فصل : تمييز الصحيح من السقيم فيما ورد في كتاب الفصل في الملل حول أقسام المحال ([1])
والآن أريد بحول الله تعالى أن أبين الصحيح من السقيم فيما ورد في كتاب الفصل في الملل والأهواء والنحل حول أقسام المحال ، وبيان أن الباطل الذي ورد فيه مناقض لما قرره الإمام ابن حزم في نفس الكتاب ، وأنه لا يمكن أن يصدر مثل هذه الأباطيل من عالم مثل الإمام ابن حزم رحمه الله .
وأنا أنقل لكم النص كاملاً مجزئاً مع التعليق عليه .
( قال أبو محمد : وقد اضطرب الناس في السؤال عن أشياء ذكروها وسألوا هل يقدر الله تعالى عليها أم لا واضطربوا أيضاً في الجواب عن ذلك .
قال أبو محمد : ونحن مبينون بحول الله وقوته وجه تحقيق السؤال عن ذلك وتحقيق الجواب فيه دون تخليط ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . فنقول وبالله تعالى التوفيق : أن السؤال إذا حقق بلفظ يفهم السائل منه مراد نفسه ويفهم المسئول مراد السائل عنه فهو سؤال صحيح والجواب عنه لازم ، ومن أجاب عنه بأن هذا سؤال فاسد وأنه محال فإنما هو جاهل بالجواب منقطع متسلل عنه.
وأما السؤال الذي يفسد بعضه بعضاً وينقض آخره أوله فهو سؤال فاسد لم يحقق بعد ، وما لم يحقق السؤال عنه فلم يسأل عنه ، وما لم يسأل عنه فلا يلزم عنه جواب على مثله ، فهاتان قضيتان جامعتان وكافيتان في هذا المعنى لا يشذ عنهما شيء منه إلا أنه لابد من جواب ببيان حوالته لا على تحقيقه ولا على تشكله ولا على توهمه وبالله تعالى التوفيق ) . اهـ
أقول بحول الله تعالى : إلى هنا لا إشكال وهي مقدمة جيدة سديدة ، وقصده من آخر جملة (إلا أنه لابد من جواب ببيان حوالته لا على تحقيقه ولا على تشكله ولا على توهمه) أن السؤال الذي يفسد بعضه بعضاً وإن لم يلزم عليه إجابة لأنه لم يسأل بعد ، لكن لا بد من جواب على حوالته أي على ما يؤول إليه ، أي نجيب الشخص ببيان فساد سؤاله ، وليس جوابنا على أن سؤاله متحقق أو متشكل أو حتى أنه متوهم ، فالسؤال الفاسد ليس متحقق ولا متشكل ولا متوهم أصلاً ، وبالله التوفيق . اهـ
(... ثم نحد المسئول عنه في هذا الباب بحدٍ جامع بحول الله تعالى وقوته فيرتفع الإشكال في هذه المسألة إن شاء الله تعالى فنقول وبالله تعالى التوفيق وبه نتأيد أن الشيء المسئول عنه في هذا الباب إن كان إنما سأل السائل عن القدرة على إحداث فعل مبتدأ أو على إعدام فعل مبتدأ ، فالمسئول عنه مقدور عليه ولا نحاشي شيئاً ، والسؤال صحيح والجواب عنه بنعم لازم ، وإن كان المسئول عنه ما لا ابتداء له فالسؤال عن تغييره أو إحداثه أو إعدامه سؤال متفاسد لا يمكن السائل عنه فهم معنى سؤاله ولا تحقيق سؤاله ، وما كان هكذا لا يلزم الجواب عنه على تحقيقه ولا على تشكله لأن الجواب عن التشكل لا يكون إلا عن سؤال ، وليس ها هنا سؤال أصلاً ). اهـ
أقول بحول الله تعالى : وهذه مقدمة رائعة أيضاً ، وهذه القاعدة والتي قبلها تدل على رجاحة عقل ابن حزم وفرط ذكائه ، وأن الكلام المشكل الذي ورد فيما سيأتي لا يمكن أن يقول به هذا العالم الجليل لأنه سيناقض بذلك هاتين القاعدتين الهامتين . اهـ
(... ثم نقول وبالله تعالى نتأيد أن من الواجب أن نبين بحول الله تعالى وقوته ما المحال وعلى أي معنى تقع هذه اللفظة وعما ذا يعبر به عنه ، فإن من قام بشيء ولم يعرف تحقيق معناه فهو في غمرات من الجهل فنقول وبالله تعالى نتأيد : إن المحال ينقسم أربعة أقسام لا خامس لها أحدها محال بالإضافة والثاني محال في الوجود والثالث محال فيما بيننا في بنية العقل عندنا والرابع محال مطلق .
فالمحال بالإضافة : مثل نبات اللحية لابن ثلاث سنين ، وإحباله امرأة ، وكلام الأبله الغبي في دقائق المنطق ، وصوغه الشعر العجيب ، وما أشبه هذا ، فهذه المعاني موجودة في العالم ممن هي ممكنة منه ممتنعة من غيرهم .
وأما المحال في الوجود : فكانقلاب الجماد حيواناً ، والحيوان جماداً أو حيواناً آخر ، وكنطق الحجر ، واختراع الأجسام ، وما أشبه هذا ، فإن هذا كله ليس ممكناً عندنا البتة ولا موجوداً ولكنه متوهم في العقل متشكل في النفس كيف كان يكون لو كان .
وبهذين القسمين تأتي الأنبياء عليهم السلام في معجزاتهم الدالة على صدقهم في النبوة ) اهـ
أقول بحول الله تعالى : وهذا هو الحق الذي لا محيد عنه ، والمقصود من اختراع الأجسام أي إيجادها من العدم ، والأنبياء عندما يأتون بمثل هذا المحال ، يكون الإيجاد من الله سبحانه وتعالى بلا شك ، وإنما يظهر هذا الأمر على أيديهم ، مثل انقلاب عصا موسى عليه السلام حية وما شابهه . فالله سبحانه وتعالى قادر على المستحيلات ، ووجه إتيان الأنبياء بهذه المحالات على وجه ظهور هذه الأمور على أيديهم ، وليس على وجه أنهم هم أحدثوا هذه الأشياء فتأمل ، وبالله تعالى التوفيق . اهـ
( ... وأما المحال فيما بيننا في بنية العقل فكون المرء قائماً قاعداً لا قاعداً معاً وسائر ما لا يتشكل في العقل فيما يقع فيه التأثير لو أمكن فيما دون الباري عز وجل ، فهذه الوجوه الثلاثة من سأل عنها أيقدر الله تعالى عليها فهو سؤال صحيح مفهوم معروف وجهه ، يلزم الجواب عنه بنعم ، إن الله قادر على ذلك كله . إلا أن المحال في بنية العقل فيما بيننا لا يكون البتة في هذا العالم لا معجزة لنبي ولا بغير ذلك البتة هذا واقع في النفس بالضرورة ، ولا يبعد أن يكون الله تعالى يفعل هذا في عالم له آخر ) . اهـ
أقول بحول الله تعالى : قوله (وسائر ما لا يتشكل في العقل فيما يقع فيه التأثير لو أمكن)أي الأمور التي لا تتشكل في العقل لو تخيل العقل إمكانية حدوثها . قوله (فيما دون الباري عز وجل) استثناء للمحال المطلق الذي سيأتي بيانه . قوله ( فهذه الوجوه الثلاثة من سأل عنها أيقدر الله تعالى عليها فهو سؤال صحيح مفهوم معروف وجهه )من الخلط العجيب ، فإنني قد بينت بحول الله تعالى وقدرته أن هذه الأشياء من العدم ، وهي لا شيء باتفاق العقلاء ، ونرد على هذا القول بالقاعدتين التي قررهما ابن حزم في بداية الكلام فراجعهما ، وراجع كلامنا على المحال لذاته في الجزء الأول من هذه الرسالة . ولكن نعود فنؤكد مسألة مهمة وهي أن الأمور التي لا تتشكل في العقل فيما يقع فيه التأثير لو أمكن أنواع :
النوع الأول : ما لا يتشكل في العقل لأن العقل ليست لديه القدرة الكافية لتصور مثل هذه الأمور ، ولا يعني عجز العقل عن تصور مثل هذه الأمور أن ينكر الموحد قدرة الله عليها ، فالعقل بطبيعته عاجز عن كثير من الأمور ، وكذلك فإن عجز العقل عن تصور بعض الأمور لا يكون عذراً في عدم الإيمان بقدرة الله عليها ، فإنه لا يكيل قدرة الله تعالى بعقله العاجز إلا كافر ما قدر الله حق قدره .
النوع الثاني : ما لا يتشكل في العقل لأنه لاشيء ، ولأنه لا حقيقة له أصلاً ، وهو عرف بالعقل بطلانه وكونه لا شيء ، مثل المحال لذاته ، مثل الجمع بين النقيضين في وقت واحد والذي حاصل جمعها في آن واحد هو اللاشيء أي العدم .
وإلى هذا النوع الثاني أشار بقوله في كتابه التقريب لحد المنطق (1/43) : ( فمحال لا يتشكل في العقل أن يكون شيء قائم بنفسه لا قائم بنفسه ) . وقال في موضع آخر (1/53) : ( والكذب على الخالق عز وجل كذب بحت ، وكذلك المحال كذب بحت ، متساو كل ذلك في أنه كذب استواء صحيحاً ، لا تفاضل فيه ، ولا أشد ولا أضعف ، لكن بعضها أعظم إثما وأقبح في الشناعة من بعض ) اهـ .
أما قوله : ( إلا أن المحال في بنية العقل فيما بيننا لا يكون البتة في هذا العالم لا معجزة لنبي ولا بغير ذلك البتة هذا واقع في النفس بالضرورة ، ولا يبعد أن يكون الله تعالى يفعل هذا في عالم له آخر )فهو من العجب العجاب ، فلماذا هذا التخصيص ؟ فمادام أن هذا شيئاً عنده ، فلماذا يخصص قدرة الله على ذلك في غير هذا العالم ؟؟!
( ... وأما المحال المطلق فهو كل سؤال أوجب على ذات الباري تغييراً فهذا هو المحال لعينه الذي ينقض بعضه بعضاً ويفسد آخره أوله ، وهذا النوع لم يزل محالاً في علم الله تعالى ، ولا هو ممكن فهمه لأحد ، وما كان هكذا فليس سؤالاً ولا سأل سائله عن معنى أصلاً ، وإذا لم يسأل فلا يقتضي جواباً على تحقيقه أو توهمه ، لكن يقتضي جواباً بنعم أو لا لئلا ينسب بذلك إلى وصفه تعالى بعدم القدرة الذي هو العجز بوجه أصلاً ، وإن كنا موقنين بضرورة العقل بأن الله تعالى لم يفعله قط ، ولا يفعله أبداً ، وهذا مثل من سأل أيقدر الله تعالى على نفسه أو على أن يجهل أو على أن يعجز أو أن يحدث مثله أو على إحداث ما لا أول له ، فهذه سؤالات تفسد بعضها بعضاً تشبه كلام الممرورين والمجانين وكلام من لا يفهم وهذا النوع لم يزل الله تعالى يعلمه محالاً ممتنعاً باطلاً قبل حدوث العقل ، وبعد حدوثه أبداً ). اهـ
أقول بحول الله تعالى : الكلام السابق فيه من الحق الأبلج ، والباطل اللجلج ، فراجع القاعدتين اللتين قال بهما في أول حديثه ، ومن ثم انظر إلى هذه الفقرة ، فكيف يقول أن مثل هذه الأمور لا تقتضي جواباً على تحقيقه أو توهمه ومن ثم يقول أنه يقتضي جواباً بنعم أو لا ؟؟؟! وليت شعري كيف يقول أن هذا من المحال المطلق الذي ليس بسؤال ولا سأل صاحبه عن معنى أصلاً ومن ثم يقول أنه يقتضي جواباً بنعم أو لا ؟؟ فما دام ما نطق به الناطق السفيه ليس بسؤال فلماذا يقتضي إجابة أصلاً ؟ وما دام أن هذا يشبه كلام الممرورين والمجانين ، فكيف يقتضي جواباً ، وهل كلام الممرورين والمجانين يجاب عليه ؟؟!!
وعلى فرض أنه يلزم أن يجاب عليه فكيف يجاب على السؤال بنعم أو لا ؟؟؟؟!!! وإذا لاحظت الفقرة التي ذكرها حول نوع المحال الذي أسماه المحال في بنية العقل قال : ( يلزم الجواب عنه بنعم )وهنا يقول يلزم عنه الجواب بنعم أو لا ؟ كل ذلك تناقضات عجيبة ، والله المستعان .
ومن ثم فإن هذه الأسئلة كما وقررنا في الفصل السابق من الكفر والإلحاد والزندقة بمكان ، والجواب عليه بنعم كفر ، والجواب عليه بلا كفر أيضاً ، بل يجاب على مثل هذا الإلحاد ببيان وجه إلحاده ليس إلا ، أي نجيب عليه كما قال ابن حزم ( ببيان حوالته لا على تحقيقه ولا على تشكله ولا على توهمه ) .
وتوضيح ذلك أن من قال لنا : هل يقدر الله تعالى أن يخلق إلها مثله ؟ يريد أن يموه علينا أن ما سأله سؤال صحيح ، ويريد بذلك أنا لو أجبنا بنعم سيقول أثبتم أنه من الممكن أن يكون لله مثيلاً ، ولو أجبناه بلا سيقول قلتم لا يقدر ربكم ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .
نقول له : ما تفوهت به من الكفر والزندقة والإلحاد ، بل من الجنون والسفسطة الكلامية التي لا يتفوه بمثلها إلا كافر زنديق ما قدر الله حق قدره ، فإن سؤالك يفسد أوله آخره ، فإن الله ليس بمخلوق ولا مثيل له ، وهو على كل شيء قدير . فلو كنت مستفهما منا وقلت لنا هل ربكم مخلوق ؟ لقلنا لك لا ليس بمخلوق ، كيف يكون مخلوقاً وهو خلق كل شيء ؟ ولو كنت مستفهماً منا وقلت لنا هل لربكم مثيل ؟ لقلنا لك : لا ربنا ليس كمثله شيء ، فهو واحد في ذاته وصفاته وأفعاله . ولو كنت مستفهماً منا وقلت لنا ، هل من الممكن وجود إله ثان مع الله لقلنا لك مستحيل وهاك رد ربنا عليك ، حيث قال ربنا في كتابه العزيز : ] لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ [` (الأنبياء: 22) ، ولو كنت مستفهماً منا وقلت لنا هل ربكم على كل شيء قدير ؟ لقلنا لك نعم ربنا على كل شيء قدير ، فهو منزه عن العجز مطلقاً وعن كل صفات النقص ، ومنزه أن تكون صفاته ناقصة ، تبارك ربنا وتعالى . فهكذا هي الأسئلة المفهومة ، أما حاصل سؤالك معناه هل يقدر ربكم أن لا يقدر ؟ فهو سؤال يفسد أوله آخره ، وينقض بعضه بعضاً ، ومثل هذه الأسئلة معلومة لدى العقلاء بطلانها وعدم كونها سؤالاً صحيحاً . وبالله التوفيق .
أما قوله ( لكن يقتضي جواباً بنعم أو لا لئلا ينسب بذلك إلى وصفه تعالى بعدم القدرة الذي هو العجز بوجه أصلاً )، فإن عدم القدرة على الشيء هو العجز لا محالة ، ولكن المحال المطلق ليس بشيء ولا بسؤال أصلاً ، بل هو العدم ، وكذلك المحال لذاته . ومن ثم الجواب على المحال المطلق بنعم أو لا كلاهما يقتضي الكفر كما وقد بينا ، فكيف يلزم عليه إجابة ، وعلى فرض لزم عليه الإجابة فكيف يطلق الخيار فيقول (جواباً بنعم أو لا) فالله المستعان على هذا الخلط العجيب من الداس . اهـ
( ... وأما المحال في العقل وهو القسم الثالث الذي ذكرنا قبل فإن العقل مخلوق محدث خلقه الله تعالى بعد أن لم يكن وإنما هو قوة من قوى النفس عرض محمول فيها أحدثه الله تعالى وأحدث رتبه على ما هي عليه مختاراً لذلك تعالى ، وبضرورة العقل نعلم أن من اخترع شيئاً لم يكن قط لا على مثال سلف ولا عن ضرورة أوجبت عليه اختراعه ، لكن اختار أن يفعله ، فإنه قادر على ترك اختراعه قادر على اختراع غيره مثله أو خلافه ، ولا فرق بين قدرته على بعض ذلك وبين قدرته على سائره ) اهـ
أقول بحول الله تعالى : لا شك فيما يقوله هنا ، وفيه حق ملبس عليه بباطل ، لكن لا علاقة للأمر بالمحال لذاته ، فلا تغتر بهذا الخلط ، فإنه استدلال ليس في محله ، وبيان وجه ذلك أن الله قادر على اختراع أي شيء على أي شكل أراد ، لكن لما يتعلق الأمر بالمحال في العقل أو المحال المطلق فمحصل المعنى أن يخترع لا شيء ، لأن هذا هو مآل المحال في العقل ، وهو سفسطة كلامية . وتسمية المحال لذاته المحال في العقل ليس من باب كيل قدرة الله بالعقول ، ولكن كيل القول الصحيح من السقيم بالعقول كما وأسلفنا فتأمل جيداً ولا تظن بنا ما ليس فينا ، وافهم هذا الفرق جيداً. اهـ
( ... فكل ما خلقه الله تعالى محالاً في العقل فقط فإنما كان محالاً مذ جعله الله تعالى محالاً وحين أحدث صورة العقل لا قبل ذلك ، فلو شاء تعالى أن لا يجعله محالاً لما كان محالاً ، وكذلك من سأل هل يقدر الله تعالى على أن يجعل شيئاً موجوداً معدوماً معاً في وقت واحد أو جسماً في مكانين أو جسمين في مكان ، وكل ما أشبه هذا فهو سؤال صحيح ، والله تعالى قادر على كل ذلك لو شاء أن يكونه لكونه ومن البرهان على ذلك ما نراه في منامنا مما لا شك أنه محال في حال اليقظة ممتنع يقيناً ونراه في منامنا ممكناً محسوساً مرئياً ببصر النفس مسموعاً بسمعها فبالضرورة يدري كل ذي حس أن الذي جعل المحال ممكناً في النوم كان قادراً على أن يوجده ممكناً في اليقظة ) . اهـ
أقول بحول الله تعالى : المحال لذاته هو العدم ، والعدم أي اللاشيء لا يرى لا في المنام ولا في اليقظة لذا فهذا قياس باطل . هذا خلط بين المحال في الوجود والمحال بالإضافة ، وبين المحال لذاته . فالمحال بالوجود نعم إنما كان محالاً لأن الله عز وجل جعله محالاً مثل نواميس الكون التي تبقى كما هي لإرادة الله عز وجل لذلك ، ولا تتغير إلا بإرادة الله عز وجل ، فمتى ما أراد الله جعلها على مثال آخر جعلها ولا غرابة فهو على كل شيء قدير . أما أن يكون الشيء موجوداً معدوماً معاً في وقت واحد فهذا هو العدم أي اللاشيء باتفاق العقلاء ، وهذا المعدوم أي اللاشيء لا يكون لا في المنام ولا في غيره ، لأنه بكل بساطة عدم . فكون الشيء موجوداً معدوماً معاً في وقت واحد ليس بشيء قبل وجود العقل أيضاً ، ولما جعل الله لنا العقول عرفنا بذلك أن المحال لذاته لا شيء . ولقد حث الله عز وجل على استخدام العقل وذم من عطله . وإنما الضرر في جعل العقل فوق الشرع . قال الله عز وجل : ] مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ [`(هود: 24) ، وقال سبحانه : ] قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ [`(الأنعام: 50) ، وقال سبحانه : ] قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ [(الرعد: 16) ، وقال سبحانه : ] قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ[`(الزمر: 9) ، وقال سبحانه : ] قُلْ لاَ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [`(المائدة: 100) ، وقال سبحانه : ] كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ` قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ ` وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ` فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ [`(الملك: 8-11) . اهـ
( ... وكذلك من سأل هل الله تعالى قادر على أن يتخذ ولداً فالجواب أنه تعالى قادر على ذلك وقد نص عز وجل على ذلك في القرآن قال الله تعالى : ] لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاَصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ [(الزمر: 4) وكذلك قال تعالى : ] لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاَتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ [(الأنبياء: 17) ) . اهـ
أقول بحول الله تعالى : هذه طامة عجيبة ، وفهم خبيث لكلام رب العزة جل جلاله ، فالله سبحانه وتعالى منزه عن اتخاذ الولد بأي شكل ، فانظر كيف رد الله عز وجل على من قال بذلك :] وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا ` لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ` تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ` أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ` وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا ` إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ` لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ` وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [`(مريم: 88-95)
والآن لننظر في تفسير الآيتين اللتين استدل بهما .
قال الله عز وجل : ] لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاَصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ[`(الزمر: 4)
قال الشوكاني في تفسير هذه الآية : ( فلو أراد أن يتخذ ولداً لامتنع اتخاذ الولد حقيقة ، ولم يتأتَّ ذلك إلا بأن يصطفي ] مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ [ أي : يختار من جملة خلقه ما يشاء أن يصطفيه ، إذ لا موجود سواه إلا وهو مخلوق له ، ولا يصح أن يكون المخلوق ولداً للخالق لعدم المجانسة بينهما ، فلم يبق إلا أن يصطفيه عبداً كما يفيده التعبير بالاصطفاء مكان الاتخاذ ؛ فمعنى الآية : لو أراد أن يتخذ ولداً لوقع منه شيء ليس هو من اتخاذ الولد ، بل إنما هو من الاصطفاء لبعض مخلوقاته ، ولهذا نزَّه سبحانه نفسه عن اتخاذ الولد على الإطلاق ، فقال : ] سُبْحَانَهُ [ أي : تنزيهاً له عن ذلك ، وجملة ] هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ[ مبينة لتنَزُّهه بحسب الصفات بعد تنَزُّهه بحسب الذات ، أي : هو المستجمع لصفات الكمال المتوحد في ذاته ، فلا مماثل له ، القهَّار لكل مخلوقاته ، ومن كان متصفاً بهذه الصفات استحال وجود الولد في حقه ، لأن الولد مماثل لوالده ، ولا مماثل له سبحانه ) . اهـ
وهناك تفسير آخر للآية السابقة ذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره (7/85) : ( ثم بين تعالى أنه لا ولد له كما يزعمه جهلة المشركين في الملائكة، والمعاندون من اليهود والنصارى في العزير، وعيسى فقال: ] لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ [ أي : لكان الأمر على خلاف ما يزعمون ([2]) . وهذا شرط لا يلزم وقوعه ولا جوازه ، بل هو محال ، وإنما قصد تجهيلهم فيما ادعوه وزعموه ، كما قال: ] لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ [ (الأنبياء: 17) ، ] قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ [)
الزخرف:81) ، كل هذا من باب الشرط ، ويجوز تعليق الشرط على المستحيل لقصد المتكلم ([3]) ) . اهـ أما الآية الأخرى وهي قول الله عز وجل : ] وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ ` لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاَتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ ` بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [` (الأنبياء: 16-18)
فقد شرحه الإمام البغوي (ت. 516هـ) في تفسيره (5/313) بقوله : ( وتأويل الآية أن النصارى لما قالوا في المسيح وأمه ما قالوا ردَّ الله عليهم بهذا وقال : ] لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا [ لأنكم تعلمون أن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده ، لا عند غيره ] إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ [ قال قتادة ومقاتل وابن جريج : ] إِنْ [ للنفي ، أي : ما كنا فاعلين . وقيل: ] إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ [ للشرط أي إن كنا ممن يفعل ذلك لاتخذناه من لدنا ، ولكنا لم نفعله لأنه لا يليق بالربوبية . ] بَلْ [ أي دع ذلك الذي قالوا فإنه كذب وباطل ، ] نَقْذِفُ [ نرمي ونسلط ، ] بِالْحَقِّ [ بالإيمان ، ] عَلَى الْبَاطِلِ [ على الكفر ، وقيل: الحق قول الله أنه لا ولد له ، والباطل قولهم اتخذ الله ولداً ، ] فَيَدْمَغُهُ [ فيهلكه ، وأصل الدمغ : شج الرأس حتى يبلغ الدماغ ، ] فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ [ ذاهب ، والمعنى : أنا نبطل كذبهم بما نبين من الحق حتى يضمحل ويذهب ، ثم أوعدهم على كذبهم فقال : ] وَلَكُمُ الْوَيْلُ [ يا معشر الكفار ، ] مِمَّا تَصِفُونَ [ الله بما لا يليق به من الصاحبة والولد ) . اهـ
أقول بحول الله تعالى : خلاصة الأمر أن الآيات السابقة كلها فرض جدلي لا يعني وقوعه بل ولا جواز وقوعه ، وإنما هو رداً على المشركين ، ولبيان فساد مذهبهم من قولهم ، والفرض المستحيل لما كان مرتبطاً بمستحيل دل على استحالته ، ومن هذا الباب قوله تعالى : ] لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ [` (الأنبياء: 22) ، وقوله تعالى : ] قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ` سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ [` ([4]) (الزخرف: 81-82) فإذا فهمت الآن تفسير الآيتين اللتين استدل بهما ، عرفت بذلك الاستدلال الفاسد ، ومن ثم فإن ما قاله هنا مناقض تماماً لما قاله في تعريف المحال المطلق أنه ( كل سؤال أوجب على ذات الباري تغييراً ) ، ومناقض لما سيأتي في نهاية كلامه أيضاً .
فمن الدليل على أن هذا الكفر والإلحاد في ذات الله عز وجل منحول على الإمام ابن حزم رحمه الله أمران : عام وخاص . أما العام فإن كتاب الفصل في الملل والأهواء والنحل حوى كثيراً من الكفر ، مثل إعذاره للحلولية([5]) بالجهل ، وأنهم لا يكفرون إلا بعد إقامة الحجة ، وأيضاً فإن الإمام ابن حزم رحمه الله كان في حياته له من الأعداء الكثير ، فلا يبعد أنهم حرفوا كتبه للنيل منه في حياته قبل أن يكون ذلك في عصورنا . أما الرد الخاص فلأن كلامه في أقسام المحال بشكل عام متناقض ، ومناقض للقاعدتين اللتين قررهما في بداية حديثه . أما كلامه في الفقرة السابقة على وجه الخصوص فإن هناك دليلاً قاطعاً على أنه منحول عليه ، حيث لما استشهد هنا بقوله تعالى : ] لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاَتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ [ (الأنبياء: 17)على جواز اتخاذ الله للولد لو أراد ذلك ، يعني ذلك أنه فسر ( إن ) في هذه الآية على أنها شرطية جائزة الوقوع ، والصحيح ما ذكرناه أن ( إن ) في هذه الآية شرطية غير جائزة الوقوع لأنها متعلقة بمستحيل . لكن لابن حزم رحمه الله كلام مخالف في تفسير ( إن ) في هذه الآية حيث يعدها نافية بمعنى ( ما ) ، فقد قال في رسالته في الرد على ابن النغزيلة اليهودي ما نصه : ( وكما قال تعالى : ] لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاَتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ [ (الأنبياء: 17)أي ما كنا فاعلين ) ([6]) ، وهذا الأمر يؤكد لنا عدم صحة نسبة الكلام الكفري الإلحادي إلى إمام مثل الإمام ابن حزم رحمه الله . وإني أرجح أن يكون هذا الكلام نحل على ابن حزم عن طريق أحد أعدائه الكثيرين في حياته ، لأن القاضي أبي بكر بن العربي أثبت نسبة هذا القول إلى الإمام ابن حزم ، ورد عليه حيث قال : ( مسألة هي أشدها : قول ابن حزم : إن الله قادر على أن يتخذ ولداً وأن يخلق إلهاً إذا شاء ذلك وأراده , بقوله : ] لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاَصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ [(الزمر: 4) فانظروا إلى هذه الداهية العظمى ، كيف جهل الجائز من المستحيل في العقل , والمعقول المفهوم من الكلام دون ما لا يعقل , فإن هذا الكلام ليس له معنى مفهوم , إذ قوله : هل يقدر الله أن يتخذ ولداً ليس يفهم , لأن الله هو الذي لا يتصور أن يكون له ولد , ولا يمكن , فإذن معنى ذلك من قول القائل : هل يقدر الله الذي لا يصح أن يوجد منه ولد علىأن يكون له ولد , فنقض آخر الكلام أوله , فلم يكن له معنى معقول في نفسه فيستحق جواباً , وكذلك قوله : هل يقدر الله على أن يخلق إلهاً , لأن الله هو الذي لا يصح أن يكون معه إله سواه , فنقض آخر الكلام أوله , ومن ينتهي إلى هذا الحد فقد سقطت مكالمته ) ([7]) . اهـ ( ... قال أبو محمد ومن لم يطلق أن الله عز وجل يقدر على ذلك وحسن قوله بأن قال لا يوصف الله بالقدرة على ذلك فقد قطع بأن الله عز وجل لا يقدر إذ لا واسطة فيمن يوصف بالقدرة على شيء ما ثم وصف في شيء آخر بأنه لا يقدر عليه فقد خرج من أنه لا يقدر عليه وإذا وجب أن لا يقدر فقد ثبت أنه عاجز ضرورة عما لا يقدر عليه ولابد ومن وصف الله تعالى بالعجز فقد كفر ) . اهـ
أقول بحول الله تعالى : قوله هذا لا ينطبق على المحال لذاته لأنه لا يوصف الله بالقدرة على المحال لذاته ولا بالعجز عن المحال لذاته ، فمعنى قولنا لا يوصف الله بالقدرة على المحال لذاته أي لا نقول أن الله يقدر على ذلك ، لأنه حينها يكون معنى قولنا الله يقدر على أن يفعل لا شيء ، فيكون جملة لا معنى لها ، ولا نقول أيضاً أن الله يعجز عنه لأنه سوء أدب مع الله عز وجل ووصفه بالعجز .
قال الحافظ ابن تيمية : ( وَهُوَ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لاَ يُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الْعُمُومِ شَيْءٌ ؛ لَكِنَّ مُسَمَّى " الشَّيْءِ " مَا تُصُوِّرَ وُجُودُهُ ، فَأَمَّا الْمُمْتَنِعُ لِذَاتِهِ فَلَيْسَ شَيْئًا بِاتِّفَاقِ الْعُقَلاَءِ . وَالْقُدْرَةُ عَلَى خَلْقِ الْمُتَضَادَّات ِ قُدْرَةٌ عَلَى خَلْقِهَا عَلَى الْبَدَلِ ([8]) ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ إذَا شَاءَ أَنْ يَجْعَلَ الْعَبْدَ مُتَحَرِّكًا جَعَلَهُ وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَجْعَلَهُ سَاكِنًا جَعَلَهُ ، وَكَذَلِكَ فِي الإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَغَيْرِهِمَا ؛ لَكِنْ لاَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ مُتَّصِفًا بِالْمُتَضَادَّ اتِ فَيَكُونُ مُؤْمِنًا صِدِّيقًا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ كَافِرًا مُنَافِقًا مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ ، وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ الإِيمَانِ وَشُعْبَةٌ مِنْ النِّفَاقِ . وَاَلَّذِي يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ وَقُدْرَتَهُ وَحِكْمَتَهُ وَرَحْمَتَهُ فِي غَايَةِ الْكَمَالِ الَّذِي لاَ يُتَصَوَّرُ زِيَادَةٌ عَلَيْهَا بَلْ كُلَّمَا أَمْكَنَ مِنْ الْكَمَالِ الَّذِي لاَ نَقْصَ فِيهِ فَهُوَ وَاجِبٌ لِلرَّبِّ تَعَالَى ) ([9]) . قلت بحول الله تعالى : أما إذا كان يقصد بكلامه السابق المحال بالإضافة أو المحال في الوجود ، فهو كلام صحيح سديد ، مثلاً بعض الفلاسفة ينكرون قدرة الله على جمع رفات الإنسان المتفرق في أنحاء الأرض ، ويظنون أنهم يحسنون عقيدتهم بقولهم ( لا يوصف الله بالقدرة على هذا لأنه محال ) ، فلا واسطة هنا بين القدرة والعجز ، ومن لم يصف الله بالقدرة على المحال في الوجود أو المحال بالإضافة فقد وصفه بالعجز ضرورة ولو فر من ذلك وقال لا أصفه بالعجز ، فتأمل .
( ... وأيضاً فإن من قال لا يوصف الله تعالى بالقدرة على المحال فقد جعل قدرته سبحانه وتعالى متناهية وجعل قوته عز وجل منقطعة محدودة وملزومة بذلك ضرورة أن قوته تعالى متناهية عرض وأنه تعالى فاعل بطبيعة فيه متناهية وهذا تحديد للباري عز وجل وكفر به مجرد وإدخال له في جملة المخلوقين ) . اهـ
أقول بحول الله تعالى : هذا الكلام صحيح إذا كان يقصد بالمحال المحال في الوجود أو المحال بالإضافة ، وإن كان يقصد المحال لذاته فلا يصح ، كما سبق وبينت بحول الله تعالى . اهـ
( ... ومعنى قولنا أن الله تعالى يقدر على المعدوم وعلى المحال إنما هو ما نبينه إن شاء الله تعالى وهو أن سؤال السائل عن المحال وعن المعدوم وهو بلا شك سؤال موجود مسموع ملفوظ به فجوابنا له هو أنا حققنا أن الله تعالى قادر على أن يخلق لذلك اللفظ معنى يوجده وهذا جواب صحيح معقول وهذا قولنا وليس إلا هذا القول ) . اهـ
أقول بحول الله تعالى : انظر بالله عليك إلى هذا الخلط العجيب الذي مجرد ذكره ينبيك عن فساده . بداية قوله لا يصح فليس كل شيء مسموع ملفوظ له حقيقة ، بل الأمر كما قرر هو أيضاً في بداية حديثه عن المحال أن هناك أسئلة ليست بأسئلة على التحقيق وتشبه كلام الممرورين والمجانين ولا تستحق إجابة ولا حقيقة لها ، فالكلام الذي ينقض أوله آخره ليس له حقيقة وليس هو متشكل بل ولا متوهم . وآخر جملة له في هذه الفقرة تنبيك عن مدى الخلط الحاصل مما لا يحتاج إلى مزيد تعليق . اهـ
( ... ([10]) ... وأما كل سؤال أدى إلى القول في ذاته عز وجل فإننا نقول إن كل ما سأل عنه سائل لا نحاشي شيئاً فإن الله تعالى قادر عليه غير عاجز عنه ، إلا أن من السؤالات سؤالات لا يستحل سماعها ولا يستحل النطق بها ولا يحل الجلوس حيث يلفظ بها وهي كل ما فيها كفر بالباري تعالى واستخفاف به أو بنبي من أنبيائه أو بملك من ملائكته أو بآية من آياته عز وجل قال عز وجل : ] أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُم [(النساء: 140) وقال عز وجل : ] قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ` لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [(التوبة: 65-66) . ) اهـ . أقول بحول الله تعالى : الأمر السديد في هذه الفقرة أنه اعتبر المحال المطلق من الكفر والاستهزاء بالله عز وجل . أما قوله أن ( كل سؤال أدى إلى القول في ذاته عز وجل فإننا نقول إن كل ما سأل عنه سائل لا نحاشي شيئاً فإن الله تعالى قادر عليه غير عاجز عنه ) نقول : إن الله قادر على كل شيء لا نحاشي من ذلك شيئاً ، ولكن كما قد بينا أن هناك أمور لا تدخل في مسمى الأشياء وتكون كالعدم . وكل سؤال أدى إلى القول في ذاته عز وجل فهو محال وسفسطة كلامية . وبالله التوفيق . اهـ
( ... قال أبو محمد : ولو أن سائلاً سألنا هل الله قادر على أن يمسخ هذا الكافر قرداً أو كلباً لقلنا نعم ولو أنه أراد أن يسألنا هذا السؤال فيمن يلزمنا تعظيمه من ملك أو نبي أو صاحب نبي أو مسلم فاضل لم يحل لنا الاستماع إليه ولكنا قد أجبناه جواباً كافياً بأن الله تعالى قادر على كل ما يسأل عنه لا نحاشي شيئاً فمن تمادى بعد هذا الجواب الكافي فإنما غرضه التشنيع فقط والتمويه وهذان من دلائل العجز عن المناظرة والانقطاع والحمد لله رب العالمين ) . اهـ
أقول بحول الله تعالى : ما علاقة هذا الأمر بالمحال المطلق ؟ وهذه الأسئلة الممكنة في حق غير الأنبياء الممتنعة على غيرهم ، مثل المسخ ، فالجواب عليه ناقص ، فنقول بحول الله تعالى : أن الأمور التي تصدر من الله عز وجل تصدر عن حكمة بالغة ، وهناك تلازم بين القدرة والإرادة ، فليس كل ما يقدر الله عليه بالضرورة أن يفعله ، فالأمور التي لا يفعلها الله لأنه هو قدر ذلك يسمى كما قد سبق وبينا محالاً شرعياً . فالجواب العام أن كل شيء دخل في مسمى الشيء فالله سبحانه وتعالى قادر عليه غير عاجز عنه ، ولكن ليس بالضرورة أن كل شيء يقدر الله عز وجل عليه أنه يفعله ، قال الله عز وجل : ] إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ` وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ ` وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ` تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ` وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ ` لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ` ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ` فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ` وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [` (الحاقة: 40-48)
قال الإمام شمس الدين ابن قيم الجوزية (691-751هـ) : ( فإنه تعالى يقدر على مقدورات تمنع بحكمته كقدرته على قيامه الساعة الآن ، وقدرته على إرسال الرسل بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، وقدرته على إبقائهم بين ظهور الأمة إلى يوم القيامة ، وقدرته على إماتة إبليس وجنوده وإراحة العالم منهم ، وقد ذكر سبحانه في القرآن قدرته على ما لا يفعله لحكمته في غير موضع كقوله تعالى : ] قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ [ (الأنعام: 65) ، وقوله تعالى : ] وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ [` (المؤمنون: 18) ، وقوله : ] أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ` بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ [` (القيامة: 3-4) ، أي نجعلها كخف البعير صفحة واحدة ، وقوله تعالى : ] وَلَوْ شِئْنَا لآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي [ (السجدة: 13) ، وقوله : ] لآَمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا [ (يونس: 99) ، وقوله : ] وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً [ (هود: 118) ، فهذه وغيرها مقدورات له سبحانه وإنما امتنعت لكمال حكمته فهي التي اقتضت عدم وقوعها فلا يلزم من كون الشيء مقدوراً أن يكون حسناً موافقاً للحكمة ) ([11]) . وبالله التوفيق .
([1]) وقد اضطرب أناس كثيرون في هذا الباب ، وقبل قراءة هذا الفصل عليك بمراجعة المقدمتين الخامسة والسادسة في الجزء الأول من هذه الرسالة .
([2]) أي على فرض زعمهم أن الله اتخذ ولداً سبحانه ، لم يكن ذلك حسب اختيارهم بل اختياره هو ، أي رد عليهم من عقيدتهم وبين بطلان مذهبهم ، فقصد من هذا الفرض تجهيلهم فيما ادعوه وزعموه ، ولم يقصد من هذا الفرض أنه جائز أن يقع لو أراد ، لأنه لا يعني فرض المستحيل أنه سيقع ولا أنه ممكن أنه يقع ، كقوله تعالى : ] لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا [ (الأنبياء: 22) .
([3]) أي تعليق الشرط على المستحيل يجوز لقصد المتكلم شيئاً آخر مثل الرد على المخالف من رأيه ، فالله سبحانه وتعالى بين هنا فساد مذهب المشركين من قولهم ، أي على فرض زعمهم أن الله اتخذ ولداً فلا يكون ذلك مما أرادوا هم واختاروا على زعمهم ، بل يكون ذلك باختياره ، فبطل مذهبهم وادعائهم الولد لله ، ومن ثم أتبع قوله مباشرة بقوله (سبحانه ) تنزيها لنفسه سبحانه وتعالى .
([4]) قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية (7/ 241) : ( يقول تعالى: ] قُلْ [ يا محمد: ] إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ [ أي: لو فرض هذا لعبدته على ذلك لأني عبد من عبيده ، مطيع لجميع ما يأمرني به ، ليس عندي استكبار ولا إباء عن عبادته ، فلو فرض كان هذا ، ولكن هذا ممتنع في حقه تعالى ، والشرط لا يلزم منه الوقوع ولا الجواز أيضاً ، كما قال تعالى: ] لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاَصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [` (الزمر: 4) ). اهـ وهناك تفسير آخر لهذه الآية من أن ( إن ) هنا ليست شرطية بل نافية ، ذكره البغوي في تفسيره (7/223) : ( وروي عن ابن عباس: ] إِنْ كَانَ [ أي ما كان للرحمن ولد ، فأنا أول العابدين الشاهدين له بذلك ، جعل: "إن" بمعنى الجحد ) . اهـ.
([5]) قد مر ذكر النص .
([6]) رسائل ابن حزم الأندلسي ، ج 3 ، ص 54 .
([7]) العواصم من القواصم ، ص 259 ، تحقيق الدكتور عمار طالبي .
([8]) المقصود بخلقها على البدل ، أي تبديل هذا بهذا مثل تبديل الموت حياة ، والحياة موتاً وهكذا .
([9]) مجموع فتاوى ابن تيمية ، ج 2 ، ص 255 .
([10]) لم أذكر هنا فقرة ، بسبب ارتباطها بموضوع آخر خشية الإطالة في الرد .
([11]) مفتاح دار السعادة لابن القيم (2/403) .