بكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر واعترافا بفقره وحاجته إلى الله وأنه إن لم يهده فهو ضال. وإن لم يتب عليه فهو مصر. وإن لم يغفر له فهو هالك: خضع لعزته وحكمته. فهذا حال المؤمنين الذين يرحمهم الله ويهديهم ويوفقهم لطاعته. وإن قال ذلك احتجاجا على الرب ودفعا للأمر والنهي عنه وإقامة لعذر نفسه فهذا ذنب أعظم من الأول. وهذا من أتباع الشيطان. ولا يزيده ذلك إلا شرا. وقد ذكرنا أن الرب سبحانه محمود لنفسه ولإحسانه إلى خلقه.
    ولذلك هو يستحق المحبة لنفسه ولإحسانه إلى عباده. ويستحق أن يرضى العبد بقضائه. لأن حكمه عدل لا يفعل إلا خيرا وعدلا. ولأنه لا يقضي للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له {إن أصابته سراء شكر. فكان خيرا له. وإن أصابته ضراء صبر. فكان خيرا له}. فالمؤمن يرضى بقضائه لما يستحقه الرب لنفسه - من الحمد والثناء - ولأنه محسن إلى المؤمن. وما تسأله طائفة من الناس وهو أنه صلى الله عليه وسلم قال {لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له} وقد قضى عليه بالسيئات الموجبة للعقاب. فكيف يكون ذلك خيرا؟ .
    وعنه جوابان:
    أحدهما: أن أعمال العباد لم تدخل في الحديث، إنما دخل فيه ما يصيب الإنسان من النعم والمصائب كما في قوله {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} ولهذا قال {إن أصابته سراء شكر. فكان خيرا له. وإن أصابته ضراء صبر. فكان خيرا له} فجعل القضاء: ما يصيبه من سراء وضراء. هذا ظاهر لفظ الحديث. فلا إشكال عليه. الوجه الثاني: أنه إذا قدر أن الأعمال دخلت في هذا. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم {من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن}. فإذا قضى له بأن يحسن فهذا مما يسره. فيشكر الله عليه. وإذا قضى عليه بسيئة: فهي إنما تكون سيئة يستحق العقوبة عليها إذا لم يتب منها. فإن تاب أبدلت بحسنة. فيشكر الله عليها.
    وإن لم يتب ابتلي بمصائب تكفرها فصبر عليها. فيكون ذلك خيرا له. والرسول صلى الله عليه وسلم قال {لا يقضي الله للمؤمن} والمؤمن هو الذي لا يصر على ذنب بل يتوب منه. فيكون حسنة كما قد جاء في عدة آيات. إن العبد ليعمل الذنب فيدخل به الجنة بعمله. لا يزال يتوب منه حتى يدخل بتوبته منه الجنة.
    والذنب يوجب ذل العبد وخضوعه ودعاء الله واستغفاره إياه وشهوده بفقره وحاجته إليه وأنه لا يغفر الذنوب إلا هو.

    فيحصل للمؤمن - بسبب الذنب - من الحسنات ما لم يكن يحصل بدون ذلك. فيكون هذا القضاء خيرا له. فهو في ذنوبه بين أمرين: إما أن يتوب فيتوب الله عليه فيكون من التوابين الذين يحبهم الله. وإما أن يكفر عنه بمصائب؛ تصيبه ضراء فيصبر عليها. فيكفر عنه السيئات بتلك المصائب وبالصبر عليها ترتفع درجاته. وقد جاء في بعض الأحاديث {يقول الله تعالى أهل ذكري أهل مجالستي. وأهل شكري أهل زيادتي. وأهل طاعتي أهل كرامتي. وأهل معصيتي لا أؤيسهم من رحمتي. إن تابوا فأنا حبيبهم} أي محبهم فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين {وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم. أبتليهم بالمصائب لأكفر عنهم المعائب}. وفي قوله تعالى {فمن نفسك} من الفوائد: أن العبد لا يركن إلى نفسه ولا يسكن إليها. فإن الشر لا يجيء إلا منها. ولا يشتغل بملام الناس ولا ذمهم إذا أساءوا إليه.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #216
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,763

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد الخامس
    الحلقة( 214)

    من صــ 491 الى صـ 500


    فإن ذلك من السيئات التي أصابته. وهي إنما أصابته بذنوبه. فيرجع إلى الذنوب فيستغفر منها. ويستعيذ بالله من شر نفسه وسيئات عمله. ويسأل الله أن يعينه على طاعته. فبذلك يحصل له كل خير ويندفع عنه كل شر. ولهذا كان أنفع الدعاء وأعظمه وأحكمه: دعاء الفاتحة {اهدنا الصراط المستقيم} {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فإنه إذا هداه هذا الصراط: أعانه على طاعته وترك معصيته. فلم يصبه شر لا في الدنيا ولا في الآخرة. لكن الذنوب هي من لوازم نفس الإنسان. وهو محتاج إلى الهدى في كل لحظة: وهو إلى الهدى أحوج منه إلى الأكل والشرب.
    ليس كما يقوله طائفة من المفسرين: إنه قد هداه. فلماذا يسأل الهدى؟ . وأن المراد بسؤال الهدى: الثبات أو مزيد الهداية. بل العبد محتاج إلى أن يعلمه ربه ما يفعله من تفاصيل أحواله. وإلى ما يتولد من تفاصيل الأمور في كل يوم. وإلى أن يلهم أن يعمل ذلك. فإنه لا يكفي مجرد علمه إن لم يجعله الله مريدا للعمل بعلمه وإلا كان العلم حجة عليه. ولم يكن مهتديا. والعبد محتاج إلى أن يجعله الله قادرا على العمل بتلك الإرادة الصالحة. فإنه لا يكون مهتديا إلى الصراط المستقيم - صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين - إلا بهذه العلوم والإرادات والقدرة على ذلك.
    ويدخل في ذلك من أنواع الحاجات ما لا يمكن إحصاؤه. ولهذا كان الناس مأمورين بهذا الدعاء في كل صلاة لفرط حاجتهم إليه. فليسوا إلى شيء أحوج منهم إلى هذا الدعاء. وإنما يعرف بعض قدر هذا الدعاء من اعتبر أحوال نفسه ونفوس الإنس والجن والمأمورين بهذا الدعاء. ورأى ما في النفوس من الجهل والظلم الذي يقتضي شقاءها في الدنيا والآخرة. فيعلم أن الله - بفضله ورحمته - جعل هذا الدعاء من أعظم الأسباب المقتضية للخير المانعة من الشر. ومما يبين ذلك: أن الله تعالى لم يقص علينا في القرآن قصة أحد إلا لنعتبر بها لما في الاعتبار بها من حاجتنا إليه ومصلحتنا. وإنما يكون الاعتبار إذا قسنا الثاني بالأول وكانا مشتركين في المقتضي للحكم. فلولا أن في نفوس الناس من جنس ما كان في نفوس المكذبين للرسل - فرعون ومن قبله - لم يكن بنا حاجة إلى الاعتبار بمن لا نشبهه قط.

    ولكن الأمر كما قال تعالى {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك} وكما قال تعالى {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون} وقال تعالى {كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم} وقال تعالى {يضاهئون قول الذين كفروا من قبل}. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم {لتسلكن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟}. وقال {لتأخذن أمتي مأخذ الأمم قبلها: شبرا بشبر وذراعا بذراع. قيل: يا رسول الله فارس والروم؟ قال: فمن؟} وكلا الحديثين في الصحيحين.

    {ولما كان في غزوة حنين كان للمشركين شجرة - يقال لها: ذات أنواط يعلقون عليها أسلحتهم وينوطونها بها ويستظلون بها متبركين فقال بعض الناس يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال: الله أكبر. قلتم كما قال قوم موسى لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة. إنها السنن. لتركبن سنن من كان قبلكم}. وقد بين القرآن: أن السيئات من النفس وإن كانت بقدر الله. فأعظم السيئات: جحود الخالق. والشرك به وطلب النفس أن تكون شريكة وندا له أو أن تكون إلها من دونه. وكلا هذين وقع فإن فرعون طلب أن يكون إلها معبودا دون الله تعالى. وقال {ما علمت لكم من إله غيري} وقال {أنا ربكم الأعلى} وقال لموسى {لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين} و {فاستخف قومه فأطاعوه}.
    وإبليس يطلب: أن يعبد ويطاع من دون الله. فيريد: أن يعبد ويطاع هو ولا يعبد الله ولا يطاع. وهذا الذي في فرعون وإبليس هو غاية الظلم والجهل. وفي نفوس سائر الإنس والجن: شعبة من هذا وهذا. إن لم يعن الله العبد ويهده وإلا وقع في بعض ما وقع فيه إبليس وفرعون بحسب الإمكان. قال بعض العارفين: ما من نفس إلا وفيها ما في نفس فرعون غير أن فرعون قدر فأظهر. وغيره عجز فأضمر. وذلك: أن الإنسان إذا اعتبر وتعرف نفسه والناس وسمع أخبارهم: رأى الواحد منهم يريد لنفسه أن تطاع وتعلو بحسب قدرته.
    فالنفس مشحونة بحب العلو والرياسة بحسب إمكانها فتجد أحدهم يوالي من يوافقه على هواه ويعادي من يخالفه في هواه. وإنما معبوده: ما يهواه ويريده. قال تعالى {أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا} والناس عنده في هذا الباب: كما هم عند ملوك الكفار من المشركين من الترك وغيرهم. يقولون " يا رباعي " أي صديق وعدو. فمن وافق هواهم: كان وليا وإن كان كافرا مشركا. ومن لم يوافق هواهم: كان عدوا وإن كان من أولياء الله المتقين. وهذه هي حال فرعون. والواحد من هؤلاء: يريد أن يطاع أمره بحسب إمكانه لكنه لا يتمكن مما تمكن منه فرعون: من دعوى الإلهية وجحود الصانع. وهؤلاء - وإن كانوا يقرون بالصانع - لكنهم إذا جاءهم من يدعوهم إلى عبادته وطاعته المتضمنة ترك طاعتهم: فقد يعادونه كما عادى فرعون موسى. وكثير من الناس ممن عنده بعض عقل وإيمان لا يطلب هذا الحد بل يطلب لنفسه ما هو عنده.

    فإن كان مطاعا مسلما: طلب أن يطاع في أغراضه وإن كان فيها ما هو ذنب ومعصية لله. ويكون من أطاعه في هواه: أحب إليه وأعز عنده ممن أطاع الله وخالف هواه. وهذه شعبة من حال فرعون. وسائر المكذبين للرسل. وإن كان عالما - أو شيخا - أحب من يعظمه دون من يعظم نظيره حتى لو كانا يقرآن كتابا واحدا كالقرآن أو يعبدان عبادة واحدة متماثلان فيها كالصلوات الخمس. فإنه يحب من يعظمه بقبول قوله والاقتداء به: أكثر من غيره. وربما أبغض نظيره وأتباعه حسدا وبغيا كما فعلت اليهود لما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم يدعو إلى مثل ما دعا إليه موسى. قال تعالى {وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم} وقال تعالى {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة} وقال تعالى {وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم}.

    ولهذا أخبر الله تعالى عنهم بنظير ما أخبر به عن فرعون. وسلط عليهم من انتقم به منهم. فقال تعالى عن فرعون {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين} وقال تعالى عنهم {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا} ولهذا قال تعالى {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا}
    والله سبحانه وتعالى إنما خلق الخلق لعبادته ليذكروه ويشكروه ويعبدوه وأرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبدوا الله وحده وليكون الدين كله لله ولتكون كلمة الله هي العليا كما أرسل كل رسول بمثل ذلك. قال تعالى {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} وقال تعالى {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون}.
    وقد أمر الله الرسل كلهم بهذا وأن لا يتفرقوا فيه. فقال {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} وقال تعالى {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم} {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون} {فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون}.

    قال قتادة: أي دينكم دين واحد. وربكم رب واحد. والشريعة مختلفة. وكذلك قال الضحاك عن ابن عباس {إن هذه أمتكم أمة واحدة} أي دينكم دين واحد. قال ابن أبي حاتم: وروي عن سعيد بن جبير وقتادة وعبد الرحمن بن زيد نحو ذلك. وقال الحسن: بين لهم ما يتقون وما يأتون. ثم قال: إن هذه سنتكم سنة واحدة. وهكذا قال جمهور المفسرين. و " الأمة " الملة. والطريقة كما قال تعالى {قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون} - مقتدون كما يسمى " الطريق " إماما. لأن السالك فيه يأتم به فكذلك السالك يؤمه ويقصده. و " الأمة " أيضا معلم الخير الذي يأتم به الناس. كما أن " الإمام " هو الذي يأتم به الناس. وإبراهيم عليه السلام جعله الله إماما. وأخبر أنه {كان أمة}

    وأمر الله الرسل أن تكون ملتهم ودينهم واحدا. لا يتفرقون فيه كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال {إنا معشر الأنبياء ديننا واحد} وقد قال الله تعالى {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} ولهذا كان جميع رسل الله وأنبيائه يصدق بعضهم بعضا. لا يختلفون مع تنوع شرائعهم. فمن كان من المطاعين - من العلماء والمشايخ والأمراء والملوك - متبعا للرسل: أمر بما أمروا به. ودعا إلى ما دعوا إليه. وأحب من دعا إلى مثل ما دعا إليه. فإن الله يحب ذلك.

    فيحب ما يحبه الله تعالى. وهذا قصده في نفس الأمر: أن تكون العبادة لله تعالى وحده وأن يكون الدين كله لله. وأما من كان يكره أن يكون له نظير يدعو إلى ذلك: فهذا يطلب أن يكون هو المطاع المعبود. فله نصيب من حال فرعون وأشباهه. فمن طلب أن يطاع دون الله: فهذا حال فرعون. ومن طلب أن يطاع مع الله: فهذا يريد من الناس أن يتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله. والله سبحانه وتعالى أمر: أن لا يعبد إلا إياه وأن لا يكون الدين إلا له وأن تكون الموالاة فيه والمعاداة فيه. وأن لا يتوكل إلا عليه ولا يستعان إلا به. فالمؤمن المتبع للرسل: يأمر الناس بما أمرتهم به الرسل ليكون الدين كله لله لا له. وإذا أمر أحد غيره بمثل ذلك: أحبه وأعانه وسر بوجود مطلوبه.
    وإذا أحسن إلى الناس فإنما يحسن إليهم: ابتغاء وجه ربه الأعلى. ويعلم أن الله قد من عليه بأن جعله محسنا ولم يجعله مسيئا فيرى أن عمله لله وأنه بالله. وهذا مذكور في فاتحة الكتاب التي ذكرنا أن جميع الخلق محتاجون إليها أعظم من حاجتهم إلى أي شيء. ولهذا فرضت عليهم قراءتها في كل صلاة دون غيرها من السور ولم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها. فإن فيها {إياك نعبد وإياك نستعين}. فالمؤمن يرى: أن عمله لله لأنه إياه يعبد وأنه بالله.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #217
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,763

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد السادس
    الحلقة( 215)

    من صــ 1 الى صـ 10


    لأنه إياه يستعين. فلا يطلب ممن أحسن إليه جزاء ولا شكورا. لأنه إنما عمل له ما عمل لله كما قال الأبرار {إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا} ولا يمن عليه بذلك ولا يؤذيه. فإنه قد علم أن الله هو المان عليه إذ استعمله في الإحسان. وأن المنة لله عليه وعلى ذلك الشخص. فعليه هو: أن يشكر الله. إذ يسره لليسرى. وعلى ذلك: أن يشكر الله. إذ يسر له من يقدم له ما ينفعه من رزق أو علم أو نصر أو غير ذلك. ومن الناس: من يحسن إلى غيره ليمن عليه أو يرد الإحسان له بطاعته إليه وتعظيمه أو نفع آخر. وقد يمن عليه. فيقول: أنا فعلت بك كذا. فهذا لم يعبد الله ولم يستعنه. ولا عمل لله ولا عمل بالله. فهو المرائي. وقد أبطل الله صدقة المنان وصدقة المرائي.
    قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين} {ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير}.

    قال قتادة {وتثبيتا من أنفسهم} احتسابا من أنفسهم وقال الشعبي: يقينا وتصديقا من أنفسهم. وكذلك قال الكلبي. قيل: يخرجون الصدقة طيبة بها أنفسهم. على يقين بالثواب وتصديق بوعد الله. يعلمون: أن ما أخرجوه خير لهم مما تركوه. قلت: إذا كان المعطي محتسبا للأجر عند الله مصدقا بوعد الله له: طالب من الله لا من الذي أعطاه فلا يمن عليه. كما لو قال رجل لآخر: أعط مماليكك هذا الطعام وأنا أعطيك ثمنه؛ لم يمن على المماليك. لا سيما إذا كان يعلم: أن الله قد أنعم عليه بالإعطاء.

    فصل:
    الفرق السادس: أن يقال: إن ما يبتلى به العبد من الذنوب الوجودية - وإن كانت خلقا لله - فهو عقوبة له على عدم فعله ما خلقه الله له. وفطره عليه. فإن الله إنما خلقه لعبادته وحده لا شريك له. ودله على الفطرة. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {كل مولود يولد على الفطرة} وقال تعالى {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.
    فهو لما لم يفعل ما خلق له وما فطر عليه وما أمر به - من معرفة الله وحده. وعبادته وحده - عوقب على ذلك بأن زين له الشيطان ما يفعله من الشرك والمعاصي. قال تعالى للشيطان {اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا} - إلى قوله - {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} وقال تعالى {إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون} {إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون}. وقال تعالى {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} {وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون}.
    فقد تبين: أن إخلاص الدين لله: يمنع من تسلط الشيطان ومن ولاية الشيطان التي توجب العذاب. كما قال تعالى {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين}. فإذا أخلص العبد لربه الدين: كان هذا مانعا له من فعل ضد ذلك ومن إيقاع الشيطان له في ضد ذلك. وإذا لم يخلص لربه الدين ولم يفعل ما خلق له وفطر عليه: عوقب على ذلك. وكان من عقابه:تسلط الشيطان عليه حتى يزين له فعل السيئات. وكان إلهامه لفجوره عقوبة له على كونه لم يتق الله.

    وعدم فعله للحسنات: ليس أمرا وجوديا حتى يقال: إن الله خلقه بل هو أمر عدمي. لكن يعاقب عليه لكونه: عدم ما خلق له وما أمر به. وهذا يتضمن العقوبة على أمر عدمي. لكن بفعل السيئات لا بالعقوبات - التي يستحقها بعد إقامة الحجة عليه - بالنار ونحوها. وقد تقدم أن مجرد عدم المأمور: هل يعاقب عليه؟ فيه قولان. والأكثرون يقولون: لا يعاقب عليه لأنه عدم محض. ويقولون: إنما يعاقب على الترك. وهذا أمر وجودي. وطائفة - منهم: أبو هاشم - قالوا: بل يعاقب على هذا العدم. بمعنى أنه يعاقب عليه كما يعاقب على فعل الذنوب بالنار ونحوها.

    وما ذكر في هذا الوجه: هو أمر وسط. وهو أن يعاقبه على هذا العدم بفعل السيئات لا بالعقوبة عليها. ولا يعاقبه عليها حتى يرسل إليه رسوله. فإذا عصى الرسول: استحق حينئذ العقوبة التامة. وهو أولا: إنما عوقب بما يمكن أن ينجو من شره بأن يتوب منه.
    أو بأن لا تقوم عليه الحجة. وهو كالصبي الذي لا يشتغل بما ينفعه بل بما هو سبب لضرره ولكن لا يكتب عليه قلم الإثم حتى يبلغ. فإذا بلغ عوقب. ثم ما تعوده من فعل السيئات: قد يكون سببا لمعصيته بعد البلوغ وهو لم يعاقب إلا على ذنبه. ولكن العقوبة المعروفة: إنما يستحقها بعد قيام الحجة عليه. وأما اشتغاله بالسيئات: فهو عقوبة عدم عمله للحسنات. وعلى هذا: فالشر ليس إلى الله بوجه من الوجوه. فإنه - وإن كان الله خالق أفعال العباد - فخلقه للطاعات: نعمة ورحمة وخلقه للسيئات: له فيه حكمة ورحمة وهو - مع هذا - عدل منه فما ظلم الناس شيئا. ولكن الناس ظلموا أنفسهم. وظلمهم لأنفسهم نوعان: عدم عملهم بالحسنات. فهذا ليس مضافا إليه. وعملهم للسيئات: خلقه عقوبة لهم على ترك فعل الحسنات التي خلقهم لها وأمرهم بها. فكل نعمة منه فضل. وكل نقمة منه عدل.

    ومن تدبر القرآن: تبين له أن عامة ما يذكره الله في خلق الكفر والمعاصي يجعله جزاء لذلك العمل. كقوله تعالى {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون} وقال تعالى {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} وقال تعالى {وأما من بخل واستغنى} {وكذب بالحسنى} {فسنيسره للعسرى}. وهذا وأمثاله: بذلوا فيه أعمالا عاقبهم بها على فعل محظور وترك مأمور. وتلك الأمور إنما كانت منهم وخلقت فيهم لكونهم لم يفعلوا ما خلقوا له. ولا بد لهم من حركة وإرادة. فلما لم يتحركوا بالحسنات: حركوا بالسيئات عدلا من الله. حيث وضع ذلك موضعه في محله القابل له - وهو القلب الذي لا يكون إلا عاملا - فإذا لم يعمل الحسنة استعمل في عمل السيئة.

    كما قيل: نفسك إن لم تشغلها شغلتك. وهذا الوجه - إذا حقق - يقطع مادة كلام القدرية المكذبة والمجبرة الذين يقولون: إن أفعال العباد ليست مخلوقة لله. ويجعلون خلقها والتعذيب عليها ظلما. والذين يقولون: إنه خلق كفر الكافرين ومعصيتهم وعاقبهم على ذلك لا لسبب ولا لحكمة.
    فإذا قيل لأولئك: إنه إنما أوقعهم في تلك الذنوب وطبع على قلوبهم: عقوبة لهم على عدم فعلهم ما أمرهم به. فما ظلمهم ولكن هم ظلموا أنفسهم. يقال: ظلمته إذا نقصته حقه. قال تعالى {كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا}. وكثير من أولئك يسلمون أن الله خلق للعبد من الأعمال ما يكون جزاء له على عمل منه متقدم. ويقولون: إنه خلق طاعة المطيع. فلا ينازعون في نفس خلق أفعال العباد. لكن يقولون: ما خلق شيئا من الذنوب ابتداء بل إنما خلقها جزاء لئلا يكون ظالما. فنقول: أول ما يفعله العبد من الذنوب: هو أحدثه لم يحدثه الله. ثم ما يكون جزاء على ذلك: فالله محدثه. وهم لا ينازعون في مسألة خلق الأفعال إلا من هذه الجهة. وهذا الذي ذكرناه: يوافقون عليه. لكن يقولون: أول الذنوب لم يحدثه الله بل يحدثه العبد لئلا يكون الجزاء عليه ظلما. وما ذكرناه: يوجب أن الله خالق كل شيء.
    فما حدث شيء إلا بمشيئته وقدرته. لكن أول الذنوب الوجودية: هو المخلوق. وذاك عقوبة على عدم فعل العبد لما خلق له ولما كان ينبغي له أن يفعله. وهذا العدم لا يجوز إضافته إلى الله. وليس بشيء حتى يدخل في قولنا {الله خالق كل شيء} وما أحدثه من الذنوب الوجودية فأولها: عقوبة للعبد على هذا العدم. وسائرها: قد يكون عقوبة للعبد على ما وجد. وقد يكون عقوبة له على استمراره على العدم. فما دام لا يخلص لله العمل: فلا يزال مشركا. ولا يزال الشيطان مسلطا عليه. ثم تخصيصه سبحانه لمن هداه - بأن استعمله ابتداء فيما خلق له وهذا لم يستعمله - هو تخصيص منه بفضله ورحمته. ولهذا يقول الله {والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم} ولذلك حكمة ورحمة هو أعلم بها كما خص بعض الأبدان بقوى لا توجد في غيرها وبسبب عدم القوة قد تحصل له أمراض وجودية وغير ذلك من حكمته. وبتحقيق هذا يدفع شبهات هذا الباب. والله أعلم بالصواب.
    فصل:
    ومما ذكر فيه العقوبة على عدم الإيمان: قوله تعالى {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون} وهذا من تمام قوله {وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون} {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم} الآية فذكر: أن هذا التقليب إنما حصل لقلوبهم لما لم يؤمنوا به أول مرة وهذا عدم الإيمان. لكن يقال: إنما كان هذا بعد دعوة الرسول لهم وهم قد تركوا الإيمان وكذبوا الرسول. وهذه أمور وجودية لكن الموجب للعذاب: هو عدم الإيمان. وما ذكر شرط في التعذيب بمنزلة إرسال الرسول. فإنه قد يشتغل عن الإيمان بما جنسه مباح - من أكل وشرب وبيع وسفر وغير ذلك - وهذا الجنس لا يستحق عليه العقوبة إلا لأنه شغله عن الإيمان الواجب عليه. ومن الناس من يقول: ضد الإيمان هو تركه. وهو أمر وجودي لا ضد له إلا ذلك.
    فصل:

    الفرق السابع: من الحسنات والسيئات التي تتناول الأعمال والجزاء في كون هذه تضاف إلى النفس. وتلك تضاف إلى الله: أن السيئات التي تصيب الإنسان - وهي مصائب الدنيا والآخرة - ليس لها سبب إلا ذنبه الذي هو من نفسه. فانحصرت في نفسه. وأما ما يصيبه من الخير والنعم: فإنه لا تنحصر أسبابه. لأن ذلك من فضل الله وإحسانه يحصل بعمله وبغير عمله. وعمله نفسه من إنعام الله عليه. وهو سبحانه لا يجزي بقدر العمل بل يضاعفه له. ولا يقدر العبد على ضبط أسبابها لكن يعلم أنها من فضل الله وإنعامه. فيرجع فيها إلى الله. فلا يرجو إلا الله. ولا يتوكل إلا عليه. ويعلم أن النعم كلها من الله. وأن كل ما خلقه فهو نعمة كما تقدم. فهو يستحق الشكر المطلق العام التام الذي لا يستحقه غيره.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #218
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,763

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد السادس
    الحلقة( 216)

    من صــ 11 الى صـ 20


    ومن الشكر: ما يكون جزاء على ما يسره على يديه من الخير كشكر الوالدين وشكر من أحسن إليك من غيرهما. فإنه {من لا يشكر الناس لا يشكر الله} لكن لا يبلغ من حق أحد وإنعامه: أن يشكر بمعصية الله أو أن يطاع بمعصية الله. فإن الله هو المنعم بالنعم العظيمة التي لا يقدر عليها مخلوق. ونعمة المخلوق إنما هي منه أيضا. قال تعالى {وما بكم من نعمة فمن الله} وقال تعالى {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه} وجزاؤه سبحانه على الطاعة والمعصية والكفر لا يقدر أحد على مثله. فلهذا لم يجز أن يطاع مخلوق في معصية الخالق كما قال تعالى {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما} وقال في الآية الأخرى {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح {على المرء المسلم: السمع والطاعة في عسره ويسره ومنشطه ومكرهه ما لم يؤمر بمعصية. فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة}.
    وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال {إنما الطاعة في المعروف} وقال {من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه} وقال {لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق}.وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. والمقصود هنا: أنه إذا عرف أن النعم كلها من الله وأنه لا مقدر أن يأتي بها إلا الله. فلا يأتي بالحسنات إلا هو ولا يذهب السيئات إلا هو. وأنه {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده} صار توكله ورجاؤه ودعاؤه للخالق وحده. وكذلك إذا علم ما يستحقه الله من الشكر - الذي لا يستحقه غيره - صار علمه بأن الحسنات من الله: يوجب له الصدق في شكر الله والتوكل عليه. ولو قيل: إنها من نفسه لكان غلطا.

    لأن منها ما ليس لعمله فيه مدخل. وما كان لعمله فيه مدخل: فإن الله هو المنعم به. فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله. ولا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه. وعلم أن الشر قد انحصر سببه في النفس. فضبط ذلك وعلم من أين يؤتى. فاستغفر ربه مما فعل وتاب. واستعان الله واستعاذ به مما لم يعمل بعد كما قال من قال من السلف " لا يرجون عبد إلا ربه. ولا يخافن عبد إلا ذنبه ".
    وهذا يخالف قول الجهمية ومن اتبعهم الذين يقولون: إن الله يعذب بلا ذنب ويعذب أطفال الكفار وغيرهم عذابا دائما أبدا بلا ذنب. فإن هؤلاء يقولون: يخاف الله خوفا مطلقا سواء كان له ذنب أو لم يكن له ذنب. ويشبهون خوفه بالخوف من الأسد ومن الملك القاهر الذي لا ينضبط فعله ولا سطوته بل قد يقهر ويعذب من لا ذنب له من رعيته. فإذا صدق العبد بقوله تعالى {وما أصابك من سيئة فمن نفسك} علم بطلان هذا القول وأن الله لا يعذبه ويعاقبه إلا بذنوبه حتى المصائب التي تصيب العبد كلها بذنوبه. وقد تقدم قول السلف - ابن عباس وغيره - أن ما أصابهم يوم أحد من الغم والفشل: إنما كان بذنوبهم. لم يستثن من ذلك أحد. وهذا من فوائد تخصيص الخطاب لئلا يظن أنه عام مخصوص. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال {ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا غم - حتى الشوكة يشاكها - إلا كفر الله بها من خطاياه}.
    فصل:
    الفرق الثامن: أن السيئة إذا كانت من النفس. والسيئة خبيثة مذمومة وصفها بالخبث في مثل قوله {الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات}.
    قال جمهور السلف: الكلمات الخبيثة للخبيثين ومن كلام بعضهم: الأقوال والأفعال الخبيثة للخبيثين. وقد قال تعالى {ضرب الله مثلا كلمة طيبة} {ومثل كلمة خبيثة} وقال الله {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} والأقوال والأفعال صفات القائل الفاعل. فإذا كانت النفس متصفة بالسوء والخبث لم يكن محلها ينفعه إلا ما يناسبها. فمن أراد: أن يجعل الحيات والعقارب يعاشرون الناس كالسنانير: لم يصلح.

    ومن أراد: أن يجعل الذي يكذب شاهدا على الناس لم يصلح. وكذلك من أراد: أن يجعل الجاهل معلما للناس مفتيا لهم. أو يجعل العاجز الجبان مقاتلا عن الناس. أو يجعل الأحمق الذي لا يعرف شيئا سائسا للناس أو للدواب: فمثل هذا يوجب الفساد في العالم. وقد يكون غير ممكن. مثل من أراد أن يجعل الحجارة تسبح على وجه الماء كالسفن أو تصعد إلى السماء كالريح ونحو ذلك. فالنفوس الخبيثة لا تصلح أن تكون في الجنة الطيبة التي ليس فيها من الخبث شيء. فإن ذلك موجب للفساد أو غير ممكن. بل إذا كان في النفس خبث طهرت وهذبت حتى تصلح لسكنى الجنة.

    كما في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم {إن المؤمنين إذا نجوا من النار - أي عبروا الصراط - وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار. فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا. فإذا هذبوا ونقوا: أذن لهم في دخول الجنة}.
    وهذا مما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {يخلص المؤمنون من النار. فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار. فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا: أذن لهم في دخول الجنة. فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا}. والتهذيب: التخليص كما يهذب الذهب. فيخلص من الغش. فتبين أن الجنة إنما يدخلها المؤمنون بعد التهذيب والتنقية من بقايا الذنوب فكيف بمن لم يكن له حسنات يعبر بها الصراط؟ .
    وأيضا فإذا كان سببها ثابتا فالجزاء كذلك بخلاف الحسنة. فإنها من إنعام الحي القيوم الباقي الأول الآخر. فسببها دائم فيدوم بدوامه. وإذا علم الإنسان أن السيئة من نفسه: لم يطمع في السعادة التامة مع ما فيه من الشر بل علم تحقيق قوله تعالى {من يعمل سوءا يجز به} وقوله {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} {ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره}.
    وعلم أن الرب عليم حليم رحيم عدل وأن أفعاله جارية على قانون العدل والإحسان. وكل نعمة منه فضل. وكل نقمة منه عدل. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال {يمين الله ملأى، لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار. أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يمينه. والقسط بيده الأخرى يخفض ويرفع}. وعلم فساد قول الجهمية الذين يجعلون الثواب والعقاب بلا حكمة ولا عدل ولا وضع للأشياء مواضعها.
    فيصفون الرب بما يوجب الظلم والسفه. وهو سبحانه قد شهد {أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم}. ولهذا يقولون: لا ندري ما يفعل بمن فعل السيئات. بل يجوز عندهم: أن يعفو عن الجميع. ويجوز عندهم: أن يعذب الجميع. ويجوز أن يعذب ويغفر بلا موازنة. بل يعفو عن شر الناس ويعذب خير الناس على سيئة صغيرة ولا يغفرها له. وهم يقولون: السيئة لا تمحى لا بتوبة ولا حسنات ماحية ولا غير ذلك. وقد لا يفرقون به بين الصغائر والكبائر.

    قالوا: لأن هذا كله إنما يعلم بالسمع والخبر خبر الله ورسوله. قالوا: وليس في الكتاب والسنة ما يبين ما يفعل الله بمن كسب السيئات إلا الكفر. وتأولوا قوله تعالى {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} بأن المراد بالكبائر: قد يكون هو الكفر وحده. كما قال تعالى {إن الله لا يغفر أن يشرك به}. وقد ذكر هذه الأمور القاضي أبو بكر ابن الباقلاني وغيره ممن يقول بمثل هذه الأقوال ممن سلك مسلك جهم بن صفوان في القدر وفي الوعيد. وهؤلاء قصدوا مناقضة المعتزلة في القدر والوعيد.

    فأولئك لما قالوا: إن الله لم يخلق أفعال العباد وأنه يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء. وسلكوا مسلك نفاة القدر في هذا وقالوا في الوعيد بنحو قول الخوارج. قالوا: إن من دخل النار لا يخرج منها لا بشفاعة ولا غيرها. بل يكون عذابه مؤبدا. فصاحب الكبيرة أو من رجحت سيئاته - عندهم - لا يرحمه الله أبدا. بل يخلده في النار. فخالفوا السنة المتواترة وإجماع الصحابة فيما قالوه في القدر. وناقضهم جهم في هذا وهذا. وسلك هؤلاء مسلك جهم.
    مع انتسابهم إلى أهل السنة والحديث وأتباع السلف. وكذلك سلكوا في الإيمان والوعيد مسلك المرجئة الغلاة كجهم وأتباعه. وجهم اشتهر عنه نوعان من البدعة: نوع في الأسماء والصفات. فغلا في نفي الأسماء والصفات. ووافقه على ذلك ملاحدة الباطنية والفلاسفة ونحوهم. ووافقه المعتزلة في نفي الصفات دون الأسماء. والكلابية - ومن وافقهم من السالمية. ومن سلك مسلكهم من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية - وافقوه على نفي الصفات الاختيارية دون نفي أصل الصفات. والكرامية ونحوهم: وافقوه على أصل ذلك.
    وهو امتناع دوام ما لا يتناهى. وأنه يمتنع أن يكون الله لم يزل متكلما إذا شاء وفعالا لما يشاء إذا شاء. لامتناع حوادث لا أول لها. وهو عن هذا الأصل - الذي هو نفي وجود ما لا يتناهى في المستقبل - قال بفناء الجنة والنار. وقد وافقه أبو الهذيل إمام المعتزلة على هذا لكن قال: بتناهي الحركات. فالمعتزلة في الصفات: مخانيث الجهمية.
    وأما الكلابية: فيثبتون الصفات في الجملة. وكذلك الأشعريون ولكنهم - كما قال الشيخ أبو إسماعيل الأنصاري -: الجهمية الإناث. وهم مخانيث المعتزلة. ومن الناس من يقول: المعتزلة مخانيث الفلاسفة. وقد ذكر الأشعري وغيره هذا. لأن قائله لم يعلم أن جهما سبق هؤلاء إلى هذا الأصل أو لأنهم مخانيثهم من بعض الوجوه. وإلا فإن مخالفتهم للفلاسفة كبيرة جدا. والشهرستاني يذكر عن شيوخهم: أنهم أخذوا ما أخذوا عن الفلاسفة.

    لأن الشهرستاني إنما يرى مناظرة أصحابه الأشعرية في الصفات ونحوها مع المعتزلة بخلاف أئمة السنة والحديث. فإن مناظرتهم إنما كانت مع الجهمية. وهم المشهورون عند السلف والأمة بنفي الصفات. وأهل النفي للصفات والتعطيل لها: هم عند السلف يقال لهم: الجهمية. وبهذا تميزوا عند السلف عن سائر الطوائف. وأما المعتزلة: فامتازوا بقولهم بالمنزلة بين المنزلتين لما أحدث ذلك عمرو بن عبيد. وكان هو وأصحابه يجلسون معتزلين للجماعة فيقول قتادة وغيره: أولئك المعتزلة وكان ذلك بعد موت الحسن البصري في أوائل المائة الثانية.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #219
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,763

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد السادس
    الحلقة( 217)

    من صــ 21 الى صـ 30


    وبعدهم حدثت الجهمية. وكان القدر: قد حدث أهله قبل ذلك في خلافة عبد الله بن الزبير بعد موت معاوية ولهذا تكلم فيهم ابن عمر وابن عباس - رضي الله عنهم - وغيرهما. وابن عباس مات قبل ابن الزبير. وابن عمر مات عقب موته وعقب ذلك تولى الحجاج العراق سنة بضع وسبعين. فبقي الناس يخوضون في القدر بالحجاز والشام والعراق وأكثره: كان بالشام والعراق بالبصرة وأقله: كان بالحجاز. ثم لما حدثت المعتزلة - بعد موت الحسن وتكلم في المنزلة بين المنزلتين وقالوا بإنفاذ الوعيد وخلود أهل التوحيد في النار وأن النار لا يخرج منها من دخلها. وهذا تغليظ على أهل الذنوب - ضموا إلى ذلك القدر. فإن به يتم التغليظ على أهل الذنوب. ولم يكن الناس إذ ذاك قد أحدثوا شيئا من نفي الصفات.
    إلى أن ظهر الجعد بن درهم وهو أولهم فضحى به خالد بن عبد الله القسري وقال " أيها الناس ضحوا. تقبل الله ضحاياكم. فإني مضح بالجعد بن درهم. إنه زعم: أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما. تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا " ثم نزل فذبحه. وهذا كان بالعراق. ثم ظهر جهم بن صفوان من ناحية المشرق من ترمذ. ومنها ظهر رأي جهم. ولهذا كان علماء السنة والحديث بالمشرق: أكثر كلاما في رد مذهب جهم من أهل الحجاز والشام والعراق مثل إبراهيم بن طهمان وخارجة بن مصعب ومثل عبد الله بن المبارك وأمثالهم - وقد تكلم في ذمهم - وابن الماجشون وغيرهما وكذلك الأوزاعي وحماد بن زيد وغيرهم. وإنما اشتهرت مقالتهم من حين محنة الإمام أحمد بن حنبل وغيره من علماء السنة.

    فإنهم في إمارة المأمون قووا وكثروا. فإنه كان قد أقام بخراسان مدة. واجتمع بهم. ثم كتب بالمحنة من طرسوس سنة ثماني عشرة ومائتين. وفيها مات. وردوا أحمد بن حنبل إلى الحبس ببغداد إلى سنة عشرين. وفيها كانت محنته مع المعتصم ومناظرته لهم في الكلام. فلما رد عليهم ما احتجوا به عليه وبين أن لا حجة لهم في شيء من ذلك وأن طلبهم من الناس أن يوافقوهم وامتحانهم إياهم: جهل وظلم. وأراد المعتصم إطلاقه. فأشار عليه من أشار بأن المصلحة ضربه حتى لا تنكسر حرمة الخلافة مرة بعد مرة. فلما ضربوه قامت الشناعة عليهم في العامة وخافوا الفتنة. فأطلقوه. وكان أحمد بن أبي دؤاد قد جمع له نفاة الصفات القائلين بخلق القرآن من جميع الطوائف. فجمع له مثل أبي عيسى محمد بن عيسى برغوث من أكابر النجارية أصحاب حسين النجار. وأئمة السنة - كابن المبارك وأحمد، وإسحاق والبخاري وغيرهم - يسمون جميع هؤلاء: جهمية. وصار كثير من المتأخرين - من أصحاب أحمد وغيرهم - يظنون أن خصومه كانوا المعتزلة. ويظنون أن بشر بن غياث المريسي - وإن كان قد مات قبل محنة أحمد وابن أبي دؤاد ونحوهما - كانوا معتزلة. وليس كذلك.
    بل المعتزلة كانوا نوعا من جملة من يقول القرآن مخلوق. وكانت الجهمية أتباع جهم والنجارية أتباع حسين النجار والضرارية أتباع ضرار بن عمرو والمعتزلة هؤلاء يقولون: القرآن مخلوق. وبسط هذا له موضع آخر. والمقصود هنا: أن جهما اشتهر عنه نوعان من البدعة. أحدهما:نفي الصفات،
    والثاني: الغلو في القدر والإرجاء. فجعل الإيمان مجرد معرفة القلب. وجعل العباد لا فعل لهم ولا قدرة. وهذان مما غلت المعتزلة في خلافه فيهما. وأما الأشعري: فوافقه على أصل قوله ولكن قد ينازعه منازعات لفظية. وجهم لم يثبت شيئا من الصفات - لا الإرادة ولا غيرها - فهو إذا قال: إن الله يحب الطاعات ويبغض المعاصي. فمعنى ذلك عنده: الثواب والعقاب. وأما الأشعري: فهو يثبت الصفات - كالإرادة - فاحتاج حينئذ أن يتكلم في الإرادة: هل هي المحبة أم لا؟ وأن المعاصي: هل يحبها الله أم لا؟ فقال: إن المعاصي يحبها الله ويرضاها كما يريدها. وذكر أبو المعالي الجويني: أنه أول من قال ذلك وأن أهل السنة قبله كانوا يقولون: إن الله لا يحب المعاصي. وذكر الأشعري في الموجز: أنه قد قال ذلك قبله طائفة سماهم. أشك في بعضهم.
    وشاع هذا القول في كثير من الصوفية ومشايخ المعرفة والحقيقة فصاروا يوافقون جهما في مسائل الأفعال والقدر وإن كانوا مكفرين له في مسائل الصفات كأبي إسماعيل الأنصاري الهروي صاحب كتاب " ذم الكلام " فإنه من المبالغين في ذم الجهمية لنفيهم الصفات. وله كتاب " تكفير الجهمية " ويبالغ في ذم الأشعرية مع أنهم من أقرب هذه الطوائف إلى السنة والحديث. وربما كان يلعنهم.

    وقد قال له بعض الناس - بحضرة نظام الملك - أتلعن الأشعرية؟ فقال: ألعن من يقول: ليس في السموات إله ولا في المصحف قرآن ولا في القبر نبي. وقام من عنده مغضبا. ومع هذا فهو في مسألة إرادة الكائنات وخلق الأفعال: أبلغ من الأشعرية. لا يثبت سببا ولا حكمة بل يقول: إن مشاهدة العارف الحكم لا تبقى له استحسان حسنة ولا استقباح سيئة. والحكم عنده: هي المشيئة. لأن العارف المحقق - عنده - هو من يصل إلى مقام الفناء. فيفنى عن جميع مراداته بمراد الحق. وجميع الكائنات مرادة له. وهذا هو الحكم عنده. و " الحسنة " و " السيئة " يفترقان في حظ العبد لكونه ينعم بهذه ويعذب بهذه. والالتفات إلى هذا هو من حظوظ النفس. ومقام الفناء ليس فيه إلا مشاهدة مراد الحق.

    وهذه المسألة وقعت في زمن الجنيد كما ذكر ذلك في غير موضع. وبين لهم الجنيد الفرق الثاني. وهو أنهم - مع مشاهدة المشيئة العامة - لا بد لهم من مشاهدة الفرق بين ما يأمر الله به وما ينهى عنه وهو الفرق بين ما يحبه وما يبغضه. وبين لهم الجنيد كما قال في التوحيد: هو إفراد الحدوث عن القدم. فمن سلك مسلك الجنيد من أهل التصوف والمعرفة كان قد اهتدى ونجا وسعد. ومن لم يسلك في القدر مسلكه بل سوى بين الجميع: لزمه أن لا يفرق بين الحسنات والسيئات وبين الأنبياء والفساق. فلا يقول: إن الله يحب هؤلاء وهذه الأعمال.
    ولا يبغض هؤلاء وهذه الأعمال. بل جميع الحوادث: هو يحبها كما يريدها كما قاله الأشعري. وإنما الفرق: أن هؤلاء ينعمون. وهؤلاء يعذبون. والأشعري لما أثبت الفرق بين هذا وهذا - بالنسبة إلى المخلوق - كان أعقل منهم. فإن هؤلاء يدعون: أن العارف الواصل إلى مقام الفناء لا يفرق بين هذا وهذا.
    وهم غلطوا في حق العبد وحق الرب. أما في حق العبد: فيلزمهم أن تستوي عنده جميع الحوادث. وهذا محال قطعا. وهم قد تمر عليهم أحوال يفنون فيها عن أكثر الأشياء. أما الفناء عن جميعها: فممتنع. فإنه لا بد أن يفرق كل حي بين ما يؤلمه وبين ما يلذه. فيفرق بين الخبز والتراب والماء والشراب. فهؤلاء: عزلوا الفرق الشرعي الإيماني الرحماني الذي به فرق الله بين أوليائه وأعدائه. وظنوا أنهم مع الجمع القدري.
    وعلى هذا: فإن تسوية العبد بين جميع الحوادث ممتنع لذاته بل لا بد للعبد من أن يفرق. فإن لم يفرق بالفرق الشرعي - فيفرق بين محبوب الحق ومكروهه وبين ما يرضاه وما يسخطه - وإلا فرق بالفرق الطبعي بهواه وشيطانه. فيحب ما تهواه نفسه وما يأمر به شيطانه. ومن هنا: وقع منهم خلق كثير في المعاصي. وآخرون في الفسوق. وآخرون في الكفر. حتى جوزوا عبادة الأصنام. ثم كثير منهم من ينتقل إلى وحدة الوجود. وهم الذين خالفوا الجنيد وأئمة الدين في التوحيد. فلم يفرقوا بين القديم والمحدث. وهؤلاء صرحوا بعبادة كل موجود. كما قد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع. وهو قول أهل الوحدة كابن عربي الحاتمي وابن سبعين والقونوي والتلمساني والبلياني وابن الفارض وأمثالهم. والمقصود هنا: الكلام على من نفى الحكم والعدل والأسباب في القدر بين أهل الكلام والمتصوفة الذين وافقوا جهما في هذا الأصل. وهو بدعته الثانية التي اشتهرت عنه بخلاف الإرجاء.

    فإنه منسوب إلى طوائف غيره. فهؤلاء يقولون: إن الرب يجوز أن يفعل كل ما يقدر عليه ويمكن فعله من غير مراعاة حكمة ولا رحمة ولا عدل. ويقولون: إن مشيئته هي محبته. ولهذا تجد من اتبعهم: غير معظم للأمر والنهي والوعد والوعيد بل هو منحل عن الأمر الشرعي كله أو عن بعضه أو متكلف لما يعتقده أو يعلمه. فإنهم أرادوا: أن الجميع بالنسبة إلى الرب سواء وأن كل ما شاءه فقد أحبه. وأنه يحدث ما يحدثه بدون أسباب يخلقه بها ولا حكمة يسوقه إليها بل غايته: أنه يسوق المقادير إلى المواقيت.

    لم يبق عندهم فرق في نفس الأمر بين المأمور والمحظور. بل وافقوا جهما ومن قال بقوله - كالأشعري - في أنه في نفس الأمر: لا حسن ولا سيئ. وإنما الحسن والقبح: مجرد كونه مأمورا به ومحظورا. وذلك فرق يعود إلى حظ العبد. وهؤلاء يدعون الفناء عن الحظوظ. فتارة: يقولون في امتثال الأمر والنهي: إنه من مقام التلبيس أو ما يشبه هذا. كما يوجد في كلام أبي إسماعيل الهروي صاحب منازل السائرين.
    وتارة يقولون: يفعل هذا لأهل المارستان أي العامة. كما يقوله الشيخ المغربي إلى أنواع ليس هذا موضع بسطها. ومن يسلك مسلكهم: غايته - إذا عظم الأمر والنهي - أن يقول كما نقل عن الشاذلي: يكون الجمع في قلبك مشهودا. والفرق على لسانك موجودا. ولهذا يوجد في كلامه وكلام غيره: أقوال وأدعية وأحزاب تستلزم تعطيل الأمر والنهي. مثل أن يدعو: أن يعطيه الله إذا عصاه أعظم مما يعطيه إذا أطاعه ونحو هذا مما يوجب أنه يجوز عنده: أن يجعل الذين اجترحوا السيئات كالذين آمنوا وعملوا الصالحات بل أفضل منهم. ويدعون بأدعية فيها اعتداء كما يوجد في حزب الشاذلي. وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع. وآخرون من عوام هؤلاء يجوزون: أن يكرم الله بكرامات أكابر الأولياء من يكون فاجرا بل كافرا. ويقولون: هذه موهبة وعطية يعطيها الله من يشاء. ما هي متعلقة لا بصلاة ولا بصيام. ويظنون أن تلك من كرامات الأولياء

    . وتكون كراماتهم: من الأحوال الشيطانية التي يكون مثلها للسحرة والكهان. قال الله تعالى {ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون} {واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت}. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم {لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه}.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #220
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,763

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ النساء
    المجلد السادس
    الحلقة( 218)

    من صــ 31 الى صـ 40

    والمسلمون الذين جاءهم كتاب الله القرآن: عدل كثير منهم - ممن أضله الشيطان من المنتسبين إلى الإسلام - إلى أن نبذ كتاب الله وراء ظهره واتبع ما تتلوه الشياطين. فلا يعظم أمر القرآن ولا نهيه. ولا يوالي من أمر القرآن بموالاته. ولا يعادي من أمر القرآن بمعاداته. بل يعظم من رآه يأتي ببعض خوارقهم التي يأتي بمثلها السحرة والكهان. بإعانة الشياطين. وهي تحصل بما تتلوه الشياطين. ثم منهم من يعرف: أن هذا من الشيطان. ولكن يعظم ذلك لهواه ويفضله على طريق القرآن ليصل به إلى تقديس العامة. وهؤلاء كفار. كالذين قال الله تعالى فيهم {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا} {أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا}.
    وهؤلاء ضاهوا الكفار الذين قال الله تعالى فيهم {ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون} {واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا} الآية. ومنهم: من لا يعرف أن هذا من الشياطين. وقد يقع في مثل هذا طوائف من أهل الكلام والعلم وأهل العبادة والتصوف. حتى جوزوا عبادة الكواكب والأصنام. لما رأوه فيها من الأحوال العجيبة. التي تعينهم عليها الشياطين. لما يحصل لهم بها من بعض أغراضهم من الظلم والفواحش فلا يبالون بشركهم بالله ولا كفرهم به وبكتابه إذا نالوا ذلك ولم يبالوا بتعليم ذلك للناس. وتعظيمهم لهم. لرياسة ينالونها أو مال ينالونه. وإن كانوا قد علموا أنه الكفر والشرك: عملوه ودعوا إليه. بل حصل عندهم ريب وشك فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. أو اعتقاد أن الرسول خاطب الجمهور بما لا حقيقة له في الباطن. لأجل مصلحة الجمهور. كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة والملاحدة والباطنية. وقد دخل في رأي هؤلاء طائفة من هؤلاء وهؤلاء. وهذا مما ضاهوا به فارس والروم وغيرهم.

    فإن فارس كانت تعظم الأنوار وتسجد للشمس وللنار. والروم كانوا - قبل النصرانية - مشركين يعبدون الكواكب والأصنام فهؤلاء الذين أشبهوا فارس والروم: شر من الذين أشبهوا اليهود والنصارى. فإن أولئك ضاهوا أهل الكتاب فيما بدل أو نسخ. وهؤلاء ضاهوا من لا كتاب له من المجوس والمشركين فارس والروم ومن دخل في ذلك من الهند واليونان. ومذهب الملاحدة الباطنية: مأخوذ من قول المجوس بالأصلين ومن قول فلاسفة اليونان بالعقول والنفوس. وأصل قول المجوس: يرجع إلى أن تكون الظلمة المضاهية للنور: هي إبليس وقول الفلاسفة بالنفس. فأصل الشر: عبادة النفس والشيطان وجعلهما شريكان للرب وأن يعدلا به. ونفس الإنسان تفعل الشر بأمر الشيطان. وقد {علم النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه أن يقول - إذا أصبح وإذا أمسى وإذا أخذ مضجعه - اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة.
    أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون. اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك. إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم}. وهذا من تمام تحقيق قوله تعالى {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} مع قوله تعالى {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} وقوله {لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} وقد ظهرت دعوى النفس الإلهية في فرعون ونحوه ممن ادعى أنه إله مع الله أو من دونه وظهرت فيمن ادعى إلهية بشر مع الله كالمسيح وغيره.
    وأصل الشرك في بني آدم: كان من الشرك بالبشر الصالحين المعظمين. فإنهم لما ماتوا: عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم عبدوهم. فهذا أول شرك كان في بني آدم. وكان في قوم نوح. فإنه أول رسول بعث إلى أهل الأرض. يدعوهم إلى التوحيد. وينهاهم عن الشرك. كما قال تعالى {وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا} {وقد أضلوا كثيرا} وهذه أسماء قوم صالحين كانوا في قوم نوح.

    فلما ماتوا جعلوا الأصنام على صورهم ثم ذهبت هذه الأصنام لما أغرق الله أهل الأرض ثم صارت إلى العرب. كما ذكر ذلك ابن عباس وغيره. إن لم تكن أعيانها وإلا فهي نظائرها. وأما الشرك بالشيطان: فهذا كثير. فمتى لم يؤمن الخلق بأنه " لا إله إلا الله " بمعنى: أنه المعبود المستحق للعبادة دون ما سواه. وأنه يحب أن يعبد وأنه أمر أن يعبد وأنه لا يعبد إلا بما أحبه مما شرع من واجب ومستحب - فلا بد أن يقعوا في الشرك وغيره. فالذين جعلوا الأقوال والأفعال كلها بالنسبة إلى الله سواء. لا يحب شيئا دون شيء: فلا فرق عنده بين من يعبده وحده لا يشرك به شيئا. وبين من يعبد معه آلهة أخرى. وجعلوا الأمر معلقا بمشيئة. ليس معها حكمة ولا رحمة ولا عدل. ولا فرق فيها بين الحسنات والسيئات: طمعت النفس في نيل ما تريده بدون طاعة الله ورسوله. ثم إذا جوزوا الكرامات لكل من زعم الصلاح ولم يقيدوا الصلاح بالعلم الصحيح والإيمان الصادق والتقوى بل جعلوا علامة الصلاح هذه الخوارق. وجوزوا الخوارق مطلقا. وحكوا في ذلك مكاشفات وقالوا أقوالا منكرة.

    فقال بعضهم: إن الولي يعطى قول " كن " وقال بعضهم: إنه لا يمتنع على الولي فعل ممكن. كما لا يمتنع على الله تعالى فعل محال. وهذا قاله ابن عربي والذين اتبعوه. قالوا: إن الممتنع لذاته مقدور عليه ليس عندهم ما يقال: إنه غير مقدور عليه للولي حتى ولا الجمع بين الضدين ولا غير ذلك. وزاد ابن عربي: أن الولي لا يعزب عن قدرته شيء من الممكنات. والذي لا يعزب عن قدرته شيء من الممكنات: هو الله وحده. فهذا تصريح منهم: بأن الولي مثل الله إن لم يكن هو الله.
    وصرح بعضهم: بأنه يعلم كل ما يعلمه الله. ويقدر على كل ما يقدر الله عليه. وادعوا أن هذا كان للنبي ثم انتقل إلى الحسن بن علي ثم من الحسن إلى ذريته واحدا بعد واحد. حتى انتهى ذلك إلى أبي الحسن الشاذلي ثم إلى ابنه. خاطبني بذلك: من هو من أكابر أصحابهم. وحدثني الثقة من أعيانهم أنهم يقولون: إن محمدا هو الله. وحدثني بعض الشيوخ الذين لهم سلوك وخبرة: أنه كان هو وابن هود في مكة فدخلا الكعبة.

    فقال له ابن هود - وأشار إلى وسط الكعبة - هذا مهبط النور الأول. وقال له: لو قال لك صاحب هذا البيت: أريد أن أجعلك إلها ماذا كنت تقول له؟ قال: وقف شعري من هذا الكلام وانخنست - أو كما قال. ومن الناس من يحكي عن سهل بن عبد الله: أنه لما دخل الزنج البصرة. قيل له في ذلك. فقال: هاه إن ببلدكم هذا من لو سألوا الله أن يزيل الجبال عن أماكنها لأزالها. ولو سألوه:أن لا يقيم القيامة لما أقامها. لكنهم يعلمون مواضع رضاه فلا يسألونه إلا ما يحب. وهذه الحكاية: إما كذب على سهل - وهو الذي نختار أن يكون حقا - أو تكون غلطا منه. فلا حول ولا قوة إلا بالله. وذلك: أن ما أخبر الله أن يكون فلا بد أن يكون. ولو سأله أهل السموات والأرض أن لا يكون: لم يجبهم مثل إقامة القيامة وأن لا يملأ جهنم من الجنة والناس أجمعين وغير ذلك. بل كل ما علم الله أنه يكون فلا يقبل الله دعاء أحد في أن لا يكون. لكن الدعاء سبب يقضي الله به ما علم الله: أنه سيكون بهذا السبب كما يقضي بسائر الأسباب ما علم: أنه سيكون بها.

    وقد سأل الله تعالى - من هو أفضل من كل من في البصرة بكثير - ما هو دون هذا فلم يجابوا. لما سبق الحكم بخلاف ذلك كما سأله إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن يغفر لأبيه. وكما سأله نوح عليه السلام سأله نجاة ابنه. فقيل له {يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم}. وأفضل الخلق محمد صلى الله عليه وسلم قيل له في شأن عمه أبي طالب {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى} وقيل له في المنافقين {سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم} وقد قال تعالى عموما {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} وقال {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} فمن هذا الذي لو سأل الله ما يشاؤه هو أعطاه إياه. {وسيد الشفعاء محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة. أخبر أنه يسجد تحت العرش ويحمد ربه ويثني عليه. فيقال له: أي محمد ارفع رأسك وقل يسمع. وسل تعط. واشفع تشفع.
    قال: فيحد لي حدا. فأدخلهم الجنة} وقد قال تعالى {ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين}. وأي اعتداء أعظم وأشنع من أن يسأل العبد ربه: أن لا يفعل ما قد أخبر أنه لا بد أن يفعله أو أن يفعل ما قد أخبر أنه لا يفعله. وهو سبحانه كما أخبر عن نفسه {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} وقال {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين}. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال {ما من داع يدعو الله بدعوة ليس فيها ظلم ولا قطيعة رحم: إلا أعطاه الله بها إحدى خصال ثلاث: إما أن يعجل له دعوته. وإما أن يدخر له من الخير مثلها. وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها}. فالدعوة التي ليس فيها اعتداء يحصل بها المطلوب أو مثله. وهذا غاية الإجابة. فإن المطلوب بعينه قد يكون ممتنعا. أو مفسدا للداعي أو لغيره. والداعي جاهل لا يعلم ما فيه المفسدة عليه. والرب قريب مجيب.
    وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها. والكريم الرحيم إذا سئل شيئا بعينه وعلم أنه لا يصلح للعبد إعطاؤه: أعطاه نظيره كما يصنع الوالد بولده إذا طلب منه ما ليس له. فإنه يعطيه من ماله نظيره. ولله المثل الأعلى. وكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم - لما طلبت منه طائفة من بني عمه أن يوليهم ولاية لا تصلح لهم - فأعطاهم من الخمس ما أغناهم عن ذلك وزوجهم كما فعل بالفضل بن عباس وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. وقد روي في الحديث {ليس شيء أكرم على الله من الدعاء} وهذا حق.
    فصل:
    ولما كان الأمر كما أخبر الله به في قوله {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} أوجب هذا: أن لا يطلب العبد الحسنات - والحسنات تدخل فيها كل نعمة - إلا من الله. وأن يعلم أنها من الله وحده فيستحق الله عليها الشكر الذي لا يستحقه غيره. ويعلم أنه لا إله إلا هو. كما قال تعالى {وما بكم من نعمة فمن الله}. فهذا يوجب على العبد شكره وعبادته وحده. ثم قال {ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون} وهذا إخبار عن حالهم والجؤار: يتضمن رفع الصوت. والإنسان إنما يجأر إذا أصابه الضر. وأما في حال النعمة: فهو ساكن إما شاكرا وإما كفورا {ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون} {ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون}.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •