قال سيبويه في باب (ما يكون في اللفظ من الأعراض):"...، وأما استغناؤهم بالشيء عن الشيء، فإنهم يقولون (يدع)، ولا يقولون (ودع)، استغنوا عنها بترك"([1]).
وقال الأخفش: "... وليس كل الأفعال يقع على كل الأسماء. ألا ترى أنهم يقولون "يَدَعُ" ولا يقولون "وَدَعَ" [ويقولون "يَذَرُ"] ولا يقولون: "وَذَر"([2]).
وتابع طائفة من النحاة سيبويه فيما ذهب إليه([3])، وقد يعذر سيبويه في قوله؛ إذ لم يبلغه نصٌ عن العرب في مصدر (يدع) أو ماضيه، ولكن العذر ينسحب تدريجيا عن النحاة الآخرين عندما تصلهم النصوصُ نافية ما زعمه سيبويه، حتى قال ابن جني: "فإن كان الشيء شاذا في السماع، مطردا في القياس؛ تحاميت ما تحامت العرب من ذلك، وجريت في نظيره على الواجب في أمثاله، من ذلك امتناعك من (وَذَر) و(وَدَع)؛ لأنهم لم يقولوهما ..."([4]). فمع اعترافه بأنه مطرد في القياس، إلا أنه يؤكد على أنه شاذ في السماع, ودليله على ذلك أن العرب لم تقله !!
ثم جاء السيوطي فقال: "...، فعلى هذا يعدان في الجوامد (أي: يذر ويدع) إذ لم يستعمل منهما إلا الأمر([5])، ومن غير الغالب ما قرئ ﴿ما وَدَعك ربك﴾ فخففا، وحديث أبي داود وغيره ((دعوا الحبشة ما ودعوكم))، وحديث ((لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات))، وحديث البخاري ((غير مكفي، ولا مكفور، ولا مودَّع))، وقول الشاعر:
جرى وهو مودوع وواعد([6])
وقال السيوطي أيضا عن (وَدْعهم الجمعات): "أي تركهم، وهو مما أميت هو وماضيه، ولم يستعمل منه إلا المضارع والأمر، والظاهر أن استعماله هنا من الرواة المولدين الذين لا يحسنون العربية"([7]).
هكذا الأمر إذن عند السيوطي !! الرواة المولدون متهمون بإفساد الشواهد الحديثية، كلما جاء حديث يخالف مذهبه، فهو حديث مبدل، محرف من قبل الرواة، ولو كان هذا الحديث في صحيح البخاري ومسلم، والسنن، ودواوين السنة المعتمدة!!
وليس ما ذكره السيوطي من شواهد هي كل ما يستدل به على صحة استعمال مصدر وماضي (يدع) في غير ضرورة ولا شذوذ، وأن استعمالهما فصيح صحيح، لا شيء فيه، فقد قال النووي (ت:676هـ): "ثبت في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من وَدَعَه (أو تركه) الناس اتقاء فحشه) هكذا رواه البخاري ومسلم، ورواه أبو داود والترمذي على الشك، ورُوِّينا في مسند أبي عوانة الأسفراييني عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال:"إن أدعكم فلا أستخلف عليكم، فقد وَدَعكم خيرٌ مني"..."([8]).
ودافع المطرزي([9]) والمازري, وابن الأثير([10]) والقاضي عياض([11]) وغيرهم([12]) عن لغة الحديث النبوي التي وردت فيها هذه الاستعمالات الفصيحة الصحيحة وتناقلوا مقولة شَمِر بن حمدويه (ت:255هـ): "معنى (وَدْعهم الجمعات) تركهم إياها، من وَدَعْته وَدْعا، إذا تركته، ...، وزعمت النحوية أن العرب أماتوا مصدر يدع ويذر، واعتمدوا على الترك،...، والنبي أفصح العرب، وقد رويت عنه هذه الكلمة"([13]).
هكذا أطلقها هذا العالم الجليل مدوية من عبق النحاة الأول، وثبت استخدام أفصح العرب لهذه اللغة, وإذا جاء نَهْرُ الله ، بَطَلَ نهرُ مَعْقَلِ.
([1]) الكتاب، 1/ 24، 25.
([2]) معاني القرآن 2/520
([3]) انظر: المسائل البصريات للفارسي،صـ401، والخصائص لابن جني، 1/ 97، 99، 266، 396، والمحتسب، 2/ 364، 365، والإنصاف في مسائل الخلاف لابن الأنباري، 2/ 487، و(ليس في كلام العرب) لابن خالويه،صـ41، وارتشاف الضرب لأبي حيان، 3/ 14.
([4]) الخصائص، 1/ 99.
([5]) والمضارع كما سيذكر هو في النقل التالي
([6]) همع الهوامع، 3/ 16.
([7]) شرح سنن النسائي، 1/ 426.
([8]) تهذيب الأسماء واللغات، 2/ 614.
([9]) المغرب في ترتيب المعرب، 2/ 346.
([10]) النهاية في غريب الحديث والأثر، مادة (ودع)
([11]) مشارق الأنوار على صـحاح الآثار، 2/ 282.
([12]) انظر: المصباح المنير للفيومي، 899، ولسان العرب لابن منظور، مادة (ودع)، وتاج العروس من جواهر القاموس، 22/ 306، وخزانة الأدب للبغدادي، 6/ 471، 472.
([13]) انظر: المراجع السابقة، وتهذيب اللغة للأزهري، مادة (ودع).