بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ المهتدي بالله الإبراهيمي في توفيق اللطيف المنان (1/272-274) ضمن الرد على من ادعى أن العلماء اختلفوا في تكفير جاهل صفة القدرة ، وأوضح حقيقة الخلاف بين الطبري والأشعري فقال :
( وهذا المذهب مذهب قديم جديد ، ونخاطب القائلين به ونقول لهم ، عبارة ( جاهل الصفات ) هي عبارة مجملة لم تبين الصفات المقصودة ، أهي صفات الربوبية ، أم صفات أخرى ، فربما كان العلماء يقولون هذه العبارة عن المسلمين ولا يصح أن يكون إلا هذا ، فلو قلنا مسلم جاهل بالصفات ، لتبين أن الصفات المقصودة هنا هي ما كانت خارجة عن الصفات الواجبة على كل موحد وموحدة معرفتها ابتداءً .
فإن قالوا : بل هي صفات الربوبية لأنه لا خلاف بين العلماء حول عذر من جهل الصفات الخبرية مثل اليد والاستواء .
قلنا لهم بحول الله تعالى : من فهمتم عنهم من العلماء أنهم لا يكفرون جاهل صفات الربوبية ، وهل لا يكفِّرون جاهل كل صفات الربوبية أم بعضها ؟ فإن قلتم بعضها فهلاَّ حددتموها لنا بأدلتها الشرعية !
فانظر حينها كيف سيتخبطون بالإجابة تخبطاً عجيباً ، فقبحاً لمن يجعل طريق الإيمان برب العالمين هو طريق الجهل بصفات ربوبيته ! فشبهتهم أوهى من بيت العنكبوت لمن وفقه الله عز وجل .
لتعلم بداية أن الخلاف الحاصل بين العلماء والذي سمي خلافاً في تكفير جاهل الصفة المقصود منه الخلاف الحاصل في تكفير من قال : أنا أقر أن الله عالم ولكن ليس بصفة العلم بل بذاته ، ففرقوا بين الصفة والوصف .
فمِمَّن كفرهم بذلك الإمام ابن جرير الطبري (224-310هـ) والإمام الأشعري في رأيه الأول ، ولم يقبلوا من هؤلاء هذا التأويل وقالوا لا يوصف بعالم إلا من كان له علم ، لكن الإمام أبي الحسن الأشعري تراجع عن تكفيرهم في آخر حياته وقال أن الاختلاف هو في العبارات فقط كما فصلنا في هذه المسألة في الباب الثاني من هذه الرسالة .
فإن قلت : فما علاقة هذا الخلاف بحديث الرجل هذا ؟ فمسألة الحديث تدور على جهل حقيقة القدرة وليس على القدرة كصفة معللة ومبينة .
قلت : نعم ، لا علاقة لهذا الخلاف بحديث الرجل هذا ، لكن جاءت طائفة فهمت هذا الخلاف فهماً خاطئًا وظنوه خلافاً في من جهل حقيقة الصفة . وإليك أقوال العلماء في بيان ذلك .
قال الإمام أبو العباس القرطبي (578-656هـ) في معرض شرحه لحديث الرجل المسرف على نفسه الموصي أولاده بحرق جسده بعد موته خشية من الله وخوفاً : ( القسم الأول : طائفة حملت ذلك على ظاهره ، وقالوا : إن هذا الرجل جهل صفتين من صفات الله تعالى وهما : العلم والقدرة ، ومن جهل ذلك لم يخرج من اسم الإيمان ، بخلاف من جحدها ، وإليه رجع أبو الحسن الأشعري ، مع أنه قد كان تقدم له قول آخر بأنه مكفِّر . وهو مذهب الطبري .
قلت : وهذه الطائفة انصرفت عن معنى الحديث إلى معنى آخر ، اختلف فيه المتكلمون ، وهو تكفير من اعترف بأن الله قادر بلا قدرة ، وعالم بلا علم ، ومريد بلا إرادة ، فهل يكفَّر أم لا يكفَّر ؟ على اختلاف القولين المتقدمين . ولا يختلف المسلمون في أن من جهل أو شكَّ في كون الباري تعالى عالماً به وقادراً على إعادته كافر ، حلال الدم في الدنيا ، مخلد في النار في الآخرة ؛ لأن ذلك معلومٌ من الدين بالضرورة ، وجحده أو الشك فيه تكذيب للرسول صلى الله عليه وسلم قطعاً . فمقتضى الحديث بظاهره أن الرجل كافرٌ على مقتضى شريعتنا . ولذلك قالت طائفة : فلعل شرع ذلك الرجل لم يكن فيه الحكم بتكفير من جهل ذلك ، أو شكَّ فيه ، والتكفير حكم من الأحكام الشرعية فيجوز أن تختلف الشرائع فيه ، كما قال تعالى : ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) (المائدة: 48)
قلت : وهذا فيه نظر ؛ لأن هاتين القاعدتين من ضروريات الشرائع ، إذ لا تصح شريعة مع الجهل (1) ، فإن الله عالم ، قادر ، مريد ، ولا مع الشك فيها ، فلا بد أن تنص الرسل لقومهم على هذه الصفات ، مع أن العقول تدل عليها ، فيكون العلم بها ضرورياً من كل الشرائع ، كما كان ذلك ضرورياً في شرعنا ، فيكون جاحد ذلك والشاك فيه مكذباً لرسوله ، وتكذيب الرسل كفر في كل شرع بالضرورة ) (المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم لأبي العباس القرطبي (7/75-76) .) .
(1) وهذه عبارة مهمة جداً ، فلا تصح شريعة مع الجهل بأصل الدين ، فالكافر لا يقبل منه عمل ولو أتى بكل الشرائع ما دام أنه لم يحقق أصل الدين ، فلا تصح شريعة مع الجهل ولا مع الشك فيها ، فتأمل .
وهذا الإمام أبو عبد الله محمد بن خليفة الوَشتاني الأُبِّي (ت 727 هـ ) بعد أن نقل قول عدة تأويلات لشرح الحديث السابق ومن ضمنها تأويل الطائفة التي فهمت الخلاف بين الإمام أبي الحسن الأشعري والإمام الطبري فهماً خاطئاً قال معلقاً : ( قلت : الصفة التي اختلف في كفر من نفاها أو جهلها هي كالعلم والقدرة في قول المعتزلة : هو عالم لا بعلم بل بذاته ، قادر لا بقدرة بل بذاته ، وأما كونه عالماً وهي المسماة بالحال عند المتكلمين فلا خلاف في كفر من نفاه ، والرجل إنما شك في كونه قادراً (2) ، وقد دل الحديث على أنه كان مؤمناً من قوله ( مِنْ خَشْيَتِكَ يَا رَبِّ ) فأولى التأويلات الأخر ) (إكمال إكمال المعلم للأُبِّي (9/166) .) .
(2) أي على مقتضى من فهم أن ( قدر ) في الحديث من القدرة يكون الرجل على مقتضى هذا الفهم شاكاً في كون الله تعالى قادراً وهذا الأمر مختلف عن مسألة الخلاف حول تكفير المعتزلة ، فتأمل .
قلت بحول الله تعالى : انظر بالله عليك إلى هذا القول الواضح الصريح من أن هؤلاء فهموا الخلاف فهماً خاطئاً فضلوا عن سواء السبيل ، لأنه لا خلاف بين المسلمين أن من جهل أو شك في قدرة الله أو في علمه أنه كافر ، وبالله التوفيق .
قال الشيخ عبد الله بن علي النجدي القصيمي (1353هـ) : ( وقالت طائفة : إن الجاهل قد يعذر بجهله ، وإن جاء كفراً ، ما دام غير متعمد وهذا الرجل كان جاهلاً . فهو معذور غير مأخوذ . وهذا القول كالأول لا يعتد به . ولو صح لنجا اليهود والنصارى وطوائف الكفر الذين كفروا بجهالة وما كانوا عالمين ) (مشكلات الأحاديث النبوية وبيانها للقصيمي ، ص 142 .) .
قال الإمام شهاب الدين القسطلاني (851-923هـ) : ( ولا يقال إن جحد بعض الصفات لا يكون كفراً لأن الاتفاق على جحد صفة القدرة كفر بلا ريب ) (إرشاد الساري إلى شرح صحيح البخاري للقسطلاني (5/438) .) .
وقد نقل هذا الإجماع الإمام ابن الجوزي (508-597هـ) ، حيث نقل ذلك عنه الحافظ ابن حجر العسقلاني (773-852هـ) قوله : ( جَحْده صِفَة الْقُدْرَة كُفْر اِتِّفَاقًا ، وَإِنَّمَا قِيلَ إِنَّ مَعْنَى قَوْله « لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ » أَيْ ضَيَّقَ ، وَهِيَ كقَوْله : ( وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ ) (الطلاق: 7) أَيْ ضُيِّقَ ) (فتح الباري لابن حجر العسقلاني (6/604) .) . ) اهـــ
والحمد لله أولا وآخرا ، وظاهرا وباطنا .